كذبتان
قادتني قدماي - دون أن تنبئاني - نحو بيت العرافة, التي ما كنت قد أجدت تعريفها, أو قد قرأت تفاصيلها, رغم أني قد سمعت عنوانها بحروف كبيرة. ولم تكن قد حملتني رجلاي يوما إلى عتبة بابها أو طرقتْ أذنيّ أبواقُ روادها, أو حتى تقاطع طريقانا في نقطة أذكرها , لكن الخيار قد وقع ربما لقلة البحث أو الحصول على حلول أخرى . قلت :
ـ لأستعرض هذا الرأي , فلا ربح ولا خسارة في مسافة الطريق سوى الزمن وأنا لم أضعه في حساباتي أو كنت قد قطعته ووزعته بانتظام في فوضى انتقالاتي, بل كنت أتركه يأخذ انسيابية الجريان ولا أحقق النظر باتجاهاته .فكم مرة جربت الانتقال خارج النقاط المؤشرة لي فلم أر إلاّ الأيام تمشي لكن على حساب رقاص ساعتي الذي لا يكافأ إلاّ بالطرقات على رأسه كل رأس ساعة وأنا أصهر فيها كل قواي مجدا لأرتقي فيضحكني القدر بأني أعود لنقطتي .
فُتِحَ الباب بهدوء . كانت ثلاثينية مليحة لم ينضب شبابها بعد . ابتسامة تستفهمني تفاصيلها, فيها من السحر ما يجذبني بخشية, بل ويرهقني فوق المستوى الذي كان يملأني , لكن هنالك وميض أمل يتسلل في عروقي يكسبني خدرا لذيذا ينعش مخيلتي يجعلني أجلس أمامها هادئا في محراب ميدانها دون اهتزاز,وقد أحسست بخيوط سكر تتسرب من غديرَيِْ عسل تحت جفنيها الراقصتين ترطب لساني ليتكلم:
ـ غريق يطلب المساعدة ..
بعثرت سبع حصوات أمامي على طبق دائري صنع من خوص النخيل , فتركتُ جسمي الذي كان يقابلها بالجلوس لأجلس عند حافة ذلك الطبق الذي اتسعت مساحاته خارج حدود النظر واللمس, وأهمس مع نفسي التي تبعتني لتلاصقني بالجلوس, فتجيبني بالانتظار, وقد وضعتُ تحت الطبق لفة أوراق نقدية طلبتها مني .
قالت بفزع وقد اهتزت لكلماتها التي أخرجتها من قاع جلوسها لتمر عبر كل أعضائها فتحدث أزيزا يسكب في أذنيّ بتركيز لزج يشد بكل أجزائي لها التي تنتظر كمن يترقب نتائج التحقيق التي ستبت وتحدد عندها مجريات كثيرة جئت أسأل عنها :
ـ أنظر .. هذا أنت .. تبحث , ومتجه في فراغ .. مضل الطريق , الحياة كلها حولك .. أنظر بتركيز عميق .. أصهر خيوط بصرك هنا .. هنا في هذه المساحة, واقطع اتصالها بكل شيء وحاول أن تفقد الإحساس بالذاكرة وما يحيط بك .
.. وفعلا فقدت الإحساس التي كانت مجساته تصعقها شحنات غريبة لأرخي يديّ مسالما أمامها ، وتذوب نفسي هنا في هذا المكان الشاسع بين الحصوات المبعثرة . رأيتها تومئ لي فأهرول وراءها , وذاكرتي التي تركتها ورائي تتبع أثري باستحياء , كأنني أرمقها وقد أنهكتها التواءات وتشابك المسافات التي ضاعت قياساتها لكن صوتا مدويا يقول لي :
ـ .. أتركها , لا تلتفت لها .. أنظر إلى ذاك البريق المضيء أمامك وحاول أن تركض إليه بكل طاقتك لتصل إلى حقيقتك التي تبحث عنها .
.. كانت تجذبني إلى عمق ينحدر بقوة إلى سحر رهيب يصعب عليّ فتح رموزه أو قراءة ترجمته. أفهمه في الإجمال , فتقيد يديّ خارج مساحات الرؤية المتعارف عليها عند حدقات العيون ..
.. ذهلت لهذا العالم الغريب , لكنني كنت مستهجنا من أن الذي أهرول إليه يبتعد عني , والذي أبتعد عنه يهرول إليّ , وأنا أعرف إن توقفت سأغرق تحت أمواج تلاحقني كحيتان جائعة , لكنني ارتجفت حينما رجعت من عالمي الذي كانت تقلبه بين يديها , سمعتها تقول : إنك تحتاج إلى جلسات أخرى
.
.. رجعت لها ثانية وثالثة ..
كانت تقابلني في الجلوس , أو تبتعد عني قليلا , ترسل إليّ إشارات أستجيب لها دون أن أعرف لغة الخطاب, لكن في هذه المرة انتبهت لها : ومضات من عينيها تحيد بها على صدرها وتعكسها إلى عينيّ , وفخذها قد ضغط على فخذي فتنبهت لكلماتها المعسولة , وجسدها الذي يميل نحوي.
راجعت نفسي وأنا أجلس في البيت بحضور عقلي لأترجم جولاتها , وهي تضغطني في تلك المساحة الضيقة . حاولت هنا أن أربط علاقتي مع طبق الخوص وكلماتها بالرجوع إلى ذاكرتي التي كنت أفقدها هناك مع حضورها , فقررت أن أبحث عن نفسي عندها ..
قلت : لأبحث عن سر اختراعاتها في حصاها عن طريق فخذها في الجلسة التالية , وأنا لازلت أغوص مصدقا بكلماتها الساحرة كلما جلست في محرابها.
لم تنتظر بوادر اندفاعي , فتحت أبوابها بمصراعيها , وأنبأتني أن تلك الحصاة التي تنقذك هذه الملازمة لك , وهي تشير بإصبعها وتضغط عليّ بفخذها . فمددت يدي , ووضعت حصاتي تحت حصاتها , فابتسمت وكأن جيشها وكتائبها التي كانت تقيد يديّ بهما أعلنا الاستسلام, لأحرر يدي وأشترط عليها أن تعلمني سر مهنتها, امتنعت , فأبيت , فراوغت . فلم أستثن ِ , فوافقت .. بلهاء لم تدرك العاقبة .
قالت : أحاول بذكاء وحركات رشيقة أن أذيبك وأمزجك معي , فننصهر معا بقالب كذب , أدركت أم لم تدرك فإنك لا تنساب من المائع الكثيف الذي احتويته بيدي , وغلفته بمتانة همومك ومتاعبك, فداعبتك مسالما , وجعلت من أكذوبتي حقيقة واثقة , أتعبتك في ملاحظتها , فترسخت ثابتة يصعب عليك إلغاؤها , وتنبهت لها بعد أن ابتعدت عنك كثيرا , فاضطرب التمييز , والتشخيص والمقارنة فقدتا مقوماتها , والملاحظة الآنية صعبة لجميع النقاط ..
.. انسحبت منها وعيناي تنظران بعيدا .. تبحثان عن حل لغز الكذبة الثانية ..
علي موسى حسين
المراجع
alnoor
التصانيف
ادب قصص