الدولة العبيدية كان الحسين بن رستم بن حوشب من دعاة القرامطة في اليمن هو وصاحبه أبو عبد الله الشيعي الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا، وكان له علم ودهاء ومكر، وأخبره ابن حوشب أن أرض كتامة في المغرب قد حرثها اثنان من أتباعه وقد ماتا الآن وليس لها غيرك.
فخرج أبو عبيد الله إلى مكة واجتمع بالحجاج الذين قدموا من قبل المغرب، فصحبهم إلى أرض كتامة عام 280 هـ. واجتمع عليه البربر هناك حتى عظم أمره. ولما بلغ أمره لإبراهيم الثاني بن أحمد بن الأغلب صاحب دولة الأغالبة أرسل إلى عامله على مدينة (ميلة) يسأله عن أمره فصغره له وحقره، فسكت عنه، ثم اشتد خطره فأرسل إليه إبراهيم الثاني الأغلبي ابنه الأحول وهزم أبو عبد الله الشيعي، فركن إلى الهدوء والعمل السري وبنى لنفسه داراً وأتاه البربر، ثم توفي إبراهيم الثاني عام 289 هـ وجاء ابنه عبد الله عام 290 هـ.
ثم تولى أمر الأغالبة زيادة الله الثالث وكان منصرفاً إلى اللهو، وهذا ما دعا إلى زيادة قوة أبي عبد الله، وكان زيادة الله قد استدعى الأحول وقتله خوفاً منه، عندها بدأ أبو عبد الله بالدعوة للمهدي وانتشرت فكرة المهدي حتى غدا عدد من وزراء الأغالبة من الشيعة ويرغبون في نجاح أبي عبد الله بدعوته.
وقد كان أبو عبد الله الشيعي قبل مجيئه إلى المغرب قد زار السلمية مقر الدعوة الإسماعيلية واجتمع هناك إلى الإمام المستور ـ على حد زعمهم ـ وهو المهدي ومنها انطلق إلى المغرب بعد أن وعده بأن يمهد له الأرض هناك ويهيىء له الأمر بالظهور على الناس.
وقد كانت السلمية. وهي إلى الشمالي من مدينة حمص في بلاد الشام مقراً للدعوة الإسماعيلية وكان هناك أيضاً عائلة ميمون القداح وهو رأس الدعوة الإسماعيلية. وقد انتشر أولاده في أصقاع الأرض يدعون بهذه الدعوة وقد توفي أغلبهم وبقي منهم رجلاً يسمى الحسين بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداحي وكان يدعي أنه الوصي وصاحب الأمر والدعاة باليمن والمغرب يكاتبونه ويراسلونه، واتفق أنه جرى بحضرته حديث النساء بسليمة فوصفوا له امرأة رجل يهودي حداد مات عنها زوجها وهي في غاية الحسن فتزوجها ولها ولد من الحداد فرباه وأحسن موقعه منه وأوبه، فصارت له نفس عظيمة وهمة كبيرة وهناك من يقول: إن الإمام الذي كان بالسليمة وهو الحسين مات ولم يكن له ولد فعهد إلى هذا الغلام ابن الحداد اليهودي وهو «عبيد الله» المهدي فعرفه أسرار الدعوة من قول وفعل وأين الدعاة وأعطاه الأموال والعلامات وتقدم إلى أصحابه بطاعته وخدمته وأنه الإمام الوصي وزوجة إبنة عمه أبي الشلفلغ وقد جعل لنفسه نسباً هو عبيد الله المهدي بن الحسين بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
ولما انتشرت دعوة أبي عبد الله الشيعي في المغرب أرسل رجالاً من كتامة إلى الشام ليخبروا (عبيد الله المهدي) بما فتح الله عليه، إلا أن السلمية كانت مهددة من قبل الحسين بن مهرويه وجيشه الذي كان في صدام مع قوات الخليفة العباسي المعتضد فهرب عبيد الله المهدي واختبأ بالرملة، وعند مرور جيش القرامطة من هناك استدل الحسين بن مهرويه على مكانه والتقى به وأظهر له الطاعة عسى أن يستفيد منه، وأظهر عبيد الله له رضاءه عنه وموافقته على عمله خوفاً من أن يقتله أو يرشد عليه عامل الخليفة العباسي، وما إن سار الحسين بن مهرويه إلى دمشق حتى انطلق عبيد الله المهدي إلى مصر ثم علم بما حل بأهله بالسلمية من قبل الجيش القرمطي وما نزل بآل عمر بن إسماعيل فازداد قناعة بما يعمل من التسابه إلى الإسماعيليين وأكمل سيره إلى المغرب والتقى عبيد الله المهدي برجال كتامة الذين أرسلهم أبو عبد الله الشيعي واستطاع أن يوهمهم أنه الإمام فأسروا له ما عندهم واتجه معهم إلى مصر ومعه ابنه نزار أبو القاسم واتخذ عبيد الله صفة التاجر، وشاع الخبر أيام المكتفي بالله العباسي فأرسل إلى عامله بمصر يطلب إليه القبض على هذا التاجر، وقد قبض عليه لكنه أوهمه أنه غير ما يطلب وأظهر التدين أمامه فرق له وأطلقه، وأكمل طريقه إلى طرابلس الغرب وأرسل بعض من معه إلى القيروان فوجدوا أن الخبر قد سبقهم فألقي القبض عليهم فأنكروا، وسار عبيد الله المهدي إلى قسطلية ومنها إلى سجلماسة مقر دولة الخوارج الصفرية وكان ما يسير من مكان إلا ويطلبه العامل بعد أن يكون قد خرج منه، وأهدى عبيد الله المهدي إلى صاحب سجلماسة وهو المنتصر اليسع بن ميمون بن مدرار، فقر به المنتصر وأحبه حتى أتاه كتاب زيادة الله الثالث الأغلبي يعلمه أن ضيفه هو الذي يدعو له أبو عبد الله الشيعي في مناطقهم عندئذ قبض عليه وحبسه وكان ساعد أبي عبد الله الشيعي قد اشتد فقد قضى على دولة الأغالبة ودخل عاصمتهم «رقادة» وهرب منها رئيسهم زيادة الله الثالث عام 296 هـ ودخل أهل القيروان مدينة رقادة ونهبوها وبايعوا لأبي عبد الله الشيعي وساروا نحو سجلماسة بجيش كبير وولى على أفريقيا أخاه محمداً أبا العباس.
وفي طريقه إلى سجلماسة قاعدة دولة الخوارج الصفرية عرج أبو عبد الله الشيعي وجيشه إلى «تاهرت» عاصمة دولة الخوارج الإباضية وكانت قد وصلت إلى شفير الهاوية فبعث إلى رئيسها وكان يقظان بن أبي اليقظان وبنيه فجاؤوه فقتلهم جميعاً وسار إلى تاهرت فقضى على جميع العائلة الرستمية واستباح المدينة ثم خرج منها وأكمل طريقه إلى سجلماسة ليحرر عبيد الله المهدي وابنه نزار أبا القاسم من السجن.
فأرسل الرسل إلى المنتصر اليسع بن مدرار يلاطفه ويبعد فكرة القتال خوفاً على عبيد الله إلا أن اليسع بن مدرار قد قتل الرسل، فأعاد أبو عبد الله الشيعي الملاطفة من إرسال الرسل، فأعاد اليسع قتل الرسل فما كان من أبي عبد الله إلا أن جدَّ السير لحصار سجلماسة فخرج إليه اليسع وجرى قتال ضار بين الطرفين لم يفرق بينهما سوى حلول الظلام، وفي الصباح خرج أصحاب المدينة لاستقبال أبي عبد الله وأعلموه أن اليسع قد فرَّ بجماعته، فدخل المدينة وأخرج عبيد الله المهدي وابنه وأرسل في طلب اليسع فقبض عليه فسجن ثم قتل. ثم سار عبيد الله المهدي وجماعته جميعاً إلى رقادة عام 297 هـ بعد أن بويع بالخلافة فأصبح في العالم الإسلامي خليفتان: المقتدر بالله العباسي في بغداد وعبيد الله (الخليفة العبيدي) في رقادة.
وهنا توجد نقطة مهمة وهي أن أبا عبد الله الشيعي عند ما دخل سجلماسة والتقى لأول مرة بعبيد الله المهدي على أنه الإمام لم يرَ الرجل الذي سبق أن رآه خلال زيارته للسلمية وإنما رأي رجل آخر فمنهم من يقول: إنه رأى احد أبناء البيت القداحي أو ربيبهم ابن الحداد اليهودي ومنهم من يقول: إن اليسع بن مدرار عندما علم أنه خاسر قتل عبيد الله المهدي وابنه. قبل أن يهرب وعندما دخل أبو عبد الله الشيعي لينقذ أسيره وجد رجلاً يهودياً بالسجن فاضطر أن يدَّعي أنه المهدي ريثما تستقر الأوضاع، وقد خاف من قبيلة كتامة التي حملها على القتال من أجل المهدي.
وعلى أي الأحوال فإن الرجل الذي رآه أبو عبد الله الشيعي لم يكن هو من رآه من قبل بل اضطر لإعطائه هذه الصفة ريثما يجد مخرجاً. وما إن أصبح عبيد الله المهدي خليفة في رقادة حتى وقع الخلاف بينه وبين أبي عبد الله الشيعي وقام الخوارج الصفرية في سجلماسة بثورات ضد العبيديين بسبب أفعالهم الشنيعة وتصرفاتهم البعيدة عن الإسلام. واستغل عبيد الله المهدي هذا الظرف وقتل أبا عبد الله الشيعي وتفرغ لتثبيت حكمه الجديد.
وكان عبيد الله قد ترك قائده إبراهيم بن غالب المزائي عاملاً له على سجلماسة عندما غادرها إلى رقادة، ولم يلبث أن ثار الصفرية في العام نفسه وقتلوا إبراهيم بن غالب المزائي وجنوده. وولى الصفرية عليهم الفتح بن ميمون الملقب ب ـ (واسول).
وسار عبيد الله المهدي عام 301 هـ يريد مصر ومعه أربعون ألف مقاتل ووقف عند النيل دون تقدمه شرقاً والوصول إلى الفسطاط فعاد إلى الاسكندرية وعاث فيها الفساد وتبعه جيش الخليفة المقتدر بالله وانهزم العبيديون وانسحبوا إلى برقة ثم استطاع القائم خليفة عبيد الله المهدي أن يسيطر على الصعيد عام 306 هـ غير أن الخليفة المقتدر أرسل له مؤنس الخادم في جيش هزم العبيديين وأجبرهم على الرجوع. وفي المغرب الأقصى كان موسى بن أبي العافية قد استولى على جميع دولة الأدارسة فخلع طاعة العبيديين ودعا للأمويين في الأندلس فأرسل له عبيد الله المهدي جيشاً فهرب موسى من وجهه وترك مدينة فاس، إلا أن أمير الفاطميين على فاس قد قتل فرجع موسى بن أبي العافية إلى نفوذه ويدعو للخليفة الأندلسي وذلك بعد وفاة المهدي عام 322 هـ توفي عبيد الله المهدي سنة 322 هـ.
وخلفه ابنه نزار أبو القاسم القائم العبيدي الذي تم على عهده فتح مدينة جنوة عام 323 هـ وجزيرة سردينيا، كما استطاع القائم العبيدي إخماد ثورة الخوارج الإباضيين في طرابلس، ثم قامت ثورة كبيرة للإباضيين عام 325 هـ قادها أبو يزيد مخلد بن كيداد وانضمت إليه فرق الإباضية كما انضم إلى الثورة ضد العبيديين أهل السنة بعدما عانوا من تصرفات العبيديين غير الإسلامية وقد استطاع أبو يزيد أن يهزم جيش العبيديين الذي أرسله القائم ثم بدأ بدخول مدن الدولة العبيدية حتى دخل رقادة ثم القيروان عام 333 هـ واتجه نحو مركز الخلافة «المهدية» فخندق القائم حولها ليحميها وكادت دولة العبيديين أن تزول لولا مساندة قبيلة كتامة وصنهاجة للعبيديين.
فقد استطاعوا أن يصمدوا ثم استطاعوا أن يكسروا طوق الحصار عن المدينة. ويهزموا جيش أبي يزيد، ثم مات أمير العبيديين القائم نزار بن عبيد الله المهدي عام 334 هـ وتولى الأمر من بعده ابنه المنصور إسماعيل بن طاهر وكان ألعن من أبيه وأكثر زندقة منه.
وقد قتل خلقاً من العلماء ومات المنصور إسماعيل العبيدي عام 341 هـ وولي الأمر بعده ابنه الذي تلقب ب ـ المعز لدين الله وكان حسن السيرة.
وبعد وفاة كافور الإخشيدي عام 357 هـ وبعد أن قلت الأموال في أيدي المصريين كتب جماعة من مصر إلى المعز يطلبون منه عسكراً ليسلموا له البلد. فأرسل المعز قائده جوهر الصقلي في مائة ألف فارس فملك مصر وبنى القاهرة ودار الإمارة وقطع الخطبة لبني العباس وزاد في الدين الكثير من البدع، وشرع في بناء الأزهر. ثم دخل دمشق وتولى أمرها عن المعز جعفر بن فلاح وقد عانى أهل الشام منهم الكثير.
ثم أرسل جوهر إلى سيده المعز يخبره عن انتصاراته ويطلب منه أن يقدم إلى مصر، فغادر مدينة المنصورية واستخلف على أفريقية شيخ صنهاجة. «بلكين بن زيري بن مناد» وسار إلى القاهرة، واستقل بن زيري في منطقة تونس عام 362 هـ وأسس الدولة الزيرية وبقي يدعو للمعز، ثم توفي المعز لدين الله عام 356 هـ وخلفه ابنه نزار الملقب العزيز بالله وعلى عهده دعي للعبيديين في الحج عام 363هـ.
كذلك فقد استغل محمد بن الفتح بن ميمون الملقب باسم الشاكر الله قيام حركة الإباضيين بقيادة أبي يزيد بن كيداد وانشغال العبيديين بالقضاء عليها فقام يقود الصفرية ضدهم.
وعندما آل أمر العبيديين للمعز لدين الله عام 341 هـ ورأى ما أصبح من شأنهم أعدَّ حملة كبيرة ضد الخوارج الصفريين في سجلماسة وأوكل قيادة هذه الحملة لجوهر الصقلي وحاصر الجيش سجلماسة مدة ثلاثة أشهر وتمكن الشاكر لله أن يهرب لكنه قبض عليه فيما بعد وأرسل إلى سجن القيروان ثم ثارت بعد ذلك الخوارج على والي العبيديين عليهم واختاروا منهم والياً وأرسلوا بالطاعة للحاكم العبيدي فقبل منهم ذلك وأكرمهم إلا أن الأمر لم يستقر على هذا الحال إذ قام ابن الشاكر لله وهو أبو محمد فثار على أخيه المنتصر بالله الذي كان يحكم للعبيديين وقتله وخلع طاعة العبيديين عام 352 هـ وتلقب باسم المعتز وبذلك انتهى نفوذ العبيديين نهائياً من سجلماسة.
توسعت حدود دولة العبيديين على عهد العزيز بالله إذ ضم بلاد الشام كلها وأرسل جيشاً إلى مكة ودخلها، وخطب فيها عام 365 هـ كما خطب له بالموصل عام 382 هـ.
ثم أقر العزيز والي أبيه يوسف بن بلكين بن زيري شيخ صنهاجة على أفريقية وزاد عليه أيضاً. وزحف إلى سجلماسة خزرون بن فلغول المغراوي وقتل أبا محمد المعتز إمام الصفرية فزالت الصفرية من المغرب نهائياً. كما قاتل يوسف بلكين زناتة في المغرب. وقد جرت عدة فتوحات لحصون الروم في عهده.
وقد وجه العبيديون أيام العزيز بالله اهتمامهم لنشر فكرتهم متظاهرين بالتشيع لذا عملوا على نشر الفكر الشيعي، وقد عرف عن العزيز تسامحه مع النصارى واليهود.
توفي العزيز بالله العبيدي عام 386 هـ وخلفه ابنه الحاكم بأمر الله العبيدي وكان صغيراً في السن فكانت أمور الدولة بيد برجوان احد خدام العزيز ومدبري دولته.
وبعد أربع سنوات بدأ الحاكم بتسلم شيئاً من أمره فأظهر تعصباً شديداً لفكر العبيديين فقد كان شيطاناً مريداً أحل ما يريد وحرم ما يريد وعذب الناس كثيراً وعلى عهده ظهر حمزة بن علي الزوزني عام 405 هـ الذي كان من خدمة الحاكم الخصوصيين وجهر بألوهية الحاكم عام 408 هـ فثار عليه الناس وهرب إلى وادي التيم في لبنان.
ثم ظهر الحسن بن حيدرة الفرغاني عام 409 هـ الذي قال هو أيضاً بألوهية الحاكم لكنه قتل.
وأخيراً كانت دعوة محمد بن إسماعيل الدرزي (نشتكين) الذي كان أول من كشف عن فكرة ألوهية الحاكم ويقال: إنه قتل أو اختفى في جبل الدروز في جنوب سوريا. وقد قامت عدة ثورات ضد العبيديين في هذا الوقت ففي مكة قام أبو الفتوح، وظهر أبو ركوة الأموي في منطقة برقة.
وقد قتل الحاكم بأمر الله العبيدي عام 411 هـ وكان قتله نتيجة لتصرفاته وإساءاته للناس. وكان الحاكم قد أعطى ولاية العهد بعده لابن أخيه عبد الرحيم بن إلياس العبيدي وكان محباً للهو فقبض عليه الجند وسجنوه ثم قتلوه فقامت أخت الحاكم ست الملك وأخرجت ابن أخيها الحاكم ويدعى علي وتوجته وظلت تشرف عليه حتى توفيت عام 415 هـ وقد تلقب علي ب ـ الظاهر الفاطمي.
وكانت ولاية أفريقية تتبع العبيديين اسمياً فكان يحكمها المنصور بن يوسف بلكين حتى عام 386 هـ وقد كان حسن السيرة بالناس ومحباً للعدل وخلفه ابنه باديس الذي سار على نهج أبيه، ثم منح باديس عمه حماد بن يوسف بلكين منطقة (أشير) وأعطاه إياها.
ثم أضاف عليه الجزء الغربي من الدولة، وعندها تأسست الدولة الحمادية في أشير.
واختلفَ باديسْ مَعَ عمِّهِ ونشبَتْ بينهُمَا حروب، وبعد وفاة باديس خلفه ابنه منصور الذي أكمل قتال حماد ثم بايع الناس أخاه المعز فبايعه أيضاً وأقره الحاكم بأمر الله العبيدي ولقبه شرف الدولة، وأكمل المعز قتال حماد وانتصر عليه ثم تصالحا. توفي علي الظاهر الفاطمي عام 428 هـ وخلفه ابنه محمد أبو تميم الملقب ب ـ المستنصر وكان صغير السن ولم يزد عمره على الثمانية وامتد نفوذه إلى بلاد الشام والحجاز وشمالي أفريقيا إلا أن المعز بن باديس قطع الخطبة له في شمال أفريقيا وخطب للعباسيين سنة 435 هـ. فأرسل له المستنصر القبائل فحاربته وهزمته.
وعلى عهده دعي للعبيديين في بغداد بعد أن استولى عليها البساسيري لمدة عام واحد قبل أن يقضي عليه طغرل بك ويعيد الخليفة العباسي الحاكم بأمر الله إلى بغداد.
بعد ذلك بدأت الدولة العبيدية بالتقلص، فظهرت بالمغرب دولة المرابطين عام 448 هـ وبدأت تتوسع، وزال نفوذ العبيديين عن الحجاز عام 462 هـ ودعي للعباسيين على المنابر كما زال أثر العبيديين عن حلب عام 463 هـ. ثم اضطر المستنصر أن يسحب واليه على عكا بدر الجمالي في عام 466 هـ ويستوزره عنده في مصر، أما من ناحية المغرب فقد زال سلطانهم تماماً ولم يبق لهم سوى مصر.
ثم توفي المستنصر العبيدي عام 487 هـ وآل الحكم من بعده لولده الأصغر أحمد المستعلي أبو القاسم وأبعد ابنه الأكبر نزار وذلك بقصد من العزيز الأفضل بن بدر الجمالي الملقب بالشاهنشاه، وقد جرت حروب بين الشاهنشاه بين نزار الفاطمي الذي استقر بالاسكندرية، ثم استطاع الأفضل من أسره وقتله فيما بعد واستقر الأمر للمستعلي.
ومع أن نزار قد قتل إلا أن جماعة كبيرة من الفاطميين تسموا فيما بعد بالنزاريين ولم يعترفوا بالمستعلي، بل بقيت الإمامة برأيهم في عقب نزار ومن هذه الجماعة أيضاً خرج «الحشاشون» الذين يرجعون للحسن بن الصباح أو الباطنيين والذين لهم اليد الطولى فيما بعد بالاغتيالات السياسية لكبار قادة المسلمين في الحروب الصليبية توفي المستعلي عام 495 هـ، وخلفه ابنه المنصور وعمره خمس سنوات وتلقب ب ـ الآمر بأحكام الله وقد قام بتدبير الدولة في عهده الوزير الفضل بن بدر الجمالي حتى كبر وتسلم زمام الأمور وقد استطاع العبيديون في عهد الأفضل من دخول القدس ثانية مستغلين دخول الصليبيين بلاد الشام من الشمال. ثم عقد الوزير الأفضل عدة مفاوضات مع الصليبيين على أن يكون شمال بلاد الشام للصليبيين وجنوبهم للعبيديين.
ثم نقض الصليبيون العهد عندما شعروا بالنصر فبدؤوا يهاجمون المدن العبيدية وقد هاجموا مدينة صور عام 505 هـ فطلب العبيديون العون من طغتكين صاحب دمشق قائدهم بالمؤن والمساعدات فامتنعت صور عن الصليبيين، وكان ذلك على عهد الآمر بأحكام الله المنصور الذي تسلم الحكم عام 495 هـ، وقد استطاع الآمر التخلص من وزيره القوي الأفضل بن بدر الجمالي الذي تحكم بأمور الدولة فترة طويلة، وقد قُتل الأفضل عام 515 هـ. وقام مقامه ابنه أحمد بن الأفضل والذي تلقب بالأكمل.
وقد بقي الآمر بأحكام الله حتى عام 524 هـ حيث قتل على يد جماعة من الباطنية من أصحاب النزارية الذين يرون أن الخلافة العبيدية يجب أن تكون في أولاد نزار.
وخلفه ابن عمه الحافظ أبو الميمون عبد المجيد بن محمد بن المستنصر العبيدي، وعلى عهده قوي أمر وزيره الأكمل الذي يبدو أنه كان من الشيعة إذ دعا للإمام الثاني عشر ودعا لنفسه وأسقط ذكر إسماعيل بن جعفر الصادق من الخطبة، وهذا ما جعل العبيديين يكرهونه ويريدون التخلص منه فكمنت له جماعة منهم وقتلته. وأخرجت الحافظ من سجنه واسترد الحافظ الأموال التي أخذها الأكمل واستوزر مكانه أبا الفتح يانس الحافظي، ثم ابنه بعد قتله. وفي عام 529 هـ جاء إلى القاهرة والي المنطقة الغربية بهرام الأرمني وحاصر القاهرة، فلم ير الحافظ بداً من تعيينه وزيراً على الرغم من أنه نصراني، وبدأ يستقدم الأرمن ليتقوى بهم وقد ازداد الضعف داخل الدولة العبيدية، فأصبح الصراع دائماً بين الوزراء والجنود للسيطرة على مقدرات الدولة إضافة إلى أن الخلفاء كانوا يتولون الأمر وهم صغار فلم يكن لهم من الأمر شيء. وقد بقي بهرام الأرمني وزيراً حتى هرب عام 531 هـ فطلبه الخليفة الحافظ وسجنه ثم أطلق سراحه فاعتزل وصار راهباً. ثم استوزر الحافظ من بعده رجلاً شجاعاً اسمه رضوان لقبه بالملك الأفضل غير أنه عزله فهرب إلى بلاد الشام طالباً المعونة من عماد الدين زنكي، فخاف الخليفة منه فأرسل له أسامة بن حنقز فأمنه واسترضاه وأعاده إلى الخليفة فسجنه.
وفي عام 544 هـ توفي الخليفة الحافظ فخلفه ابنه الظافر إسماعيل وكان عمره صغيراً، فقام الخلاف بين الجند، ثم امتد نحو الوزراء. فقام الخليفة بعزل الوزير الملك العادل بن سلار وقلد الوزارة نجم الدين بن مصال الذي كان مكروها من الرعية، فجمع ابن سلار جماعته وسار بهم صوب نجم الدين بن مصال ولم يكن قد مضى على وزارته خمسين يوماً، فهرب ابن مصال نحو الصعيد وجمع قوة عسكرية فسار إليه ابن سلار بجنوده وتمكن من قتله.
فاضطر الخليفة أن يقلد ابن سلار الوزارة وهنا بدأ الخلاف يكبر بين الظافر إسماعيل والوزير ابن سلار الذي طلب المساعدة من نور الدين محمود أمير حلب لقتال الصليبيين بحيث يقع الصليبيون تحت تهديد الشمال والجنوب، أضف إلى ذلك أن العامل الأساسي لطلب هذه المساعدة أن ابن سلار كان على خلاف عقائدي مع العبيديين، فكان من أهل السنة والجماعة، وقد أحس نور الدين محمود بعجز الدولة العبيدية وخاف أن تصبح حصناً آخر للصليبيين.
وقد أحس الخليفة الظافر بما يدور حوله فأوكل إلى نصر بن عباس مهمة اغتيال ابن سلار عام 548 هـ فتولى الوزارة والد القاتل عباس بن نصر ثم قتل الخليفة بعد ذلك فثارت الرعية على نصر بن عباس وأبيه الوزير فهربا إلى بلاد الشام فأرسلت أخت الخليفة جماعة لملاحقتهم حيث أحضرتهم إلى القاهرة وقتلتهم صلباً. ثم تولى الخلافة بعد الظافر ابنه الفائز عام 549 هـ وكان صغيراً لا يزيد عمره على الخامسة، وجاء الأمير طلائع بن رزيك احد الولاة إلى القاهرة وتسلم الوزارة وأعاد الأمن وتلقب بالملك الصالح إلا أن الصليبيين قد احتلوا عسقلان من العبيديين وعقدوا العزم على الزحف إلى مصر لولا هجوم نور الدين محمود عليهم من جهة الشمال واسترداد دمشق منهم عام 549 هـ وقويت دولته فكان يهددهم بأنهم إذا ساروا نحو مصر ثانية سيتجه نحو بيت المقدس.
وفي عام 555 هـ مات الخليفة الفائز بنصر الله فاختار الملك الصالح خليفة بعده ابن عمه عبد الله بن يوسف بن الحافظ ولقبه المعاضد لدين الله وكان شاباً مراهقاً فزوجه من ابنته واستمر الوزير الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك في قيادة الدولة إلى أن قتل عام 556 هـ فتسلم بعده ابنه رزيك أبو شجاع الملك العادل، وكان يخاف من نائبه في الصعيد شاور بن مجير بناء على نصيحة أبيه، وفعلاً استطاع شاور أن يخلع رزيك بن طلائع وأن يحل محله في الوزارة، في عام 558 هـ قتل طي بن شاور رزيك بن طلائع، وقد أثارت هذه العملية أنصار رزيك والأهل وأجمع الناس على القيام بثورة ضد شاور واستغل هذا الحقد احد الثائرين وهو ضرغام فقتل ولدي شاور وسجن الثالث وتسلم ضرغام الوزارة مكان شاور وهرب شاور بن مجير إلى بلاد الشام.
الدولة العبيدية:
فطلب شاور المساعدة من نور الدين محمود وتعهد له بدفع نفقات الحملة وكذلك تقديم ثلث خراج مصر له لقتال الصليبيين، فوافقه نور الدين محمود وهو يرغب في حكم مصر خاصة أن العبيديين وصلوا لدرجة من الضعف لا يستطيعون فيها الدفاع عن أنفسهم، فأرسل مع شاور حملة عسكرية بقيادة أسد الدين شيركوه. في هذا الوقت كان ضرغام قد اختلف مع عموري ملك بيت المقدس الصليبي فسيَّر الصليبيون إلى مصر حملة عسكرية عام 559 هـ لفرض إتاوة سنوية كبيرة عليها فخاف ضرغام ففتح السدود على النيل وكان وقت الفيضانات فاضطر عموري للعودة إلى مقره.
ثم علم ضرغام بمجيء شاور مع أسد الدين شيركوه لأخذ مصر فأسرع ضرغام لمصالحة عموري، فوصل شاور مع الجيش الإسلامي قبل عموري واستطاعوا التغلب على ضرغام وقتله واستعاد شاور الوزارة وتصالح مع الخليفة العاضد العبيدي، وشعر بقوته فنقض حلفه مع شيركوه وطلب منه أن يعود إلى بلاد الشام فرفض شيركوه ذلك، فتحالف شاور مع الصليبيين وحاصروا أسد الدين شيركوه فاضطر للعودة إلى بلاد الشام بعد حصار دام ثمانية أشهر ولم يتمكن من فك هذا الحصار إلا بعد أن قام نور الدين محمود بهجوم على الأجزاء الشمالية للصليبيين فحرر حارم ثم بانياس وأسرقادتهم فاضطر الصليبيون إلى فك الحصار عن أسد الدين شيركوه.
لم ييأس أسد الدين شيركوه من فتح مصر وكذلك نور الدين محمود فأعاد الكرة بحملة جديدة بعد عامين فاستعان شاور من جديد بالصليبيين فأنجدوه بأعداد كبيرة فأجبروه على العودة إلى بلاد الشام.
ثم حاول أسد الدين شيركوه من جديد فسار إلى مصر عقب ثورة ابن الخياط وما رافقها من اضطرابات داخلية قبل أن يستطيع شاور إخمادها، ولما علم شاور بمسير شيركوه استنجد بالصليبيين وكانت هذه الحملة سنة 562 هـ والتقى الجيشان جنوب مدينة المنيا وقد انتصر شيركوه وانسحب الصليبيون نحو القاهرة فاستقر جيش شيركوه في الصعيد ثم استطاع دخول الإسكندرية دون مقاومة وولى عليها ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، فسار الجيش الصليبي والمصري في اتجاه الإسكندرية وحاصروها براً وبحراً واستنجد صلاح الدين بعمه شيركوه فجاءه مسرعاً، ثم جرى صلح بين الطرفين انسحب بموجبه شيركوه من مصر مقابل خمسين ألف دينار، ولم يقبل الصليبيون بهذا الصلح إلا نتيجة الضغط فقد كان نور الدين محمود وأخوه قطب الدين مودود يغيران في منطقة طرابلس على الصليبيين حيث فتحا العديد من المناطق وعلى هذا الأساس اضطر الصليبيون على مصالحة آل زنكي بعد ذلك قرر الصليبيون غزو مصر فزحفوا إليها، فاضطر شاور هذه المرة للاستعانة بنور الدين محمود، وجاءت الفرصة المناسبة لأسد الدين شيركوه، فقد أدرك أنه يستطيع التغلب على الصليبيين الآن مع شاور ثم يتفاهم مع شاور والدولة العبيدية.
سار الصليبيون إلى مصر عام 564 هـ ودخلوا بلبيس وأساؤوا إلى الأهالي ولجأ أهلها إلى القاهرة حاول شاور مفاوضة عموري قائد الصليبيين لكن شيركوه كان قد وصل إلى مصر بجيوشه ودخل القاهرة وكان عموري لا يزال على أسوارها وقد رأى أنه لا يستطيع مواجهتهم لذا فضل الإنسحاب فدخل شيركوه القاهرة واستقبله أهلها بالترحاب، وأوكل إلى ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي مهمة التخلص من شاور عام 564 هـ فتخلص منه ولله الحمد. فولى العاضد العبيدي الوزارة إلى شيركوه الذي توفي عام 565 هـ واستلم مكانه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي «الملك الناصر».
وقد استطاع صلاح الدين الأيوبي أن يكسب ثقة أهل مصر، وخاف الخليفة العبيدي منه وذلك لاختلاف عقيدة كل منهما عن الآخر، لذلك فقد بدأ يحيك المؤامرات ضده.
وأهمها محاولة اغتياله بيد نجاح، وهذا ما دعا بصلاح الدين لقتلهـ نجاح ـ ثم القضاء على جماعته الذين حاولوا القيام من بعده.
ثم قام الصليبيون بالاتفاق مع البيزنطيين بحملة مشتركة على مصر ونزلوا بالقرب من دمياط التي أسرع صلاح الدين إليها وتحصن بداخلها، كما أن نور الدين محمود قد أسرع إلى ضرب المناطق الصليبية في الشمال وأرسل قوة مساعدة لصلاح الدين الأيوبي في مصر بقيادة أبيه نجم الدين أيوب وقد نصحه نور الدين محمود عندما أرسله أن يأمر ابنه بالخطبة للخليفة العباسي المستنجد بالله.
وقد استمر الحصار لمدينة دمياط خمسين يوماً تكلل بالفشل الذريع، فاستقر الوضع في مصر لصلاح الدين وأحضر أسرته من بلاد الشام وعيَّن أباه على بيت المال وأسند مناصب القضاء لعلماء مسلمين بدلاً من العبيديين وبهذا أضعف أركان الدولة العبيدية كلها كما أسند إلى أنصاره الخواص مهمة قيادة الجيش، كما عين على قصر الخليفة العاضد بهاء الدين قراقوش، وحصر الأسرة العبيدية في جناح خاص، ثم استشار أمراءه بالخطبة للمستنجد العباسي فوافقوه على ذلك وتوفي العاضد العبيدي آخر حكام الدولة العبيدية وتم بذلك القضاء على الدولة العبيدية عام 567 هـ وتسلم الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي أمر مصر كلها.
المراجع
al-hakawati.net
التصانيف
دويلات وامارات التاريخ