الأديبة الكريمة
36- 117هـ،
السيدة سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب -رضى الله عنهم-، وأمها الرباب بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس.
وُلدت سنة سبع وأربعين من الهجرة وسُمِّيت آمنة على اسم جدتها آمنة بنت وهب، ولقبتها أمها الرباب سُكَيْنَة، واشتهرت بهذا الاسم، وفي الثلث الأخير من حياتها اشتغلت بتعليم المسلمين، حيث شربت من بيت النبوة أفضل الأخلاق فوُصِفَتْ بالكرم والجود، وأحبت سماع الشعر فكان لها فى ميادين العلم والفقه والمعرفة والأدب شأن كبير.
جاء أهل الكوفة يعزُّونها فى مقتل زوجها، فقالت لهم: اللَّه يعلم أني أبغضكم، قتلتم جدّي عليَّا، وقتلتم أبي الحسين، وزوجي مصعبًا فبأي وجه تلقونني؟ يتَّمتُمُوني صغيرة، وأرملتُمُوني كبيرة.
وخرجت مع أبيها الحسين بن علي إلى العراق، وعمرها آنذاك أربعة عشر عامًا، وعلى بُعد ثلاثة أميال من كربلاء ظهر جيش عدده ألف مقاتل أمر بتجهيزه عبيد اللَّه بن زياد بأمر من يزيد بن معاوية، وكان الحسين قد خرج متوجهًا إلى العراق في ركب قليل كانت معه ابنته، فجمع أهله وقال لهم: يا أم كلثوم وأنت يا زينب وأنت يا سكينة وأنت يا فاطمة وأنت يا رباب، إذا أنا قُتلتُ، فلا تشق إحداكن علي جيبًا، ولا تخمش وجهًا، ولا تَقُلْ هجرًا (أي لا تقول كلامًا قبيحًا). فلما سمعت سكينة هذا الكلام أخذها البكاء، وأخذت دموعها تتساقط وهي الفتاة الرقيقة ذات الحس المرهف، التي لم تبلغ من العمر العشرين، ولكن معرفتها بأن مصير المجاهد الشهيد الجنة، كانت تخفف عنها الحزن وتلهمها الصبر، ولما اشتد القتال بين قافلة الحسين التي تجاوزت السبعين بقليل، وبين ذلك الجيش الذي أرسله يزيد بن معاوية حيث كان عدده فى بداية الأمر ألف رجل سرعان ما طوق الجيش قافلة الحسين وفتك بها، وفي ذهولٍ وقفت سكينة تنظر إلى البقايا والأشلاء، ثم ألقت بنفسها على ما بقي من جسد أبيها، وفيه ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة، وعانقته، ولكنهم انتزعوها من على جسد أبيها بالقوة، وألحقوها بركب السبايا، فألقت سكينة نظرة أخيرة على ساحة القتال المملوءة بجثث الشهداء. ودارت الأيام، وعادت سكينة إلى الحجاز حيث أقامت مع أمها رباب فى المدينة.
ولم يمض وقت طويل حتى توفيت “الرباب”، وعاشت سكينة بعدها فى كنف أخيها زين العابدين، وكانت قد خُطبت من قبل إلى ابن عمها عبد الله بن الحسن بن علي فقتل بالطائف قبل أن يبني بها، فكانت -رضى اللَّه عنها- ترفض الزواج بعد هذه الأحداث، ولما جاء مصعب بن الزبير يريد الزواج منها تزوجته، وكان شجاعًا جوادًا ذا مال ومروءة حتى قِيلَ فيه: “لو أنَّ مصعب بن الزبير وجد أنَّ الماء ينقص من مروءته ما شربه”. وانتقلت سكينة إلى بيت مصعب وكان متزوجًا من عائشة بنت طلحة، وظلت سكينة تسعد زوجها، ولكن أين تذهب من قدرها المحتوم، فسرعان ما قُتِلَ مصعب، ثم تزوجت عبد اللَّه بن عثمان بن حكيم بن حزام، وأنجبت منه: عثمان، وحكيم، وربيعة، ثم مات عنها بعد ذلك، واستقر بها المقام فى المدينة حيث يسجى جدها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وقد تُوفيت السيدة سُكينة سنة 117هـ، بعد أن تجاوزتْ الثمانين من عمرها، فرضى الله عنها وأرضاها.
ورد في كتاب “سير أعلام النبلاء” للذهبي:
” بنت الحسين الشهيد روت عن أبيها وكانت بديعة الجمال تزوجها ابن عمها عبد الله بن الحسن الأكبر فقتل مع أبيها قبل الدخول بها ثم تزوجها مصعب أمير العراق ثم تزوجت بغير واحد وكانت شهمة مهيبة دخلت على هشام الخليفة فسلبته عمامته ومطرفه ومنطقته فأعطاها ذلك ولها نظم جيد.
قال بعضهم أتيتها فإذا ببابها جرير والفرزدق وجميل وكثير فأمرت لكل واحد بألف درهم. توفيت في ربيع الأول سنة سبع عشرة ومئة قلما روت”
قال ابن خلكان في “وفيات الأعيان”: ((السيدة سكينة ابنة الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم؛ كانت سيدة نساء عصرها، ومن أجمل النسار وأظرفهن وأحسنهن أخلاقاً، وتزوجها مصعب بن الزبير فهلك عنها، ثم تزوجها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم ابن حزام فولدت له قريناً، ثم تزوجها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان وفارقها قبل ا لدخول، ثم تزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأمره سليمان بن عبد الملك بطلاقها ففعل، وقيل في ترتيب أزواجها غير هذا، والطرة السكينية منسوبة إليها.
ولها نوادر وحكايات ظريفة مع الشعراء وغيرهم، من ذلك ما يروى أنها وقفت على عروة بن أذينة -وكان من أعيان العلماء وكبار الصالحين وله أشعار رائقة-فقالت له: أنت القاتل:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي
أقبلت نحو سقاء الماء أبتـرد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره
فمن لنار على الأحشاء تتقـد
فقال لها: نعم، فقالت: وأنت القائل:
قالت وأبثثتها سري فـبـحـت بـه
قد كنت عندي تحب الستر فاستتـر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لهـا
غطى هواك وما ألقى على بصري
فقال: نعم، فالتفتت إلى جوار كن حولها وقالت: هن حرائر إن كان خرج هذا من قلب سليم قط.
وكان لعروة المذكور أخ اسمه بكر فمات فرثاه عروة بقوله:
سرى هـمـي وهـــم الـــمـــرء يســـري
وغـاب الـنـــجـــم إلا قـــيد فـــتـــر
أراقـب فـي الـمـجـــرة كـــل نـــجـــم
تعـرض أو عـلـى الـمـــجـــراة يجـــري
لهـــم مـــا أزال لـــه قـــرينـــــــاً
كأن الـقـلـب أبـطـــن حـــر جـــمـــر
على بكر أخي، فارقت بكراً وأي العيش يصلح بعد بكر؟
فلما سمعت سكينة هذا الشعر قالت: ومن هو بكر هذا؟ فوصف لها، فقالت: أهو ذلك الأسيد الذي كان يم بنا؟ قالوا: نعم، قالت: لقد طاب بعده كل شيء حتى الخبز والزيت. وأسيد: تصغير أسود.
ويحكى أن بعض المغنين غنى هذه الأبيات عند الوليد بن يزيد الأموي وهو في مجلس أنسه، فقال للمغني: من يقول هذا الشعر؟ فقال: عروة بن أذينة، فقال الوليد: وأي العيش يصلح بعد بكر؟ هذا العيش الذي نحن فيه، والله لقد تحجر واسعاً.
وكان عروة المذكور كثير القناعة، وله في ذلك أسعار سائرة وكان قد وفد من الحجاز على هشام بن عبد الملك بالشام في جماعة من الشعراء، فلما دخلوا عليه عرف عروة، فقال له: ألست القائل:
لقد علمت وما الإشراف من خلقي
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعيني تطلـبـه
ولو قعدت أتاني لا يعنيني
وما أراك فعلت كما قلت، فإنك أتيت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق، فقال: لقد وعظت يا أمير المؤمنين فبالغت في الوعظ، وأذكرت ما أنسانيه الدهر، وخرج من فروه إلى راحلته فركبها وتوجه راجعاً إلى الحجاز، فمكث هشام يومه غافلاً عنه، فلما كان في الليل استيقظ من منامه وذكره، وقال: هذا رجل من قريش قال حكمة ووفد إلي فجبهته ورددته عن حاجته، وهو مع هذا شاعر لا آمن لسانه، فلما أصبح سأل عنه، فأخبر بانصرافه، فقال: لا جرم ليعلمن أن الرزق سيأتيه، ثم دعا بمولى له وأعطاه ألفي دينار، وقال: الحق بهذه عروة بن أذينة فأعطه إياها، قال: فلم أدركه إلا وقد دخل بيته، فقرعت عليه الباب، فخرج فأعطيته المال، فقال: أبلغ أمير المؤمنين السلام وقل له: كيف رأيت قولي؟ سعيد فأكديت، ورجعت إلى بيتي فأتاني فيه الرزق. وهذه الحكاية وغن كانت دخيلة ليست مما نحن فيه لكن حديث عروة ساقها.
ولبعض المعاصرين وهو محمد بن إدريت المعروف بمرج كحل الأندلسي في معنى هذين البيتين، وأحسن فيه:
مثل الرزق الذي تطلـبـه
مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه مـتـبـعـاً
فإذا وليت عنه تـبـعـك
وكان وفاة سكينة بالمدينة يوم الخميس لخمس خلون من شهر ربيع الأول سنة سبع عشرة ومائة، رضي الله عنهما؛ وقيل اسمها آمنة، وقيل أمينة، وقيل أميمة، وسكينة لقب لقبتها به أمها الرباب ابنة امرئ القيس بن عدي. وقال محمد بن السائب الكلبي النسابة: سألني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن اسم سكينة ابنة الحسين بن علي رضي الله عنهم، فقلت: أميمة، فقال: أصبت.
وتوفي مرج كحل المذكور في سنة أربع وثلاثين وستمائة ببلده- وهو جزيرة شقر بالأندلس-وكانت ولادته بها سنة أربع وخمسين وخمسمائة.