ولد أمير المفسرين في العصر الحديث أبي الثناء شهاب الدين محمود الألوسي سنة 1217هـ/ 1852م في مدينة بغداد.
تطلع منذ صغره إلى العلم، فأخذ العلم عن كبار العلماء في عصره أمثال الشيخ خالد النقشبندي والشيخ علي السويدي فضلاً عن والده الذي تعلم على يديه،وقد ظهرت علامات النبوغ والذكاء على شهاب الدين الألوسي منذ صغره، حتى إنه اشتغل بالتدريس وهو في الثالثة عشرة من عمره، وهبه الله قوة الذاكرة:
يقول عن نفسه: ما استودعت ذهني شيئًا فخانني، ولا دعوت فكري لمعضلة إلا وأجابني.
لم يترك الألوسي علمًا من علوم الدين إلا وقرأ فيه، فكان يسهر الليالي، ويضحِّي براحته وصحته طلبًا للمعرفة، ورغم هذا المجهود الكبير الذي كان يبذله فإنه كان يشعر بسعادة كبيرة، وفي داره قام بتدريس علوم الدين، فتتلمذ على يديه الكثيرون، ولم يكن يفيض عليهم من علمه الواسع فحسب، بل كان يعطف عليهم ويرعاهم، ويعطيهم من ملبسه ومأكله ويسكنهم بيته.
ولما ترك الألوسي منصب الإفتاء بالعراق، تفرغ لتفسير القرآن الكريم، وتعلقت نفسه رغبة لإتمام هذا العمل، فكان في أحيان كثيرة يقوم من نومه، ويترك فراشه حين يخطر بذهنه معنى جديد لم يذكره المفسرون السابقون عليه، ولا يهدأ له بال حتى يسجل خواطره في كراريسه، وعندئذ يعود إليه الهدوء، ويزول عنه القلق والتوتر، ويذهب إلى فراشه حيث يستسلم للنوم.
كان الألوسي يجمع كل ما كتبه غيره في التفسير، وينقيها من كل شائبة الإسرائيليات ويظهر الحقيقة جلية واضحة، كل ذلك في أسلوب رائع جذاب، حتى أصبح تفسيره الذي سمي روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني من أحسن التفاسير جامعًا لآراء السلف، مشتملا على أقوال الخلف بكل أمانة وعناية، فهو جامع لخلاصة كل ما سبقه من كتب التفاسير وكانت مؤلفات الإمام الألوسي في أنواع مختلفة من العلوم والمعارف، أهمها تفسيره الشهير بـتفسير الألوسي ودقائق التفسير وغرائب الاغتراب وغير ذلك من الكتب.
توفي الإمام الكبير في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1270هـ/ 1854م بعد أن ملأ الأرض علمًا، ودفن مع أهله في مقبرة الشيخ معروف الكرخي في الكرخ.
وقال لويس شيخو في “تاريخ الآداب العربية” : ((أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي المعروف بالشهاب الآلوسي. ولد في بغداد في 14 شعبان سنة 1217 (1802م) وهناك توفي في 5 ذي القعدة سنة 1270 (1854م) كلف بالعلوم منذ حداثة سنه وبذل النفس والنفيس في إحراز جواهرها حتى أن رغبته في طلب المعارف شغلته عن حطام الدنيا وأنسته هناء العيش وملاذ الحياة وبزر بالعلوم الدينية فصار إماماً في التفسير والإفتاء وكان مع ذلك كاتباً بليغاً وخطيباً مصقعاً وفي 1262 (1845م) سافر برفقة عبدي باشا المشير إلى الوصل ثم إلى ماردين فديار بكر فأرزووم فسيواس فالأستانة العلية واجتمع حيث دخل بإعلام العلماء وأئمة الأدباء وكانوا يتهاتفون إليه ليقتبسوا من أنواره ويغرقوا من بحاره. ثم عاد إلى وطنه معززاً ممدحاً بكل لسان مشمولاً بألطاف الحضرة العلية السلطانية. وكان جلالة السلطان عبد المجيد منحه الوسام المرصع العالي الشأن. فلما عاد إلى وطنه سنة 1269 انقطع إلى التأليف. وفصل أخبار رحلته في عدة مصنفات منها كتابة رحلة الشمول في الذهاب إلى اسلامبول طبع في بغداد سنة 1291 واتبعه بكتاب نشوة المدام في العود إلى بلاد السلام ثم كتاب غرائب الاغتراب في الذهاب والإقامة والإياب ويدعى أيضاً بنزهة الألباب ضمه تراجم الرجال والأبحاث العلمية التي جرت بينه وبين حضرة السيد أحمد عارف حكمت بك شيخ الإسلام. وكان السيد محمود سريع الخاطر ونسيج وحده في قوة التحرير وسهولة الكتابة ومسارعة القلم قيل أنه كان لا يقصر تأليفه في اليوم والليلة عن أقل من ورقتين كبيرتين. وقد ألف كتباً عديدة في التفسير والفقه والمنطق والأدب واللغة كشرح السلم في المنطق. وكتاب كشف الطرة عن الغرة وهو شرح على درة الغواص للحريري. ومن تآليفه رسالة في الانسان. وله حاشية على شرح قطر الندى لابن هشام ألقها وعمره لا يتجاوز ثلاث عشرة سنة. وكتاب المقامات طبعه في كربلاء وكتاب التبيان في مسائل إيران وكتب أخرى غيرها. وكان له شعر قليل إلا أنه غاية في الرقة يذكر العراق في غربته:
أهـيمُ بـآثـار الـعـراقِ وذكـره
وتغدو عيوني عن مسرَّتها عَبْـرىَ
وألثم إخـفـاقـاً وطـنَ تـرابـهُ
وأكحلُ أجفاناً بتربته العَـطْـرَى
وأسهر أرعى في الدياجي كواكبـاً
تمرُّ إذا سارت على ساكني الزورا
وانشقُ ريح الشرق عند هبـوبـهـا
أداوي بها يا ميُّ مُهجتَي الـحَـرّا
وقال في وصف بغداد وفراقه لها:
أرضٌ إذا مرَّت بها ريحُ الصـبـا
حملت من الأرجاء مسكاً أذفـرا
لا تسمعنَّ حديث أرضِ بـعـدهـا
يُروى فكل الصيد في جوف الفرا
فارقتها لا عن رضى هجرتـهـا
لا عن قلى ورحلتُ لا متـخـيَّرا
لكنها ضاقت علـيَّ بـرحـبـهـا
لما رأيتُ بها الزمان نـكَّـرا
ومن حسن قوله وصفه لشاعر سهل الألفاظ بعيد المعاني:
تتحَّيرُ الشعراء إن سمعـوا بـه
في حسن صنعته وفي تأليفـه
فكأنهُ في قربه من فـهـمـهـم
وتقولهم في العجز عن ترصيفهِ
شجرٌ بدا للعين حسـنُ نـبـاتـهِ
ونأى عن الأيدي حتى مقطوفهِ
وقال مستغفراً وقد افتتح به كتاب مقاماته:
أنا مذنبٌ أنا مجرمُ أنا خاطـئ
هو غافرٌ هو راحمُ هو عافي
قابلـتـهـنّ ثـلاثةُ بـثـلاثةٍ
وستغلبَن أوصافُهُ أوصافـي
وكانت وفاة الشهاب الآلوسي في السنة التي ذكرناها فرثاه قوم من الفضلاء كما مدحوه في حياته وقد جمعت تلك المدائح في كتاب حديقة الورود في مدائح أبي الثناء شهاب الدين محمود. وكان أولاده أغصاناً نضرة في تلك الدوحة الباسقة سنذكرهم في وقتهم. واشتهر في زمانه أخواه عبد الرحمان وعبد الحميد فعرف عبد الرحمان بفصاحة لسانه وخلابة أقواله في الخطابة والوعظ وكان يدرس العلوم الدينية في أكبر جوامع الكرخ إلى وفاته سنة 1284 (1867م) وعمره نحو ثلث وستين سنة.