هو أبو الفضل جعفر المتوكل على الله بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي، أمه أم ولد تركية اسمها “شجاع”. يعتبر عهد الخليفة المتوكل هو بداية عصر ضعف الدولة العباسية وانحلالها، والذي انتهى بسقوطها على أيدي التتار عام (656هـ/1258 م).
هو الخليف العباسي العاشر. بنى مدينة المتوكلية وبنى وطور مدينة الدور، وعمل على تشييد المسجد الجامع ومئذنته الشهيرة الملوية في سامراء التي هي أحد معالم المدينة، وجدد مقياس النيل. بويع له لست بقين من ذي الحجة عام 232 هـ، وازداد نفوذ الأتراك في حكمه.
كان المتوكل مربوعا أسمر خفيف شعر العارضين. كان متمذهباً بمذهب الشافعي وهو أول من تمذهب له من الخلفاء. وكان منهمكاً في الفقهه والعام والعلم هو الذي أخرج أحمد بن حنبل من محنته.
لقد بويع له بعد الواثق، وبدأ عهده بداية موفقة، فقد أمر بإظهار السنة، والقضاء على مظاهر الفتنة التي نشأت عن القول بخلق القرآن. وكتب إلى كل أقاليم الدولة بهذا المعنى، ولم يكتف بهذا، بل استقدم المحدِّثين والعلماء إلى مدينة “سامرَّا” وطلب منهم أن يحدثوا بحديث أهل العام لمحو كل أثر للقول بخَلْق القرآن، وراح العلماء يتصدون لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وأظهر المتوكل إكرام الإمام أحمد بن حنبل الذي قاوم البدع، وتمسك بالسنن، وضرب وأوذى وسجن. استدعاه المتوكل إليه من “بغداد” إلى “سامراء” وأمر له بجائزة سَنية، لكنه اعتذر عن عدم قبولها، فخلع عليه خِلْعَةً عظيمة من ملابسه، فاستحيا منه الإمام أحمد كثيرًا فلبسها إرضاء له، ثم نزعها بعد ذلك. ويذكر للمتوكل تعيينه ليحيى بن أكثم لمنصب قاضى القضاة، وكان يحيى بن أكثم من كبار العلماء، وأئمة السنة، ومن المعظمين للفقه والحديث. هذا ولم يَخْلُ عهده من فتن وثورات قضى عليها وأعاد الأمن والطمأنينة للبلاد.
جاء في كتاب “المعارف” للدينوري:
” وبويع لجعفر يوم توفي الواثق وأمه شجاع أمة، وأخذ البيعة لولده الثلاثة محمد المنتصر وأبي عبد الله المعتز وإبراهيم المؤيد في ذي الحجة عام خمس وثلاثين ومائتين وقتل عام سبع وأربعين ومائتين بعد الفطر بثلاثة أيام، وبويع للمنتصر ابنه محمد بن جعفر وتوفي بعد ستة أشهر”.
ورد في كتاب “وفيات الأعيان” لابن خلكان:
” أبو الفضل جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن المدي، وأمه تركية واسمها شجاع، بويع له لست بقين من ذي الحجة سنة232، وقتل ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة247 وله إحدى وأربعون سنة، ودفن في القصر الجعفري، وهو قصر ابتناه بسر من رأى. وقال الدولابي في تاريخه: أنه دفن هو والفتح بن خاقان وزيره ولم يصل عليهما، فكانت خلافته أربع عشرة عام وتسعة أشهر وتسعة أيام.
وقتل المتوكل محمد ولده المنتصر بالله بسرمن رأى وهو على خلوة مع وزيره، فابتدره باغر التركي بسيف، فقام وزيره الفتح بن خاقان في وجهه ووجوه القوم، فاعتوره القوم بسيوفهم فقتلوهما معا وقطعوهما حتى اختلطت لحومهما فدفنا معا، على ما قيل.
وكان السبب في قتله على ماحكي أنه قدم المعتز على المنتصر، والمنتصر أسن منه، وكان يتوعده وسبه ويسب أمه ويأمر الذين يحضرون مجلسه من أهل السخف بسبه، فسعى في قتله ووجد الفرصة في تلك الليلة. وكان من الاتفاق العجيب أن المتوكل كان قد أهدي له سيف قاطع لا يكون مثله، فعرض على جميع حاشيته وكل يتمناه فقال المتوكل: لا يصلح هذا السيف إلا لساعد باغر، ووهبه له دون غيرة، فاتفق أنه أول داخل عليه فضربه به فقطع حبل عاتقه وكان ما ذكرنا من أمره.
وحكى علي بن يحيى بن المنجم قال: كنت أقرأ على المتوكل قبل قتله بأيام كتب الملاحم فوقف على موضع فيه أن الخليفة العاشر يقتل في مجلسه، فتوقفت عن قراءته فقال: ما لك؟ فقلت: خير، قال: لا بد أن تقرأه فقرأته وحدت عن ذكر الخلفاء فقال: ليت شعري من هذا الشقي المقتول؟ وكان مربوعاً أسمر خفيف شعر العارضين، رفع المحنة في الدين، وأخرج أحمد بن حنبل كما ذكرنا من الحبس وخلع عليه.
وكان بالدينور شيخ يتشيع ويميل إلى مذهب الإمامة، وكان له أصحاب يجتمعون إليه ويأخذون عنه ويدرسون عنده، يقال له بشر الجعاب، فرفع صاحب الخبر بالدينور إلى المتوكل أن بالدينور رجلاً رافضياً يحضره جماعة من الرافضة ويتدارسون الرفض ويسبون الصحابة ويشتمون السلف، فلما وقف المتوكل على كتابه أمر وزيره عبيد الله بن يحيى بالكتاب إلى عامله على الدينور بإشخاص بشر هذا والفرقة التي تجالسه، فكتب عبيد الله بن يحيى بذلك، فلما وصل إلى العامل كتابه – وكان صديقا لبشر الجعاب حسن المصافاة له شديد الإشفاق عليه – همه ذلك وسق عليه فاستدعى بشرا واقرأه ما كوتب به في أمره وأمر أصحابه، فقالله بشر: عندي في هذا رأي إن استعملته كنت غير مستبطإ فيما أمرت به وكنت بمنجاة مما أنت خائف علي منه، قال: وما هو؟ قال: بالدينور شيخ خفاف اسمه بشر ومن الممكن المتيسر أن تجعل مكان الجعاب الخفاف وليس بمحفوظ عنده ما نسبت إليه من الحرفة والصناعة، فسر العامل بقوله وهمد إلى العين من الجعاب فغير عينها وغير استواء خطها وانبساطه ووصل الباء بما صارت به فاء؛ فكان أخبرع عن بشر الخفاف أنه أبله في غاية البله والغفلة وأنه هزأة عند أهل بلده وضحكة، وذلك أن أهل سواد البلد يأخذون من الخفاف التامة والمقطوعة بنسيئة ويعدونه بأثمانها عند حصول الغلة، فإذا حصلت وحازوا ما لهم منها ما طلوه بدينه ولووه بحقه واعتلوا بأنواع الباطل عليه، فإذا انقضى وقت السادر ودنا الشتاء واحتاجوا إلى الخفاف وما جرى مجراها، وافوا بشرا هذا واعتذروا إليه وخدعوه وابتدروا يعدونه الوفاء ويؤكدون مواعيدهم بالأيمان الكاذبة والمعاهدة الباطلة، ويضمنون له أداء الديون الماضية والمستأنفة، فيحسن ظنه بهم وسكونه ويستلم اليهم ويستأنف إعطاءهم من الخفاف وغيرها ما يريدونه، فإذا حضرت الغلة أجروه على العادة وحملوه على ما تقدم من العام ثم لايزالون على هذه الوتيرة من أخذ سلعة في وقت حاجتهم ودفعه عن حقه في إبان غلاتهم فلا يتنبه من رقدته ولا يفيق من سكرته؛ فانفذ صاحب الخبر كتابه واشار بتقدم الخفاف أمام القوم والإقبال عليه بالمخاطبة وتخصيصه بالمسألة ساكناً إلى أنه من ركاكته وفهاهته بما يضحك الحاضرين ويحسم الاشتغال بالبحث عن هذه القصة، ويتخلص من هذه الثلاثة؛ فلما ورد كتاب صاحب الخبر أعلم عبيد الله بن يحيى المتوكل به وبحضور القوم، فأمر أن يجلس ويستحضرهم ويخاطبهم فيما حكي عنهم، وأمر فعلق بينه وبينهم سلبية ليقف على ما يجري ويسمعه ويشاهده، ففعل ذلك، وجلس عبيد الله واستدعى المحضرين، فقدموا إليه يقدمهم بشر الخفاف، فلما جلسوا أقبل عبيد الله على بشر فقال له: أنت بشر الخفاف؟ فقال: نعم، فسكنت نفوس الحاضرين معه إلى تمام هذه الحيلة وإتمام هذه المدالسة وجواز هذه المغالطة، فقال له: إنه رفع إلى أمير المؤمنين من أرمكم شيء أنكره فأمر بالكشف عنه وسؤالكم بعد إحضاركم عن حقيقته، فقال له بشر: نحن حاضرون فما الذي تأمرنا به؟ قال: بلغ أمير المؤمنين أنه يجتمع اليك قوم فيخوضون معك في الترفض وشتم الصحابة، فقال بشر: ما أعرف من هذا شيئاً، قال: قد أمرت بامتحانكم والفحص عن مذاهبكم، فقال: ماتقول في السلف؟ فقال: لعن الله السلف، فقال له عبيد الله: ويلك أتدري ما تقول؟ قال: نعم لعن الله السلف، فخرج خادم من بين يدي المتوكل فقال لعبيد الله: يقول لك أمير المؤمنين: سله الثالثة فإن أقام على هذا فاضرب عنقه، فقل له: إني سائلك هذه المرة فإن لم تتب وترجع عما قلت أمرت بقتلك، فما تقول الآن في السلف؟ فقال: لعن الله السلف، قد خرب بيتي وأبطل معيشتي وأتلف مالي وأفقرني وأهلك عيالي، قال: وكيف؟ قال: أنا رجل أسلف الأكرة وأهل الدستان الخفاف والتمسكات على ان يوفوني الثمن مما يحصل من غلاتهم، فأصير اليهم عند حصول الغلة في بيادرهم، فغذا أحرزوا الغلات دفعوني عن حقي وامتنعوا من توفيتي مالي، ثم يعودون عند دخول الشتاء فيعتذرون إلية ويحلفون بالله لا يعاودون مطلي وظلمي، فإنهم يؤدون إلي المتقدم والمتأخر من مالي، فأجيبهم إلى ما يلتمسونه وأعطيهم ما يطلبونه، فإذا جاء وقت الغلة عادوا إلى مثل ما كانوا عليه من ظلمي وكسر ماليفقد اختلت حالي وافتقرت عيالي؛ قال: فسمع ضحك عال من وراء السبيبة، وخرج الخادم فقال: استحلل هؤلاء القوم وخل سبيلهم؛ فقالوا: يا أمير المؤمنين في حل وسعة، فصرفهم فلما توسطوا صحن الدار قال بعض الحاضرين: هؤلاء قوم مجان محتالون وصاحب الخبر مسقط لا يكتب إلا بما يعلمه ويثق بصحته، وينبغي أن يستقصى الفحص عن هذا والنظر فيه، فأمر بردهم، فلما أمروا بالرجوع قال بعض الجماعة التابعة لبعض: ليس هذا من ذلك الذي تقدم فينبغي أن تتولى الكلام نحن وسنلك طريق الجد والديانة، فرجعوا فأمروا بالجلوس، ثم أقبل عبيد الله على القوم فقال: إن الذي كتب في أمركم ليس ممن تقدم على الكتب بما لايقبله علما ويحيط به خبراً وقد أخذ أمير المؤمنين باستئناف امتحانكم وانعام التفتيش عن أمركم، فقالوا: افعل ما أمرت به، فقال: من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: علي بن أبي طالب، فقال الخادم بين يديه: قد سمعت ما قالوا، فأخبر أمير المؤمنين به، فمضى ثم عاد فقال: يقول لكم أمير المؤمنين هذا مذهبي، فقلنا: الحمد لله الذي وفق أمير المؤمنين في دينه ووفقنا لاتباعه وموافقته على مذهبه، ثم قال لهم: ماتقولون في أبي بكر رضي الله عنه؟ فقالوا: رحمة الله على ابي بكر نقول فيه خيراً، قال: فما تقولون في عمر؟ قلنا: رحمة الله عليه ولا نحبه، قال: ولم؟ قلنا: للأنه أخرج مولانا العباس من الشورى، قال: فسمعنا من وراء السبيبة ضحكاً أعلى من الضحك الأول ثم أتى الخادم فقال لعبيد الله عن المتوكل: أتبعهم صلة فقد لزمتهم في طريقهم مؤونة واصرفهم، فقالوا: نحن في غنى وفي المسلمين من هو أحق بهذه الصلة وإليها أحوج، وانصرفوا.
وذكر أبو عبد اله حمدون قال: قال لي الحسين بن الضحاك: ضربني الرشيد في خلافته لصحبتي إياه ثم ضربني الأمين لمماثلتي ابنه عبد الله ثم ضربني المأمون لميلي إلى محمد ثم ضربني المعتصم لمودة كانت بيني وبين العباس بن المأمون ثم ضربني الواثق لشيء بلغه من ذهابي إلى المتوكل، وكل ذلك يجري مجرى الولع والتحذير لي، ثم أحضرني المتوكل وأمر شفيعا أن يولع بي، فتغاضب المتوكل علي، فقلت: يا أمير المؤمنين إن كنت تضربني كما ضربني آباؤك فاعلم أن آخر ضرب ضربته كان بسببك، فضحك وقال: بل أصونك وأكرمك.
وقال المتوكل يوما لمن حضره: ما أرى أحسن من وصيف الصغير، يعني خادمه، فجعل كل يصفه غير بغا الكبير فال: يا بغا ما سكوتك؟ اما تحب وصيفا؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: لأني أحيب من يحبك ولا أحب من يحبه.
ودخل أبو العيناء على المتوكل فقال له: بلغني عنك بذاء، قال: إن يكن البذاء صفة المحسن بإحسانه والميء بإساءته فقد مدح الله وذم قال نعم العبد إنه أواب وقال عز وجل هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم فذمه حتى قذفه، وأما أن أكون كالعقرب التي تسلع النبي والذمي بطبع لا يميز فقد أعاذ الله عبدك من ذلك، وقد قال الشاعر:
إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقاً
ولم أشتم الجبس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الشر والخير باسمه
وشق لي الله المسامع والفمـا
ولما أسلم نجاح بن سلمة إلى موسى بن عبد الملك الأصبهاني ليؤدي ما عليه من الأموال عاقبه فتلف في مطالبته، فحضر يوماً عند المتوكل فقال له: ما عندك من خبر نجاح بن سلمة؟ قال: ما قال الله فوكزه موسى فقضي عليه، فاتصل ذلك بموسى فلقي الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان فقال: أيها الوزير أردت قتلي فلم تجد لذلك سبيلاً إلا بإدخال أبي العيناء إلى أمير المؤمنين وعداوته لي، فعاتب عبيد الله أبا العيناء في ذلك فقال: والله ما استعذبت الوقيعة فيه حتى ذممت سيرته لك، فأمسك عنه.
ثم دخل بعد ذلك أبو العيناء على المتوكل فقال: كيف كنت بعدي؟ فقال: في أحوال مختلفة خيرها رؤيتك وشرها غيبتك، فقال: قد والله استقتك، قال إنما يشتاق العبد لأنه يتعذر عليه لقاء مولاه وأما السيد فمتى أراد عبيده دعاه، فقال له المتوكل: من أسخى من رأيت؟ قال: ابن أبي دواد، قال المتوكل: تأتي إلى رجل قد رفضته فتنسبه إلى السخاء قال: إن الصدق يا أمير المؤمنين على موضع من المواضع أنفق منه على مجلسك وإن الناس يغلطون فيمن ينسبونه إلى الجود لأن سخاء البرامكة منسوب إلى الرشد، وسخاء الفضل والحسن بن سهل منسوب إلى المأمون، وجود اب أبي دواد منسوب إلى المعتصم، وإذا نسب الفتح وعبيد الله إلى السخاء فذاك سخاؤك ياأمير المؤمنين، قال: صدقت فمن أبخل من رأيت؟ قال: موسى بن عبد الملك، قال: وما رأيت من بخله؟ قال: رأيته يحرم القريب كما يحرم الغريب، ويعتذر من الإحسان كما يعتذر من الإساءة، فقال له: قد وقعت فيه عندي وقعتين وما أحب ذلك، فالقه واعتذر إليه ولا يعلم أني وجهت بك، قال: يا أمير المؤمنين من يسكته بحضرة ألف؟ قال: لن تخاف على الاحتراس من الخوف، فسار إلى موسى واعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه، وافترقا إلى صلح، فلقيه بالجعفري فقال: يا أبا عبد الله قد اصطلحنا فمالك لا تأتينا؟ قال أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ما أرانا إلا كما كنا أولاً.
وكان المتوكل قد غضب على عبادة ونفاه إلى الموصل وكان عبادة من أطيب الناس وأخفهم روحا وأحضرهم نادرة، وكان أبوه من طباخي المأمون وكان معه، فخرج حاذقا بالطبيخ ثم مات أبوه ونحب.
حكى أبو حازم الفقيه، وقد جرى ذكر عبادة، قال: ما كان أطرفه، قيل: وكيف؟ قال: لما حصل بالموصل تبعه غرماؤه وطلبوه وقدموه إلى علي بن إبراهيم العمري وهو قاضي الموصل فحلف لواحد ثم لآخر ثم لآخر، فقال له علي بن إبراهيم: ويحك ترى هؤلاء كلهم قد اجتمعوا على ظلمك؟ فاتق الله وارجع إلى نفسك، فإن كانت عسرة بإزائها نظرة، فقال: صدقت فديتك ليس كلهم ادعى الكذب ولا كلهم ادعى الصدق، ولكني دفعت بالله ما لا أطيق. وقيل له وقد مات زوج أخته: ماورثت أختك من زوجها؟ قال: أربعة أشهر وعشراً.
وحكى علي بن الجهم قال: لما أفضت الخلافة إلى المتوكل أهدى إليه ابن طاهر من خراسان هدية جليلة فيها جوار فيهن جارية يقال لها محبوبة قد نشأت بالطائف وبرعت في الأدب وأجادت قول الشعر وحذقت الغناء وقربت من قلب المتوكل وغلبت عليه فكانت لا تفارق مجلسه، فوجد عليها مرة فهجرها أياما، وبكرت عليه فقال: ياعلي قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال رأيت الليلة في منامي كأني رضيت عن محبوبة وصالحتها وصالحتني، قلت: خيراً يا أمير المؤمنين أقر الله عينك وسرك، إنما هي عبدتك والرضى والسخط بيدك، فو الله أنا لفي ذلك إذ جاءت وصيفة فقالت: يا أمير المؤمنين سمعت صوت عود من حجرة محبوبة، فقال: قم بنا ياعلي ننظر ما تصنع، فنهضنا حتى أتينا حجرتها فإذا هي تضرب العود وتغني:
أدور في القصر لاأرى أحداً
أشكو إليه ولا يكلـمـنـي
كأنني قد أتيت مـعـصـيةً
ليس لها توبة تخلصـنـي
فهل شفيع لـنـا إلـى مـلـكٍ
قد زارني في الكرى وصالحني
حتى إذاما الصبـاح لاح لـنـا
عاد إلى هجره فصـارمـنـي
قال: فصاح أمير المؤمنين وصحت معه، فسمعت فتلقته وأكبت على قدميه تقبلهما، فقال: ما هذا؟ قالت: يا مولاي رأيت في ليلتي كأنك رضيت عني فتعللت بما سمعت، قال: وأنا والله رأيت مثل ذلك، فقال لي: يا علي رأيت أعجب من هذا كيف اتفق؟ ورجعنا إلى الموضع الذي كنا فيه ودعا بالجلساء والمغنين واصطبح وما زالت تغنيه الأبيات يومه ذلك؛ قال: وزادت حظوة عنده حتى كان من أمره ما كان، فتفرق جواريه وصارت نحبوبه إلى وصيف الكبير فما زالت حزينة باكية، فدعاها يوما وأمرها أن تغني فاستعفته وجيء بعود فوضع في حجرها فغنت.
أي عـــيش يلـــذ لـــــي
لاأرى فـيه جـــعـــفـــرا
كل من كان في ضنى وسقام فقد برا
غير محبوبة التي
لو تـرى الـمـوت يشـتـــرى
لا شترته بما حوته يداها لتـقـبـرا
ولبست السواد والصوف وما زالت تبكيه وترثيه حتى ماتت، رحمها الله تعالى”.