كان ذلك في أحد أيام الشتاء من شهر ديسمبر عام 1982, حين طلب مني أستاذي الصحفي الكبير جابر رزق ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ أن نزور الداعية الكبيرة " زينب الغزالي ", وأبلغني بأنها في حاجة إلى سكرتير إعلامي يساعدها في ترتيب وإنجاز أعمالها الدعوية والصحفية, وأنه يرشحني لهذه المهمة.

سعدت كثيراً بهذا الترشيح أو التكليف الذي يسمح لي بالاقتراب من واحدة من الشخصيات العظيمة في حقل الدعوة الإسلامية في القرن العشرين.. ذهبنا ـ أنا والأستاذ جابر رزق الذي كان بمثابة أحد أبنائها في الدعوة, وأحد زملائها في قضية الإخوان المسلمين عام 1965 ـ إلى منزلها في حي مصر الجديدة بالقاهرة, واستقبلتنا بترحاب كبير كما اعتادت مع ضيوفها, وتعرفت منها على المهمة المطلوب مني إنجازها, والطريقة التي تفضلها .. ومنذ ذلك التاريخ ـ المؤثر في حياتي ومستقبلي ـ بدأت رحلتي الجميلة معها, أزورها يوم الاثنين من كل أسبوع, أجلس معها في مكتبها الموجود في غرفة مكتبتها, منذ الصباح وحتى تنتهي الأعمال, بعد أن يرخي الليل سدوله على الدنيا.

كنت أرتب لها مواعيدها الصحفية ولقاءاتها الإعلامية وأحضر بعضها, وأقرأ لها بعض الموضوعات الصحفية المنشورة أو أبواب من الكتب الجديدة أو فصول حول موضوع معين, وأناقشها في بعض الردود على الخطابات التي تصلها, وكانت بالعشرات أسبوعياً, ثم أصوغها وأضعها بعد ذلك في صندوق البريد, وأدفع كذلك بمقالاتها لبعض الصحف والمجلات, كما أتابع دور النشر التي تتولى طباعة كتبها, وأسافر معها إلى المؤتمرات التي تدعى إليها, ومنها مؤتمرات في باكستان والأردن والجزائر, وغيرها من مهام.

ارتاحت الداعية الكبيرة ـ التي كانت قد جاوزت السادسة والستين من عمرها في ذلك الوقت, بينما كنت في الرابعة والعشرين ـ لأسلوبي وطريقتي في العمل معها, بينما كانت بالنسبة لي نعم الأم الرءوم والأخت الكبيرة والأستاذة العظيمة والمربية الحانية والمجاهدة الواعية والداعية الصابرة.

كان عملي واقترابي من السيدة زينب الغزالي نعمة من نعم الله علي, أحمد الله كثيراً وأشكره عليها, فقد قرأت كتابها الشهير " أيام من حياتي " وأنا طالب في السنة الأولى في الجامعة عام 1977, وتأثرت به أيما تأثر لما لاقته من أهوال التعذيب في سجون عبد الناصر, ولم أتوقع أبدا أن يكرمني الله بالقرب منها والعمل معها, وأعتبر من فضل الله علي أنني تربيت دعوياً وإيمانياً ووجدانياً بالقرب منها لمدة 23 عاماً حتى توفيت في أغسطس من عام 2005.

لقد سافرت معها في رحلات دعوية عديدة, فما ازددت ـ في كل الأحوال والظروف ـ إلا احتراما لها وتقديرا لجهادها واعتزازا بصمودها, وقد تأثرت بمنهجها الدعوي الرباني الوسطي, ونظرتها الاجتماعية الواعية, وخلقها العالي الرفيع, وصبرها الطويل الجميل, وصمودها الصخري الشامخ, واعتزازها الهائل بدينها ودعوتها, ويقينها الواثق من انتصار دعوتها ورسالتها.

عاشت زينب الغزالي لله قلباً وقالباً, تستعذب الصعاب والآلام والمتاعب مادامت هي الطريق الصحيح لإعادة المسلمين إلى دينهم, صبرت وضحت وبذلت ولم تضعف أو تستكين أو تستعجل الثمرة, عاهدت الله منذ نعومة أظفارها أن تكون له وحده, وأن تسعى لإرضائه حباً فيه وحباً في رسوله صلى الله عليه وسلم, وإيماناً بأنه لا صلاح للبشرية إلا بسيادة الإسلام وتطبيق مبادئه.. لم تقترب من السلطان طمعاً في مغنم أو خوفاً من بطش أو رغبة في أمان, بل كانت تعيش بقوة الحق, وشموخ الغاية, وعزة الإيمان, وهي على قناعة بالآية الكريمة: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون).

آمنت بمنهج الإخوان المسلمين, وسرى في عروقها مسرى الدم والنفس, بوسطيته واعتداله وعمق رابطة الأخوة فيه, ووضوح منهجه في الدعوة إلى الله, وثقة في القادة الذين يحملونه, وانطلقت تحلق في آفاق الدعوة, وتضع نصب عينيها واقع الأمة الإسلامية وموقعها في العالم كله, فلم تكن محدودة الوطن بل انطلقت إلى العالمية فعرفتها الأمة بأسرها, بل ربما كانت مشهورة في بعض البلدان أكثر من شهرتها في وطنها مصر!

كانت المجاهدة الكبيرة رائدة في العمل الإسلامي, ليس على مستوى المرأة المسلمة فقط, ولكن على المستوى الإسلامي كله, وفتحت بيتها لكل العاملين للإسلام, ورغم الصعوبات والضغوط والعراقيل.

كانت زينب الغزالي ـ وستظل بإذن الله ـ النبراس الذي يضئ طريق الداعيات إلى الله, على منهج رسول الله (صلى الله عليه وسلم), والآن جاء دور تلامذتها ومحبيها والعارفين فضلها, لينشروا هذا النور ويعمقوا هذه المعاني التي عاشت لها داعيتنا الكبيرة.   

وآمل أن تكون هذه السطور زاداً دعوياً وإيمانياً وتربوياً لأخواتنا وبناتنا من شباب الصحوة الإسلامية, وأن تكون زاداً لي في الآخرة, يوم لا ينفع مال ولا بنون, إلا من أتى الله بقلب سليم, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

في السادسة من مساء الأربعاء الثامن والعشرين من جمادي الآخرة 1426هـ, الثالث من أغسطس 2005م, فاضت الروح الطاهرة إلى بارئها, وسكن الجسد الضعيف, الذي عاش بقوة الحق وعزيمة الجهاد وإرادة الصمود وحب الشهادة, بعد رحلة طويلة من الجهاد والصبر والمعاناة والألم والكفاح.. هكذا رحلت داعية القرن العشرين السيدة " زينب الغزالي " عن عمر يناهز الثامنة والثمانين, قضته في طاعة الله والعمل على رضاه, وبذل الوقت والجهد دفاعاً عن الإسلام, وتبصيراً للأجيال بأصالة هذا الدين, وسموه وشموخه وعظمته ووسطيته وحتمية انتصاره.

ولدت الداعية الكبيرة يوم الاثنين الثاني من يناير عام 1917م الثامن من ربيع الأول عام 1335 هـ في قرية " ميت يعيش " ـ مركز ميت غمر ـ محافظة الدقهلية ( 80 كيلومترا من القاهرة ) لأبوين كريمين, الأب هو الشيخ محمد الغزالي الجبيلي, العالم الأزهري وتاجر القطن بناحية ميت غمر, الذي ينتهي نسبه إلى أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه, والأم ابنة عمدة قرية " مسجد وصيف " و" المعصرة " وعدة قرى حولها.. وكانت عائلة " الجبيلي "ـ ولا تزال ـ هي كبرى عائلات قرية " ميت يعيش ", وولدت زينب الغزالي كأول بنت لأبيها بعد أشقائها: سعد الدين وعلى ومحمد, ثم جاء بعدها سيف الدين وحكمت وعبد المنعم وحياة.

اهتم والدها بها اهتماماً كبيراً وكان يأخذها معه في مجالسه الخاصة, التي يلتقي فيها بالتجار والكبار والأعيان, وهي لا تزال في سن الرابعة والخامسة وحتى وفاته قبل أن تكمل عامها الحادي عشر, فانطبعت هذه المرحلة في ذهنها, وأثرت في تكوينها بعد ذلك أبلغ التأثير, وظلت طوال حياتها تستقي منها القوة والعزيمة والإرادة والاعتزاز برسالتها ومسئوليتها.

وفي سني حياتها الأولى رأى والدها رؤيا منامية.. رأى أنه كان يحملها بين يديه, وبينما هو يسير في طريق ملئ بالوحل والطين, سقطت منه الطفلة, فانزعج أشد الانزعاج, وقبل أن يهم بالتقاطها من الوحل والطين, إذا بيدين تحملان المولودة في لفافة بيضاء دون أن تدنس أو تقع في الطين, ويقول حاملها: لا تخف أنا جدها عمر بن الخطاب!

زادت هذه الرؤيا من تعلق الأب بابنته الصغيرة, ومن إحساسه بأنها ستكون ذات شأن عظيم, فأصبح يناديها باسم " السيدة زينب ", ويقول لها: أنت تشبهين نسيبة بنت كعب المازنية, الصحابية الجليلة التي أبلت بلاء حسناً في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد, وكان الأب يعطيها سيفاً خشبياً, ويقول لها: هيا دافعي عن رسول الله, فتتخيل الطفلة أنها في حرب ضد الكفار والمشركين, وتنطلق تضرب يمنة ويسرة لتقتل أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم (!).

كان والدها الشيخ محمد الغزالي ( ليس هو العالم الشهير ) تاجراً معروفاً بكرمه وعطائه, وكانت الوفود والضيوف تأتيه من كل مكان, وكانت هذه فرصة لتكتسب الطفلة الصغيرة جرأتها وشجاعتها, التي ميزتها بعد ذلك طوال حياتها..

كان والدها يطلب منها أن ترحب بالضيوف بأبيات شعر علمها إياها, منها:

   أهلاً بكم .. أهلاً بكم         يا من بهم تم النظــام

    شرفتُنا.. آنستُنــا          أهل العلا وذوي المقـام

وعندما كان يذهب لصلاة الفجر في المسجد كان يصطحبها وهي في سن مبكرة, فتربت على حب المساجد والاطمئنان والسكينة في رحابها, والسعي لإعمارها والتربية من خلالها.

كان والدها ـ رحمه الله ـ يؤكد على مسامعها أنها ليست ككل البنات, لا يليق بها أن تلعب وتلهو مثلهن, ولا يرحب ـ حتى بعد أن أصبحت صبية في العاشرة من عمرها ـ أن تقوم بأعمال البيت, من ترتيب وتنظيف وغسيل وطبخ.. الخ, مادام في البيت من يقوم ـ من عاملات البيوت ـ بهذه الأعمال, فهي ـ أي زينب ـ لها رسالة أخرى.. لها مهمة كبرى وهي الدفاع عن الإسلام ونشر تعاليمه وإيقاظ الأمة من جديد.

وضع الرجل الفاضل والعالم الأزهري الجليل, الحافظ لكتاب الله, كل أمله وطموحه وأمنيته لخدمة الإسلام في هذه الفتاة الصغيرة, فصنع منها داعية ومجاهدة ورائدة في العمل الإسلامي.

وبينما كانت تخطو الفتاة زينب خطواتها الأولى في الحياة خسر والدها خسارة فادحة في تجارة القطن, فأصيب بأزمة قلبية ومات على إثرها, فحزنت عليه حزناً شديداً؛ فقد كان الأب والمربي والداعي والسند الحقيقي لها في حياتها.

وعندما بدأت صلتي بها ـ في أواخر عام 1982ـ لمست الأثر العميق الذي تركه والدها في حياتها, والذكرى العطرة التي حولت حياتها كلها إلى الطريق المستقيم, طريق الدعوة إلى الإسلام والبذل والعطاء في سبيل نصرته.

كانت مرحلة والدها ـ على قصرها ـ هي مرحلة التكوين النفسي والوجداني والتأهيل الدعوي والتربوي, وبناء الشخصية القوية التي عاشت بها بقية مراحل حياتها, وساعدتها على النهوض والاستمرار, والصعود الدائم إلى قمة البذل والعطاء الدعوي والجهادي.

               


المراجع

odabasham.net

التصانيف

سيرة ذاتية  أدب  تراجم  شعراء   العلوم الاجتماعية