“السلامُ عليكَ يا أميرَ المؤمنين. السلامُ على صحابةِ رسولِ الله”. وتلوتُ ما تلوت. وبعدَ أَنْ ملأتُ عينايَ منه، غادرتُه. لأصحبَ شعوراً عارماً بالرهبَةِ والصَّفَاء.
كانَ سوقُ البزورية الشهير في دمشق يغُصُّ بالمتسوقين عندما وصلتُهُ ظُهرَ يومٍ خريفي حار. لا يشبهُ هذا السوقَ شيءٌ في العالم. ليسَ لأنَّهُ يحوي أبنيةً وخاناتٍ من أبدعِ ما أنتجتهُ الحضارةُ الإسلاميةُ فحَسْب، بل لأنَّ أصنافاً لا تُحصى من التوابلِ والعطرياتِ والأعشابِ والمجففاتِ والحلوى وغيرها تملأُ محالَه. وبقيتْ هُناك دكاكينُ الطبِّ العربيِّ الأصيل جيلاً بعد جيل. قضَيْتُ حاجتي من السوق وهممتُ بالعودة. إلا أنَّ سُؤالاً سمعتُهُ بقيَ يَرُنُّ في أذني منذُ أنْ غادرتُ سيارةَ الأجرة.
“ثكلتُهُ إنْ لم يَسُدْ إلا قومَه”، هكذا أجابتْ هندُ بنتُ عُتبة بعضَ متفرسي العرب، عندما تفحَّصَ ولدَهَا قائلا: “إنني أتوسَّمُ فيهِ أن يسودَ قومَه”. كانَ معاويةُ بنُ أبي سفيانَ حينَهَا صبياً. وفي عامِ الحُديبية، عندما كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصافِحُ أصحابَهُ تحتَ الشجرة، كانَ قَدْ بلغَ الثامنةَ عشرة. حينها وقعَ الإسلامُ في قلبه. وما رحلَ إمامُ المرسلين عن مكةَ بعدَ الحديبية إلا ومعاويةُ مسلما. يُخفي ذلك عن قومهِ إلا والديه. إلى أنْ جاءَ نصرُ الله والفتح، فأظهرَ إسلامهُ ورحَّبَ بهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
“أينَ الفاطميات؟” “إذهبْ مِن هذا الطريق، تجدهَا أمامَك”. كانَ السائِلُ أعجمياً يتكلَّمُ العربيةَ على ثِقَل، ويسيرُ قُربَ سيارةِ الأُجرة على عَجَل. أجابَ السائقُ دونَ تردُّد، وكأنَّهُ اعتادَ على ذلك. مَا أَنْ تَخرجَ مِن سوق البزورية حتى تدخُلَ في شارعٍ ليسَ ذِي سَقف. وإنْ تابعتَ السيرَ لنحوِ عشرِ دقائق، جنوباً، تصل إلى البابِ الصغير. أصغرِ أبوابِ دمشقَ العتيقة. “ما الفاطميات؟” قلتُ في نفسي. “لابُدَّ أنَّهَا هي”. زارني الفضولُ على غيرِ مَوعِد. كنتُ قَدْ وصلتُ حينها إليها.
كانَ أبيضَ الناسِ وأجمَلَهُم، طويلاً. شهدَ حُنيناً معَ رسولِ الله عليه الصلاة والسلام الذي دعا له: “اللهُمَّ علِّمهُ الكتابَ والحِسَاب وقِهِ العَذَاب”. ” اللهُمَّ اجعلهُ هادياً مهدياً واهدِ بِه”. وكانَ رسولُ الله قَدْ أمَرَ أبا بكرٍ وعمر: “أحضروهُ أمرَكُم، وأشهدوهُ أمرَكُم، فإنَّه قويٌّ أمين”. تروي عائشةُ رضيَ الله عنها: “لما كانَ يومُ أمِّ حبيبة من النبي صلى الله عليه وسلم دقَّ الباب دَاقٌّ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انظروا من هذا؟ قالوا: معاوية، قال: ائذنوا له، فدخَل وعلى أُذُنِه قلمٌ يخطُّ به، فقال: ما هذا القلمُ على أُذُنِك يا معاوية؟ قال: قلمٌ أعددتُهُ لله ولرسوله، فقال: جزاكَ الله عن نبيِّكِ خيرًا، والله ما استكتبتُكَ إلا بوحيٍ مِنَ الله، ومَا أفعلُ صغيرةً ولا كبيرة إلا بوحيٍ من الله”.
تمتدُّ مقبرةُ بابِ الصغير من بابِ الصغيرِ نفسِه إلى بابِ مصلَّى مروراً ببابِ الجابية. وتُقسِّمُها الشوارعُ إلى أجزاءَ ثلاثة. هُنا يرقُدُ الإمامُ الحافظ ابنُ قيم الجوزية رحمه الله، والفيلسوفُ الفارابي، والرئيس شكري القوتلي والشاعر نزار قباني وغيرُهم رحمهم الله. ليسَ هؤلاءِ غايتي. كانَ عَلَيَّ أن أسيرَ في ممرٍ واسعٍ طويل حتى أصلَ إلى مقامٍ يُقالُ إنَّ أمَّ كلثوم ابنةَ عَلِي وسُكينةَ ابنةَ الحُسينِ بنِ عَلِي رضيَ الله عنهُم مدفونتَانِ فيه. يشبهُ المكانُ أيَّ شيء إلا المقبرة. في غرفةٍ كبيرةٍ مسقوفةٍ بقُبَّة، تطاولَ الضريحانِ حَتَّى السَقف. وبَدَا كُلُّ شيءٍ باذخاً، البناءُ، والسجادُ، والزخرفات. دعوتُ الله لهما بالرحمة، ولم أُطلِ البقاء. إذ أنَّ جلوسَ رجلٍ على كرسيٍ وراءَ مكتبٍ داخلَ المقام، أوحى لي ألا أفعل.
شَهِدَ اليرموكَ مع والدَيْه، وأخيهِ وأختِه. أمَّره عُمر على الشام بعدَ أنْ تُوفِّي أخوهُ يزيدُ بنِ أبي سفيان. فتحَ قيسارية سنةَ تِسعَ عشرةَ وهو أميرُها. وغزا قُبرُصَ سنةَ خمسٍ وعشرين. كانَ عُثمانُ قَدْ جَمَعَ لهُ الشَّامَ حينَهَا. كانَ أوَّلَ مَنْ بَنَى أسطُولاً للمسلمين، وأوَّلَ مَنْ غَزَا في البحر. وأوَّلَ مَن هَزَمَ الرومَ فيه، في ذاتِ الصَوَاري الشهيرة، التي لم تَدَعْ أثراً للبيزنطيينَ في المتوسط. أحسبُ أنَّهُ استذكَرَ وهو يخوضُ غِمَارَ البحرِ قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حينَ كانَ يسيرُ ومعهُ جماعة، فذكروا الشام، فقالَ رجل: كيفَ نستطيعُ الشامَ وفيهِ الروم؟ قال: ومعاويةُ في القوم -وبيدهِ عصا- فضربَ بهَا كتِفَ معاوية، وقال: “يكفيكُمُ الله بهذا.” وعنهُ صلَّى الله عليه وسلم: (أوَّلُ جيشٍ من أمتي يغزونَ البحرَ قد أوجَبوا -أي: فعلوا فعلاً وجَبَتْ لهم بهِ الجنة- قالتْ أمُّ حرام: قلتُ: يا رسولَ الله، أنا فيهم؟ قال: أنتِ فيهم). وكانَ ذلكَ جيشَ معاويةَ في خلافةِ عثمان رضيَ الله عنهما.
يُخيَّلُ إليكَ للوهلَةِ الأولى أنَّ “الفاطميات” هي قبورُ كُلِّ مَنْ ينتهي نسبُه إلى فاطمةَ الزهراء رضيَ الله عنها. لكنَّ ضريحَ أمِّ المؤمنين أم سلمَة رضيَ الله عنها كانَ مليئاً بالزوار، كسائِرِ قُبورِ أحفادِ فاطمة. كانَ الأعجبُ أن رأيتُ قبرَ بلالَ بنِ رباح رضي الله عنه اتُّخذ مزاراً، وهو الذي لا يمتُّ بصلةٍ لفاطمةَ الزهراء. بل لا يمُتُّ بصلةٍ لقُريش، بَلْ للعَرَبِ قاطِبَة. قَد كانَ هذا ما يشفَعُ لَه دونَ غيرِهِ مِنَ الصحابةِ أَن يُتَّخذَ قبرُهُ مزارا. امتدَّتْ عتبةٌ كبيرة ٌكأنَّهَا قبرٌ صغير قُربَ ضريحِ بلال في الغرفَةِ ذاتِهَا، وعليهَا، كانَ يُودَعُ المال. “أمسَى بلالٌ حرُاً منذُ أنْ أعتقَهُ أبو بكر.. ولا أحسبُ أنَّهُ يحتاجُ إلى صدقة.. فعلامَ الدراهِمُ وهو في جنةٍ عرضُهَا السمواتُ والأرض!”. تساءلتُ في نفسي. وما كدتُ أنتهي، حتى انتزعني من أفكاري وجهٌ أعرفه.
صالَحَهُ الحسنُ بن عَلِيّ رضي الله عنهما، وتنازَلَ لهُ عن الحُكم عامَ واحدٍ وأربعينَ هجرية، فكانَ عامَ الجماعة لاجتماعِ المسلمينَ على إمامٍ واحد..كانَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم قَد قالَ في الحسن: “إنَّ ابني هذا سيد، وسيُصلحُ الله بهِ بينَ فئتَيْنِ عظيمَتَينِ مِنَ المسلمين”. حقَّقَ الحسنُ نبوءَةَ جَدِّه بإصلاحِهِ بينَ المسلمين. وبرَّ والدَهُ عَلِيَّاً القائِل: “لا تَكرهوا إمارةَ مُعاوية، والله لَئِنْ فقدتمُوه لَكَأنِّي أنظرُ إلى الرؤوسِ تُندرُ عن كواهِلِهَا”. أعادَ الفتوحاتِ إلى سابِقِ عهدِهَا بعدَ توقُّفٍ طويل. فأرسلَ عُقبةَ بنَ نافع على جيشٍ من مصر، ففتَحَ شَمالَ إفريقيا حتَّى وصلَ إلى المحيط الأطلسي، و فتَحَ النوبةَ شمالَ السودان. أرسَلَ جيشاً عَرَمْرَمَاً لقتالِ الروم، فحاصَرَ عاصمتَهُم القسْطنطِينية للمرَّةِ الأولى في التاريخِ الإسلامي. يقولُ ابنُ كثير: (وكانَ يغزو الرومَ في كُلِّ سنةٍ مرَّتين، مرَّةً في الصيف و مرَّةً في الشتاء، و يأمُرُ رجلاً من قومِه فيحجُّ بالناس. وحجَّ هو سنةَ خمسين. وحجَّ ابنهُ يزيد سنةَ إحدَى وخمسين. وفيها أو في التي بعدَهَا أغزاهُ بلادَ الرومِ، فسارَ معَهُ خَلقٌ كثير من كُبراءِ الصحابة حتَّى حاصَرَ القُسطنطينية. و قد ثَبَتَ في الصحيح “أوَّلُ جيشٍ يغزو القسطنطينية مغفورٌ لهم”)
كانَ السائلُ الأعجمِي يتنَقَّلُ مِن ضريحٍ إلى آخَر بصُحبَةِ امرأَةٍ سافِرَةَ الوجهِ تضَعُ عباءَتَها على رأسِهَا. وكانَتْ وفودٌ، كلٌّ مع دليلِه، يدخُلُونِ المقامَ تلوَ الآخر متعبدِينَ خَاشِعِين. يربُطُونَ شرائطَ ملونةً في الشَبَكِ المضروبِ حولَ الأضرحَة. ويرتدونَ ما تَنَوَّعَ مِنَ الثياب. فمنهُم الملتَزِم ومنهُم غيرُ ذلك. وجميعُهُم مِنَ البلادِ ذاتِهَا. وحدي كُنتُ غريبةَ الدَارِ مع رفيقتي. وكأنَّنَا نَسوحُ في بلادٍ غيرِ بلادِنَا. عبدُ الله بن جعفر الطيار، عبدُ الله بن زين العابدين، عبدُ الله بن جعفر الصادق، زينبُ الصغرى، فاطمةُ الصغرى وميمونةُ بنتُ الحسن رضي الله عنهم جميعاً، كُلُّهُم يُقال إنَّهم دُفِنُوا هُنا. وبينَما ازدحَمَتْ مقاماتُهُم بالحُجَّاج، افتقَرَ مقامَا أُمَّيّ المؤمنين حفصة بنتِ عُمَر وأُمِّ حبيبةَ بنتِ أبي سُفيان رضيَ الله عنهُم للزائرين. تابعتُ وجهتي جنوباً، بينَمَا لم يهدَأ لساني عَن السلامِ على السابقينَ مِن أهلِ دمشق.
كانَ زاهداً، يخطُبُ الناسَ على المنبرِ بدمشقَ وعليهٍ ثوبٌ مرقوع. سَمِعَهُ يونُسُ بنُ ميسرَةَ يقولُ على المنبَر: “تَصَدَّقوا ولا يَقُلْ أحدَكُم: إنِّي مُقِل، فإنَّ صَدَقَةَ المقِل أفضلُ مِنْ صدقةِ الغَنِي”. كانَ فقيهاً، صلَّى العِشَاءَ ذاتَ ليلةٍ ثُمَّ أوتَرَ برَكعَةٍ واحِدَة ولم يَزِدْ، فرآهُ كريب مولَى ابنِ عَبَّاس فأخبره، فقالَ ابنُ عَبَّاس: “أصابَ، أَيْ بُني! ليسَ أحدٌ مِنَّا أعلَم مِنْ معاوية. هي واحدة أو خمس أو سبع أو أكثر”. وفي رواية: “إنَّهُ فقيه”. ما رَأَى أبو الدَردَاءِ أشبَهَ صلاةً برسولِ الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم مِنَ الأميرِ معاوية. وما رأى ابن عمر رضي الله عنهما بعد رسول الله أسود من معاوية. وصحِبَهُ قبيضةُ بنُ جابر، فمَا رأى رجلاً أثقلَ حِلمَاً، ولا أبطَأَ جَهْلاً، ولا أبعَدَ أناةً منه. يقولُ سعدُ بنُ أبي وقَّاص: “ما رأيتُ أحداً بعدَ عثمان أقضى بحقٍّ مِنْ صاحِبِ هذا الباب”، يعني معاوية. ويقول ابن عباس: “ما رأيت رجلاً أخلق للملك من معاوية، لم يكن بالضيّق الحصر”. ويذكره كعب بن مالك : “لن يملك أحدٌ هذه الأمة ما ملك معاوية”. وعن أبي إسحاق قال: “كان معاوية؛ وما رأينا بعده مثله”. ويوصي عمر رضي الله عنه: “لا تذكروا معاوية إلا بخير”.
رُحتُ أُنَقِّلُ خُطواتي بينَهَا برويِّة، وأقرأُ مَا نُقِشَ على الشَّواهِدِ مِن آياتٍ وأدعيةٍ وأشعار. انتشروا هناك في مثواهُم الأخير. كُلُّهُم سَوَاء، الغنيُّ والفَقير، الشَّيخُ والشَّاب، السَّعيدُ والشَّقي. لا تسمَعُ منهُم صَوتاً ولا تَرَى حركَة. وما كانَ يُعَكِّرُ هدوءَهُم إلا أصواتُ عويلٍ مع موسيقى صاخبةٍ تخرُجُ من أجهزةٍ مُسجِّلَةٍ على رصيفِ الشارعِ الملاصِقِ للمقبرة. كانتِ الأصواتُ تندُبُ بعضَ مَنْ دُفنوا هُنا منذُ ما يزيدُ عَنْ ألفِ عَام. اتخذَ بائعُ الأشرطةِ مكانَهُ في الظِّل قربَ إحدى البوابات، بعيداً عن أشعةِ الشمس التي تركت لوناً ذهبياً داكناً على حجارة القبور. “تجدينَهُ في الجزءِ الجنوبي مِنَ المقبرة”، تذكرتُ كلامَ بائعٍ دمشقِي كنتُ قَد سألتُهُ قبلَ دخولي ما كانَ يجولُ في خاطري منذُ زمن. واليوم، جاءَتِ الفُرصَة. سألتُهُ عن مكانِه، فأجابني همساً، وابتسم.
كانَ داهية، أحدَ دهاةِ العربِ الأربعة.”إنّي لا أضعُ سيفي حيثُ يكفيني سَوطي، ولا أضعُ سَوطي حيثُ يكفيني لساني، ولو أنَّ بيني وبينَ الناسِ شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدُّوهَا أرخيتُهَا، وإذا أرخوهَا مددتُها”. وذهبتْ شعرتُهُ الشهيرةُ هذه مثلاً وقاعدة في حُسنِ السياسةِ حتى الساعة. كانَ حليماً. يقولُ معاوية: “ما من شيءٍ ألذُّ عندي من غيظٍ أتجرَّعُه. إنِّي لأرفعُ نفسِي من أن يكونَ ذنبٌ أعظمُ من عفوي، وجهلٌ أكبرُ من حِلمي، وعورةٌ لا أواريها بسَتري، وإساءةٌ أكثرُ من إحساني”. وأغلظَ إليه رجلٌ، فقال: “إني لأستحي منَ الله أن يضيقَ حِلمي عن ذنبِ أحدٍ من رعيتي”. ولما سُئلَ: أيُّ الناسِ أحبُّ إليك؟ قال: أشدُّهم لي تحبيباً إلى الناس. وعن خلافتِه يقول: “والله ما حملني على الخلافة إلا قولُ النبي صلى الله عليه وسلم لي: يا معاوية، إن ملكتَ فأحسن”. سمعَه ثابتُ مولى سفيان يقول : “إني لستُ بخيركُم، وإنَّ فيكُم من هو خيرٌ مني: ابنُ عمر، وعبدُ الله بن عمرو وغيرهما. ولكني عسيتُ أن أكونَ أنكأكُم في عدوِّكُم، وأنعمَكُم لكُم ولاية، وأحسنكُم خُلُقَا”.. وخَطَبَ فقال: “إني من زرعٍ قد استُحصِد، وقد طالتْ إمرتي عليكُم حتى مللتُكُم ومللتموني، ولا يأتيكُم بعدي خيرٌ مني، كما أنَّ مَن كان قبلي خيرٌ مني. اللهمَّ قد أحببتُ لقاءَكَ فأحِبَّ لقائي.
خَفَتَ الضَّجيج، وسَكَنَتِ الأصوات، وكأنِّي اقتربتُ من بِلاطِهِم، لا من قُبورِهِم. إنَّهُم الملوك. في غرفَةٍ صغيرةٍ منخفضَة، تُحيطُ بجدرانِهَا قضبانٌ حديدية، كانَتِ القُبُورُ الثلاثة. عبدُ الملكِ بنُ مروان، والِدُ الخلفاءِ وعَمُّهم وجَدُّهِم، مُعَمِّرُ الأقصَى المبارك، وابنُهُ الوليدُ بنُ عبدِ الملك الذي بلغَتْ دولةُ الإسلامِ في عَهدِه أقصَى ما بلغت، والأميرُ السلجوقي النتاشُ بنُ عبد الله التاجي رحمهَم الله جميعاً. كوَّرتُ كَفَّي حولَ وجهي وكأنِّي أنظُرُ داخِلَ مَغَارةٍ مُعتِمَة. تمكَّنتُ مِن رؤيَةِ القبورِ الثلاثةِ من وراءِ قُضبانِ البابِ الحديدية. قديمةً قدمَ التاريخ، تكَسَّرت أجزاءٌ منها. لا يتجاوزُ ارتفاعُهَا الهرمي عنِ الأرضِ أشباراً ثلاثة، وَإِنْ قُدِّرَ للمَرءِ أَنْ يدخُلَ فسيكونُ عليهِ أنْ ينزِلَ بِضعَ درجات. سألتُ الله لهم الرحمة. تابعتُ نحو وجهتي الأخيرة وأنا أكادُ لا أصَدِّق ما أخبرني بِهِ حارسُ المقبرة!
يقولُ الذهبي: حسبُكَ بمَنْ يُؤَمِّرهُ عمر، ثم عثمان على إقليمٍ -وهو ثَغر- فيضبطْه، ويقومُ بهِ أتمَّ قيام، ويُرضِي الناسَ بسخائِهِ وحِلمِه، وإن كانَ بعضُهُم تألَّمَ مرَّةً منه، وكذلكَ فليكُن المُلك. وإن كانَ غيرُهُ من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم خيراً منه بكثيرٍ وأفضل وأصلح، فهذا الرجلُ ساد، وساسَ العالَمَ بكمالِ عقله، وفرطِ حِلمه، وسَعَةِ نفسِه، وقوَّةِ دهائِه، ورأيِه. ولهُ هنَّاتٌ وأمور، والله الموعد. وكانَ محبباً إلى رعيَّتِه. عَمَلَ نيابَةَ الشامِ عشرينَ سنة، والخلافةَ عشرينَ سنة، ولم يهجُهُ أحدٌ في دولتِه، بل دانَتْ لهُ الأمم، وحكمَ على العربِ والعَجَم، وكانَ مُلكُهُ على الحرمَيْن، ومِصرَ، والشام، والعراق، وخراسان، وفارس، والجزيرة، واليمن، والمغرب، وغيرِ ذلك. ويقولُ ابنُ خلدون: “إنَّ دولةَ معاوية و أخبارَهُ كانَ ينبغي أن تلحقَ بدُوَلِ الخُلَفَاءِ الراشدين و أخبارِهُم، فهُوَ تاليهِم في الفضلِ و العدالةِ و الصُحبة”.
خطواتٌ قليلة تفصلُني عنه. كنتُ ما أزالُ أراهُم من بعيد. إنَّهُ وفدٌ جديد. وبينما كنتُ أنظُرُ إليهِ تارةً وإلى الوفدِ الجديدِ تارةً أخرى، تقدَّمَ شابٌ دمشقي مِنْ حيثُ لم أعلَم، فَاْنتصَبَ أمامَهُ سريعاً وجَعَلَ يقرأُ الفاتحةَ ثم رَحَل. تشجَّعت، فتقدمتُ نحوَهُ ببطء ورحتُ أتبيَّنُ ما ذكرَهُ حارسُ المقبرة. “إنَّهُم يأتون، فيرجمونَهُ بالحجارة! وكيلا تتكسَّرَ الجدران، بُني سورُ القضبانِ الحديدية حولَ المقام”. لكنَّ ذلكَ لم يمنعْ بعضَ الحجارةِ الصغيرة من النفاذ بينَ القضبانِ فتفعلَ في الجدرانِ الحجريةِ فِعلَهَا. بَدَتِ الكُسورُ والتشققاتُ التي خلَّفَهَا الرجمُ واضحةً على القُبَّةِ البيضاءِ التي عَلَتِ المقَامَ دونَ ما يقيهَا. وكانتْ بعضُ الحجارةِ ما تزالُ فوقَهَا. أبعدتُ بعضَها الذي تناثرَ على الأرضِ حولَ الجدران. ومددتُ يدي لأستخرجَ عُلبةَ مياهٍ غازية نفذَتْ للداخِلِ مِن بينِ قضبانِ البابِ الحديدية. في الداخل، امتدَّ ضريحٌ طويل، وعليهِ وُضعتْ قطعةُ قماشٍ ومزهريةٌ فيها وردٌ صناعي يعلوه غبارٌ. يقولُ الحارس :”في ذكرى عاشوراء، تشتَدُّ الهجمة، فيأتي بعضُ من يحرُسُه!” تخيَّلتُ المشهد. كانَ أوَّلَ مَن اتَّخَذَ الحَرَسَ، وهاهُم يحرسُونَه حتَّى بعدَ مِئَاتِ السنين. رَجَعْتُ خطواتٍ إلى الوراء، ورحتُ أقرأُ مَا نُقش على القُبَّة. يرقُدُ هُنا فضالةُ بنُ عبيدِ الله، سهيلُ بن الحنظلة، ابنُ أوسٍ الثقفي، وائلةُ بنُ الأشقع، الذين بايعوا الرسولَ صَلَّى الله عليهِ وسلمَ تحتَ الشجرة، ومعاويةُ بنُ أبي سفيان، مُؤسِّسُ الدولةِ الأموية.
المراجع
رابطة أدباء الشام
التصانيف
ادب قصص