في أواسط شهر آب اللهاب، بدأت السيارات تصل، الواحدة تلو الأخرى إلى مطعم “خبز وسمك” في مدينة عكا، ترجل “توفيق الطويل” من سيارته وكان أول الوافدين، ووصلت بعده “كاميليا” برفقة “نبيلة”، ثم “نادية” و”جورج” و”فيرا” و”خالد” و”مالك” و”صبحية” و”منال” و”سلوى” و”ميسلون” و”اسطفان” و”محمد” و”سمعان” و”جمال” و”إبراهيم” و”بيكة” و”شادية” و”زينات” و”حنا” وتعذر باقي طلاب الصف عن الحضور لأسباب مختلفة..
كافح الطلبة الساعات الأخيرة، ليجتمعوا معا في مدينة عكا، وفي داخل كل منهم شوق ولهفة لملاقاة الآخر، بعد أن اختلفت دروبهم وذهب كل منهم إلى حال سبيله.. فقد مضت خمس وعشرون سنة، وكان اللقاء بينهم نادرا وصدفة، وأخبار بعضهم تصل متقطعة.
خط الشيب بعض شعور الرجال، ولم تستطع بعض النساء إخفاء التجاعيد رغم المساحيق المدسوسة بين مسامات الوجه. نوع من الحرج والضحك والحزن والبكاء، والتوتر خيم عليهم، فاضوا حيوية وحبا ونشاطا قبل خمسة وعشرين عاما، واليوم، أختلفت أحوالهم، بعد أن تخطوا سنوات الأربعين.. حتى “حنا” الذي عرف بولعه الشديد للصبايا، بدا رزينا، وتوقفت عيونه الجميلة عن الغزل كما عهدوه في السابق.. و”نبيلة” المتغندرة، التي اتهمت بسلوكها السيئ وساحرة الشباب، تكورت كالأمهات المتقوقعة في مطابخ البيوت خدمة لزوج وعدد من الأولاد.
خلال وجبة العشاء، وقف “اسطفان” وقال: قضينا معا فترة جميلة جدا، نهلنا من ينبوعها حتى ارتوينا، وطعم هذا الينبوع، لن نجده في مكان آخر.. تعالوا نستعيد بعض طرائفنا، من مشاكسات وحيل وقصص غرامية.. وتحدث “اسطفان” عن حبه الشديد لمعلمة اللغة العربية وكيف كان يعمل جاهدا للفت نظرها وكيف خاب أمله عندما اكتشف أنها تعشق معلم التاريخ.. ثم سمع الحضور قصة الطالبتين اللتين عشقتا نفس الطالب من صف آخر، واخر ضرب صديقته في ساحة المدرسة على الملأ.. وعشرات النهفات المضحكة عن الأساتذة والطلبة، وقصص الحب والمقالب التي فعلوها بالمعلمين وببعضهم البعض.. حتى جاء دور “فيرا”، الطالبة الفاتنة، ذات الضفائر الشقراء والتي وصلت حتى خصرها، وتحولت بقدرة قادر إلى امرأة مختلفة لا تمت للماضي بصلة.. كانت نادرا ما تتكلم، إلا إذا سألها المعلم.. سكبت نبيذ كأسها دفعة واحدة في فمها.. ثم أخذت نفسا عميقا، وتحدثت بهدوء وحذر، ونبرة صوتها أسكتت كل من حولها: أذنت لي “جميلة” بسرد هذه الواقعة، التي حصلت معها في أيام الدراسة.
- من هي جميلة؟ – سألها “مالك”؟
- كنت متأكدة من أنكم لن تذكروها.. جميلة، الطالبة التي جلست بجانبي على مقعد الدراسة، رفض معظمكم الجلوس لجانبها، كانت نكرة بالنسبة لكم.
تنحنحت “فيرا” وتابعت: يوميا، كانت جميلة وزملائها طلاب قريتها يمارسون رحلة الشقاء، ذهابا وايابا.. يسيرون على أقدامهم من قريتهم إلى الشارع الرئيسي مسافة كيلومترين، ليستقلوا الحافلة، إلى القرية المجاورة، وكيلومترين آخرين للوصل إلى المدرسة، يشويهم حرّ الصيف وتلسعهم برودة الشتاء.. أربع سنوات.. لم يتذمروا.. وقليل منهم تركوا الدراسة بعد السنة الأولى أو الثانية، يعودون إلى قريتهم القابعة هناك قبل قيام دولة إسرائيل، والدولة لا تعترف بها كقرية قائمة، فلا تزودها بالمياه ولا بالكهرباء وسائر المرافق الأساسية.. عشش في أزقتها الفقر والحيرة والإحباط، وشعور بأن الماضي والحاضر والمستقبل في جعبة العدم.
جلست “جميلة” عمدًا في مؤخرة الحافلة، متوجهة إلى القرية المجاورة الذائعة الصيت بنجاحها بين المدارس الثانوية في المنطقة، وشهرة أستاذتها، وقدرة مديرها بإدارته الحازمة.
كانت الحافلة تابعة لشركة الحافلات الحكومية، قديمة ومقاعدها مغطاة بالجلد الأزرق الباهت والقاسي، تنطلق من مدينة حيفا إلى عكا وحتى صفد، ويستقلها من يسافر شمالا ومن ضمنهم، الطلبة الثانويون. ونادرا ما يتغير سائقها اليهودي، بشعره الأشقر وعينيه الزرقاوين وشفتيه الغليظتين، محاولا أن يكون صاحب نكتة، رغم ثقل ظله.
تعمدت “جميلة” أن تكون آخر من يصعد إلى الحافلة.. حيـّت السائق، ثم اختارت الجلوس بقرب طالب وليس طالبة لتتمكن من السيطرة على مجرى الحديث.
سارت الحافلة تنهب الأرض نهبا، وكثيرًا ماعلت أصوات الطلاب وضجيجهم وقهقهاتهم وحتى مشاجراتهم لتمضية الوقت وتقصير المسافة.
عُرف عن “جميلة” أنها طالبة انطوائية، وقد أغضبها شيء ما باستمرار، لم تبح به، تعلمت أن تتعذب بصمت في حياتها، يكفيها مربي الصف الأستاذ “رحيب”، الذي كان يستهزئ منها باستمرار، وكان يلقبها “كركسة” لأنها كانت تثور بسرعة، وتتلعثم بحديثها، حتى أن قلبها قطر دما من جراء ذلك، وسخرنا منها جميعا، مع أن مربي الصف كان يعتبر تقدميًا وكان شاعرًا ينشر قصائده في الصحف اليسارية، لكنه تعامل معها بغطرسة وتعجرف، ولم يدع فرصة إلا وانتهزها لكي يهينها بها.. فأصبح همها الوحيد، كيف ستكيل له الصاع صاعين دون أن يدري، وكانت تنظر إليه بعيون مهانة وقلب ملؤه الكراهية، وعندما يتحول إلى المداعبة يقول لها: لن تتزوجي طيلة حياتك.. وإذا حدث ذلك سيطلقك زوجك بعد أسبوع.. لن يطيقك أحد.
لم تتزحزح “جميلة” في الحافلة يمينا أو يسارًا، لم تلتفت صوب صديقاتها، تصنعت القراءة في كتاب، وشعرت أن مسافة السفر اقصر من كل يوم، كانت تتمنى أن تطول حتى لا تنهض عن مقعدها.. وقفت الحافلة وبدأ الطلاب يصيحون ويتزاحمون أثناء خروجهم، وعلا صوت السائق وهو يقول: “انزلوا يا همج، لن يفلح منكم أحد، سأقلكم قريبا إلى المصانع وزواويدكم على أكتافكم، كلكم للأعمال السوداء”.. والغريب بأن هذا السائق، كان مهذبًا مع الطالبات.. تصنعت “جميلة” بأنها تبحث عن قلم سقط تحت المقعد، حتى تكون آخر من يترك الحافلة.. وبعد أن تأكدت من نزول الجميع من الحافلة، رفعت مؤخرتها التي التصقت بالمقعد، مخلفة وراءها بقعة ماء، رمقت السائق بنظرات متشككة، تبسمت له لتوهمه بأن كل شيء على ما يرام، ونزلت مسرعة، وتمنت أن لا ينهض السائق من مقعده ليتفقد مقاعد الحافلة كعادته، جل ما أرادته في هذه اللحظة بضع دقائق ليتسنى للماء أن يتبخر عن المقعد، درئا للالتباس والشبهات.
رشفت “فيرا” من كأسها وقالت: يا الهي كم يمكن للطلبة أن يكونوا جاحدين.. لم يكن بمقدورها مواجهة سخريتهم، لأنهم لا يتفهمون بؤسها ووضاعة حياتها اليومية. فكيف ستوضح لهم أن هذه البقعة ليست مقرفة أو تسرب البول بسبب ضعف جسدي أو نفسي، بل بسبب فصل الشتاء الماطر، حيث تبلل بنطلونها “الجينيز” الوحيد المتوفر لديها، ولم يجف بعد الغسيل فارتدته وهو لا زال مبللا..
سكتت “فيرا” قليلا ونظرت إلى عيون الجميع، وقالت وهي تتصنع ابتسامة باهتة: كنا سعداء وطيبين حينها.. نظريا وليس تطبيقيا.. أعرف أن معظمكم لا يتذكر جميلة، حتى أن كاميليا وزينات لم يدعواها إلى حفلنا، ويجب أن تعلموا بأنها تقيم اليوم في البرازيل، تمتلك مع زوجها اكبر شركة لغسل وتجفيف الملابس، وتدير دارًا للترجمة والنشر، وأصبحت من الاغنياء هناك. وكانت ستسر جدا لو قام أحدكم بدعوتها..
جلست “فيرا” على مقعدها وصمتت.. وهي تتأمل الجميع.
سرت همهمات بين الطلاب فقال “جورج” بصوت عال: أنا اذكرها جيدا، ولو دعوناها، فلن تركب عباب البحر وتأتي من البرازيل ملبية دعوتنا..
فقالت “فيرا”: أنا متأكدة تماما بأنك على خطأ، لأني فعلت ذلك، اتصلت بها وأخبرتها عن هذا اللقاء، وسألتني إذا كان الأستاذ “رحيب” ما زال على قيد الحياة، لكن المشكلة أن طائرتها وصلت إلى المطار منذ ثلاث ساعات تقريبا، وسيستغرق الطريق إلى هنا، ساعتين ونصف على الأقل.. فاستعدوا لاستقبالها…
عندها، ساد الصمت واشرأبت أعناقهم وتوجهت نظراتهم نحو مدخل المطعم………
سأكون معك صريحة يا قارئ هذه القصة، لم ادر ما حصل بعد ذلك من أحداث، وقد رويت لكم كل ما اعلم، لكنني تخيلت أكثر من نهاية: إما أن لا تصل الطائرة، أو أن تصاب بحادث طرق، أو أنها تعرج على معلمها “رحيب” وتكيل له الصاع صاعين، كما وعدت نفسها.. تخيلت أيضا أنها وصلت كما قالت “فيرا” ومشهد الذهول في أعين الطلاب، ثم تملقهم لها.. تخيلت الكثير من الأشياء، لكن لم افلح في خلق نهاية تليق بهذه القصة.. فتركت الأمر لكم لتفعلوا ذلك بدلا مني، لعل مخيلتكم أفضل من مخيلتي..
(حيفا)
<--
-->
المراجع
al-hakawati.la.utexas.edu
التصانيف
تصنيف :قصص مجتمع قصة
|