المرأة التي تنام جواري فوق السرير هي، حتْماً، امرأتي. هذا أمر لا يساورني فيه شك. أفرز رائحة بشرتها من روائح بشرات نساء العالم، كما أُدرك تماما طراز تنفسها؛ تنفس بطيء، ولطيف كالوشوشة، أو هو، بالأحكم، أقرب ما يكون إلى هبوب أنسامٍ ناعمَةٍ من خلل أفنان شجرة عكشَةٍ. ثم إنّ هذا الفراش هو، بالقطع، فراشي، أقصد فراشَنا، نحنُ الإثنيْن، هي وأنا. وهذا أمر لا مرية فيه، أيضاً. من يخطئ عَقْل فراش بيته، يخطئ، بالمثل، عَقْل مآل خطواته، يقول أحدُهم. في الحقيقة، هذا الكلام اختلقتُه أنا، ومنحته صبغة الحكم لغرض ما قد لا أكون مستوعباً فصّه الآن. لا يهم، حسبي أنّني لم أغير الفراش منذ أن قارنتها. إذ لا يعقل أنْ أكون مسجى على فراش غير الذي يجمعني بحليلتي. أُقرّ بهذا، وأنا في كامل وعيي، حتى لا يظن أي امرئ أنّ الرجل إنّما يفتجر، أو يفوه بكلام تحت تأثير ما. وأي تأثير يكون؟ دفءُ جسد مصقول كأنّما سُوي بمسْحل نحاتٍ إغريقي! نشْرٌ يعبَق من الأعطاف والأثلام، يدوّخ، ويهزّ أوتارَ الشهوة! ريحٌ يندلق من ثَغرٍ مُمتلئ كأنّه شذى الأزهارِ البريةِ! حقاً، أنا رجلٌ محظوظٌ. أودّ لو أكرّر هذه الشهادة للمرة الألف حتى يُصدقني الجميع. أنا محظوظٌ يا ناس!
أقولُ إنّ هذه المرأة غادَرتْ، كعادتها، إلى السّوق، سوق الخميس، لكيْ تشتري خُضراً، وفواكهَ. هي مسألة جارٍ بها العمل منذ انتقالنا إلى هذه الشُّقة ذات الغُرف الثلاث، والحمّام الباذخ. أنا أبارِح على الساعة الثانية بعد الزوال، فيما هي تزايل بعد ساعَتين. بالواقع، لست متأكّداً تماماً. هي تقولُ كذلك، وأنا أصدّق. يفصل بين العمارة ومقرّ الإدارة مسافةٌ قدّرتُها بنصف ساعة مشياً على الأقدام طبعاً. أحياناً يحدث لي أنْ أقطعها في حوالي العشرين دقيقة. أربح عشر دقائق بالتحديد. كيف؟ يكفي القول إنّني أمشي مركزاً على الخطوات التي أوقعُ فوق الأرصفة بإتقان ودربة عاليين، كأنّما هي مشيةٌ عسكريةٌ، لكن بوتيرة أسرعَ قليلاً. هذه المشية المضبوطة يوازيها تحكم في انتظام التنفس، وتحريكٌ للذراعين، في تخالفٍ، على نحوٍ لا يفضحُ سري. فأنا موظف مدنيٌ، ولست بجندي. والفرق بين الحدين واضحٌ كما هو معروفٌ.
خرجت المرأةُ إذاً من الشقة بعدما أتْرَست الباب بالمفتاح، وعاودت التأكد لأكثر من مرّةٍ. الباب محكم الإغلاق. دخلت المصعدَ، وضغطتْ على زرّ النزول. علامة صفر. هي دائرة ممطوطة قليلاً إلى أعلى، ثمّ إلى أسفل. في بداية عهدها بالجهاز، لم تكن تجرؤ على استعمال المصعد، فكنت أشجعها. كانت تلتف بذراعي التفافاً مثلما لو كانت تخشى عاصفة تجليها إلى أبعد الأصقاع. لكم كان يعجبني خوفها المثير. وكان يحلو لي أن أصطنع أعطابا في الجهاز، كأن أضغط على زرّ التوقف خفية، أو أحرك زرّ الصعود فيما نكونُ على أهبة مغادرةِ المصعَد. كنت أفعلُ مشبوباً بفرحٍ لا يضاهى. أستفزّ أفزاعَ امرأتي حتى تلتحمَ بي أكثرَ، وأدنيها مني حاضنا إياها إليّ كما لو نصير جسداً واحداً. الساعةُ، باتتْ تطأ الجهاز دون هيابٍ. تتقنُ العمليةَ من غير توجسٍ أو احترازٍ. تقولُ إنّها لم تعدْ في حاجة إليّ، في هذا المستوى على الأقلّ. استغنتْ عن خدماتي في تشغيل هذه الآلة العجيبةِ.
تتجه إلى السوق ساحبةً وراءها الناقلةَ ذات العجلتين المطاطيتين. تدخلُ السوق من بابه الرحيب بناقلة فارغةٍ، ثم تمرق من الباب عينها إلى الخارج، بعد زُهاء ساعة، بناقلة عامرةٍ. تضغطُ على الزر، فتصعدُ. المسألةُ في منتهى اليُسر، تصرّحُ. وتولجُ المفتاحَ في قفل الباب، ثم تدفعُ، وتعرجُ نحو المطبخ مباشرة.
عقب مغادرتي للإدارة بنصف ساعة، أكون أنا بالشقة. في طريقي، وأنا ألبطُ الرصيف بمداسيّ الجلديين، اللامعين، أفكرُ في ما تكونُ قد أعدّت هي من طبيخ. تصنع امرأتي من أنامل يديها الرقيقةِ، والمقلمة الأظافر، أكلاتٍ أحرِص على التهامها عن آخرها؛ أكلاتٌ ألذّ من اللذَّة نفسها. وحينما نكونُ أنفقنا الراتب، وقد شعشع الشهرُ، فبالبُلْغة كنا نكتفي. وكنا سعداء. حقا، أنا رجل محظوظ، كنتُ أقولُ كلما استحضرتُ الأوضاعَ الأسريةَ لزملاء لي. في الواقع، لا مجال للمقارنة. أفيقُ من رُقادي في الصباح، فألفي امرأتي في المطبخ عاكفةً على تحضير وجبة فطوري، إن لم تكنْ قد أنهت الإعدادَ قبْل ذلك بكثير. آتي في الزوال، فأجدُها قد سوّت السماط ورتّبت الصّحون، والكؤوس، وسلّة الخبز. أجيء في المساء، فتشملني بنعيم جرْمها المضمخ بأزكى الفوغات. ثم أن لا يكون لنا أبناء فهذا موضوع لم يكن يُقلق بالنا بتاتاً. لم نستمزج رأي طبيب. ولم نرغب في أن يعكّر لنا نبأٌ مزاجاً. هي تقولُ إنّتَ الزوجُ والإبنُ، وأنا أقولُ إنّت الزوجةُ والإبنة، ثم نقضي اللّيل متحاضنيْن. لن أنكر أنني كنت أمنّي الخاطر، منذ فقهْت ما يحدث بين الذكر والأنثى، أثناء ما ترخي الظلمةُ سدولها بخاصة، بأن أكونَ أباً لطفلةٍ جميلةٍ، أربت على كتفها، ونحن نسرع الخطوَ وجهةَ حديقةٍ، أو مركز ثقافي، أو فقط نتسكع في الطرقات والمماشي. أزعم أنني كنت سأشبعها حكايات، وأشتري لها الشوكولاطة، والدمى، وقصص الأطفال. لكن لاشيء من هذا جرى. أكيد أنه أمرٌ حزّ في نفسي. بيدَ أن هذا الخصاص الذي شعرنا به، كلانا معاً، إبّان الفترة الأولى من الزواج، سرعان ما تغلبنا عليه بالحب. الحب أمنع متراس يا صاحبي.
عصر كل خميس تمضي امرأتي شطر السوق. تحتبي بجلابيتها. وقد تتلفع بالجلابية الوردية. ولرُبّما الزرقاء السماوية. ولعلها القرمزية. وقد تكون الصهباءُ. تلك التي تشبه لون البيرة. اللون الذي تعشقه إلى حدّ الولهِ. أقولُ لها خذي لكِ رشفةً منَ الكأس الرغاوي، فترسلُ ضحكةً غناء، أصفى من البلّور، ثم تقولُ: أنتَ تشربُ، وأنا أسكر،ُ فأجرها إليّ فوق الأريكة، وأضمها إليّ كما لو كنتُ أرغبُ في أنْ أقيمَها في عقرِ قفصي الصدريّ، في ما وراء الزور، إلى الا بدّ. هذه المرأةُ سكنتْ مهجَتي، مثلما لم تفعله أي امرأةٍ من قبلُ. يومُ خميس، توضّبُ امرأتي الفُرُشَ، وتُرتّبُ الرياشَ، وتنضدُ الأثاثَ، وتنظمُ مواقعَ المتممات. تتحمّمُ حوْرائي، وتتزيّنُ، تزججُ الحاجبين، تمشطُ الرموشَ حتى تغدو كالطنوف الوارفةِ، تضعُ الكُحل في العينين النجلاوين، وتدلكُ بالمسواكِ حتى تتخضبَ منها اللثةُ والشفاه بحمرة قانيةٍ، وتهيئ المجمر، وتشعل جمراته، ثم تنشر عليها قطع عود القماري، وتوقد السحوج، والمسك الأذفر.
وحينما أصيرُ أنا، في المساء، عند وصيد الباب، أعْني بابَ الشقة، تزوبعُ الأفاويه، والأطيابُ كياني برمته، فأدخل مأخوذاً بما دهمَ فتحتيْ منخريّ، مختوماً عليّ بأختام الإفتتان. وإذْ تشعُّ البَسمةُ على فم حورائي كالتُّوَيْج، أهفو إليها كالسَّهم الفالت، ثم أطبعُ على خدها قبلةً، فترتعدُ منها الرموشُ، وتتوردُ الوجنتان. ورَيثما تكونُ هي قد نصبت المائدةَ، أكونُ أنا قد اغتسلتُ، وتنظفتُ. وبعد حينٍ نأكلُ ونحن نتداعبُ، ونتلامسُ، ونتباوسُ، حتى إذا سرت الحرارةُ في الألياف والشرايين، أرْتَبْنا، ومشينا نحو الفراشِ، تسبقُنا الشهوةُ الفاتكة. تُلحُّ حوْرائي على إطفاء نور الأباجورة، تقول إنها تستحي من عريها قدامي. وفي غمرة الظلمة السَّدفاء أهمس لها: أنت حُبي، وأنا حُبكِ.
واهٍ لها تلك الأماسي من أيام الخميس. كنتُ أستحثُّ ورودها. أستَقْدمُها بلهفةِ العطشان. ثم أتحسَّرُ إذْ تمضي سريعاً. ولكمْ وددتُ لو يكون الأسبوعُ كله أيامَ خميسٍ. والظاهرُ أنّ باقي أيامنا لمْ تكنْ تعدمُ أثراً منْ ذلك، لكنّ حوْرائي أصرّتْ على أن يكونَ هذا اليومُ، تعييناً، يوماً استثنائياً. هي تطلبُ، وأنا أستجيبُ، ولا أوجيها، ولا أخْذلُها قط أيضاً، لأنني، ببساطةٍ، رجلٌ محظوظٌ. ومزهواً كنتُ أدخلُ البابَ الرئيسي للإدراة صباحَ كلّ جمعةٍ، فيما العيونُ تنظرُ إلي من طرفٍ خفيٍّ. أعرف أن الكثيرَ منْ زملاء المهنةِ يغبطونني، ويحسدون، ويتخابرون بي، ويزَمرونَ بالحديثِ عني. لكنْ، ودونَ أن أكتَرِثَ بما يروجُ عنّي، ويُشاعُ، كنتُ أفتلُ نظراتي بالاتجاه الذي أقصدُه، وأمشي.
كالعادة، بارحتُ مقرّ الإدارة، مساء الخميس، مأهولاً بشوقٍ لا يوصفُ إلى امرأتي، التي لا أشكّ في أنها تنتظرني بمثل إحساسي أو يزيدُ عنه. كنتُ أدفعُ بنفسي على الأرصفةِ عبرَ تلك المشيةِ العسكرية الفارهةِ. أتَنَصّتُ إلى خطواتي الرهيفةِ، وهي تبتلعُ الأمتارَ تلْوَ الأمتار. رهيبٌ ذاك الزمنُ الذي يفصلُ بيني وبين حوْرائي. لو أستطيعُ فقط أن أطويهِ كجريدةٍ تحتَ جناحي، وأُحلّقَ به فوقَ السابلةِ والعربات. لو تقدّر لي أنْ أختارَ لصنَعْتُ لي خاتما سحرياً متى زايلتُ الإدارةَ أدرتُه في بنصري، فحملني الجنيّ الذي يسكنه، قبل أنْ يطْرَف لي جفنٌ، إلى الشقَّةِ، هناك في الطابق الخامس. لكنْ، هيهات، عليّ أن أقطعَ المسافةَ في عشرين دقيقة، على الأقلّ. أتخيّلُ حوْرائي، هذا المساءُ، وقد أعدّتْ ما يلزمُ، قاعدةً فوقَ الأريكةِ، تُرهِفُ السَّمْعَ لأدق حَركة منّي وزانَ الباب، لتقفزَ من موضعها إلى مرآة الدولاب، فتطري هيأتها، وتتمرى. وقبل أن أكونَ قد وضعتُ المفتاحَ في القفل تكونُ قدْ وسَّعَتْ بين ذراعيها لتعانقني، وأجزيها أنا بقبلةٍ. ثمّ أقولُ لها أنت البهيرةُ، وتقولُ لي أنتَ الغِرنيقُ.
وأنا أغذّ السير، أكشفُ، بين الفينة والأخرى، عن الساعة التي تسَوّرُ معصمي. الآن، لم يفضلْ سوى عشر دقائقَ، وأصلُ. وبمقدوري أن أبصرَ نوافذ الشقةِ. ثلاث نوافذ بالضبط. وتَراني أدندنُ بأنغامٍ لعلّها تسعفني على مُخاتلةِ الوقت الفاصل فيما أتصورُ حورائي خلف الزجاج تتطلعُ إلى قدومي البهيّ. أقولُ في سري: كمْ أنتَ محظوظ يا محمد. وأكررها لكمْ مرةٍ.
صرفتُ حزمةَ الدقائق المتبقيّات تلك كأنما كنت أجرشُ صخرةً من الغرانيت. وعندما بلغت العمارة زفرتُ زفرةً حرى كأنني أفكّ أنشوطةَ حبل يشد بمخنقي. وبدا لي المصعد، وهو يشق الطوابق الأربعة، مثلما لو كان يتسلق جبَلاً وعْراً. وأخيراً، ها أنذا إزاء الباب، ومنّي يرتجّ القلب، والجسد يتفصّد عرقا، فمن يصدق؟. وإنما منْ يصدق أنّ لا الحوراءَ وجدتُ بعتبة الباب، ولا الطيب فغّ بالشقةِ، ولا السماط مُدّ! لا شيء من هذا ولا ذاك. هو صمتٌ مطبقٌ فحسبُ، يرنق في فضاء الشقةِ. تَسمّرتُ في مكاني، لهنيهات، مشدوهاً، قبل أن أتدارك الموقف، فأهبّ أفتش عن امرأتي. كانت متشَبّحَة على السرير، في غرفة النوم، تنظر إلى السقف، غير آبهة بحضوري. ولعمري، فليس ذاكم ديدَنُها؟ !سألتُها إنْ كانت مريضةً، فهزت الرأس ذات اليمين، وذات الشمال، وسألتُها إنْ تجاوز عليها أحدُهم، وتجاسَر، ففرقعت باللسان داخل الفم المزمُوم مرّتين متتابعتيْن، ثم سألتُها إنْ كنتُ أنا المخطئ في حقها، وتماديتُ، فحركتْ رأسها إلى الفوق ثمّ إلى الأسفل. ولمّا استعلمتُها جلية الأمر، قامت نصف قومةٍ، واستلت منْ على الصوان صورةً لنجم سينمائي، وناولتني إياها، ثمّ أنشأتْ تحكي، فقالت إنّها وبينما كانتْ في سبيلها إلى مغادرة السوق، بعدما ابتاعت كفايتنا من المشتريات، إذا بها تمرّ على رجل طويل اللحية، منفوشها، يعتمر عمامة صفراء بقزّعَةِ من ريشة طاووس، ويشتمل بجبة فضفاضة خضراء، وصدار أحمرَ، مطرز الحواف بخيوط خضراءَ، ويحتذي بلغةً صفراءَ، فيما بسط قدامه سجادةً مزوقةً بضروب النبات والطير، وقد تناثرتْ على وسعتها تصاويرٌ لوجوه آدمية مليحةٍ، وناضرةٍ، وذات بشارة. وسمعَت الرجل ينطقُ بكلامٍ فارزٍ، ومدهشٍ، مفاده أنّه جاءَ في صحائف الأولينَ أن المرأة إذا لم تعد تستريح لصورة وجه رجلها، واشتهتْ له صورةً أحسن، أخذت له واحدة من هذه التصاوير، ثمنُ الصورة درهمٌ واحدٌ فقط، ثمّ دعتْ رجلها ليُرَكّبَها له، فيكون، بإذن الله، ما اشتهتْ، وتمنّتْ. وإذا ما أبى الرجلُ، وأحجَمَ عن الدخول في الصورة إياها، تمنّعَتْ عنه امرأتُه، وهجرتْ فراشه إلى حين ينصاعُ، ويستخذي لطلبها.
حكتْ امرأتي، فلمْ أحرْ جواباً. ثمّ إنها جرّت الملاءةَ عليها، وعوجّت إلى الناحية الأخرى، معرضة عني بظهرها، كأنما أنا قطعة من فولاذٍ. تلك الليلة، بتتُ حذاء حوْرائي، فيما لسانُ حالي يهتفُ: تبّاً لبائع التصاوير!
 

المراجع

رابطة أدباء الشام

التصانيف

ادب  قصص