خـير الدّيـن التّونسـي
1810- 1890م
خير الدّين التّونسي، مُصلحٌ في العالم العربي ورجل دولةٍ. كانت إدارته لشؤون الدّولة التي تولاّها تقومُ على علمٍ وبعد نظرٍ ودرايةٍ. هو شركسيُّ الأصل، وُلِدَ في استانبول، وبيع عن طريق سوق الرّقيق، ووجد نفسه في صباه في بيت تحسين بك، نقيب الأشراف.
أُدخِلَ خير الدّين المكتب الحربي الذي أنشأه الباي في تونس سنة 1840. وكان خير الدين قد أُعِدَّ من قَبْل إعدادًا دينيًا، فتعلّم ما يستطيع تعلّمه على أيدي رجال الدّين من أهل الزّيتونة وما إليه. وأتاحت له فرصة انضمامه إلى المكتب العسكري والإحتكاك برجال البعثة العسكريّة، المَجال للإطّلاع على نَواحٍ جديدةٍ من الثّقافة العصرية، هندسةً وجغرافيًا وتاريخًا. وقد كان الشّاب مُنفَتح الذّهن نشيطًا، فتعلّم الفرنسية إلى جانب العربية والتّركية. وبذلك أصبح واسع الإطّلاع، مُتمكّنًا من المعرفة التّقليدية والحديثة.
في سنة 1845، أُبطِل الرّق في تونس، فتحرّر خيرُ الدّين وقضى ثلاث سنواتٍ وبعضُ السّنَة في باريس، يقوم بمهمّةٍ للباي وتونس. هذه السّنوات الثلاث كانت كبيرة الأثر في حياته وتفكيره؛ صرفها متعلمًا ملاحظًا دارسًا وقارئًا، واتّصل بأهل العلم والإدارة والقضاء، فجاءت إقامته هناك خيرًا وبركةً عليه وعلى بلده.
استُدعِيَ سنة 1859 إلى الوزارة وأُنشِئَ المجلس الكبير بعد سنة، فعُيِّنَ خير الدّين نائب لرئيسه. لكن خصومه تضافروا عليه فانسحب من الميدان مؤقتًا، ودُعِيَ ثانيةً لترؤُّس اللّجنة المالية، وأخيرًا إلى رئاسة الوزارة سنة 1873. وخدم بلاده في هذا المنصب خمس سنوات ثم أقيل لأنّ استقامته لم تتّسع لها الصّدور.
لخير الدين كتابٌ اسمه “أَقْوَمُ المسالك في معرفة أحوال المَمالك”، حاولَ أن يتقرّى فيه العوامل التي يمكن أن تُصلِح من شأن الأمم الإسلامية بالمقابلة مع ما تمّ في دولة أوروبا. وقد لحظ خير الدين ما كانت عليه الكثير من الأمم الإسلامية من إختلالٍ في سياستها، من حيث المبادئ لا التّنفيذ فقط. كما شدّد على وجوب قيام الحكام باستشارة العارفين. ورأيه في ذلك: “ومِن أهمّ أصول سياسة الدّولة وجوب المشورة التي أمر الله بها رسوله المعصوم، عليه الصّلاة والسّلام، مع استغنائه عنها بالوحي الإلهي وبما أودع الله من الكمالات، فما ذاك إلا لحكمةٍ أن تصير سنة واجبة على الحكّام بعده”.
ويصرّ الوزير الكبير على أنّ تقدّم أوروبا إنّما جاء بسبب العلم والعدل. وعبارته في ذلك: “وإنّما بلغوا تلك الغايات والتّقدم في العلوم والصّناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي وتسهيل طُرُق الثّروة واستخراج كنوز الأرض بعلم الزّراعة والتجارة. وملاك ذلك كله الأمن والعدل اللّذان صارا طبيعة في بلدانهم. وقد جرت عادة الله في بلاده أنَّ العدل وحُسن التّدبير والتّرتيب المحفوظة من أسباب نموّ الأموال والأنفس والثّمرات، وبضدّها يقع النّقص في جميع ما ذكره”.
وبعد حياةٍ مثمرةٍ في تونس غادر خير الدين البلاد إلى إستانبول حيث احتفل به السّلطان عبد الحميد احتفالاً بالغًا، وعيّنه فيما بعد رئيسًا لوزرائه. ولكنّه لم يمكث في منصبه طويلاً، فقد كَثُر خصومه هنا كما كثروا في تونس لأنه كان لا يقبل إلاّ السّير الصّحيح في عمله.
قال فيه أحمد أمين: “كان خير الدين مُصلحًا اجتماعيًا وسياسيًا، وكانت فضائله التّي تُكوّن شخصيته الجُرأَة في قول الحقّ وعمله من غير خوفٍ وصلابته فيما يعتقده من غير انحناءةٍ، وحرّيته في تفكيره من غير جمود، وقوّة كواهله على حمل الأعباء من غير تبرّم”.