قال دمنة: زعموا أن مدينة كانت تدعى بورخشت دخلها الأعداء مرة فقتلوا ممن كان فيها عالماً وسبوا نساءهم واقتسموا السبي. فأصاب جندي من العدو رجلاً حرّاثاً مع امرأتين. فكان ذلك الرجل يعرّيهم من الكسوة ويصومهم عن المطعم والمشرب. فانطلق الحرّاث يوماً من الأيام مع الرجل والمرأتين ليحتطبوا فوجدت إحداهما خرقة فاستترت بها فقالت الأخرى لبعلها: ألا تنظر إلى هذه كيف تمشي بخرقتها.

فقال زوجها: ويلك ألا تبصرين نفسك فتستري مثلها ثم تكلمي. فأمرك أنت أعجب فيما قد عرفت من قذارة جسمك ونجاستك وجرأتك على ذلك من الدنو إلى طعام الملك والقيام عليه وبين يديه كالبريء من العيب والنقيّ من الدنس، ولست بالمطلع على عيبك دون أهل العقل من أهل المجلس. ولم يمنعني من إبداء عيبك قبل اليوم إلا مودة كانت ما بيني وبينك. فأما إذ قد طعنت عليّ وابتدأتني بالظلم لما انطويت عليه من عداوتي وقذفتني على غير علم بالباطل بمحضر الجند، فإني قائل بما أعلم من عيبك مبدي الذي أخفيت من دنسك الذي لم يكن معه داع أن تخدم الملك ولا أن تخدم الذي تحته.

فحقّ على من عرفك حق المعرفة أن يمنع الملك من استعمالك ويدفعه إلى عزلك عن طعامه. فلما سمع سيد الخنازير ذلك من دمنة كفّ وتلجلج لسانه واستحيا وكفّ جميع من حضر من الجمع عن القول في شيء من أمره. وكان بين الحضور شعهر قد جرّبه الأسد فوجد فيه أمانة وصدقاً فاتخذه في خدمته وأمره أن يحفظ جميع ما يجري بينهم ويطلعه عليه. فدخل على الأسد وأعلمه بحديثهم من أوّله إلى آخره دون أن يكتم عنه شيئاً. فلما سمع الأسد ذلك أمر بعزل سيد الخنازير عن عمله ومنعه من الدخول عليه ورؤية وجهه، ثم أمر بدمنة أن يردّ إلى السجن. وكتب ما جرى في محاكمته وختم عليه النمر. وكان لكليلة في حاشية الأسد صديق يدعى روزبة بينه وبين كليلة إخاء ومودة.

وكان عند الأسد وجيهاً وعليه كريماً، فانطلق إلى دمنة وأخبره بموت كليلة الذي قضى إشفاقاً من أن يتلطّخ بشيء من أمر أخيه وحذراً عليه. فبكى دمنة وحزن وقال: ما أصنع بالدنيا بعد مفارقة الأخ الرحيم والصديق الحميم. لقد صدق القائل إن الإنسان إذا ابتلي ببليّة أتاه الشر من كل جانب واكتنفه الهم والحزن من كل مكان. ثم التفت إلى روزبة قائلاً: ولكن أحمد الله تعالى إذ لم يمت كليلة حتى أبقى لي أخاً مثلك. قد وثقت بنعمة الله وإحسانه إليه فيما رأيت من اهتمامك بي ومراعاتك إياي. وقد علمت أنك رجائي وركني فيما أنا فيه. فأريد من فضلك أن تنطلق إلى مكان كذا وكذا فتنظر ما جمعته أنا وأخي كليلة بحيلتنا وسعينا ومشيئة الله تعالى فائتنا به. ففعل روزبة بما أمره دمنة وأتى بمال كثير وضعه بين يديه.

فأعطاه دمنة أكثره وقال: إنك على الدخول والخروج على الأسد إذا شئت أقدر من غيرك فتفرّغ لشأني واصرف اهتمامك إليّ واسمع ما أذكر به عند الأسد إذا رفع إليه ما جرى بيني وبين الخصوم، وما يبدو من أم الأسد من حقي، وما ترى من موافقة الأسد لها ومخالفته إياها في أمري، واحفظ ذلك كله وأعلمني به. فأخذ روزبة ما أعطاه دمنة وانصرف إلى منزله. فلما أصبح الأسد من الغد جلس حتى إذا مضى من النهار ساعات استأذن علي أصحابه فأذن لهم فدخل القاضي وطائفة من الوجوه ووضعوا بين يديه كتاب ما قال دمنة في معاذيره. فقبض الأسد ذلك الكتاب وأمرهم بالانصراف عنه.

ثم أرسل إلى أمه فقرأ عليها ذلك الكتاب فشقّ عليها ما سمعت ونادت بأعلى صوتها: إن أنا أغلظت لك أيها الملك فلا تغضب. قال الأسد: لست أغضب فقولي ما أحببت. قالت: ما أراك تعرف ما يضرّك مما ينفعك. وإني لأحسب دمنة في طول تصريفك النظر في أمره سيهيّج عليك ما لا تقعد له ولا تقوم. ولهذا كنت أنهاك عن سماع كلام هذا المجرم المسيء لدينا قديماً الغادر بذمتنا. ثم قامت وخرجت وهي غضبانة. فخرج روزبة في إثرها مسرعاً حتى أتى دمنة فأخبره بما قالت أم الأسد. فلما كان في الغد بعث القاضي إلى دمنة فأخرجه وشاور عليه ثم قال: يا دمنة قد أنبأني بخبرك الأمين الصادق وليس ينبغي لنا أن نفحص عن شأنك أكثر من هذا لأن العلماء قالوا إن الله تعالى جعل الدنيا سبباً ومصداقاً للآخرة، ولأنها دار الرسل والأنبياء الدالين على الخير الهادين إلى الجنة الداعين إلى معرفة الله تعالى.

وقد ثبت شأنك عندنا وأخبرنا عنك من وثقنا بقوله. إلا أن سيدنا الأسد أمرنا بالعود إلى أمرك والفحص عن شأنك وإن كان عندنا بيّناً. قال دمنة: أراك أيها القاضي لم تتعوّد العدل في القضاء وليس في عدل الملوك دفع المظلومين ومن لا ذنب لهم إلى قاض غير عادل، بل يأمرون بمحاكمتهم والذود في حقوقهم. والعلماء لم يقولوا في حقي شيئا.

فقال له القاضي: إنه وإن سكت جميع من حضرك ولم يقولوا شيئاً فإن ظنونهم قد اجتمعت على أنك مجرم ولا خير لك في الحياة بعد استقرار تهمتك في قلوبهم، فلا أرى شيئاً خيراص لك من الإقرار بذنبك فتخرج لعتقك من تبعة الآخرة ويعود لك حسن قول في أمرك لخصلتين: إحداهما قوتك على المخارج وافتعال المعاذير التي تدفع بها عن نفسك، والأخرى إقرارك بذنبك اختياراً للسلامة في الآخرة عن سلامة الدنيا. فإن العلماء قد قالت: إن الموت فيما يجمل خيرٌ من الحياة فيما يقبح.

فأجابه دمنة: إن القضاة لا تقضي بظنونها ولا بظنون العامة ولا الخاصة. وقد علمت أن الظن لا يغني من الحق شيئاً. فإني وإن ظننتم جميعاً أني صاحب هذا الجرم فإني أعلم بنفسي منكم، وعلمي بنفسي يقين لا شك فيه. وإنما قبح أمري في أنفسكم لأنكم ظننتم أني سعيت بغير زوراً، فما عذري عندكم لو سعيت بنفسي كاذباً عليها فأسلمتها لتقتل على معرفة ببراءتها؟ فهي أعظم الأنفس عليّ حرمة وأكرمها حقا. ولو فعلت ذلك بأدناكم أو أقصاكم لم يسعني ذلك في ديني ولم يجمل بي في خلقي. فاكفف إذن عني هذه المقالة.

فإن كانت هذه منك نصيحة فقد أخطأت موضعها، وإن كمانت منك خديعة فإن أقبح الخداع ما فطن له. وليس الخداع ولا المكر من أخلاق صالح القضاة. وإلا فاعلم أن قولك هذا حكم منك وسنة لأن كل أمر أمرت به القضاة يحكم بصوابه أهل الصواب ويتخذونه سنة ويصير خطأه عدلاً لأهل الأدغال. وإن من شقاء جدي أيضاَ أنك لم تزل في أنفس الناس فاضلاً في رأيك وفي حكمك حتى أنسيت ذلك في أمري فتركت علم القضاة وانصرفت إلى العمل بالظنون التي تختلف بها الحالات في الأمور. أو ما بلغك عن العلماء أنهم قالوا: من ادعى علم ملا لا يعلم وشهد بالغيب أصابه ما أصاب البازيار القاذف عبد مولاه. قال القاضي: وكيف كان ذلك؟

قال دمنة: زعموا أنه كان في بعض المدن رجل من المرازبة مذكور وكان له عبد صالح جعله وكيله يأتمنه على كل خزائنه. وكان للرجل بازيار ماهر خبير بسياسة البزاة وعلاجها. وكان البازيار عند المرزبان بمكان جليل بحيث أدخله داره وأجلسه مع أهله. فاتفق أن البازيار حسد عبد الرجل وفكّر له الشر ليطرده مولاه.

فعمل الحيلة في بلوغ غرضه فضاقت عليه أبواب الحيل وتعذّرت عنه الأسباب. فخرج يوماً إلى الصيد على عادته، فأصاب فرخي ببغاء فأخذهما وجاء بهما إلى منزله ورباهما، فلما كبرا فرّق بينهما وجعلهما في قفصين وعلّم أحدهما أن يقول: رأيت الوكيل يختلس مال سيده خفية. وعلّم الآخر أن يقول: هذا صحيح ثم أدبهما على ذلك مدة حتى حذقاه وأتقناه. فلما بلغ منهما ما أراده إلى أستاذه. فلما رآهما أعجباه ونطقا بين يديه فأطرباه. إلا أنه لم يعمل ما يقولان لأن البازيار كان علّمهما ذلك بلغة العجم التي يجهلها المرزبان. وكان هذا مولعاً بالببغاءين يلهو بهما. وحظي البازيار عنده بذلك حظوة عظيمة وأمر امرأته بالمراعاة لهما والاحتياط عليهما والتعاهد لطعامهما وشربهما.

واتفق بعد مدة أن قدم على المرزبان قوم من أعاظم أعاجم بلخ فتأنق لهم بالطعام والشراب وقدم لهم من اصناف الفواكه والتحف شيئاً كثيراً.

ولما فرغوا من الأكل وشرعوا في الحديث أشار إلى البازيار أن يأتي بالببغاءين فأحضرهما. فلما صاحا بين يديه وسمعهما الضيوف عرفوا ما يقولان ونظر بعضهم إلى بعض. فسألهم الرجل عما قالتا فامتنعوا أولا، فألح عليهم بالسؤال إلى أن أقروا قائلين: إنما تقولان كذا وكذا بحق عبدك وكيل أموالك. فلما قالوا ذلك أمرهم المرزبان أن يكلموا الطيرين بغير ما نطقا به ففعلا ذلك ولم يجدوهما تعرفان غير ما تكلمتا به، وبان للرجل والجماعة براءة الوكيل مما رمي به وثبت كذب البازيار الذي علمهما ذلك فانتهره الوكيل: أيها العدو لنفسه أأنت رأيتني أختلس مال سيدي وأخفيه؟

قال: نعم أنا رأيتك. فلما قا لذلك وثب باز عن يده إلى عينيه ففقأهما. فقال العبد. بحق أصابك هذا، إنه لجزاء من الله تعالى لشهادتك بما لم تره عيناك. وإنما ضربت لك هذا المثل أيها القاشي لتزداد علماً بوخامة عاقبة الشهادة بالكذب في الدنيا والآخرة. فلما سمع القاضي والحضور احتجاج دمنة كتبوا ذلك كله ورفعوه إلى الأسد، فنظر فيه ودعا أمه فعرض ذلك عليها فكان من قولها أن قالت: لقد صار اتهامي بأن يحتال لك دمنة بمكره ودهائه حتى يتلك أن ينقض عليك أمرك أعظم من اهتمامي بما سلف من ذنبه إليك من الغش والسعاية بوزيرك وصفيّك حتى قتلته بغير ذنب. فوقع قولهما في نفس الأسد فقال لها: أخبرني عن الإنسان الذي أنبأك بما سمع من كلام كليلة ودمنة، فإن قتلته ذلك حجة على دمنة. قالت: إني أكره أن أفشي سراً استظهرت عليه بركوب ما نهت عنه العلماء من كشف الأسرار، ولكني سأطلب إلى الذي ذكر لي ذلك أن يحللني من ذكره لك أو أن يفوه هو بما علم وما سمع.

ثم انصرفت فأرسلت إلى النمر فأتاها، فذكرت له فضل منزلته عند الأسد وما يحق عليه من تربيته وحسن معاونته على الحق وإخراج نفسه من الشهادة التي لا يكتمها مثله مع ما يحق عليه من نصرة المظلومين والمعاونة على تثبيت حجّتهم يوم القيامة. فلم تزل به حتى جاء فشهد على دمنة بما سمع من كلامه وكلام كليلة.

ولما شهد النمر على دمنة بذلك، أرسل الفهد المسجون الذي سمع قول كليلة لدمنة ليلة دخل عليه في السجن أن عندي شهادة فأخرجوني لها. فبعث إليه الأسد فشهد على دمنة بما سمع من قول كليلة وتوبيخه إياه بدخوله بين الأسد والثور بالكذب والنميمة حتى قتله الأسد وإقرار دمنة بذلك.

قال له الأسد: فما منعك أن تكون أعلمتنا بشهادتك عن دمنة حين سمعت ذلك منه. قال الفهد: منعني من ذلك أن شهادتي وحدي لم تكن توقع حكماً ولا تحجّ خصماً، فكرهت القول في غير منفعة. فاجتمعت على دمنة شهادتان فأرسلهما الأسد إلى دمنة ثم بكّته الشاهدان في وجهه بمقالته فأمر به الأسد فغلّظ عليه الوثاق ثم ترك في السجن حتى مات جوعاً. فهذا ما صار إليه أمر دمنة وكذلك تكون عواقب البغي ومواقع أهل الحسد والكذب.


المراجع

al-hakawati.la.utexas.edu

التصانيف

تصنيف :قصص    الآداب