الحمد لله ناصر الحقّ ومخزي الباطل ، وصلى الله على نبينا محمد سيد المرسلين ، وعلى آله الاخيار المنتجبين.
ان الفتنة التي ظهرت بالبصرة بعد بيعة الامام عليّ 7 بمدة قليلة كان سببها ما احدثه طلحة والزبير من نكث بيعتهما التي بايعا بها امير المؤمنين 7 طائعين غير مكرهين ، ثمّ خروجهما من المدينة الى مكّة يظهران العمرة ، ثمّ اجتماعهما بعائشة التي كانت تراقب الوضع السياسي عن كثب في المدينة ، ثمّ التحاق عمال عثمان الهاربين من الامصار بأموال المسلمين بهما ، وقد اجمعوا في اجتماعهم على الطلب بدم عثمان ، فأجابهم الى مرادهم الغوغاء الذين استهوتهم الفتنة.
وكان رأي الجماعة التوجه الى الشام والالتحاق بمعاوية ، لكن محاولة عبدالله بن كريز بن عامر ، عامل عثمان الهارب من البصرة ان يغير وجهة القوم الى البصرة ، باعتباره كان عاملاً لعثمان عليها ، ولعثمان فيها انصار ، بعدها قرر القوم التوجه الى البصرة بعد ان زودهم يعلى بن اميّة والي عثمان على اليمن الذي هرب أيضاً بأموالها والتحق بهم
بستمائة بعير وستمائة الف درهم ، وكذلك جهزهم ابن عامر بمال كثير.
لكن لنعد الى الوراء قليلاً لنرى حقيقة هؤلاء القوم الذين يحملون الضغائن في صدورهم لآل بيت رسول الله 6 ، والذين اخبر بهم 6 في اكثر من موضع ، ففي رواية انس بن مالك ، قال : ان النبيّ وضع رأسه على منكبي عليّ فبكى ، فقال له : ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال : « ضغائن في صدور اقوام لا يبدونها حتى أفارق الدنيا » (1).
وروي ان النبيّ 6 كان ذات يوم جالساً ، وحوله عليّ وفاطمة والحسن والحسين 8 ، فقال لهم : « كيف بكم إذا كنتم صرعى وقبوركم شتى ؟ فقال الحسين 7 : أنموت موتاً أو نقتل ؟ فقال : بل تقتل يا بني ظلماً ، ويقتل أخوك ظلماً ، وتشرد ذراريكم في الارض ، فقال الحسين 7 : ومن يقتلنا يا رسول الله ؟ قال : شرار الناس » (2) الحديث.
وعلى الرغم من هذا كان الرسول الكريم 6 يحذر الامة من انتهاك كرامة اهل بيته ، ويتوعد كل من يفعل بهم ذلك أن يكون مصيره النار لا محالة ، ثمّ خص جماعة منهم بالتحذير كما فعل مع الزبير حين قال له : « إنّك ستخرج عليه وانت ظالم له » (3) ، كما حذر عائشة من أن
__________________
(1) تاريخ دمشق ( ترجمة الامام عليّ ) 2 : 321 ـ 327.
(2) الارشاد 2 : 13.
(3) مروج الذهب م 2 : 371.
تكون هي التي تنبحها كلاب الحوأب.
لكن كل تحذيرات رسول الله 6 لم يعبأ بها القوم ، فكان 6 على يقين بأن اشرار الامة ستمتهن كرامة اهل بيته ( سلام الله عليهم ) لذا 6 اخبر علياً 7 بأنه سيكون له يوم مع أراذل الامة ، كما في قوله 6 لسُهيل بن عَمرو لطلبه على ردّ من أسْلَمَ مِنْ مواليهم :
« لتنتهين يا معشر قُريش أو ليبعثَ الله عليكُم رجُلاً يضْرِبُكُمْ على تأويلِ القرآن كما ضَربتكُمْ على تنزِيلهِ ، فقال له بعضُ أصحابه : مَنْ يا رسولُ الله ؟ هُو فلانٌ ؟ قال : لا. قال : فَفُلانٌ ؟ قال : لا ، ولكنّه خاصِفُ في الحجرةِ ، فنظروا فإذا عليُّ 7 في الحُجرةِ يخصفُ نعل رسولِ الله 9 » (1).
كما في قوله 6 للامام عليّ 7 : « تُقاتلُ يا عليُّ على تأويلِ القرآنِ ، كما قاتلتُ على تنزيلهِ » (2).
وقوله 6 لامير المؤمنين 7 : « تُقاتلُ بَعْدي الناكثينَ والقاسطينَ والمارقينَ » (3). وقوله 6 : « عليّ مع الحقّ والحق مع
__________________
(1) انظر : تذكرة الخواص : 40 ، كشف الغمة 1 : 335 ، اُسد الغابة 4 : 26 ، اعلام الورى : 189 ، مناقب الخوارزمي : 128 ، مجمع الزوائد 5 : 186 ، فرائد السمطين 1 : 162.
(2) حلية الاولياء 1 : 67 ، مناقب ابن المغازلي : 298 ، الصواعق المحرقة : 123.
(3) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 80.
عليَّ ، اللهم أدرِ الحقّ مع عليّ حيثما دارَ » (1).
وقوله 6 لعلي 7 : « قاتلَ اللهُ مَنْ قاتلَكَ ، وعادى مَنْ عاداك » (2).
اذن ما حقيقة هؤلاء الذين يقاتلون امير المؤمنين 7 ، وما حقيقة هؤلاء الناكثين الذين امر رسول الله 6 علياً 7 بقتالهم.
نقول : النكثُ في اللغةِ ، هو نكثُ الاكسيةِ والغزل ، قريبٌ من النقضِ ، واستعير لنقض العهد ، قال الله تعالى : ( وإنْ نَكَثُوا أيمَانِهم (3) ـ إذا هم ينكثون ) ، والنكثُ كالنقضِ ، والنكيثةُ كالنقيضةِ ، وكل خصلة نكث فيها القوم يقالُ لها نكيثة ، قال الشاعر : « متى يكُ أمْرٌ للنكيثةِ أشهدِ » (4).
وعلى هذا الاساس فكل من صفق على يد الامام عليّ بن ابي طالب 7 بالبيعة ثمّ نكث بيعته فهو مشمول بأخبار رسول الله 6 علياً بقتاله. ولا شك أن طلحة والزبير كانا من الذين خصهما رسول الله 6 بكلمة « الناكثين » في صدر الحديث الانف الذكر.
فأين هُم من احاديث رسول الله 6 بحق امير المومنين 7 ؟
__________________
(1) اعلام الورى : 159 ، تاريخ بغداد 14 : 321 ، المستدرك 3 : 124.
(2) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 81.
(3) التوبة (9) : 12.
(4) اساس البلاغة : 472 ، المفردات في غريب القرآن : 504.
واين هُم من حديث رسول الله 6 وهو يعلن للملأ : « إن وَليتُم علياً يَسلُك بكم الطريق المستقيم » (1).
لكن الرسول العظيم يرى كل هذه الامور من وراء ستر رقيق ، ويخبر اهل بيته وعترته بما تؤول إليه امورهم بعده 6 ، ففي رواية عن الامام عليّ 7 ، يقول : « عهد اليّ رسول الله : ان الامة ستغدر بك » (2) ، لذلك لم يجد الامام 7 بداً من قتال القوم كما قال : « ما وجدتُ بداً من قتال القوم أو الكفر بما انزل الله » (3).
بعد هذه المقدمة القصيرة ، هل نطمئن الى ان طلحة والزبير هم حقيقةً من الذين بُشروا بالجنةِ على لسان رسول الله 6 ؟ عند العودة الى احاديث الرسول 6 في حقّ اهل بيته وما تناقله الرواة على مستوى جميع المذاهب ، والروايات التي جاءت مستفيضة ومتواترة وحسنة الاسناد ، وكذا الروايات الكثيرة المسندة في حقٍّ من نصب العداوة والبغضاء لآله 6.
نجد بأن حقيقة التبشير بالجنة لا اساس لها من الصحة ، وإن كان بعض فرق السنة والجماعة روجوا لهذا الحديث ، وجاءوا بتأويلات باهتة حفظا لماء الوجه ، فقالوا : إن ذلك من الاجتهاد ، وعملَ كلُّ فريق منهم على رأيه ، فكان بذلك مأجوراً وعند الله تعالى مشكوراً ، وإن كانوا
__________________
(1) تاريخ دمشق ( ترجمة الامام عليّ 7 ) 3 : 90 ـ 94.
(2) المصدر السابق 3 : 148 ـ 161.
(3) المصدر السابق 3 : 220 ـ 221.
قد سفكوا فيه الدماء وبذلوا فيه الاموال (1).
ونقول : فأيّ اجر في سفك الدماء وانتهاك المحارم ، والخروج على الامام العادل ، وشق عصا المسلمين وسرقة بيوت اموالهم ؟
فإذا كان الشك يداخلهم في قتال عليّ 7 ، فالحافظ ابن عساكر يخبرنا في روايةٍ بسندٍ عن عبيدالله بن ابي الجعد ، قال : سئل جابر بن عبدالله عن قتال عليّ ، فقال : ما يشك في قتال عليّ الا كافر (2).
وإذا سلّمنا بأن حديث العشرة المبشرين في الجنة صحيح ومتفق عليه ، فالامام عليّ 7 احد المبشرين بالجنة ، وطلحة والزبير هما أيضاً من المبشرين بالجنة ، فمن خلال فتنة الجمل ، فيجب ان يكون احد الطرفين المتحاربين على حقّ والآخر على باطلٍ ، فقتلى صاحب الحقّ شهداء ويدخلون الجنة ، وقتلى الباطل اشقياء ويدخلون النار ، فمن غير المعقول ان يكون كلا الطرفين على حقّ ، وتهرق في سبيلهما الدماء ، وإذا عرضنا الموضوع على الدين والعقل فأيّ منهما صاحب الحقّ والعدل ؟ وهذا مما لا يحتاج الى زيادة تفكير ، وقد جاءت الاية الكريمة مصداقاً لقوله تعالى : ( يوم نحشر كل امة بإمامهم ) (3) فيحشر قتلى عليّ مع عليّ ويستقبلهم رسول الله 6 ويحشر قتلى الطرف الثاني
__________________
(1) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 58.
(2) تاريخ دمشق ( ترجمة الامام عليّ 7 ) 3 : 420 ـ 143.
(3) الاسراء (17) : 71.
امثال بني ضبة وغيرهم يتقدمهما طلحة والزبير ، والله يعلم اي زواية يشغلون ! وهو مما يعززُ قولنا كما جاء في رواية ابن المغازلي ، قال : أخبرنا احمد بن محمد بن عبد الوهاب اذناً ، عن القاضي ابي الفرج احمد بن عليّ ، قال : حدثنا أبو غانم سهل بن اسماعيل بن بلبل ، قال : حدثنا أبو القاسم الطائي ، قال : حدثنا محمد بن زكريا الغلابي ، حدثنا العبّاس بن بكار ، عن عبدالله بن المثنى ، عن عمه ثمامة بن عبدالله بن أنس ، عن ابيه ، عن جده ، قال رسول الله 6 : « إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على شفير جهنم ، لم يَجُز إلا من معه كتاب ولاية عليّ بن ابي طالب » (1).
والمعروف ان طلحة والزبير وامثالهم مزقوا هذا الكتاب وجحدوا فيه ، وجعلوه خلف ظهورهم ، فأنى لهم وعبور الصراط ؟
طلحة والزبير يؤلبان على عثمان
من المواقف التي ساهمت في زيادة حدة التوتر ما بين موقف الثوار المتشدد الذي يطالب عثمان بأصلاحات أو بخلع نفسه ، وبين عثمان الذي كان متصلباً أيضاً في مواقفه تجاه مطالبهم ، حتى شددوا عليه قبضة الحصار المفروض والذي دام أربعين يوماً ، وموقفا طلحة والربير اللذين ساهما في الوقيعة به وادى ذلك الى مقتله.
يروي الشيخ المفيد ( اعلا الله مقامه ) انه قال : ( ولما أبى عثمان ان
__________________
(1) مناقب ابن المغازلي : 242 ، العمدة : 369.
يخلع نفسه تولى طلحةُ والزبيرُ حصاره ، والناس معهما على ذلك ، فحصروه حصرا شديداً ، ومنعوه الماء ، فأنفذ الى عليّ 7 يقول : إنّ طلحة والزبير قد قتلاني بالعطش ، والموت بالسلاح احسن. فخرج عليّ 7 مُعتمداً على يدِ المسور بن مخرمة الزُهريِّ حتى دخل على طلحة بنِ عُبيدالله ، وهو جالس في داره يَبْري نَبْلاً وعليه قميصٌ هنديٍّ فلما رآه طلحةُ رحَّبَ به ووسع له على الوسادةِ. فقال له عليُّ 7 : « إن عثمان قد أرسل اليّ أنكم قد قتلتموهُ عطشاً وان ذلك ليس بالحَسَنُ ، والقتل بالسلاح أحْسنُ له ، وكنتُ آليتُ على نفسي أنْ لا أرُدَّ عنه أحداً بعد أهل مِصْرَ ، وأنا أحِبُ ان تُدخلوا عليه الماءَ حتى تَرَوا رأيكم فيه ». فقال طلحة : لا والله لا نعمةُ عينٍ له ، ولا نتركهُ يأكلُ ويشرب ! فقال عليّ 7 : « ما كُنتُ أظُنُّ أنْ اُكلِّمَ أحداً من قُريشٍ فيُردّني ، دَعْ ما كُنتَ فيه يا طلحة ». فقال طلحةُ : ما كُنتُ أنْتَ يا عليُّ في ذلك من شيءٍ. فقام عليٌّ 7 مغضباً ، وقال : « ستعلمُ يابن الحَضْرَميَّة (1) أكُونُ في ذلك من شيءٍ أمْ لا ! ثمّ انصرف » (2).
وروى أبو حُذيفةَ إسحاقُ بنُ بشر القُرشيُّ أيضاً ، قال : حدثني يزيد بن ابي زياد ، عن عبد الرحمن بن ابي ليلى ، قال : والله إنّي لأنظُرُ
__________________
(1) الحضرمية : هي ام طلحة ، وهي الصعبة بنت عبدالله بن عباد بن ربيعة بن أكبر بن مالك بن عوين بن مالك بن الخزرج بن اياد بن الصدف بن حضرموت من كندة يعرف ابوها عبدالله بالحضرمي. انظر : طبقات ابن سعد 3 : 214 ، الاستيعاب 2 : 219.
(2) تاريخ الطبري 4 : 385 ، التمهيد والبيان : 152 ، العقد الفريد 2 : 267.
الى طلحةَ ، وعثمان محصور ، وهو على فرس أدْهم ، وبيدهِ الرُمْحُ يجولُ حولَ الدار ، وكأني أنْظُرُ الى بياضِ ما وراء الدِرْع (1).
وفي رواية ابن الاثير ، قال : وقد قيل ان علياً كان عند حصر عثمان بخيبر ، فقدم المدينة والناس مجتمعون عند طلحة ، وكان ممن لهُ أثر فيه ! فلما قدم عليّ أتاه عثمان ، وقال له : أمّا بعد فإنّ لي حقّ الاسلام وحقَّ الاخاء والقرابة والصِّهر ، ولو لم يكن من ذلك شيء وكنّا في الجاهلية ، لكان عاراً على بني عبد مناف ان ينتزع أخو بني تيم ، يعني طلحة ، أمرهم ، فقال له عليّ : « سيأتيك الخبر » ، ثمّ خرج الى المسجد فرأى أسامة فتوكأ على يده حتى دخل دار طلحة ، وهو في خلوة من الناس ، فقال له : « يا طلحة ما هذا الامر الذي وقعت فيه ؟ » فقال : يا ابا الحسن بعدما مسّ الحزمُ الطبّيين. فانصرف عليّ حتى اتى بيت المال فقال : « افتحوه » فلم يجدوا المفاتيح ، فكسر الباب واعطى الناس ، فأنصرفوا من عند طلحة حتى بقي وحده ، وسُرّ بذلك عثمان ، وجاء طلحة فدخل على عثمان وقال له : يا أمير المؤمنين أردتُ امراً فحال الله بيني وبينهُ ! فقال عثمان : والله ما جئت تائباً ، ولكن جئت مغلوباً ، الله حسيبك يا طلحة (2).
وفي رواية اخرى ، قال عبدالله بن عبّاس بن ابي ربيعة : دخلتُ
__________________
(1) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 146.
(2) الكامل في التاريخ : 3 : 167.
على عثمان فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على بابه ، فمنهم من يقول : ما تنتظرون به ؟ ومنهم من يقول : انظروا عسى ان يراجع. قال : فبينما نحن واقفون إذ مرّ طلحة فقال : أين ابن عديس ؟ فقام إليه فناجاه ثمّ رجع ابن عديس فقال لاصحابه : لا تتركوا أحداً يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده. فقال لي عثمان : هذا ما أمر به طلحة ، اللهم اكفني طلحة فإنّه حمل عليّ هؤلاء وألبَهم عليّ ! والله إني لأرجو أن يكون منها صفراً وأن يُسفك دمه ! (1).
اما موقف الزبير من قضية حصار عثمان ، فهو لم يكن افضل من صاحبه كما جاء في رواية ابي حُذيفة القُرشيُّ ، عن الاعمش ، عن حبيب بن ابي ثابت ، عن ثعلبةَ بن يزيد الحمّانيِّ قال : أتيتُ الزبير ، وهو عند أحْجار الزيتِ ، فقلت له : يا با عبدالله قد حِيلَ بينَ أهل الدار وبين الماء ، فنظرَ نحوهم وقال : ( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتهُونَ كَما فُعِلَ بِأشياعِهِمْ مِنْ قَبلُ إنهُم كانُوا في شَكٍّ مُريبٍ ) (2).
وفي رواية ابي اسحاق قال : لما اشتدَّ بعثمان الحصارُ عمل بنو أُميّة على إخراجه ليلاً الى مكّة وعرف الناسُ ذلك فجعلوا عليه حَرَساً ، وكان على الحرس طلحة بن عبيدالله وهو أوّلُ من رمى بسهمٍ في دار عثمان ، قال : واطّلعَ عثمانُ وقد اشتدّ به الحصارُ وظمي من العطش فنادى : أيُّها
__________________
(1) المصدر السابق 3 : 174.
(2) سبأ : 34 ، 54. العقد الفريد 4 : 299 ، مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 146.
الناسُ ! أسقُونا شرْبةً مِنَ الماء وأطعمونا مما رزقكُمُ الله ، فناداهُ الزبيرُ بنُ العوام يا نَعْثلُ ! لا والله ، لا تذُوقُه (1).
وذكر ابن ابي الحديد المعتزلي ، قال ، قال أبو جعفر : وكان لعثمان على طلحة بن عُبيدالله خمسون الفاً ، فقال طلحة له يوماً : قد تهيأ مالُك فاقبضه ، فقال : هو لك معونة على مروءتك ، فلما حُصِر عثمان ، قال عليّ 7 : « أنْشُدك الله إلا كففت عن عثمان ! » فقال : لا والله حتى تُعِطي بنو أميّة الحقَّ من أنفسها. فكان عليّ 7 يقول : « لحا الله ابن الصّعبة ! أعطاهُ عثمان ما أعطاه وفعل به ما فعل ! » (2).
بعد هذه الاحاديث الدالة على مساهمة طلحة والزبير مساهمة فعالة ، حتى ضيّقوا الخناق عليه ، ومنعوا من دخول الماء إليه ، حتى كان يستنجد عدة مرات بالامام عليّ 7 ، فيحاول الامام على الرغم من ممانعة طلحة إيصال الماء الى عثمان. فيروي ابن الاثير في هذا الشأن : فقال عليّ لطلحة : « أريد أن تُدخل عليه الروايا ، وغضب غضباً شديداً حتى دخلت الروايا على عثمان » (3). حتى قتل عثمان بتحريضٍ منهم ، ثمّ بعدها يتظاهرون بالطلب بدمه الذي هم سفكوه ، بعد مبايعتهم علياً 7 ، فأظهروا الندم ، وأثاروا الفتنة ، وجمعوا من حولهم الغوغاء ، واصحاب النفوس المريضة امثال : مروان بن الحكم ، وسعيد بن
__________________
(1) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 146.
(2) شرح نهج البلاغة 2 : 161.
(3) الكامل في التاريخ 3 : 166.
العاص ، والوليد بن عقبة بن ابي معيط ، وعبد الله بن كريز بن عامر ، ويعلى بن اميّة ، وغيرهم من امثالهم كثير.
فما عسانا ان نقول لقومٍ جاهدوا ردّ تلك الشبهات عن تلك الزمرة الناكثة ، وما عسانا ان نقول لهم وحججهم خاوية امام وثائق التاريخ الدامغة.
وعائشة ايضاً
واما عائشة فلها النصيب الاوفر في تأليب الناس وتحريضهم على الفتك بعثمان. قال الشيخ المفيد ; : ( فهو أظهرُ مما وردتْ به الاخبارُ من تأليب طلحة والزبير ، فمن ذلك ، ما رواه محمد بن إسحاق صاحبُ السيرةِ عن مشايخه ، عن حكيم بن عبداللهِ ، قال : دخلتُ يوماً بالمدينة المسجدَ ، فإذا كفّ مرتفعةٌ وصاحبُ الكفِّ يقول : ايّها الناس ! العهدُ قريب ، هاتانِ نَعْلاً رسول اللهِ 9 وقميصُهُ ، كأنّي أرى ذلك القميصَ يَلُوحُ وأن فيكم فرعون هذه الأُمّة ، فإذا هي عائشة ، وعثمانُ يقول لها : اُسْكُتي ! ثمّ يقول للناس : إنها امرأةٌ وعَقلُها عَقْلُ النساءِ فلا تُصْغُوا الى قولها ) (1).
وروى الحسنُ بن سعدٍ قال : ( رَفَعَتْ عائشةُ ورقةً من المُصحَفِ بين عُودينِ من وراء حَجلِتها ، وعثمانُ قائمٌ ، ثمّ قالت : يا عثمانُ أقِمْ ما
__________________
(1) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 147.
في هذا الكتاب ، فقال : لَتَنْتَهِنّ عمّا انت عليه أو لأُدْخِلَنَّ عليكِ جَمْرَ النار ! فقالت له عائشة : أما والله ، لئن فلعتَ ذلك بنساء النبيِّ 9 ليلعنكَ الله ورسولُهُ ! وهذا قميصُ رسول الله لم يتغيّر وقد غَيَّرْتَ سُنَّتهُ يا نَعْثلُ (1) !
وروى ليث بنُ ابي سُليم ، عن ثابت الانصاري ، عن ابن ابي عامر مولى الانصار ، قال : كُنتُ في المسجد فمرّ عثمانُ فنادتهُ عائشةُ : يا غُدرُ ! يا فُجَرُ ! أخْفَرتَ أمانتك ، وضيَّعتَ رعيَّتك ، ولولا الصلواتُ الخمس لمشى اليك الرجالُ حتى يَذبحُوكَ ذبْحَ الشاةِ !
فقال عثمانُ : ( ضَرَبَ الله مثلاً للذينَ كَفروا امرَأةَ نُوحٍ وامرَأةَ لُوطٍ كانتا تحتَ عَبْدَين مِن عِبادنا صالحينِ فَخَانتاهُما فلَم يُغنيا عنهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وقيلَ ادخُلا النارَ مع الدّاخلين ) (2).
هذه بعض الاحاديث اقتصرنا عليها في بيان موقف السيدة عائشة من مسألة الثورة على عثمان التي ادت الى مصرعه.
لكن لماذا هذا الانقلاب المفاجئ للسيدة عائشة بعد قتل عثمان ، وتولي امير المؤمنين 7 لمقاليد الخلافة ؟ حتى صارت تجمع رؤوس
__________________
(1) انظر المصدر السابق م 1 : 147.
« وكان اعداء عثمان يسمونه نعثلاً ، تشبيهاً برجل من مصر ، كان طويل اللحية اسمه نعثل ، وقيل النعثل : الشيخ الاحمقُ ). انظر : النهاية 5 : 80.
(2) التحريم : 66. وانظر : الفتوح م 1 : 419 ، الايضاح : 141.
الشقاق من حولها ، وتعبئ الجيوش لمخالفة الامام واظهار الفتنة ، وتكتب الرسائل الى بعض الشخصيات تطالبهم بنقض البيعة والالتحاق بها مع من تجمع حولها من المنافقين والاشرار تطالب بدم عثمان ، وكانت قبل سماعها تولي الامام امير المؤمنين الخلافة فرحة مسرورة تود لو ان طلحة أو الزبير تولّيا هذا الامر من بعد عثمان. يُذكر انه لما قتل عثمان بن عفان خرج النُعاة الى الآفاق ، فلما وصل بعضهم الى مكّة سمعت بذلك عائشة فاستبشرتْ بقتله وقالت : قتلتهُ اعماله ، إنه احرق كتاب الله ، وامات سنة رسول الله 9 فقتله الله ، قالت : وَمَنْ بايع الناسُ ؟ فقال لها الناعي : لم ابْرَحْ من المدينةِ حتى أخذ طلحةُ بن عبيدالله نعاجاً لعثمان ، وعَمَل مفاتيح لابواب بيت المال ، ولا شكَّ ان الناس قد بايعُوهُ. فقالت : ايهاً ذا الاصبع ! قد وجدوك لها كافياً وبها مُحْسِناً. ثمّ قالت : شُدُّوا رحلي فقد قضيتُ عُمرتي لأتوجه الى منزلي. فلما شُدَّ رحلها واستوت على مركبها سارتْ حتى بلغت سَرِفاً (1) ـ موضع معروف بهذا الاسم ـ لقيها عبيد بنُ اُمِّ كلاب (2) ، فقالت له : ما الخبر ؟ فقال : قُتِلَ عُثمان. فقالت : قُتِلَ نعْثَلُ ؟ فقال : قُتِلَ نعثل ! فقالت : خبِّرني عن قصّته وكيف كان أمرُهُ ؟ فقال : لما احاط الناسُ بالدار وبه رأيتُ طلحة بن عُبيدالله قد غَلبَ على الامر ، واتخذ مفاتيح
__________________
(1) سَرِف : بفتح اوله وكسر ثانيه ، على ستة اميال من مكّة من طريق مرّ.
معجم ما استعجم م 1 : 735.
(2) في الكامل في التاريخ 3 : 206 عبيد بن ابي سلمة ، وهو ابن ام كلاب.
على بيوتِ الاموال والخزائن ، وتهيّأ ليُبايَعَ له ، فلما قُتِلَ عثمانَ مالَ الناسُ الى عليّ بن ابي طالب 7 ، ولم يَعْدلُوا به طلحة ولا غيرهُ ، وخرجوا في طلب علي يقدُمُهُم الاشتر ، ومحمدُ بنُ ابي بكر ، وعمارُ بن ياسر حتى أتوا علياً 7 وهو في بيتٍ سَكَنَ فيه ، فقالوا له : بايَعْنا على الطاعة لك ، فتلكأ ساعةً ، فقال الاشترُ : يا عليُّ إنّ الناس لا يعدلُونَ بك غيرك ، فبايعْ قبلْ ان تختلف الناسُ ، قال : وفي الجماعة طلحةُ والزبيرُ فظننتُ أنْ سيَكون بينَ طلحة والزبير وعليٍّ كلامٌ قبل ذلك ، فقال الاشترُ لطلحة : قُمْ يا طلحةُ فبايعْ ، قُمْ يا زبيرُ فبايعْ ، فما تنتظران ؟
فقاما فبايَعا وأنا أرى أيْديهُما على يدِهِ يصفقانِها ببيعته ، ثمّ صَعَد عليُّ بنُ ابي طالب 7 المنبر فتكلّم بكلام لا احفظه ، إلا أنّ الناسَ بايُعوهُ يومئذٍ على المنبر وبايُعوهُ من الغدِ ، فلمّا كان اليومُ الثالثُ خرجتُ ولا أعْلَمْ ما جَرى بعدي.
فقالت : يا اخا بني بَكْرٍ ، انتَ رأيت طلحةَ بايعَ عليّاً ؟ فقلتُ : إي والله ، رأيتهُ بايعهُ ، وما قلتُ إلا ما رأيتُ ، طلحةُ والزبيرُ أوّلُ من بايعهُ. فقالت : إنا لله ! أُكْره ـ والله ـ الرجلُ ، وغصبَ عليُّ بنُ ابي طالب أمْرَهم وقُتلَ خليفةُ اللهِ مظلوماً ! رُدَّوا بغالي ، رُدُّوا بغالي. فرجعتْ الى مكَّةَ ، قال : وسِرْتُ معها فجعلتْ تسألني في المسير وجعلتُ أخبرها بما كان ، فقالت لي : هذا بعدي وما كُنْتُ أظنُّ أنّ الناسَ يَعْدلُون عن طلحةَ مع بلائِهِ يومَ اُحُد.
قلتُ : فإنْ كان بالبلاءِ فصاحِبُهُ الذي بُويعَ أشَدُّ بلاءً وعناءً.
فقالت : يا أخا بني بَكْرٍ لم أسألك غير هذا. فإذا دخلت مكّةَ وسألك الناسُ : ما رَدَّ اُم المؤمنين ؟ فَقُلْ : القيامُ بدَم عثمانَ والطلبُ بهِ !
وجاءَها يَعْلَىَ بْنُ مُنْيَةَ ، فقال لها : قد قُتِلَ خليفتُكِ الذي كُنْتِ تُحرّضينَ على قَتْلِهِ. فقالت : بَرئتُ الى اللهِ من قاتلِه. فقال لها : الآن ! ثمّ قال لها : أظْهري البراءَة ثانياً مِنْ قاتِلهِ. قال : فخرجتْ الى المسجدِ فجعلتْ تَتَبرَّأُ مِمَّنْ قَتلَ عثمانَ (1).
لكن السيدة لم تزل مبغضةً وماقتةً لعلي 7 منذ قصة الذين رموها بصفوان بن المعطل ، وما كان منها في غزوة بني المصطلق وهجر رسول الله 9 ، واستشارته في امرها أُسامة بن زيد ، وذكر له
__________________
(1) انظر : الفتوح م 1 : 434 ، الشافي 4 : 357 ، مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 161 و 162 و 163.
قال ابن الاثير في الكامل 3 : 206 : فانصرفت الى مكّة وهي تقول : قتل والله عثمان مظلوماً ، والله لاطلبن بدمه ! فقال لها : ولِمَ ؟ والله إنّ أوّل من أمال حرفه لأنتِ ، ولقد كنت تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر. فقالت : إنهم استتابوه ثمّ قتلوه ، وقد قلت وقالوا ، وقولي الاخير خير من قولي الاول ، فقال لها ابن ام كلاب :
فمنكِ البداءُ ومنكُ الغيَرْ
ومنكِ الرّياحُ ومنكِ المطَرْ
وأنتِ أمرتِ بقتلِ الإمامِ
وقلتِ لنا إنّهُ قد كَفَرْ
فهبْنا أطعناكِ في قَتلِهِ
وقاتلهُ عندَنا من أمَرْ
ولم يسقطِ السقفُ من فوقنا
ولم ينكسِف شمسُنا والقمَرْ
وقد بايعَ الناس ذا تُدرَإٍ
يزيلُ الشِّبا ويُقيمُ الصّعَرْ
ويلبسُ للحَرْبِ أثوابها
وما من وَفى مثلُ من قد غدَرْ
الى آخر القصيدة.
قذف القوم بصفوان ، فقال له اسامة : لا تظن يا رسول الله إلا خيراً ، فإنّ المرأة مأمونة ، وصفوان عبدٌ صالحٌ ، ثمّ استشار علياً 7 ، فقال له : « يا رسول الله صلى الله عليك ، النساء كثيرةٌ وسل بريرةَ خادِمَتها وابحثْ عنْ خَبَرها منها ». فقال له رسولُ الله 9 : « فتولَّ أنت يا عليُّ تقريرها ». فقطع لها عليُّ 7 عُسُباً مِنَ النخلِ وَخَلا بها يسألُها عنّي ( اي عن عائشة ) ويتهدَّدُها ويَرْهِبُها ، لا جَرَمَ أنّي لا أحِبُّ عليّاً ابداً (1).
فهذا تصريح منها بِبُغضها له وَمْقتها إياه ، قال شيخنا المفيد ( اعلا الله مقامه ) : ولم يكنْ ذلك منه 7 إلا النصيحة لله ولرسوله واجتهاده في الرأي ، ونُصْحه وامتثاله لأمْرِ النبيّ 9 ومُسارعته الى طاعته (2).
ومن شدة بغضها وحقدها على امير المؤمنين 7 حتى انها لا تستطيع ان تصرح باسمه ، ففي رواية عكرمة وابن عباس ، وأنّ عكرمةَ خبَّرهُ عن حديثٍ حدَّثتْهُ عائشةُ في مَرَضِ رسول الله 9 ، خرجَ متوكئاً على رَجُلَيْنِ مِنْ أهل بيته ، أحدُهما الفضلُ بنُ العبّاس ، فقال عبدُالله بن العبّاسِ لعكْرمةَ : فلم تُسَمِّ لك الاخر ؟ فقال : لا والله ما سَمَّتهُ. فقال : أتدْري مَنْ هو ؟
قال : لا. قال : ذلك عليّ بن ابي طالب 7 ، وما كانت والله أُمّنا
__________________
(1) مغازي الواقدي 1 : 430 ، صحيح البخاري 3 : 155 ، الكشاف 4 : 453.
(2) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 157.
تذكره بخير وهي تستطيع (1).
ولم تخفِ ام المؤمنين فرحها وسرورها عند سماعها باستشهاد أمير المؤمنين 7 ، فذكر أبو الفرج الاصفهاني رواية بسند اسماعيل بن راشد قال : لما أتى عائشة نعي عليّ امير المؤمنين 7 تمثلت :
فألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قرّ عيناً بالإياب المسافـرِ
ثم قالت : من قتلهُ ؟ فقيل : رجلٌ من مراد. فقالت :
فإن يكُ نائياً فلقد بغاهُ
غلامٌ ليس في فيه الترابُ
فقالت لها زينب بنت أم سلمة : العلي تقولين هذا ؟ فقالت : إذا نسيت فذكروني ، ثمّ تمثلت :
ما زالَ إهداء القصائد بيننا
باسم الصديق وكثرة الالقابِ
حتى تركت كأن قولك فيهم
في كل مجتمع طنين ذبابِ
وذكر رواية أيضاً عن ابي البحتري ، قال : لما ان جاء عائشة قتل عليّ 7 سجدت (2).
وبقي هذا الحقد ملازماً لها حتى بعد مصرع الامام عليّ 7 ، ففي
__________________
(1) طبقات ابن سعد 2 : 231 ، مسند أحمد 6 : 38 ، صحيح البخاري 1 : 162 ، صحيح مسلم 4 : 138 ، المستدرك 3 : 56 ، السنن الكبرى 1 : 31. ومصنفات الشيخ المفيد م 1 : 158.
(2) مقاتل الطالبيين : 55 ، وانظر أيضاً : طبقات ابن سعد 3 : 40 ، تاريخ الطبري 5 : 150 ، بحار الانوار 32 : 340.
رواية مسروق انه قال : دخلتُ عليها فاستدعِتْ غلاماً باسم عبد الرحمن ، فسألتها عنه ، فقالتْ : عَبْدي ، فقلتُ : كيف سَمَّيتهِ بعبد الرحمن ؟ قالت : حُباً لعبدِ الرحمن بنِ مُلْجم قاتل عليّ (1) !!
رسائل طلحة والزبير والسيدة عائشة
بعد ان احكمت الفتنة ، واظهر القوم الشقاق والخلاف على حكومة امير المؤمنين 7 الفتية ، وقد حاولوا استدراج من له تأثير في الساحة السياسية ، فكاتبوهم يطالبونهم بأتخاذ موقف مشابه لموقفهم في نكث بيعة الامام عليّ 7 ، والمطالبة بدم عثمان ، وتحريض الناس للالتحاق بركب الشر ، لكن اجاباتهم كانت طعنة في خاصرة القوم ، فلقد كان اصحاب الشر يتوقعون ان يجنوا ولو شيئاً يسيراً من الذين كاتبوهم ، لكن الردّ جاء مخيباً للآمال ، وكان عنيفاً وقاسياً.
كما كاتبهم من عاب عملهم الشائن ، وحذرهم الولوغ في الفتنة ، والسعي في شق عصا المسلمين واهراق دمائهم.
فقد كتبت ام سلمة الى عائشة عندما عزمت على الخروج الى البصرة :
من امِّ سلمة زوج النبيّ 6 الى عائشة ام المؤمنين :
سلام عليكِ ، فأني أحمدُ اليك الذي لا الله الا هو ، أما بعدُ :
__________________
(1) الشافي 4 : 306 ، بحار الانوار 32 : 341 ، مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 160.
فإنّكِ سدة بين رسول الله 6 وبين امتهِ ، وحجابك مضروب على حرمته ، قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه ، وسكِّن عُقيراكِ فلا تصحريها ، الله من وراء هذه الامة ، لو علم رسول الله 6 ان النساء يحتملن الجهاد عهد إليك ، عُلْتِ عُلْتِ ! بل نهاك عن الفرْطة في البلاد ، انّ عمود الدين لا يثاب بالنساء ان مال ، ولا يرأب بهنّ ان صُدع ، حُماديات النساء غضّ الاطراف وخفض الاصوات ، وخفر الاعراض ، وضمّ الذيول ، وقعر الوهازة ، وما كنت قائلة لرسول الله 6 لو عَارضكِ ببعض الفلوات ناصة قلوصاً من منهلٍ الى منهل ، قد وجهت سدافته وتركتك عهداه ، ان بعين الله مهواكِ ، وعلى رسولهِ تردين ، واقسمُ بالله لو سرتُ مسيرك هذا ، ثمّ قيل لي : يا ام سلمة : ادخلي الفِردوسَ ، لاستحييت ان القى محمداً 6 هاتكة حجاباً قد ضربه عليّ.
اجعلي بيتك حِصْنكِ (1) ، وقاعة الستر قبرك ، حتى تلقيه وانت
__________________
(1) وكانت ام سلمة تطالبها بتطبيق قوله تعالى ( وقرن في بيوتكن ) ، ففي تفسير روح المعاني للآلوسي ، روى البزاز عن انس : ان النساء جئن الى رسول الله بعد نزول الاية فقلن : لقد ذهب الرجال بالفضل والجهاد ، فهل لنا عمل ندرك به فضل المجاهدين ؟
فقال : من قعد منكن في بيتها تدرك عمل المجاهدين.
وقال السيوطي : ان سودة بنت زمعة زوجة النبيّ 6 لم تحج بعد نزول الاية فقيل لها في ذلك ، فقالت : اني حججت واعتمرت ، وأمرني ربي تعالى شأنه ان أقر في بيتي حتى تخرج جنازتي.
وأخرج مسووق : ان عائشة كلما قرأت ( وقرن في بيوتكن ) تبكي حتى تبل خمارها.
انظر : روح المعاني 22 : 6 ، الدر المنثور 5 : 196.
على تلك ، أطوع ما تكونين لله إذا الَزِمته ، وانصرُ ما تكونين للدين ما حللتِ فيه ، ولو ذكّرْتك قولاً من رسول الله 6 تعرفينه ، لنُهشتِ به نهش الرقشاء المطرقة ، والسلام » (1).
رد عائشة على امّ سلمة
فأجابتها عائشة :
من عائشة ام المؤمنين الى ام سلمة :
« سلامٌ عليك ، فأني أحمد اليك الله الذي لا اله الا هو ، اما بعدُ :
فما أقبلني لِوَعْظكِ ، وأعرفني لحق نصحك ، وما انا بعمية عن رأيك ، وليس مسيري على ما تظنين ، ولنعم المسير مسيرٌ فزعت فيه اليّ فئتان متناحرتان من المسلمين ، فإنّ اقعد ففي غير حرج ، وان امضِ فإلى ما بُد لي من الازدياد منه ، والسلام » (2).
كتاب الاشتر الى عائشة
وكتب الاشتر من المدينة الى عائشة ، وهي بمكة :
« اما بعد : فأنّكِ ضعينة رسول الله 6 ، وقد أمرك ان تقري في
__________________
(1) العقد الفريد 2 : 277 ، الامامة والسياسة 1 : 45 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 180 ، بلاغات النساء : 15 ، الاحتجاج 1 : 244 ، مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 236.
« يذكر شيخنا المفيد ومؤرخون آخرون ان ام سلمة دخلت على عائشة وكلمتها ».
(2) العقد الفريد 2 : 277 ، الامامة والسياسة 1 : 45 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 180 ، بلاغات النساء : 15 ، الاحتجاج 1 : 244 ، مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 236.
بيتك ، فإنّ فعلتِ فهو خير لك ، وإن ابيتِ الا ان تأخذي فسأتك ، وتلقي جلبابك ، وتبدُ للناس شُعيراتك ، فأقاتلك حتى أردك الى بيتك ، والموضع الذي يرضاه لك ربُّكِ » (1).
ردُّ عائشة على الاشتر
فكتبت إليه في الجواب :
« اما بعدُ : فإنّك أوّل العرب شبَّ الفتنة ، ودعا الى الفرقة ، وخالف الائمة ، وسعر في قتل الخليفة ، وقد علمت إنّك لن تعجز الله حتى يُصيبك منه بنقمة ينتصر بها منك للخليفة المظلوم ، وقد جاءني كتابك ، وفهمت ما فيه ، وسيكفينك الله ، وكان من اصبح مماثلاً لك في ضلالك وغيّك ، ان شاء الله » (2).
كتاب عائشة الى زيد بن صوحان
وكتبت عائشة الى زيد بن صوحان العبدي ، إذ قدمت البصرة.
من عائشة ابنة ابي بكر ام المؤمنين حبيبة رسول الله 6 الى ابنها الخالص زيد بن صوحان.
« سلام عليك ، اما بعدُ : فإنّ اباك كان رأساً في الجاهلية ، وسيداً في الاسلام ، وإنّك من ابيك بمنزلة المصلى من السابق ، يقال : كادَ أو
__________________
(1 ـ 2) شرح نهج البلاغة 2 : 80.
لحِق ، وقد بلغك الذي كان في الاسلام من مصاب عثمان بن عفان ، ونحن قادمون عليك ، والعيان اشفى لك من الخبر ، فإذا أتاك كتابي هذا ، فاقدم فانصرنا على أمرنا هذا ، فإنّ لم تفعل فثبّط الناس عن عليّ بن ابي طالب ، وكن مكانك حتى يأتيك أمري ، والسلام » (1).
ردُّ زيد بن صوحان على عائشة
فكتب إليها زيد :
من زيد بن صوحان الى عائشة ام المؤمنين :
« سلام عليك ، اما بعدُ : فأنّ الله امركِ بأمرٍ وأمرنا بأمرٍ :
أمرك أن تقرّي في بيتك ، وأمرنا ان نقاتل الناس حتى لا تكون فتنة ، فتركت ما امرتِ به ، وكتبتِ تنهينا عمّا امرنا به ، فأمرك عندنا غير مطاع ، وكتابك غير مجاب ، والسلام » (2).
وفي رواية الطبري : كتب إليها :
من زيد بن صوحان الى عائشة ابنة ابي بكر الصديق 2 حبيبة رسول الله 6 :
__________________
(1) العقد الفريد 2 : 227 ، تاريخ الطبري 4 : 476 ، رجال الكشي : 76 ، شرح نهج البلاغة 2 : 81.
(2) العقد الفريد 2 : 227 ، تاريخ الطبري 4 : 476 ، رجال الكشي : 76 ، شرح نهج البلاغة 2 : 81.
« اما بعد : فأنا ابنك الخالص ان اعتزلت هذا الامر ، ورجعت الى بيتك ، وإلا فأنا أوّل من نابذك ».
كتاب عائشة الى حفصة
ولما بلغ عائشة نزول أمير المؤمنين 7 بذي قار ، كتبت الى حفصة بنت عمر :
« اما بعد ؛ فإنا نزلنا البصرة ونزل عليّ بذي قار ، والله داقّ عُنقهُ كدق البيضة على الصفا ، إنه بذي قار بمنزلة الاشقر (1) ، إن تقدّم نحر وان تأخّر عُقِرَ ».
فلما وصل الكتاب الى حفصة استبشرت بذلك ودعت صبيان بني تيم وعدي واعطت جواريها دفوفاً وأمرتهن ان يضربن بالدفوف ، ويقلن : ما الخبر ما الخبر ؟ عليّ كالاشقر ، إنْ تقدّم نحر وإن تأخّر عقر. فبلغ أم سلمة رضي الله عنها اجتماع النسوة على ما اجتمعن عليه من سبّ امير المؤمنين 7 ، والمسرة بالكتاب الوارد عليهنّ من عائشة ، فبكت وقالت : اعطوني ثيابي حتى أخرج إليهن واقع بهنّ. فقالت أم كلثوم بنت امير المؤمنين 7 : أنا أنوبُ عنك فأنني أعرَفُ منك ، فلبست ثيابها وتنكرت وتخفرت واستصحبت جواريها متخفرات ،
__________________
(1) هذا مثل يضرب لمن وقع بين شرين لا ينجو من احدهما ، وأول من قال به لقيط بن زرارة يوم جبلة ، وكان على فرس له أشقر. انظر : كتاب الامثال : 262 ، وجمهرة الامثال 2 : 127.
وجاءت حتى دخلت عليهنّ كأنها من النضارة ، فلما رأت ما هُنّ فيه من العَبثِ والسَفَهِ ، كشفت نقابها وابرزت لهنّ وجهها ، ثمّ قالت لحَفصة : إنْ تظاهرت انتِ وأختُكِ على امير المؤمنين 7 فقد تظاهرتا على اخيه رسول الله 9 من قبل ، فأنزل الله عزّوجلّ فيكما ما أنزلَ ، والله من وراء حربكما ، فأنكرت حفصة وأظهرت خجلاً ، وقالت : إنهنّ فعلنَ هذا بجهلٍ ، وفرقتهُنَّ في الحال ، فانصرفن من المكان (1).
كتاب عائشة الى أهل المدينة
روى الواقدي عن رجاله قال : لما أخرجَ القومُ عن عثمان بن حُنيفٍ لما خافوه من أخيه سهل بن حُنيف ، كتبت عائشة الى اهل المدينة :
« بسم الله الرحمن الرحيم. ومن أمِّ المؤمنين عائشة زوجة النبيِّ 9 ، وابنةِ الصدّيق الى أهل المدينةِ ، اما بعدُ ؛ فإنّ الله أظهر الحقّ ونَصرَ طالبيه ، وقد قال الله عز اسمه : ( بل نقذف بالحقِّ على الباطلِ فيدمغُهُ فإذا هو زاهق ) (2) فأتقوا الله عبادَ اللهِ واسمعوا واطيعُوا واعتصمُوا بحبل الله جميعاً وعُروةِ الحقِّ ، ولا تجعلُوا على انفسِكم سبيلاً ، فإنّ الله قد جمع كلمة أهل البصرة وأمرُوا عليهم الزبير بن العوام فهو أميرُ الجنود ، والكافةُ يجتمعون على السَمْعِ والطاعةِ له ،
__________________
(1) انظر : شرح نهج البلاغة 14 : 13 : الفتوح م 1 : 467 ، بحار الانوار 32 : 90.
(2) الانبياء 21 : 18.
فإذا اجتمعتْ كلمةُ المؤمنين على امّرائهم عن ملأٍ منهم وتشاورٍ فأنا ندخل في صالح ما دَخلُوا فيه ، فإذا جاءَكم كتابي هذا فأسمعُوا وأطيعُوا واعينوا على ما سمعتم عليه مِنْ امر الله. وكَتَبَ عُبيدُالله بنُ كَعبٍ لخمس ليالٍ من شهر ربيع الاول سنةَ ستِ وثلاثين » (1).
كتاب عائشة الى أهل اليمامة
وكَتبتْ إلى أهل اليمامة وأهل تلك النواحي : « أمّا بعدُ ، فإني أُذكركم الله الذي أنْعَمَ عليكم وألْزمَكُم بالاسلام ، فإنّ الله يقول : ( ما أصابَ مِنْ مُصيبةٍ في الارضِ ولا في أنْفسكُمْ إلا في كتابٍ مِنْ قَبْلِ أن نَبْرَأها إن ذلكَ على الله يسيرٌ ) (2) فأعتصموا عباد الله بحبلهِ وكونوا مع كتابه ، فإنّ أُمّكُم ناصحةٌ لكم فيما تدعُوكُم إليه من الغَضَب له والجهادِ لِمَنْ قتل خليفة حَرَمِهِ ، وابتزَّ المسلمين أمْرَهم وقد أظْهَر اللهُ عليه ، وإنّ ابْنَ حُنيفٍ الضّالَّ المُضلَّ كان بالبصرة يَدْعُو المسلمين الى سبيل النار ، وإنّا أقْبلنا إليها نَدْعُو المسلمين الى كتاب اللهِ ، وأن يضعُوا بينهم القرآن فيكونُ ذلك رضاً لهم وأجْمَعَ لأمْرِهم ، وكان ذلك للهِ عزّوجلّ على المسلمين فيه الطاعة ، فإما أنْ نُدْرِكَ به حاجتنا أو نَبْلُغَ عُذراً ، فلمّا دَنوْنا الى البصرةِ وسَمِعَ بنا أبْنُ حُنيفٍ جَمَعَ لنا الجُمُوعَ وأمَرهُم أنْ يلقُونا بالسلاح فَيُقَاتِلونا ويَطردُونا وشهدُوا علينا بالكُفْر وقالوا فينا المُنكرَ ،
__________________
(1) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 299.
(2) الحديد : 23.
فأكْذبَهُم المسلمين وأنكَرُوا عليهم ، وقالوا لعثمان بن حُنيفٍ : وَيْحَكَ ! إنما تابَعْنا زوجَ النبيّ 9 وأمَّ المؤمنين وأصحابَ رسول الله 9 وائمة المسلمين ، فتمادى في غيْهِ وأقامَ على أمْرهِ ، فلمّا رأى المسلمين انّه قد عصاهم ورَدَّ عليهم أمْرَهم غَضِبُوا لله عزّوجلّ ولأُمِّ المؤمنين ، ولم نشعُر به حتى أظَلَّنا في ثلاثةِ آلافِ مِنْ جَهَلَةِ العرب وسُفهائِهم ، وصَفَّهُم دونَ المسجدِ بالسلاح ، فاْلتَمسنا أنْ يُبايُعوا على الحقِّ ولا يَحُولُوا بيننا وبين المسجدِ ، فردَّ علينا ذلك كلّهُ ، حتى إذا كان يومُ الجمعةِ وتفرق الناسُ بعد الصلاة عنه ، دخَلَ طلحةُ والزبيرُ ومعهما المسلمون وفتحوهُ عَنْوة ، وقدّمُوا عَبدالله بنُ الزبيرُ للصلاة بالناسِ ، وإنا نخافُ من عثمانَ واصحابهِ ان يأتونا بغتةً ليُصيبوا منّا غرَّةً.
فلما رأى المسلمون أنهم لا يبرحُون تحرَّزوا لانفسهم ولم يَحْرُجْ ومن معه حتى هجمُوا علينا وبلغُوا سدَّة بيتي ومعهم هاد يدلُهُم عليه ليسفكوا دمي ، فوجدوا نفراً على باب بيتي فرَدُّوهم عني وكان حولي نفراً من القريشيين والازديين يدفعونهم عني ، فقُتلَ منهم من قُتِلَ وانهزموا فلم نعرض لبقيتهم وخلَّينا ابن حُنيفٍ مِنّاً عليه ، وقد توجه الى صاحبهِ ، وعرّفناكم ذلك عبادَ اللهِ لتكونوا على ما كنتم عليه من النيةِ في نُصرة دين الله والغضب للخليفةِ المظلوم » (1).
__________________
(1) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 310 ، 302.
كتاب طلحة والزبير الى كعب بن سور
ولمّا اجمعت عائشة وطلحة والزبير واشياعهم على المسير الى البصرة ، قال الزبير لعبدالله بن عامر ـ وكان عامل عثمان على البصرة وهرب عنها حين مصير عُثمان بن حُنيف عامل عليّ 7 إليها : مَنْ رجال البصرة ؟
قال : ثلاثة ، كلهم سيد مطاع : كعب بن سُور في اليمن والمنذر بن ربيعة ، والاحنف بن قيس في البصرة.
فكتب طلحة والزبير الى كعب بن سُور :
« اما بعدُ ، فإنّك قاضي عمر بن الخطاب ، وشيخ اهل البصرة وسيد أهل اليمن ، وقد كنت غضبت لعثمان من الاذى ، فأغضب له من القتل ، والسلام » (1).
كتابهما الى الاحنف بن قيس
وكتبا الى الاحنف بن قيس :
« اما بعد ، فإنّك وافد عمر ، وسيد مضر ، وحليم اهل العراق ، وقد بلغك مصاب عثمان ، ونحن قادمون عليك ، والعيان أشفى لك من الخبر ، والسلام » (2).
__________________
(1) الامامة والسياسة 1 : 48.
(2) الامامة والسياسة 1 : 48.
كتابهما الى المنذر بن ربيعة
وكتبا الى المنذر :
« اما بعدُ ، فإنّ أباك كان رئيساً في الجاهلية ، وسيداً في الاسلام وإنّك من أبيك بمنزلة المصلى من السابق ، يقال كادَ أو لَحِق ، وقد قتل عثمان من انت خيرٌ منه ، وغضب له من خيرٌ منك ، والسلام » (1).
ردُّ كعب بن سُور على طلحة والزبير
فكتب كعب بن سور الى طلحة والزبير :
« اما بعد ، فإنا غضبنا لعثمان من الاذى ، والغير باللسان ، فجاء أمر الغير فيه بالسيف ، فإنّ يك عثمان قُتِلَ ظالماً فما لكما وله ؟ وإنْ كان قُتِلَ مظلوماً فغيركما أولى به ، وإن كان أمره أشكل على من شهده فهو على من غاب عنه أشكل » (2).
__________________
(1) الامامة والسياسة 1 : 48.
(2) المصدر السابق 1 : 48.
ملاحظة : يظهر ان كعبَ بن سور وقع في شِباكِ الفتنة ، وغُرّرَ بهِ حتى قُتل في المعركة ، فعندما طاف الامام 7 على القتلى مرّ به مقتولاً وفي عُنِقُه المصحف ، فقال : « نحُّوا المُصحفَ وضعُوهُ في مواضع الطهارةِ » ثمّ قال : « أجْلسُوا إليّ كَعْباً ».
فأُجلِسَ ورأسُهُ ينخفضُ الى الارض فقال : « يا كَعب بن سور قد وجدت ما وعَدَك ربُّك حقّاً ؟! » ثمّ قال : « أضْجِعُوا كَعباً » فتجاوزهُ. انظر : مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 392.
رد الاحنف عليهما
وكتب الاحنف اليهما :
« اما بعدُ ، فإنه لم يأتنا من قبلكم أمرٌ لا نشك فيه الا قتل عثمان ، وانتم قادمون علينا ، فإنّ يكن في العيان فضلٌ نظرنا فيه ونظرتم ، وإلا يكن فيه فضل فليس في ايدينا ولا ايديكم ثقة ، والسلام » (1).
رد المنذر بن ربيعة عليهما
وكتب المنذر اليهما :
« اما بعدُ ، فأنه لم يلحقني بأهل الخير إلا ان اكون خيراً من اهل الشر ، وإنما اوجب حقّ عُثمان اليوم حقّهُ امس ، وقد كان بين أظهركم فخذلتموه ، فمتى استنبطتم هذا العلم ، وبدا لكم هذا الرأي » (2).
كتاب الصلح بين أصحاب الجمل وعثمان بن حُنيف
لقد أصرّ الناكثون على التمادي في غيّهم ، حتى صار النكث والغدر سجية ملازمةً لهم اينما حلوا ، وشعاراً يجمعون حوله الانتهازيين والسفهاء وأصحاب السوء ، فهم لم يكتفوا بخيانة امير المؤمنين 7 حتي غروا بعثمان بن حنيف ، وقد كان الاخيرة قد وقع اتفاقاً للصلح بينهم على شروطٍ اتفقوا عليها ، منها ايقاف القتال ، وان يكون لعثمان بن
__________________
(1 ـ 2) الامامة والسياسة 1 : 48.
حُنيف دار الامارة والمسجد وبيت المال ، ولطلحة والزبير وعائشة ما شاؤوا من البصرة ، ولا يُهاجُون حتى يقدم امير المؤمنين 7 ، فإنّ أحبّوا ذلك دخلوا في طاعته ، وإن أحَبَّوا ان يُقاتِلوا (1).
وقيل انهم أوقفوا القتال وتصالحوا ، على ان يبعثوا رسولاً الى المدينة ، حتى يرجع الرسول بالجواب الذي يبتغيه ابن حنيف ، والذي كان من اهم بنود الصلح ، وهو : هل طلحة والزبير اكرِها على بيعة الامام عليّ 7 ؟ فإذا كان الجواب ( نعم ) خرج ابن حنيف من البصرة وأخلاها لهما ، وإنْ كان الجواب بالنفي خرج طلحة والزبير (2) ، وارسل كعب بن سُور لهذا المهمة ، وفي هذه الفترة القصيرة حاولوا كسب الوقت الى جانبهم ، بمكاتبة من له القدرة في توسيع دائرة الخلاف على الحكومة الشرعية بقيادة ابن عمّ رسول الله 6. ومع هذا لم يصبروا على ابن حنيف كثيراً ، فمزقوا كتاب الصلح ، وغدروا به في ليلة مظلمة ذات رياحٍ ، فخرج طلحة والزبير وأصحابهما حتى أتوا دار الامارةِ وعثمان بن حنيف غافل عنهم ، وعلى الباب السبابجة يحرسون بيوت الاموالِ وكانوا قوماً من الزط قد استبصروا وأئتمنهم عثمان على بيت المال ودار الامارة ، فأكب عليهم القوم وأخذوهم من اربع جوانبهم ووضعوا فيهم
__________________
(1) الامامة والسياسة 1 : 68 ، العقد الفريد 4 : 313 ، تاريخ خليفة بن خياط : 183 ، نهاية الارب 20 : 37.
(2) الكامل في التاريخ 3 : 214 ، تاريخ الطبري 4 : 464 ـ 467 ، جمهرة رسائل العرب 1 : 321.
السيف فقتلوا منهم اربعين رجُلاً صبراً ! يتولى منهم ذلك الزبيرُ خاصةً ، ثمّ هجموا على عثمان فأوثقوه رباطاً وعمدوا الى لحيته ـ وكان شيخاً كثّ اللحية ـ فنتفوها حتى لم يبق منها شيء ، وقال طلحة : عذبوا الفاسق وانتفوا شعر حاجبيه واشفار عينيه واوثقوه بالحديد. فلما اصبحوا اجتمع الناس اليهما وأذّن مؤذن المسجد لصلاة الغداة فرام طلحة ان يتقدم للصلاة بهم فدفعه الزبير وأراد ان يصلي بهم فمنعهُ طلحةُ ، فما زالا يتدافعان حتى كادت الشمس ان تطلع فنادى اهل البصرة : الله الله ، يا أصحابَ رسول الله ، في الصلاة نخافُ فوتها ! فقالت عائشة : مروا ان يُصلي بالناس غيرهما.
فقال لهم يعلى بن مُنْيَة : يصلي عبدالله بن الزبير يوماً ومحمد بن طلحة يوماً حتى يتفق الناس على امير يرضونه ، فتقدم ابن الزبير وصلى بهم ذلك اليوم (1).
اما صورة كتاب الصلح فهو :
بسم الله الرحمن الرحيم
« هذا ما اصطلح عليه طلحة والزبير ومن معه من المؤمنين والمسلمين ، وعثمان بن حنيف ومن معه من المؤمنين والمسلمين :
إنّ عثمان يُقيم حيثُ ادركه الصلح على ما في يده ، وإنّ طلحة
__________________
(1) انظر : مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 283 ، انساب الاشراف 1 : 227 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 181 ، تاريخ الطبري 4 : 468.
والزبير يقيمان حيث ادركهما الصلح على ما في ايديهما ، حتى يرجع امين الفريقين ورسولهم كعبُ بن سُور من المدينةِ ، ولا يضّار واحد من الفريقين الاخر في مسجد ، ولا سوق ، ولا طريق ، ولا قرضة (1) ، بينهم عيبة مفتوحة ، حتى يرجع كعب بالخبر ، فإنّ رجع بأن القوم أكرهوا طلحة والزبير ، فالامر امرهما ، وإن شاء عثمان حتى يلحق بطيته (2) ، وإن شاء دخل معهما ، وان رجع بأنهما لم يُكرْها فالامر أمر عثمان ، فإنّ شاء طلحة والزبير ، أقاما على طاعة عليّ ، وإن شاءا خرجا حتى يلحقا بطيتهما ، والمنجون اعوانَ الفالج (3) » (4).
عائشةُ أمّ المؤمنين تنبحها كِلابُ الحوأبِ
لقد حذر رسول الله 6 نساءه من بعده ، في اظهار الخلاف والولوج في الفتنةِ التي اخبر بها 6 وسمى القائمين بها بالناكثين وقد ذكر رسول الله 6 هذه الحادثة ضمن ذكره لكثير من انباء الغيب الذي اوصى الله تعالى به لنبيه 6.
وجاء هذا التحذير في جمعٍ من نسائه ، ففي رواية عصام بن قدامة البجلي ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله 6 لنسائه :
__________________
(1) القرضة : الموضع من النهر يستقي منه ، ومن البحر محط السفن.
(2) طيته : اي لوجهه الذي يريده.
(3) الفالج : الظافر الفائز.
(4) جمهرة رسائل العرب 1 : 321.
« ليتَ شِعْري أيَّتُكنَّ صاحبة الجَملِ الأَدبَب (1) ، تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب ، يُقتلُ عن يَمينها وشِمالها خَلقٌ كثيرٌ ، كُلُّهم في النار ، وتنجُو بعد ما كادَتْ » (2).
وفي حديث آخر فيما قال 6 لنسائه ، ثمّ اردفه بتحذير شديد الى عائشة :
« كأني بأحداكن وقد نبحتها كلاب الحوأب » ثمّ قال لعائشة : « اياك ان تكونيها » (3) ومرة اخرى يصرّح 6 باسمها علناً كما جاء في رواية عليّ بن مُسهر ، عن هشام بن عُرْوة ، عن ابيه ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله 6 : « يا عائشة إنّي رأيتك في المنام مرتين ، أرى جملاً يحملك في سدافة (4) من حرير ، فأكشفها فإذا هي انت » (5).
وفي رواية سالم بن ابي الجعد ، انه ذكر النبيّ 6 خروج بعض نسائه فضحكت عائشة ، فقال : « انظري يا حميراء لا تكونين هي » ثمّ التفت الى عليّ فقال : « يا ابا الحسن إن وليت من أمرها شيئاً فارفق بها » (6).
__________________
(1) الادبب : الجمل الكثير الشعر ، القاموس : 109.
(2) اعلام النبوة : 155 ، مناقب آل ابي طالب 3 : 149.
(3) ورد الحديث بهامش الكامل في التاريخ 3 : 366.
(4) السدافة : الحجاب والستر.
(5) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 432 ، بحار الانوار 32 : 285.
(6) بحار الانوار 32 : 284.
اذن ، جميع القرائن الواردة في احاديث رسول الله 6 ، سواء كانت تلويحاً أو تلميحاً تدلُّ على انّ المعنية بصاحبة الجمل هي عائشة. وكانت هي أيضاً تعلم علم اليقين بأنها هي التي تنبحها كلاب الحوأب ! كيف لا تعلم هي صاحبة الجمل وكثير من المسلمين يعرفون بأن لها يوماً تنفرُ فيه مع الغادرين والناكثين ؟
فعن حُذيفة قال : لو احدثكم بما سمعت من رسول الله 6 لوجمتموني (1) ! قالوا : سبحان الله نحن نفعل ؟ قال : لو احدثكم أنّ بعض أمهاتكم تأتيكم في كتيبة كثير عددها شديد بأسها تقاتلكم ، صدّقتم ؟ قالوا : سبحان الله ومن يصدّق بهذا ؟
قال : تأتيكم أمّكم الحميراء في كتيبة يسوق بها أعلاجها من حيث يسؤكم وجوهكم (2).
بعد هذه المقدمة الموجزة ، هل يمكننا ان نصدق على ان عائشة عند مسيرها الى البصرة ، وعلمت بالموضع أنّه هو الحوأب الذي اخبرها رسول الله به ، استرجعت وأرادت الرجوع. كما ورد الخبر عند كثير من الرواة ، فيذكر المسعودي : ( وسار القوم نحو البصرة في ستمائة راكب ، فأنتهوا في الليل الى ماء لبني كلاب يعرف بالحَوْأب ، عليه ناس من بني كلاب ، فعوتْ كلابهم على الركب ، فقالت عائشة : ما
__________________
(1) يقال وجم الشيء اي كرهه.
(2) مناقب آل ابي طالب 1 : 140.
اسم هذا الموضع ؟ فقال لها السائق لجملها : الحوأب ، فاسترجعت وذكرت ما قيل لها في ذلك ، فقالت : رُدُّوني الى حرم رسول الله 6 ، لا حاجة لي في المسير ، فقال الزبير : بالله ما هذا الحوأب ، ولقد غلط فيما أخبرك به ، وكان طلحة في سَاقَةِ الناس ، فلحقها فأقسم ان ذلك ليس بالحوأب ، وشهد معهما خمسون رجلاً ممن كان معهم ، فكان ذلك أوّل شهادة زور أقيمت في الاسلام ) (1).
فمن يقرأ الحديث في الوهلة الاولى يعتقد أو يتصور ان عائشة المسكينة قد غرر بها ، وأرادت الاصلاح بين فئتين مؤمنتين عند مسيرها الى البصرة ، وعندما بلغت الموضع الذي نبحتها كلابه ، واستفسرت من سائق جملها واعلمها انه الحوأب تذكرت قول رسول الله 6 لها ، فأسترجعت وصاحت ردوني ، كأنها ندمت على خروجها ، وأرادت العودة لولا قسم الزبير وطلحة بأن هذا ليس هو الحوأب ! وايضاً لولا شهادة الخمسين علجاً لصفعت الزبير وطلحة على فعلهما القبيح ، ولعقرت الجمل الذي يحمل على ظهره السوء والمنكر.
لكن عائشة كانت تعلم علم اليقين أنّ هذه الشهادة هي شهادة زور ، وهي على قناعة بأن هذا المكان هو الحوأب بعينه ، وان الجمل الذي يحملها هو الذي أخبر عنه رسول الله 6. وهذا ما يؤيده كثير من القرائن والحجج الدامغة التي خلفتها لنا ام المؤمنين عائشة.
__________________
(1) مروج الذهب 3 : 366.
فهي ألم تترك قول الله تعالى خلف ظهرها ؟ وتخرج متبرجة بين الملأ من الناس والعسكر ، مخالفة لامر الله تعالى ، والله تعالى يقول في خطابه لنساء النبيّ 6 : ( وقرن في بيوتكنّ ولا تتبرجنّ تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلاة واتين الزكاة ) (1).
وإذا كانت ارادت الرجوع لمجرد سماعها اسم الموضع ، فما بالها لم ترجع عندما تواقف الجيشان واطبقت حلقات الفتنة ، ثمّ انها لم تكتف ان تجلس في بيتها وتراقب الموقف وما ستؤول إليه الامور ، بل خرجت الى الحرب ووقفت امام جيش الغدر تحرض وتؤلب الناس على القتال ، وتلقي عليهم الخطب الرنانة لإثارة الحماس فيهم والاستبسال في القتال لكسب هذه الجولة التاريخية ، وتنهي حكومة العدل بقيادة ابن عمّ الرسول 6.
هل استرجعت وقررت الخروج ولو في اللحظات الحالكة التي مرت بها عندما نشب القتال ، وهي ترى الناس حولها أكواماً من الجثث مقطوعة الايدي والرؤوس ؟
هل كانت ستعظم ما فعلته من إباحة دماء المسلمين ويُتْم اطفالهم ، وزعزعة الحياة الاجتماعية في البصرة.
لكن قول الامام عليّ 7 لها كان شافياً ، وقاطعاً عنها كل سبيل ،
__________________
(1) الاحزاب 33 : 33.
ففي رواية الاصبغ بن نباتة ، قال : لما عقر الجمل وقف عليّ 7 على عائشة ، فقال لها : « ما حملك على ما صنعت ؟ » قالت : ذيت وذيت (1). فقال : « اما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لقد ملأت أذنيك من رسول الله 6 وهو يلعن أصحاب الجمل وأصحاب النهروان ، أمّا أحياؤهم فيقتلون في الفتنة ، وأمّا أمواتهم ففي النار على ملة اليهود » (2).
هذه عائشة ام المؤمنين صاحبة الجمل الادبب ، وقد جاءت مصداقاً لقوله تعالى : ( التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً ) (3) وقد سئل الامام الصادق 7 عن معنى هذه الاية فقال : « عائشة هي نكثت ايمانها » (4).
وقوله تعالى : ( مثل الذين اتخذوا من دون الله اولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً ) (5) كما روى سالم بن مكرم عن ابيه في معنى هذه الاية الكريمة ، قال : سمعت ابا جعفر 7 يقول : هي الحميراء.
واخيراً نقف عند قول الصادق الامين 6 ، حيث يجلو الحيرة ويزيح اللثام عن نفسيات ونوازع هذه المرأة العجيبة ، حيث جاء في صحيح البخاري بأسناده عن نافع ، عن عبدالله ، قال : قام النبيّ 6
__________________
(1) ذيت وذيت ، مثلُ كيت وكيت.
(2) الكافية : 34 ح 35.
(3) سورة النمل 92 : 16.
(4) رواه العياشي في تفسيره 2 : 269 ح 65.
(5) العنكبوت : 41 ، رواه الكراجكي في كنز الفوائد 1 : 430 ح 7.
خطيباً واشار نحو مسكن عائشة فقال : « هنا الفتنة ـ ثلاثاً ـ من حيث يطلع قرن الشيطان » (1).
حديث عائشة عن هزيمة اصحاب الجمل
لقد اصطف الطرفان في الموضع المعروف بالخُريبة القريب من البصرة ، ومن ثمّ تهيؤا للقتال ، وكان اميرُ المؤمنين يناشدهم بالرجوع الى العقل وحقن دماء المسلمين ، لكنهم أصروا على الحرب ، وكانت عائشة على ظهر جملها ( عسكر ) (2) تُؤلب وتحرض الناس على القتال.
وإذا كان ( عسكر ) في بداية الامر عند خروج عائشة من مكّة تريد البصرة متباهياً على اقرانه ، حيث كُلّف بحمل ام المؤمنين على ظهره دون غيره ، وما هذا الا تكريم له ، لكن المسكين لا يدري ما تؤول إليه عاقبة امره ، حتى وقف في ذلك اليوم العصيب وهو يوم الخميس 10 جمادى الثانية سنة 36 ه ، وكانت على ظهره ام المؤمنين عائشة والسهام تتساقط عليه كالمطر ، ورمي الهودج بالنشاب والنبل حتى صار
__________________
(1) بحار الانوار 32 : 287.
(2) عسكر : اسم جمل عائشة اشتراه يعلى بن منيه عامل عثمان على اليمن وقد هرب منها عند بيعة الامام 7 بالخلافة ، فأتى مكّة وصادف فيها عائشة وطلحة والزبير ومروان بن الحكم واخرين من بني اميّة ، فأعطى عائشة وطلحة والزبير اربعمائة الف درهم ، وبعث الى عائشة بالجمل المسمى عسكراً ، وكان قد اشتراه بمائتي دينار.
انظر : مروج الذهب 3 : 366.
كالقنفذ (1) ، لابد انه لعن ذلك اليوم الذي استوت فيه على ظهره عائشة ، وكم كان بوده ان يقذا هذه الهودج الذي يحمل الشرّ بداخله الى الجحيم ويهرب بجلده ، لكنه لا يستطيع حيث بني ضبة يتسابقون على مسك زمامه ، وكلما قطعت يد ماسك الزمام ، أخذه رفيقه الاخر حتى تقطع يده ، وهكذا أربت الايدي التي قطعت على السبعين يداً (2) ، فأين يجد المسكين عسكر فرصة للهروب ، حتى ضربه رجل على عجزه فسقط لجنبه ، وفي خبر حبة القرني قال : كأني اسمع عجيج الجمل ما سمعت قط عجيجاً أشدّ منه (3). اما عن حديث عائشة عن هزيمة القوم ، فقد روى الواقدي ، عن رجاله العثمانية عن عائشة ، في ذكر الحال وهزيمة القوم في الحرب وشرح الصورة ورأيها فيما كان ذلك ، فقال : حدثنا محمد بن حميد ، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة ، عن امها كبشة بنت كعب ، قالت : كان أبي لقي على عثمان حُزناً عظيماً وبكاهُ ولم يمنعهُ من الخروج إلا انّ بصرهُ ذهبَ ، ولم يُبايع علياً ولم يقرَبه بُغضاً له ومقتاً ، وخرج عليّ 7 من المدينةِ فلما قدمت عائشةُ منصرفةً من البصرة
__________________
(1) مروج الذهب 3 : 375.
(2) مروج الذهب 3 : 375.
(3) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 382.
وروى الواقدي ، عن موسى بْنِ عبدِاللهِ ، عن الحسين بْنِ عطيَّة ، عن ابيه ، قال شهدتُ الجملَ مع عليّ 7 ، فلقد رأيتُ جمل عائشة وعليه هَوْدَجُها وعليه دروع الحديد ؛ ثمّ لقد رأيتُ فيه من النبلِ والنُشابِ أمراً عظيماً ، ثمّ عُقر فما سمعتُ كصوته شيئاً قط.
انظر : مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 377 ، نهاية الارب 20 : 77.
جاءَها أبي فسلّمَ على الباب ، ثمّ دخل وبينها وبينهُ حجَابٌ فذكرت له بعض الامر ولم تشرحهُ له ، فلما أمسينا بعثنا الى عائشة واستأذنا عليها فأذِنتْ لنا ، قالت كبشة : فدخلتُ في نسوة من الانصار فحدثتنا بمخرجها وأنها لا تظنُّ الامر يبلغُ الى ما بلغَ.
ثم قالت : لقد عُمِلَ لي على هودجِ جملي (1) ، ثمّ ألبسَ الحديد ودخلتُ فيه ، وقمتُ في وسطٍ من الناس أدْعو إلى الصُلْحِ والى كتاب اللهِ والسنة ، فليس أحدٌ يسمع مِنْ كلامي حرفاً ، وعجَّلَ من لقينا بالقتال ، فرموا النبل وصرعتُهُم القومُ فلا أُدْرك حتى قُتِلَ من أصحاب عليِّ رجلٌ أو رجلانِ ، ثمّ تقاربَ الناسُ ولحُمَ الشرّ فصار القوم ليس لهم همّةٌ إلا جملي ، ولقد دخلتْ عليَّ سهامٌ فجرحتني ـ فأخرجت ذِراعها وأرتنا جرْحاً على عَضُدِها فبكتْ وأبكتنا ـ قالت : وجعل كلّما أخذ رجلٌ بخطام جملي قُتلَ ، حتى أخذهُ ابنُ أُختي عبدالله ، فصحتُ به وناشدتهُ بالرحمِ أنْ يتجافاني.
فقال : يا أُماه ! هو الموتُ ، يُقتلُ الرجلُ ـ وهو عظيم الغِنى عن الأصحاب ـ على نيته خيرٌ مِنْ أنْ يُدْرك وقد فارقتهُ نيتهُ.
__________________
(1) روى بن ابي سبرة ، عن علقمه بن ابي علقمة ، عن ابيه ، قال : جعلنا الهودج من خشب فيه مسامير الحديد ، وفوقه دروع من حديد ، وفوقها طيالسة من خز أخضر ، وفوق ذلك أدمٌ احمرُ ، وجعلنا لعائشة منه منظر العين ، فما أغنى ذلك من القوم.
انظر : الاخبار الطوال : 149 ، الفتوح م 1 : 488 ، مناقب الخوارزمي : 188.
فصحت : واثُكلَ اسماء ! فقال : يا أُماهُ ! اِلْزمي الصمتَ وقد لَحُمَ ما ترينَ ! فأمسكْتُ. وكان ممن معنا فتيانٌ احداثٌ مِنْ قريشٍ وكان لا علمَ لهم بالحرب ولم يشهدوا قتالاً ، فكانوا جُزراً للقوم ، فإنا لعلى ما نحن فيه وقد كان الناسُ كُلُّهم حولَ جَملي فأُسْكُتِوا ساعةً ، فقلتُ : خيرٌ ام شرّ ؟ إنّ سكوتكم ضِرْسُ القتال ، فإذا ابنُ ابي طالب أنظرُ إليه يباشر القتالَ بنفسه واسمعهُ يصيح : « الجمل ! الجمل ! ». فقلت : أراد والله قتلي ، فإذا هو قد دنا منه ومعه محمد بنُ أبي بكر أخي ومُعاذ بنُ عبيدالله التميمي وعمارُ بنُ ياسر فقطعوا البطانَ ، وأحتملوا الهودجَ فهو على أيدي الرجال يَرّفلُونَ به ، إذْ تفرقَ من كان معنا فلم أُحِسَّ لهم خبراً ، ونادى منادي عليّ بن ابي طالب : « لا يُتبعْ مُدبرٌ ، ولا يُجهز على جريحٍ ، ومَنْ طرحَ السِلاحَ فهو آمِنٌ ».
فرجعْت الى الناس أرواحُهُم فمشوا على الناس واستحيوا من السعْي ، فأُدْخِلْتُ منزلَ عبدالله بن خلف الخُزاعي وهو والله رجلٍ قد قُتِلَ وأهلُهُ مستعبرونَ عليه ، ودخل معي كلُّ من خاف علياً مِمَّن نصب له ، وأحْتُمل ابنُ أختي عبدالله جريحاً ، فوالله إنّي لعلى ما انا عليه وأنا أسألُ ما فعل أبو محمد طلحةُ ؟ إذ قال قائل : قُتِلَ ! فقلتُ : ما فعلَ أبو سليمانَ ؟ فقيل : قد قُتلَ ! فلقد رأيتُني تلك الساعةَ جَمدتْ عيناي وانقطعتُ مِنَ الحُزْنِ واكثرتُ الاسترجاعَ والندامةَ ، وذكرتُ من قُتِلَ فبكيتُ لِقتلِهم فنحن على ما نحن عليه ، وأنا أسأل عن عبيدالله ، فقيل لي : قُتِلَ فأزددتُ هَمّاً وغَمّاً حتى كاد ينصدعُ قلبي ، فوالله لقد بقيتُ
ثلاثةَ ايام بلياليهنّ ما دخلَ فمي طعامٌ ولا شرابٌ ، وإني عند قومٍ ما يُقصِّرونَ في ضيافتي ، وإنّ الخُبُر في منازلهم لكثيرُ ، ولكنّي أُعالجُ الشِبعَ من الطعام فما أقدِرُ ، فنعوذ باللهِ من الفتنةِ ! ولقد كُنتُ ألَّبتُ على عثمان حتى نِيلَ منهُ ما نيلَ ، فلما قُتلَ ندمتُ وعلمتُ أنّ المسلمين لا يستخلفون مِثلَهُ أبداً ، كان والله أجلّهُم حِلْماً ، وأعبَدهم عبادةً ، وابذلهم عند النائبةِ ، وأوْصَلهُم للرحمِ.
قالتْ كبشة بنتُ كَعْبٍ ، فرجعتُ الى أبي فقال : ما حَدّثتُكم به عائشة ؟ فأخبرتُهُ بما قالت. فقال : يرحمُ اللهُ عائشة ويرحمُ الله أمير المؤمنين عثمان ، هي كانت أشدَّ الناسِ عليه ، ولقد فزعتْ وثابتْ وأرادتْ ان تأخذ بثأرهِ فجاء خِلافُ ما أرادتْ فرحمهما اللهُ جميعاً ، ثمّ قال : رحمَ اللهُ عُمَر بن الخطاب كان والله يرى هذا كُلّهُ ، قال يوماً : إن كان يصيرُ اختلافٌ فأنما يكون بينكم ، وإن كان بينكم دخلَ عليكم ما تكرهُونَ (1).
* * *
__________________
(1) انظر مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 387 ، 379 ، 380.
ترجمة المؤلف
اسمه ونسبه :
هو السيد ضامن ابن السيد شدقم بن زين الدين علي بن بدر الدين حسن النقيب ابن حسين الشهيد ابن علي بن شدقم بن ضامن بن محمد الحمزي الحسيني المدني ، من ذرية ابي القاسم الطاهر المحدث بن يحيى النابه بن الحسن بن جعفر الحجة ابن عبيدالله الاعرج ابن الحسين الاصغر بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب 7 (1).
وجده بدر الدين الحسن النقيب مؤلف ( زهر الرياض ) سنة 922 الذي ينقل عنه السيد ضامن في كتابه ( التحفه ) (2).
ولم نعثر على سنة مولده ، وأما سنة وفاته فيستفاد مما جاء في مجلة المجمع العراقي (3) ، وفي مجلة سومر العراقية (4) ، من الحديث
__________________
(1) اعيان الشيعة 7 : 392.
(2) الذريعة 3 : 419.
(3) مجلة المجمع العراقي 6 : 227.
(4) مجلة سومر 13 : 50.
عن الجزء الثالث من كتابه ( تحفة الازهار ) انه كان حياً سنة 1088 ه (1).
مكانته العلمية :
كان المصنف ; عالماً فاضلاً اديباً كاتباً مشهوراً ، قال المرحوم محسن الامين : « والذي وجدته في مسودة الكتاب ( تحفة الازهار ) هو كما ذكر : ضامن بن شدقم بن علي المعروف بين المؤلفين ».
وابوه أيضاً كان عالماً كما ذكر المرحوم محسن الامين : « في كتاب يظن انه اسمه كتاب ( الانوار ) مؤلفه من اصحابنا من اهل أواسط القرن الثالث عشر ، رأيته في بغداد عام 1352 ما صورته :
السيد ضامن ابن السيد العالم السيد شدقم المدني » (2).
وقال عنه صاحب الاعلام : ضامن بن شدقم بن علي بن حسن النقيب المدني : أديب إمامي ، له علم بالانساب. صنف ( تحفة الازهار وزلال الانهار في نسب الائمة الاطهار ) نسخة منه في المكتبة القادرية ببغداد تحت رقم (657) ، ونسخة ثانية مجلدان ، في مكتبة محمد رضا كاشف الغطاء ، بالنجف (3).
وذكر هذا الكتاب صاحب الذريعة ، فقال : وهو كبير في مجلدين المجلد الاول في الحسنين أوله : ( الحمدلله المحسن المتفضل الكريم
__________________
(1) الاعلام 3 : 213.
(2) اعيان الشيعة 7 : 32.
(3) الاعلام 3 : 213.
الوهاب ، ذو الجود والنعم الجسام بغير حساب .. إني قد جمعت هذه الحديقة الفائقة الانيقة الزاهرة المثيرة ، فرتبتها على أحسن ترتيب في نسل ابي محمد الحسن ).
وأول المجلد الثاني : ( الحمدُ لله الذي لا ند له فيبارى ، ولا ضد له فيجازى ، ولا شريك له فيوازي .. لما مَنَّ الله تعالى عليّ باتمام الجلد الاول من تحفة الازهار وزلال الانهار ، فحداني الشوق الى إلحاق الجلد الثاني ، وهو مختص بنسب أبناء ابي عبدالله الحسين السبط ، ورتبته على ترتيب المجلد الاول المختص بنسب اولاد ابي محمد الحسن ، والعقب في الحسين منحصر في إبنه عليّ الاوسط زين العابدين ...
وعند ذكر جعفر الحجة كما جاء في نسبه قال : الى عامنا هذا سنه ثمان وثمانون والف (1).
وعن الكتاب قال السيد محسن الامين : وفي النسخة التي رأيناها في طهران قال في بعض المواضع فيها : يقول جامعه الفقير الى الله الغني ، ضامن بن شدقم بن علي الحسيني المدني : وصلت الى البصرة في شهر ربيع الثاني سنة 1068 ه فأجتمعت بالسيد الشريف الحسيب النسيب عمدة السادة النجباء ، وزبدة الاماثل الاطباء ، أو الطبيب الحاذق ، وبقية الحكماء الفائق ، عبد الرضا بن شمس الدين بن علي. وفي موضع آخر يقول : جامعه الفقير الى الله الغني ضامن بن شدقم بن
__________________
(1) الاعلام 3 : 213.
علي الحسيني المدني ، وصلت الى الدورق (1) في العشر الاول من جمادى الثانية سنة 1068 ه ، وفي شهر ذي الحجة سنة 1092 ه اجتمعت في البصرة بالسيد ناجي الخ .. وفي شهر شوال سنة 1080 ه اجتمعت بالسيد يحيى في اصفهان الخ .. وفي جمادى الثانية سنة 1082 ه اجتمعت في اصفهان بالسيد يعقوب الخ .. فذكروا لي انسابهم.
ويظهر من كتابه انه ساحَ وكتب في سياحته جملة من الانساب.
ومن شعرهِ :
سبحان من اصبحت مشيئتهُ
جارية في الورى بمقدارِ
في عامنا اغرق العراق وقد
احرق ارض الحجاز بالنارِ
كان من المعاصرين للسيد زين العابدين بن نور الدين بن عليّ بن الحسين الموسوي ـ يروي السيد عبد الرضا بن شمس الدين بن علي الحسيني نزيل البصرة ، من العلماء الاجلة في عصره ، ويظهر انه من تلاميذ البهائي ، والسيد الداماد (2).
* * *
__________________
(1) الدورق : بفتح اوله ، وسكون ثانيه ، بلد بخوزستان ، وهو قصبة كورة سرق يقال لها : دورق الفرس ، فيها آثار قديمة لقباذ بن دارا ، وقد نسب إليها قوم من الرواة ، منهم : أبو عقيل الدورقي الازدي التاجي ، واسمه بشير بن عقبة ، سمع الحسن وقتادة وغيرها. وقد نسب قوم الى لبس القلانس الدورقية منهم : احمد بن ابراهيم بن زيد الدورقي ، وقيل ان الانسان إذا نسك في ذلك الوقت قيل له : دورقي.
أنظر : معجم البلدان 2 : 483.
(2) اعيان الشيعة 7 : 392.
التعريف بالكتاب
لقد صنف السيد ضامن كتابه هذا عن أحداث فتنة البصرة التي اشعل فتيلها الزمرة الناكثة عند تولي امير المؤمنين 7 زمام الخلافة بعد مقتل عثمان ، وسماهُ ب ( وقعة الجمل ) ، ودوّن المصنف ; الاحداث والوقائع التي شهدتها مدينة البصرة بعد انحياز رموز الشر إليها ، تدعو الناس الى نكث بيعة الامام عليّ 7 ، وَتعدُّ العدَّة من الرجال والسِّلاح لقتاله والقضاء على حكومته الفتية.
لقد جاء هذا الكتاب وان كان مختصراً ، إلا انه كان غزيراً في مادتهِ التي لا يستغني عنها الباحث عن الحقيقة في بطون الكتب القديمة ، والتي حفظت لنا التاريخ.
نسخة الكتاب ومنهج التحقيق :
لقد تمت مقابلة النسخة الخطّية التي حصلت عليها من ( مركز احياء الميراث الاسلامي ) والتي جعلتها كأصل مع المصادر التي دونت احداث معركة الجمل من كلا الفريقين ، كما اشرتُ الى الاختلاف الذي وقع بين النسخة والمصادر ، وقد علقت عليها في هامش الكتاب.
كما اشرتُ الى بعض الوقائع والاحداث التي لم يذكرها المصنف ، واشرت إليها في الهامش ايضاً ، مع ترجمة بعض من ورد ذكرهم في النسخة الخطية.
كما قمتُ بكتابة مقدمة تمهيدية لهذا السفر القيم ، وذكرت بإيجاز الاسباب التي دعت الذين سماهم رسول الله 6 بالناكثين ، الى نكث البيعة ، والاستدلال بما ورد من أحاديث رسول الله 6 بحق العترة : وبحق من ناصبهم العداء.
كما ذكرت رسائل الناكثين وعائشة الى من كتبوا لهم يطالبونهم بنكث بيعة امير المؤمنين 7 وتأليب الناس على حكومته ، كما تطرقت الى موقف طلحة والزبير من قضية حصار عثمان وتحريض الناس على قتله ثمّ بعد ذلك المطالبة بدمه.
نسأل الله تعالى ان يثيبنا على عملنا هذا ، ونأمل ان يخرج هذا الكتاب بحلةٍ جديدة ليضع بين يدي القارئ الكريم ، ومن الله تعالى نستمد العون والتوفيق.
سيد تحسين آل شبيب الموسوي
* * *
المراجع
مكتبة كوفان
التصانيف
الآداب كُتب السيرة والتاريخ