ابن الجزّار

أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن علي بن أبي خالد، المعروف بابن الجزار، ولد بالقيروان، في عهد الأمير إبراهيم الثّاني الأغلبي في عائلة اشتهرت بالطب. يقول ابن أبي أصيبعة: "طبيب، ابن طبيب، وعمّه أبو بكر طبيب" وكان عمّه ممّن لقي إسحاق بن سليمان (الاسرائيلي) وصحبه وأخذ منه. يذكر أبو جعفر عمّه في كتابه "نصائح الأبرار" ويقول: "كان عمّنا عالما بالطبّ، حسن النّظر فيه" وينقل عنه الأدوية التي "عالج بها سادة من ذوي الأقدار العالية وأهل التّرف والنعمة، (من الفاطميّين)" فجرّبها، هو، فيما بعد وحمدها. وكان إسحاق بن سليمان قدم من مصر (سنة 292هـ / 905 م)، في عهد زيادة الله بن الأغلب، ولازمه أبو جعفر وتتلمذ له.

وممّا يجدر تأكيده أن ابن الجزّار سليل مدرسة القيروان الأصيلة التي أنشأها إسحاق بن عمران (بعد قدومه إلى القيروان سنة 264هـ / 878م); فلم يفارق إفريقيّة، ولم يتوجّه إلى الشرق قصد الحجّ أو بنيّة الاجتماع بأئمة الطب فيه، ولم يرحل أيضا إلى الأندلس، ولو أنه تاق إلى ذلك توقا، "وكان قد همّ بالرّحلة إليها ولم ينفّذ ذلك; وكان ذلك في دولة معدّ. بل إنّه لم يفارق القيروان إلاّ قليلا للمرابطة على بحر المنستير. ولماّ آنس أبو جعفر من نفسه حصوله على الملكة الكافية والدّربة المطلوبة اشتغل، بتشجيع من عمّه وإجازة من معلّميه، حسبما كان متعارفا في ذلك الوقت، بمعالجة المرضى وتدريس الطب.وكان ابن الجزّار من أهل الحفظ والتطلّع والدّراسة للطبّ وسائر العلوم. وقضى عمره في الدّرس والبحث والتجارب والعلاج والتعليم.

ويذكر سليمان بن حسّان المعروف بابن جلجل في كتابه "طبقات الأطباء والحكماء" أنّه "اتّخذ سقيفة داره أقعد فيها غلاما يسمّى برشيق وأمدّه بجميع المعجونات والأشربة والمراهم والأشياف وسائر المستحضرات، فيمرّ المرضى بهذا الغلام بعد زيارتهم للطبيب، حاملين منه إليه ورقة يصف فيها ما يناسبهم من الأدوية، فيعطيهم الدواء المشار به ويقبض الثمن". ويقول ياقوت الحموي: "وكان له معروف كثير، وأدوية يفرّقها على الفقراء، يوزّعها على المعوزين دون مقابل" احتسابا لوجه الله. ويروي ابن أبي أصيبعة عن ابن جلجل أن أبا جعفر عالج ابن القاضي النّعمان من مرض ألمّ به حتى برئ من علّته. فأرسل إليه القاضي كتابا شكره فيه "ومعه منديل بكسوة وثلاثمائة مثقال; فقرأ الكتاب وجاوبه شاكرا، ولم يقبض المال ولا الكسوة"، فلمّا لوحظ له في ذلك قال: "والله لا كان لرجال معدّ قبلي نعمة".هذا الخبر يدّل على استقلال ابن الجزّار وعزّة نفسه; (وقد يكون له مدلول آخر سنعود إليه). فلا يأخذ لأهل الدولة صلة ولا يركب إليهم مهنّئا ولا معزّيا. فأبو جعفر "لم يركب قطّ إلى أحد من رجال إفريقية ولا إلى سلطانهم، إلاّ إلى أبي طالب، عمّ معدّ، وكان له صديقا قديما، فكان يركب إليه يوم الجمعة لا غير". يقول ياقوت: "وكان صائنا لنفسه، منقبضا عن الملوك، ذا ثروة، ولم يكن يقصد أحدا إلى بيته". وكان الباعث لابن الجزّار أساسا حبّ الكشف والسّعي الدائب إلى الوقوف على عين الأدوية والأعشاب الموصوفة في كتب الأقدمين، منقّبا عنها في منابتها، معلما الناس بها حتى يعمّ الانتفاع بها ويتجنّب المريض الخلط بينها.وتجمّع لديه من أمّهات الكتب وعيون المصادر العدد الكثير. "ووجد له خمسة وعشرون قنطارا من كتب طبيّة وغيرها".

واتّسم ابن الجزّار بصفات العالم الحقّ، المتواضع، معترفا بما يدين به من فضل الأطباء الأوائل الأقدمين وأعمال المحدثين، ويعزو كل نقل ينقله إلى قائله ويصدّر كتبه بمثل هذا القول: "ألّفت كتابا جمعت فيه عيون ما ذكره أفاضل الأطباء من مكنون علمهم وصحيح تجربتهم ومحصل سرّهم في طريق مداواة الأدواء.... الخ" أو "أدوية جمعتها من كتب جالينوس وديوسقوريدوس وبولص وغيرهم من أفاضل الأطباء، وهذا ما يقتدى به". ففي كتاب المعدة وأمراضها ومداواتها نراه يعتمد خاصة على جالينوس 37 مرّة، منها 11 على كتاب (العلل والأمراض) والمقالة السابعة من (حيلة البرء) و(مداواة الأسقام) و(الصنعة الصغيرة) وكتاب (أبيديميا) و(الفصد) و(الأعضاء الألمة) و(رسالة أغلوقن) وعلى أبقراط 5 مرات (ك.الفصول) و(ك. التفضيل) و(ك. أبيديميا) وعلى فولوبس، تلميذ أبقراط مرتين (ك. تدبير الأصحّاء) وروفس واسقلبيادس. كذلك يفعل بالمحدثين: يحيى بن ماسويه (3 مرّات عند ذكر آرائه) وأكثر من 14 مرّة عند نقل الأدوية التي ألّفها وإسحاق بن عمران (ص 161، ص 197) وفي زاد المسافر (ص 70، 75، 76) وعمّه محمد بن أحمد المتطبّب (ص 180، 183).وينقل مرّتين عن مصدر هندي (ص 128 - 155).

ولم يكن نقل ابن الجزّار نقلا مجرّدا، بل هو ينقد دوما ما ينقل ويعلق عليه بالحمد بعد اختياره وتجربته، أو بالتّحفظ في شأنه فيقول (ص 104): "وهذا الذي قال جالينوس يحتمل النّظر والقياس وإليه يميل عامّة حذّاق الأطباء والفلاسفة". أو (ص 63): "يؤخذ على التّحفظ، فإنّه نافع سريع النّجح" ويضيف الكثير من الأدوية التي ألفها هو ذاته وجرّبها وحمدها: (جوار شنات وحبوب وأشربة) فيقول: "هذا ألّفته ولطّفت تركيبه ممّا يصلح أن يستعمله الملوك والسّادة الأشراف" و"قد عرفنا فضله وبيّنا نجاحه". وينبّه أيضا على كل دواء وقع فيه وهم أو غلط لمتقدّم أو متأخر لاعتماد الكثير على الصّحف والنّقل، واعتماده، هو، على التجربة والمشاهدة ويذكر موضع الغلط والاشتباه الذي وقع لبعضهم في نعته. ونشير هنا إلى الأهميّة الفائقة التي كانت لكتاب "الاعتماد في الأدوية المفردة"، من النّاحية اللغويّة وما وقف عليه ابن الجزّار من مواطن النّقص في الأدوية التي ألقاها ديوسقوريدوس وجالينوس "فالكثير منها مجهول غير معروف في اللّسان العربي وكثير منها معدوم غير موجود"، فهذا ما لاحظ ابن الجزّار عند تأليفه للاعتماد قبل سنة 334هـ / 945م التي روجع فيها كتاب ديوسقوريدوس في عهد عبد الرحمان الناصر بقرطبة.


المراجع

mawhopon.net

التصانيف

علماء ومخترعين عرب   العلوم الاجتماعية   الطب