قالت الأنثى: زعموا أن عيناً كان فيها بطتان وسلحفاة وكان بينهم للجوار ألفة، فنقص في بعض الأزمنة ماء تلك العين نقصاناً فاحشاً. فلما رأت البطتان نقصان الماء قالتا: ينبغي لنا ترك هذه العين والتحول منها فودّعتا السلحفاة وقالتا: السلام عليك فإنا ذاهبتان. قالت السلحفاة: إنما اشتد نقصان هذا الماء على مثل هذه الشقية التي لا تقدر أن تعيش إلا بالماء. فأما أنتما فإنكما تعيشان حيث توجهتما فاحتالا لي واذهبا بي معكما. قالتا: إنا لن نقدر على أن نذهب بك معنا إلا أن تشترطي لنا إذا جعلناك في الهواء ورآك الناس فذكروك ألا تيجبيهم. ففعلت ذلك واشترطت ألا تجيب أحداً. ثم قالت: وكيف السبيل لكما إلى حملي. قالتا: تعضين في وسط عود ونأخذ بطرفيه ونعلو بك في الهواء. فرضيت بذلك وحملتاها واستعلتا بها. فلما رآها الناس تنادوا وقالوا: انظروا إلى العجب، سلحفاة بين بطتين في الهواء. فلما سمعت السلحفاة مقالتهم وتعجّبهم منها قالت: فقأ الله أعينكم، فلما فتحت فاها بالنطق وقعت إلى الأرض فماتت.
قال الطيطوى: قد سمعت مقالتك فلا تخافي البحر. فأفرخت الأنثى مكانها. فلما سمع الموكّل بالبحر قوول الطيطوى ذكر مدّ البحر فذهب بفراخه مع عشه فغيّبهم. فقالت الأنثى لما فقدت فراخها للذكر: إنني قد كنت أعرف في بدء أمرنا أن هذا كائن وأنه سيرجع علينا قلة عرفانك لنفسك، فانظر إلى ما أصابنا من الضرر.
قال الطيطوى الذكر: أوما قد قلت في أول أمري وأنا أقول في آخره: إن جعل علينا البحر فسيرى صنيعي في ذلك. واجترأ فذهب إلى أصحابه فشكى إليهم ما لقي من الموكل بالبحر وما أصابه، وقال: إنكم إخواني وأهلي وثقتي في طلب ظلامتي فأعينوني واحتالوا لي، فإنه عسى أن ينزل بكم غداً ما نزل بي اليوم، فقالوا له: إنا أعوانك على ذلك ما استعنتنا، ولكن ما عسى أن نقدر عليه من الموكل بالبحر.
قال الطيطوى: يا معشر الطيور سيدتنا العقاب العنقاء فلا نزال نتضرع ونناديها بأعلى أصواتنا حتى ترانا فتنتقم لنا من الموكّل بالبحر. فأجابوا إلى قول الطيطوى وصرخوا إلى العنقاء فظهرت لهم وقالت: ما جمعكم ولم دعوتنّني. فشكوا إليهما ما لقوا من الموكل بالبحر وقالوا: إنك سيدتنا والملك الذي يقتعدك أقوى من الموكل بالبحر ليقاتله. فلما عرف الموكل بالبحر ضعفه عند قوة ذلك الملك الذي يقتعد العنقاء عجّل فردّ الفراخ.
وإنما حدثتك بهذه الأحدوثة لتعلم أنه لا ينبغي لأحد أن يخاطر بنفسه وهو لا يستطيع، فإن قتل قيل: قد أضاع نفسه، وإن ظفر قيل: القضاء. ولكن العاقل يعاجل الحيل ويؤخر القتال ويتقدم قبل ذلك بما استطاع من رفق وتمحّل.
قال الثور: فما أنا بمقاتل الأسد، ولا نصب له العداوة سرا ولا علانية، ولا أتغير عن أحسن ما كنت عليه حتى يبدو لي منه ما أخاف به على نفسي.
قال دمنة وقد كريه قوله: لا أتغير للأسد عن أحسن ما كنت عليه. وظن أن الأسد إن لم يرَ من الثور العلامات التي ذكرها له فإنه متهمه، فقال للثور: إنك لو قد نظرت إلى الأسد استبان لك منه ما يريد.
قال الثور: وكيف أعرف ذلك؟
قال دمنة: إن رأيت الأسد حين ينظر إليك منتصباً مقعياً رافعاً صدره مشدّداً نحوك نظره صاراً أذنيه فاغراً فاه يضرب بذنبه الأرض فاعلم أنه يريد قتلك.
قال الثور: إن رأيت منه هذه العلامات فما هي في أمره من شك.
ثم إن دمنة لما فرغ من تحميل الأسد على شتربة ومن تحميل شتربة على الأسد توجه نحو كليلة. فلما انتهى إليه قال له كليلة: إلى أين انتهى عملك؟
قال دمنة: قد قارب الفراغ على الذي أحب وتحب فلا تشكّنّ في ذلك ولا تظنن أن المودة بين الأخوين تثبت إذا احتال لقطع ما بينهما ذو الحيلة الرفيق.
ثم إن كليلة ودمنة انطلقا ليحضروا قتال الأسد فوافقا شتربة داخلاً عليه. فلما رآه الأسد انتصب مقعياً وصرّ أذنيه وفغر فاه وضرب الأرض بذنبه. فلم يشكّ الثور أنه واثب عليه فقال في نفسه: ما صاحب السلطان في قلة ثقته به وما يتخوف من بوادره وتغير ما في نفسه له عندما يؤتى إليه من البغي والطعن والكذب إلا كصاحب الحية إذا جاورها في مبيته ومقيله فلا يدري ما يهيج منها، أو كمجاورة الأسد في عرينه، أو كالسابح في الماء الذي فيه التمساح فلا يدري متى هو مساوره. ففكر الثور في هذا وهو يتأهب لقتال الأسد إن هو أراده.
فلما نظر الأسد عند دغره منه وما داخله من سوء الظن رأى فيه بعض العلامات التي ذكرها له دمنة فلم يشك إلا أنه إنما جاءت لقتاله، فواثبه الأسد ونشب بينهما القتال. واشتد قتال الثور حتى طال وسالت الدماء منهما جميعا حتى هلك الثور.
فلما رأى كليلة الأسد قد بلغ منه ما بلغ وسالت الدماء قال لدمنة: انظر إلى حيلتك ما أنكرها وأسوأ عاقبتها. قد هلك الثور وتفرّقت كلمة الجند ووقعت ملامتهم مع ما استبان من خرقك الذي ادعيت فيه الرفق. أوما تعلم أن أخرق الخرق من كلف صاحبه القتال وهو عنه غني؟ وربما أمكنت الرجل فرصته في القتال فيتركها مخافة التعرض للمخاطرة والنكبة، ورجاء أن يقدر على صاحبه بغير قتال. وإذا كان وزير السلطان يأمر بالمحاربة فيما يقدر عليه بالملاينة والظفر بالحاجة فهو أشد له عداوة من لسانه. وكما أن اللسان تدركه الزمانة عن نهكة الفؤاد. كذلك النجدة تدركها الزمانة عن خطإ الرأي. فإن النجدة والرأي إذا فقد أحدهما صاحبه لم يكن للآخر عنه غنى عند المحاربة، وللرأي على النجدة فضل. فإن أموراً كثيرة يجزئ بها الرأي دون البأس ولا يجزئ البأس شيئاً يستغنى به عن الرأي. ومن أراد المكر ولم يعرف وجه الأمر الذي يأتيه منه كان عمله كعملك. وكان لي علم ببغيك وتعجبك برأيك. ولم أزل مذ رأيت وسمعت كلامك أتوقى معرّة تجنيها عليّ وعلى نفسك. فإن العاقل يبدأ بالنظر في الأمور والأعمال قبل ملامستها. فما رجا منها أن يتم على ما يريد أقدم عليه وما خاف ألا يتم انصرف عنه ولم يتلبّس به. ولم يمنعني من لائمتك في أول أمرك وتوقيفك على عيوبك. إلا أنه كان أمراً لم أستطع إظهاره وابتغاء الشهود عليك والأعوان وعرفت أن قولي لا يزيدك خيراً ولا يردك عن سوء.
فأما الآن حين استبان لي عجز رأيك وخرق عملك ورأيت سوء عاقبة أمرك فأخبرك عن نفسك وأوقفك على عيوبك. من ذلك أنك تحسن القول وتسيء العمل. وقد قيل: لا شيء أهلك من صاحب يحسن القول فلا يحسن العمل. وإنما غرّ الأسد منك أنك تحسن الكلام فأهلكته لأنك لا تحسن الفعل. ولا خير في القول إلا مع الفعل، ولا في النظر إلا مع الخبرة، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصديق إلا مع الوفاء، ولا في العفة إلا مع الورع، ولا في الصديق إلا مع الوفاء، ولا في الصدقة إلا مع حسن النية، ولا في الحياة إلا مع الصحة والأمن والسرور. وقد شرطت أمراً لا يداريه إلا العاقل الرفيق كالمريض الذي تجتمع عليه وجوه مختلفة من الأمراض والأدوية فلا يستطيع دواءه إلا الطبيب الرفيق.
واعلم أن الأدب يذهب عن العاقل السكر ويزيد الأحمق سكراً كما أن النهار يزيد على كل ذي بصر بصراً، والخفافيش يسوء به بصرها. وذو العقل لا تبطره منزلة أصابها ولا شرف بلغه كالجبل الذي لا يتزلزل وإن اشتدت الريح. والسخيف تبطره أدنى منزلة كالحشيش الذي يحركه نسيم الريح. وقد اذّكرت أمراً سمعته يذكر من أمر السلطان أنه إذا كان صالحاً وكان وزراؤه وزراء سوء امتنع خيره من الناس فلم يستطع أحد أن ينتفع منه بمنفعة ولا صحة. وإنما مثله في ذلك مثل الماء الصافي الطيب الذي في التمساح، لا يستطيع أحد أن يدخله وإن كان سابحاً وكان إلى دخوله محتاجا. وإنما حيلة الملوك وزينتهم وقرابتهم إذا كثروا وصلحوا. إنك أردت ألا يدبر أمر الأسد غيرك، وإنما السلطان بأصحابه كالبحر بأمواجه. والخرق التماس الرجل الإخوان بغير وفاء، والأخذ بالرياء ومودة النساء بالغلظة، ونفع الناس بضرّ نفسه، والعلم والفضل بالدعة والحفظ. ولكن ما نفع هذه المقالة وما حد هذه العظة، وأنا أعلم أن الأمر في ذلك كما قال الرجل لطائر: لا تطلب تقويم ما لا يستقيم ولا تأديب ما لا يرعوي.
قال دمنة: وكيف كان ذلك؟