هل هناك علاقة بين اللغة والقيادة؟! الإجابة يمكن أن تفتح لنا مجالا علميا جديدا يساهم في إعداد قيادات المستقبل؛ حيث يرى لويس بوندي أن القيادة “لعبة لغوية”؛ ويبرر ذلك بأن نجاح القائد يتمثل في قدرته على التأثير في الجمهور، لذلك يعتبر أن التزام القائد بقواعد اللغة يساهم في تحقيق التكامل بين الألفاظ والمعاني؛ فيجعله قادرا على التعبير عن رؤيته وإقناع الناس بها.

لذلك تزيد إجادة القائد للغة قدرته على التفكير، وتحفز عقله لإنتاج الأفكار الجديدة، ونقل المعرفة إلى جمهوره لتحقيق التغيير، والتعبير عن الهوية والأهداف، وبذلك يجذب انتباه الجمهور، ويكسب عقولهم وأرواحهم.

واللغة العربية هي أهم اللغات التي تساهم في زيادة قوة القيادة، وتطوير سماتها ومميزاتها؛ ولذلك فإن اكتشاف العلاقة بين اللغة العربية والقيادة يمكن أن يساهم في بناء نظرية جديدة في علم القيادة.

إن ثراء اللغة العربية يزيد فنّ اختيار الألفاظ التي تعبر عن المعاني، وتجعل للعبارات موسيقى تجذب الانتباه، وتحرك العواطف.. لذلك لاحظ عبد الوهاب عزام هذه العلاقة فقال: “إن اللغة العربية لغة محببة جميلة، تتجلى معانيها في أجراس الألفاظ، كأنما كلماتها خطوات الضمير، ونبرات الحياة”.

اللغة العربية وسمات القائد

إن أسلوب القائد في نطق كلمات اللغة العربية، والتزامه بقواعدها، واختياره للكلمات التي تعبر عن المعاني، يزيد إعجاب الجمهور به؛ فهو يبرهن بذلك على تميّزه وعلمه وثقافته ومعرفته بالتاريخ الحضاري للأمة الإسلامية، حيث ظلت لغة العرب هي المعبرة عن الإنجازات الحضارية لهذه الأمة؛ لذلك فإن تفاعل القائد مع هذا التاريخ، ووعيه به يوضح للجمهور حكمته وقدرته على صنع القرارات التي تحقق مصالح الأمة، فهناك علاقة قوية بين التاريخ والحكمة واللغة.

والقائد الذي يستطيع أن يعبر عن رؤيته بلغة عربية فصحى يستحق الثقة في حكمته، وقدرته على التعبير عن آلام الناس وأحلامهم، فهو يشكل امتدادًا لكفاح الأمة.. لذلك يمكن أن نفهم مقولة ابن تيمية: “إن اللغة العربية الفصحى تجعل الرجل يشبه صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين!”. وهذا يعني أن القائد المتميز في التعبير باللغة العربية يشكل امتدادًا لتاريخ الأمة، وينتمي لها، وهذا الانتماء يزيد تأثيره لأن الجمهور ينظر إليه -طبقًا لرأي ابن تيمية- على أنه يشبه صدر هذه الأمة.

اللغة العربية والقيادة الأصيلة!

إن إجادة اللغة العربية الفصحى من أهم البراهين على أصالة القائد، لذلك كان اعتزاز العرب بالفصاحة والبلاغة والبيان لا يقل عن فخرهم بأنسابهم، كما كانوا يعتبرون اللحن في اللغة عيبًا يقلل من شرف الإنسان وقيمته؛ ولذلك كانت إجادة اللغة العربية من أهم مؤهلات القيادة والسيادة، وتميز القادة المسلمون بفصاحتهم، فاقتنع الناس بأصالتهم.

وتشكل نظرية القيادة الأصيلة تطورا مهما في علم القيادة، فالدول تحتاج إلى قيادات أصيلة تمتلك الحكمة، وتلتزم بالأخلاق في التعامل مع الناس، فلا تستخدم القوة الصلبة في قهرهم، بل تعمل لكسب عقولهم وأرواحهم بالتعبير عن رؤية تساهم في تحفيزهم لبناء المستقبل.

واللغة العربية توضح أن القائد الأصيل يعبر عن أشواق شعبه إلى العدل والحرية وبناء الحضارة في ضوء التجربة التاريخية؛ لذلك فإن تأهيل قيادات المستقبل يقوم على تعليمهم اللغة العربية، وتدريبهم على الحديث بها.

ويشكل ذلك إضافة مهمة لنظرية القيادة الأصيلة، كما يمكن أن يشكل أساسا لتطوير نظريات جديدة في القيادة.

إنها تزيد جمال الوجه!

لكن هل يمكن أن تؤثر إجادة القائد للغة العربية في سماته الجسدية؟!!
يبدو هذا السؤال غريبا، فما علاقة اللغة بالجسد؟
يقول عبد الملك بن مروان: أصلحوا ألسنتكم: فجمال الرجل في فصاحته!

هذه المقولة يمكن أن تفتح لنا مجالات جديدة لتطوير علم القيادة، فقلوب الناس ترى الجمال في وجوه القيادات الأصيلة التي تتميز بالفصاحة والبلاغة، فتتعلق العيون بتلك الوجوه التي تعبر بالكلمات الجميلة عن أشواق الأمة إلى المجد والعزة والسيادة، ويسخر الناس من الذين لا يجيدون التعبير، ويستخدمون الكلمات العامية التي تشير إلى أنهم لا يمتلكون علما أو ثقافة.

لذلك فهناك علاقة قوية بين رؤية الناس لوسامة الرجال، واستخدامهم للغة العربية الفصحى في التعبير؛ إذ إن الكلمات القوية التي ترتبط بالعزة والسيادة تزيد بهاء الوجوه.

لذلك عبرت وصية عبد الملك بن مروان عن جانب جديد في مجال علم القيادة وهو العلاقة بين الفصاحة والجمال والقوة والثقة في النفس والجاذبية والقدرة على كسب العقول والأرواح.

اللغة العربية والقيادة: نظرية جديدة

في ضوء ذلك يمكن أن نطور نظرية جديدة في مجال علم القيادة تقوم على الأسس التالية:

إن عملية إعداد قيادات المستقبل يجب أن تقوم على رؤية جديدة، فتعليمهم اللغة العربية الفصحى، وزيادة قدرتهم على التعبير بها عن رؤيتهم يزيدان احترام الجمهور لهم، وثقته فيهم.

كما أن الفصاحة والبلاغة توضحان للجمهور أصالة القائد، وارتباطه بالحضارة الإسلامية، وأنه يمثل امتدادًا لهذه الحضارة، ويستطيع التعبير عنها، وأنه ينتمي لها.

واستخدام اللغة العربية الفصحى دليل على حكمة القائد، فهو يرتبط بتجربة تاريخية، ويتشبه بالقادة العظام الذين تمكنوا من تحقيق الانتصارات والإنجازات الحضارية، ويتميز بالقوة في التعبير عن أشواق شعبه إلى المجد والسيادة.

والقائد الذي يعبر عن رؤيته باللغة العربية الفصحى يتميز بالأصالة، وهذا يرتبط بالعزة والأخلاق والشرف والحكمة؛ فهو يستخدم الكلمات في إقناع الناس وكسب قلوبهم وحبهم وإعجابهم، ولا يحتاج إلى استخدام القوة الغاشمة في قهرهم وإكراههم وإخضاعهم ومنعهم من التفكير والتعبير، وهو يدير المناقشة الحرة، ويحفز الناس على إنتاج الأفكار وتقديم حلول جديدة للمشكلات.

 

المصدر