في هذه القصيدة يلجأ مطران كدأبه في قصص آخر، إلى الإشارة والرمز، والرمز قد يكون أدل وأقوى من التصريح، فللشاعر رأي في الحكم الفردي المطلق، أشرنا إليه، ويتلخص في أن هذا النوع من الزعامات يجر على الناس أفدح الجنايات، وأشنع المغارم.

 ويرى مطران أيضًا أن الشعب بالسلبية والرضوخ يهيئ السبيل للحاكم أن يكون فردي النزعة، وحشي الضمير، ويجد الشاعر في التاريخ القديم ما يدين التاريخ الحديث، ويشير إليه بإصبع الاتهام كأنه يردد القول السائر "ما أشبه الليلة بالبارحة".

 والشاعر في هذا الرمز أو هذه التعريض كانت تلح عليه هذه الفكرة حتى رق ثوب الرمز، فكاد يشف ما تحته، ويذهب كثير من النقاد أنه يشير بكسرى إلى عبد الحميد، ويقصد ببزرجمهر مدحت باشا وزير عبد الحميد، أما أمة الفرس فيعني بها أمة الأتراك، ومن عاشوا تحت حكم الدولة العثمانية.

 بل إن الشاعر في تقديمه للقصيدة يكاد يغلب جانب التصريح على جانب التلميح فيقول: "اشتهر كسرى بالعدل، وكان بلا نزاع أعدل ما يكون الملك المطلق اليد، في أحكام بلاده، فإن كان ما وصفناه في هذه القصيدة من جنايات مثله في العادلين فما حال الملوك الظالمين؟".

 ومدحت باشا (1822 ـ 1883م) تولى وزارة العدل في عهد السلطان عبد العزيز، ويقال إن نزعته الديمقراطية، وجرأته في الإصلاح، وشغفه بالشورى، كل أولئك دفعه أن يكتب للسلطان كتابًا شديد اللهجة، يصفه فيه بسوء السياسة، ويصور اختلال الإدارة , ويدعو إلى احترام القوانين , فعزله السلطان، وبعد أن أطاح الانقلابيون بعبد العزيز، وتولى عبد الحميد الحكم، ولي مدحت صدارة الدولة، ولكنه تخوف منه , فنفاه خارج تركيا، ثم أعاده واليًا على سوريا، ثم أزمير، ويقال إن الولايات التي تولى أمرها وهي العراق، وسالونيك، والشام، وأزمير، تمتعت في عهده بالحرية، والشورى، والازدهار.

 ثم كانت مأساته بعد موت أو مقتل عبد العزيز بخمس سنوات، إذ قبض عليه، ونقل إلى الأستانة، لمحاكمته بتهمة المشاركة في مقتل الخليفة السابق، وانتهى الأمر بمدحت أن قتل في السجن خنقًا.

 تلك كانت قصة مدحت , فما قصة بزرمجهر؟

غضب كسرى على وزيره بزرجمهر فحكم عليه بالموت، وفي يوم تنفيذ الحكم هب الناس من كل صوب وحدب , ليشهدوا مقتل المصلح العظيم، لقد أتوا يلبون النداء عجالاً:

متألبين  ليشهدوا  موت الذي         أحيى  البلاد  عدالة ونوالاً

يبدون بشرًا والنفوس كظيمة         يجفلن بين ضلوعهم إجفالاً

ويلوح كسرى للناس بمهابته ومظهره وجلاله، ويستوي على عرشه، وقد أجلس دونه قواده وأقياله، ويؤتى بالوزير يسوقه جلاده الذي أخذ ينادي هل من شافع للوزير؟ فيأتيه الجواب: لا، لا.

وأدار كسرى في الجماعة طرفه
تـسبي محاسنها القلوب iiوتنثني
بـنـت الوزير أتت لتشهد قتله


فـرأى فـتـاة كالصباح iiجمالا
عـنـها  عيون الناظرين كلالا
وتـرى السفاه من الرشاد iiمدالا

 فيعجب كسرى لهذه الفتاة التي جاءت تشق الصفوف سافرة الوجه، وقد كان ذلك عند الفرس عارًا وأي عار، فيرسل إليها من يسألها عن سبب سفورها فيأتي جوابها، حكمًا صارمًا يدين الحاكم المستبد، والشعب الخانع المستسلم، الذي تجرد من رجولته وغدا رسومًا وظلالاً.

ما كانت الحسناء ترفع سترها        لو أن في هذي الجموع رجالا

ومن هذا العرض الموجز يظهر لنا، أن مطران انطلق من واقعة لا تشغل حيزًا واسعًا من سجل التاريخ، ليبسط من خلالها فكره وآراءه.

فنحن أمام قصة من قصص الفكرة، الفكرة هنا هي بطل القصة إن صح ها التعبير، والأحداث، والوقائع تأتي في المرتبة الثانية، أما الشخصيات فسبقت مساق العنصر التابع لا العنصر المتبوع: أي أن الوقائع والأحداث هنا تتخلى عن مكانها لفكر غني، وقيم يفرض نفسه فرضًا، والوقائع والأحداث هنا كالمرآة العاكسة، تستمد قيمتها من قدرتها على العكس والإظهار لا من الوجود والظهور، والشاعر وهو يحرص على خلق التفاعل بين الشخصيات، والأحداث ويتلزم الدقة في رسم ملامحها، إنما يهدف من ذلك أساسًا إلى جذب القارئ لما يراه من آراء ومعتقدات، وقيم ألح عليها بالتكرار الكثيف.

وقد اهتم مطران هتمامًا خاصًا بإبراز شخصية الا/ة، فأطال الحديث عنها أكثر من كسرى ووزيره، اتساقًا مع الفكر الذي حرص على إبرازه: فلأمة هنا تقوم بدور "فاعل" أما الحاكم فيقوم بدور "قابل" وإيجابية الأمة هنا إيجابية فكرة؛ لأنها تتعارض مع طبيعة الرجال، فلو أنها انسحبت ولم تواجه الحاكم المستبد، والتزمت الصمت تجاه مالمه لقلنا أنها أمة "سلبية" ولكنها تتخطى هذه الدائرة لتؤدي دورًا ناشطًا وإيجابيًا فتخلق هذا الحاكم خلقًا، وتغرس له الطريق بماء وجوهها، وأشلاء كرامتها، راضية مرضية، تسجدك وتؤلهه، وتضؤك في مواجهته، وتستقبل فعاله بوجوهها، وتطرى جرائمه ورذائله، وتتخلى عن زعمائها المخلصين المصلحين في الشدادئ، إنها أمة من السخال أو النعاج، أو أشباه الرجال فلا عجب إذن أن تكون كما قال الشاعر:

ما كان كسرى إذ طغى في قومه         إلا    لما    خلقوا    به   فعالا

هم   حكموه     فاستبد   تحكمًا          وهمو أرادوا أن يصول فصالا

ولكن ما جرثومة الداء؟ وما أساس البلاء؟ وما سبب هذه الإرادة الشاذة الممسوخة؟ إنه الجهل:

 والجهل داء قد تقادم عهده         في العالمين ولا يزال عضالا

والجهل هنا يسيطر بمفهومه الواسع البشع المرذول الذي ينحط بالإنسان إلى درك ينكر فيه آدميته، وحقه في أن يعيش كإنسان، ومن هنا يحدث الاختلال الذاتي فنكون أمام "الفرد الشاذ" الذي لا يتسق مع نفسه، ولا يمكن أن يكون خلية أو نواة لمجتمع نظيف سليم.

والجهل يتحول إلى لون من التدمير يؤدي بالأمة إلى الخراب، فلا عجب أن يصمم الشاعر الأمة الجاهلة بأحط الصفات التي تهبط بها إلى مرتبة الحيوان الأعجم، فيصرخ في وجه هذه الأمة الجوفاء المنكوسة:

عبادَ كسرى ما نحيه نفوسَكم          ورقابكم والعرضَ والأموالا

تستـقبلون نعـاله بوجوهكم          وتعـفرون أذلـة أَوْكـالا

ويصرخ في وجه الطاغية صرخة الناقم الثائر:

إن تستطع فاشرب من الدم خمرة
واذبـح ودمر واستبح iiأعراضهم
فـلأنت كسرى ما ترى iiتحريمه
ولـيـذكرن  الدهر عدلك iiباهرًا
لـو  كـان في هذه النعاج مقاوم
لـكـن أرادت مـا تريد iiمطيعة





واجـعـل  جماجم عابديك iiنعالا
وامـلأ بـلادهـم أسـى iiونكالا
كـان الـحـرام وما تحل iiحلالا
ولـتـحـمـدن خـلائقا iiوفعالا
لـك  لم تجيء ما جئته iiاستفحالا
وتـنـاولت  منك الأذى iiإفضالا

مطران وحقائق التاريخ:

بعد ذلك يحق لنا أن نسأل هذا السؤال: إلى أي مدى التزم مطران حقائق التاريخ في مقتل بزرجمهر؟

 القصيدة كما رأينا لا تحكي سيرة الوزير من أولها، ولكنها تبرز مأساة قتله ظلمًا، وعدوانًا، ومن خلال هذه المأساة بث الخليل أفكاره السياسية، والاجتماعية، والإنسانية، وهي في مجموعها تندد بالظلم، والطغيان، والخلل، والخنوع، والاستسلام.

 وتاريخ الوزير الفارسي لا ينتهي بمقتله كما ذهب الخليل: فقد عاش بزرجمهر وزيرًا لأنوشروان، وحكيمًا مخلصًا واسع الأفق، يرجع إليه كسرى في عظائم الأمور.

 وقد ذكر الفردوسي في الشاهنامة، أن أنوشروان غضب عليه بعد رحلة صيد "فأمر بأن يمنع بزرجمهر من الخروج من قصره، وجعله سجنًا عليه، ووكل به فيه"، وهو ما نسميه حديثا بتحديد الإقامة، أو الإقامة الجبرية.

 وزاد غضب الملك عليه بسبب كلام نقل إليه عن طريق قريب للوزير "فتنمر واحتدم من الغيظ، وأمر به فحبس في تنور من الحديد، ومسمر في باطنه، بمسامير محددة، فبقي على حالته هذه نابي الجنب، كاسف الحال مدة أخرى " .

 ثم رضي عنه الملك بعد أن "فزع من صرف الزمان وريبه، فأمر به فأخرج من محبسه، وأعيد إلى قصره، ولم يزل على حاله، إلى أن دارت عليه أدوار من الدهر، فكف بصره، وضعف جسمه" .

 فبزرجمهر لم يمت قتيلاً بيد كسرى، كما ذهب مطران، وبذلك يكون مطران قد خالف واقعًا تاريخيًا معروفًا، وهذه المخالفة من مطران تثير قضية نقدية وهي: هل يحق للأديب أن يخالف التاريخ؟ وإذا كان له الحق، فما نطاقه؟ وما مداه؟ والقضية ليست جديدة على النقد، فقد أثيرت مرات عديدة، وخاصة بعد أن نظم شوقي مسرحيته "مصرع كليوباترة " ويصور فيها شخصية الملكة بصورة الوطنية المخلصة، والتي عاشت لمصر، ورصدت كل حياتها من أجلها، بل جعل غدرها بحبيبها أنطونيو وانسحابها من موقعة أكيتوما من أجل مصر وسيادتها على البحر الأبيض بعد أن يتفانى المتنازعون.

 وكل هذه الملامح تخالف ما رواه التاريخ عن شخصية الملكة التي كانت عربيدة متهتكة، منهومة بملاذ الجنس، مشغولة بنفسها أولاً وأخيرًا.

 ويدلي أستاذنا الدكتور شوقي ضيف برأيه في هذه القضية، فيرى أن "من حق الشاعر أن يفسر التاريخ تفسيرًا جديدًا، ما دام هذا التفسير لا يصطدم، بحقائقه الكبرى، وما دام لا يخرج عن إمكانيات الوقائع التاريخية".

 وإلى هنا نوافق أستاذنا الدكتور فيما ذهب إليه، ولكنه يرى بعد ذلك أن شوقي "أراد أن يبرر في مسرحيته بعض مواقف الملكة المصرية , فاضطر إلى التحريف في بعض الحوادث حتى يصل إلى غايته، وهنا نتساءل: هل من حقه أن يحرف في بعض الحوادث التاريخية؟ ومن رأينا أن هذا من حقه ما دام يبتغي غاية وطنية بمسرحيته، وليست المسرحيات مصدرًا من مصادر التاريخ، بل هي قصص يأخذ من التاريخ، ويحرف فيه حسب ما يريد الشاعر، ولن يتغير تاريخ كليوباترا؛ لأن شوقي قال كذا أو قالكذا، أو صورها بهذه الصورة، أو تلك، وإنما يظل التاريخ كما هو، وتظل مسرحيته كما هي، فذلك تاريخ، وتلك قصص.

 وحقًّا إن شكسبير لم يحاول في مسرحيته أن يخالف بين القصص والتاريخ، ولكن شكسبير ليس مصريًًا، وظروفه تختلف عن ظروف شوقي اختلافًا تامًا، فشوقي قد ألف هذه المسرحية بعد الحرب الكبرى، وبعد اندلاع الثورة المصرية، فكان طبيعيًا أن يفكر في هذه الملكة المصرية، وأن لا يقدمها للجماهير مثلاً سيئًا لتضييع حقوق البلاد، بل لتضييع البلاد نفسها، وإنما يقدمها وطنية محبة للوطن المصري، تحيي له ولعرشه , ولذلك فهو يروي على لسانها قولها:

 أموتُ كما حييتُ لعرش مصرٍ         وأبذل دونه عرشَ الجمالِ

 وأمام ما أورده د.شوقي ضيف نجد أنفسنا بين رأيين له أو رأي واحد من شقين:

الأول: أن من حق الشاعر أن يفسر التاريخ تفسيرًا جديدًا، وهو رأي نقره عليه ـ كما ألمحنا ـ لأن التفسير في ذاته عملية كاشفة فهو لا يتضمن مخالفة ولا تحريفًا يخرجه عن الخط التاريخي، ويصطدم بحقائق التاريخ الثابتة، بإجراء تغيير وتبديل.

الثاني: أن من حق الشاعر أن يحرف بعض الحقائق التاريخية، ما دام يرمي بتحريفه هذا إلى تحقيق غاية رفيعة سامية، فالغاية هنا تبرر الوسيلة.

أما رأينا فيما ذهب إليه د. ضيف، وما ذهب إليه الشاعر أحمد شوقي فيتلخص فيما يأتي:

1ـ إطلاق يد الشاعر ـ كائنًا من كان ـ وإعطاؤه حقًّا مطلقًا في تحريف حقائق التاريخ يترتب عليه أن يتحول هذا التحريف بالتدريج، إلى عملية مسخ وتشويه لوقائع التاريخ الثابتة، أيسر ما يقال عنها أنها تتعارض مع طبيعة العمل الفني الذي يحترم التراث البشري، والمعارف الإنسانية التي يمثل التاريخ مصدرًا مقدسًا من مصادرها.

2ـ ما صنعه أحمد شوقي في "مصرع كليوباترا" لم يكن تحريفًا جزئيًا في وقائع ثانوية، ولكنه كان عملية تحريف كلية لا تتسق في أي جانب من جوانبها مع ما رواه التاريخ عن هذه الشخصية، حتى ليشعر القارئ أنه أمام شخصية غير تلك الي حفظ التاريخ سيرتها.

3ـ وإذا كانت المسرحيات لا تمثل مصدرًا من مصادر التاريخ يزيد به التاريخ رافدًا من روافده، فإن الوطنية المصرية لا تكتسب جديدًا، ولا تزيد حرارتها طاقة بتصوير كليوباترا بصورة ملكة وطنية، محبة للوطن المصري تحيي له ولعرشه.

 والمسرحية المذكورة لم تعمق المفهوم الوطني، ولم تثر حماسة الشباب المصري في تلك الفترة من الكفاح المصري، كما فعل غيرها من الشعر الوطني، بل على العكس لو أن شوقي التزم الخط التاريخي وقدمها مثلاً سيئًا لتضييع حقوق البلاد، بل لتضييع البلاد نفسها، وعمق هذه الحقيقة لخدم التاريخ وخدم الفن، وخدم القيم الأخلاقية في آن واحد، وذلك ببيان أن الاستهتار والعربدة، والتمزق الخلقي معان تهوي بالأمة إلى الخراب، وأن الهزيمة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بانحراف الحاكم، فتؤمن الجماهير بالقيادات الطاهرة النبيلة وتكفر بما عداها من القيادات الدعية المنحرفة.

وإذا كانت داعية الوطنية هي التي دفعت (شوقي) لهذا التحريف فإن تاريخنا المصري القديم لم يخل من نماذج وطنية نبيلة للشخصيات المصرية الصميمة التي قادت الأمة للنصر مثل شخصية "أحمسط الذي طرد الهكسوس وكسر شوكتهم.

وربما كان قرب شوقي من البلاد ومكانته في القصر ـ لا الوطنية المصرية ـ هي التي دفعته إلى أن يحاول الدفاع عن الملوك عامة ويبرر أخطاءهم.

4ـ وكون شكسبير ليس مصريًا، واختلاف ظروفه عن ظروف شوقي، لم يكن هو الذي دفع الأول إلى التزام حقائق التاريخ، ولا يعطي شوقي الحق في مخالفة هذا التاريخ، كما أن المسرح الأيرلندي الفذ لم يكن أقل وطنية وإخلاصًا لأمته عن المسرح المصري.

5ـ وقد ذكر د. شوقي في مكان آخر من كتابه بأن ما فعله شوقي لم يكن مجرد تحريف لبعض الحوادث، فقال إن شوقي "صاغ كليوباترا صياغة يأباها التاريخ: صاغها لا مستهترة أو قل بغيا ترتمي عند أقدام قواد الرومان، بل وطنية محبة لوطنها، وكأنها تريد أن تظفر بروما عن طريق المكر والخداع، بعد أن أعياها الظفر بها عن طريق القوة والبأس".

 والتاريخ يصور كليوباترا كما يقول د. ضيف: "صورة حية رقطاء بهيمية اللذة والشهوات، تدفع جسدها رخيصًا إلى كل صاحب مجد، أو شرف رفيع".

 فالتحريف الذي وقع على يد شوقي ـ وهو تحريف كلي وليس جزئيًا ـ كان جناية على التاريخ، وهي جناية لم تخدم الفن، ولم تخدم القيم التي حرص عليها أمير الشعراء.

وخلاصة ما نراه في هذه القضية:

أن من حق الأديب ـ وليكن هو الشاعر القاص أو الممثل في هذا المقام ـ أن يفسر التاريخ تفسيرًا جديدًا، تظهر فيه شخصيته، وتبرز به ذاتيته، وهذا الحق في التفسير، يجب أن يكون مقيدًا بالقيدين الآتيين:

1ـ التزام الحقائق التاريخية الموجودة فعلاً، دون إضافة لوقائع جديدة، أو شخصيات أخرى لا وجود لها، في واقع هذا التاريخ , فالمسألة هنا لا تعدو كونها تبريرًا أو تعليلاً لموجود جاهز.

2ـ عدم الاصطدام في هذا التفسير بالمسلمات العقلية، أو السنن الكونية، وإلا اعتبر هذا التفسير لونًا من ألوان العبث، والضياع، والتزييف.

ومجال هذا التفسير حقاءئق التاريخ المبهمة، وشخصياته الغامضة، التي يمكن أن يعمل الخيال في تبريرها وتفسيرها، وكشف خفاياها، بإبداع وحرية وانطلاق.

 هذا فيما يتعلق بمجرد التفسير، أما فيما يتعلق بحق الشاعر في مخالفة حقائق التاريخ، فيجب أن تكون هذه المخالفة مقيدة بقيود أشد صلابة حتى تمنع الشاعر من الانفلات، فينقلب عمله إلى مسخ وتشويه وتدمير، وهذه القيود هي:

1ـ أن تكون هذه المخالفة ضرورية لخدمة المضمون الموضوعي، والعمل الفني، بحيث تكون هذه المخالفة عنصرًا من عناصر الجمال والإبداع.

2ـ وحتى على الاعتبار السابق يجب أن يكون المخالفة جزئية وثانوية، لا في الجوهر الأساسي، سواء أكان الأمر يتعلق بالوقائع، أم الشخصيات.

 وليس من المستساغ أن تصور شخصية بصورة الشجاعة، والأريحية، والمروءة والإنسانية، إذا كان تاريخها يقول: إنها مثال للخسة والشذوذ، والوحشية.

 وليس من حق الشاعر أن يقلب انتصارًا سجله جيش في معركة إلى هزيمة نكراء.. الخ؛ لأن التاريخ يحفظ حقائق الحياة الماضية، والشعر لم يخلق لهدم هذه الحقائق بل للاستقاء منها، وعرضها في صورة جمالية حية فيها فن وفيها إشراق.

 والقيد الثاني يسمح للشاعر أن يضيف شخصيات، ووقائع ثانوية يتطلبها العمل الفني، كما لا يمنعه من عملية التنسيق، والربط، والتفنن في العرض، وإلا تحول الشعر إلى نظم بارد ميت.

 **********

 وبعد هذا العرض الذي طال بعض الشيء، أصبح من الواضح أن مطران جار بالمخالفة على واقع تاريخي ثابت حين أنهى حياة بزرجمهر بسيف الجلاد، وليس ذلك من قبيل الوقائع الثانوية التافهة.

 ولا يدافع عن مطران بأنه أراد بهذه النهاية المأساوية ـ التي لم تحدث في الواقع ـ أن يبين فداحة الجناية التي جرها الحاكم المستبد على وزيره الناصح الأمين، ومدى تفريط الأمة الخانعة المستسلمة في أبنائها الأبرار، فقد كان من الممكن أن يصور شريحة أخرى من حياة الوزير وصولاً إلى نفس الغرض ـ وهي محنته في السجن حين ألقى به كسرى ـ كما يروي الفردوسي ـ في تنور من حديد مسمر في باطنه بمسامير محددة، وكان من الممكن أن يعمق الشاعر أبعاد هذه المحنة في هذا السجن البشع الذي عاش فيه الوزير على حال أهون بكثير منها الموت بسيف الجلاد.

القيم الفكرية والخصال الإنسانية:

لم يكن مطران بقصصه الشعري يهدف إلى خدمة الفن بقدر ما كان يهدف إلى خدمة القيمة الإنسانية والاجتماعية، وهذه الهادفية كان لها مكانها الواضح وحضورها القوى في عشرات القصص التي تناثرت في ديوانه بأجزائه الأربعة، وبخاصة جزؤه الأول، وقد ترك مطران وطنه الحبيب لبنان بعد أن تعرض لمحاولة اغتيال نتيجة لآراء جريئة لم تعجب الأتراك الذين كانوا يسيطرون على أرجاء الشام، فسافر إلى فرنسا، وكاد يهاجر إلى شيلي، ولكنه غير رأيه فكانت مصر مثواه الذي عاش فيه قرابة نصف قرن.

 وحرصًا على مشاعر المصريين والمسلمين منهم بخاصة، وقد كانوا يتعاطفون مع الخلافة العثمانية، وكلون من ألوان التقية، وحرصًا على السلامة والاستقرار الشخصيين، لجأ خليل مطران إلى قالب القصة يبثه أفكاره السياسية، والاجتماعية، وينفث على ألسنة شخصياتها ما يراه من آراء، وهو في كل أولئك آمن على نفسه، فالقصص هي الجنس الأدبي الوحيد الذي يتسع لفكره دون أن يخشى أي أذى.

وفي قصة مقتل بزرْجمُهْر نلتقي بالقيم الآتية:

1ـ الجهل مرض عضال، وسبب أساسي من أسباب الضياع الاجتماعي، واستبداد الحكام بالرعية، فلولا جهل الأمة ما استطاع الحاكم أن يطأها ويستهين بها ويدوس كرامتها.

2ـ الظلم رذيلة الرذائل وشر الشرور، فالظالم يستبيح نفوس الناس وأعراضهم، وأموالهم، ويستهين بكرامتهم ومقدراتهم، ومع ذلك هو شر الناس وأعقهم في معاملة الأمة.

3ـ الأمة مسئولة عن فساد حكامها، وتسلطهم، واستبدادهم؛ لأن الحاكم ـ أي حاكم ـ يستمرئ الظلم، والطغيان، إذا وجد الأمة خانعة مستسلمة، لا تغضب لكرامتها، ولا تثور لعزتها حتى كأنها ترى من الضيم ألا تضام، وكان مطران يلح على هذه المعاني كثيرًا، وفي قصصه الشعري بخاصة، ففي ملحمة نيرون مثلاً يقول في الجهل:

لاسقاك الغيثُ يا  جهل  فكم             سًقيَـتْ في كأسك الأقوامُ مرا

أنت أغريتَ بظلمك كل ذي             صـولة  غير مبالٍ أن  يقرا

وعن مسئولية الشعب عن ظلم ظالمه يقول في النيرونية:

ذلك الشعب الذي آتاه نصرا        هو بالسًّـبة من نيرونَ أحرى

 وهو يختم النيرونية بخاتمة كالافتتاح صارخة جهورية، تدين الأمة وتبرز مسئوليتها عن خلق الطاغية، وذلك هو المغزى الموضوعي الذي يحرص الشاعر على إقناعنا به:

مـن يـلـم نـيـرون؟ إنـي iiلائم
أمـة  لـو نـاهـضـتـه iiسـاعة
فـاز بـالأولـى عـلـيـهـا iiوله
كـل قـوم خـالـقـو iiنـيـرونهم




أمـة لـو كـهـرتـه اتـرد iiكهرا
لانتهى عنها وشيكا واثبجرا (تراجع)
دونـهـا  مـعـذرة التاريخ iiأحرى
قـيـصـر قـيل له أو قيل iiكسرى

الخيال والصور:

يعتبر خليل مطران رائد الرومانسية في العصر الحديث، وكانت قصيدته المساء التي نظمها سنة 1902م، أول عمل رومانسي ناضج في الأدب العربي كله , حيث نقلت الخيال العربي من حسية التسجيل والتصوير المباشر إلى الخيال المحلق الذي يجعل من الواصف والموصوف شيئًا واحدًا , ويعطي الموصوف نبضًا وأحاسيس ومشاعر.

 يقول د. مندور في كتابه القيم عن مطران ص 33:

إ"إن وصفه للطبيعة لم يأت من قبيل الوصف الحسي الذي عرفه العرب، ولم يقنع بالمجازات والاستعارات اللغوية التي تربط بين الإنسان، والطبيعة بل استند إلى فلسفة كونية أساسها الحب الذي يجمع بين الظواهر ويؤلف بين الأشتات، كما يستند إلى فكرة روحية شرقية هي "الحلول الشعري" . وأخيرًا إلى فكرة تشبه أن تكون إغريقية وهي رؤية كائنات حية في الطبيعة، وانطاق تلك الكائنات، وتبادل الحديث معها، وفي كل هذا ما يكون مذهبًا جديدًا في الأدب العربي".

ويقول د. إسماعيل أدهم المقتطف ـ يناير 1949م:

"إن الخليل شاعر معقد الشخصية، نفسيته، كمنشور ذي أضلاع وجوانب متعددة تنعكس عليها أشعة الشمس في أشكال , وتنحل في وجهات مختلفة , وتأخذ صورًا متعددة، فهي تعكس الحياة التي تخالطها في صور شتى، وأشكال مختلفة".

فملكة التصوير تستمد من روافد متعددة:

1ـ من معايشة صادقة وتجربة شعورية عميقة ذات امتدادات تتغذى من معين إنساني ثرار.

2ـ من قدرة فائقة على التركيب والتشخيص، والتحريك، والتعميق، والانطاق، والاجترار الفني، والرؤيا الشعرية البصيرة بعيدًا عن التصريح العابر والرصد التسجيلي.

فخيال مطران في إيجاز خيال ابتكاري تشخيصي تركيبي متعدد العناصر, متلاحم الأجزاء في فنية دقيقة , تعطينا في النهاية صورة كلية تعتمد على رؤيا شعرية معايشة.

 وبراعة الخليل في وصف الأنماط البشرية، وتعمق بطائنها لا يقل عن قدرته في وصف مظاهر الطبيعة ومعايشتها، فهو يجمع العناصر الحسية والملامح النفسية، ويقوم بعملية صهر فني لكل هذه العناصر وينفث فيها من روحه الفنانة، وقدرته الإبداعية ليخرج لنا صورة كلية متكاملة العناصر, متكاملة الملامح , فيها من الحرارة والحياة، والصدق ما يشعرنا بأننا نعايشها وتعايشنا وكأننا لا نفارقها، ولا تفارقنا حتى لو كانت من أعرق الشخصيات غرابة وشذوذًا، والملمح الحسي في الصورة يرتبط بواقع حركي يمنحه حياة وانتفاضًا ليعطي انعكاسه النفسي ودلالته الشعورية.

 "فاستقبال نعال الطاغية بالوجوه المعفرة الذليلة" معْلم حسي متحرك منتفض , لا يقف عند حده الفني الجمالي بقدر ما يعكس الملمح النفسي الانهزامي الاستسلامي الخسيس , بأبشع ما يمكن أن يتصوره إنسان، فالوجوه هي أكرم ما يحمله الناس، مراكز الفكر والحواس والجمال، خلقها الله لاستقبال الفكر والنور، ومظاهر السحر والجمال، فما ظنك بها وقد شاء الطاغية، بل شاء لها أصحابها أن تستقبل النعال، نعال الطاغية , والنعال إنما هي رمز لأحقر المحسوسات، فالتقاء الوجوه ـ وهي أكرم ما يحمله الناس ـ بالنعال وهي أحقر ما يلبسه الناس ـ يبرز الفارق الهائل بين أمة الكرامة، وأمة الذلة والزوال" بين الحاكم العادل، والحاكم الطاغية.

 ومن وقائع الأدب العربي القديم إن عبد الله بن قبس الرقيات، مدح سليمان بن عبد الملك قائلاً:

 يأتلق التاج فوق مفرقه         على جبين كأنه الذهبُ

فغضب لهذا المدح؛ لأنه لا يهش لمثله إلا ملوك الفرس، وقال له: هلا قلت فيّ مثلما قلت في مصعب بن الزبير:

 إنما مصعب شهاب من الله تجلتْ عن وجهه الظلماءُ

ولنا أن نذكر ما قاله مهيار الديلمي في إحدى قصائده:

 أتذكريـن يا ابنة الأعاجم؟          كم لأخيك في الهوى من لائم؟

التاج، الذهب، التـبر، العرس، الصولجان، الجوهر ... إلخ.

كل أولئك يتدخل من قديم كعناصر أساسية في "الصورة الفارسية المثلى": إن صح هذا التعبير، وفي هذا الفلك سبح خيال مطران لذلك جاء على براعته وتحليقه متسقًا تمام الاتساق مع "الواقع الفارسي":

 البتر كسرى وحده في فارس...

وكسرى يلوح شمسًا مشرقة، وفيه تأله وفخامة، والعرش الرفيع يزهو به كأنه بسنا الجواهر مشعل إشعالاً.

 وكأن شرفته مقامُ عبادةٍ         نُصب التكبرُ في ذراه مثالا

إنه فلك الحسيات البراقة، تلك المظهريات الآسرة الأخاذة، التي تعد أساسًا من أسس الحياة الفارسية، وفق الخليل في إبرازها، بمهارة فنية رائعة.

وسمة أخرى من سمات التصوير عند مطران وهي:

تجسيد المعنويات، أو تجسيم المشاعر الإنسانية، إنه لا يسوق الشعور الإنساني صريحًا مجردًا مباشرًا في شكل تقريري، بل إنه يجسده في صورة حسية براقة حية فيها انتفاض وحركية، فالذلة والاستسلام والخنوع، والخوف، كل هذه المشاعر الخسيسة تتكشف في صورها الحسية الحركية، صور السجود للظالم، واستقبال نعاله للوجوه , ومنحه النفوس والرقاب والعرض والأموال، ورفض الشفاعة، لبزرجمهر بتأكيد الرفض لا. لا .. لقد صور مطران في هذه القصيدة أنماطًا بشرية متعددة:

1ـ شخصية كسرى وهي رمز للحاكم الظالم، الذي يغضب للنصح ويرفض التوجيه.

2ـ شخصية الوزير الحكيم، الذي يحرص على الصالح العام، والقيم الإنسانية.

3ـ شخصية بنت الوزير، وهي رمز للصراحة، والتحدي بغض النظر عن العواقب.

4ـ شخصية الأمة الخانعة المستسلمة التي أذعنت للطاغية فاستمرا الظلم والطغيان.

ومطران يهتم في عشرات من قصصه الشعرية بتصوير هذه الأنماط خلوصًا إلى تكثيف القيم الإنسانية التي يحرص على إبرازها ناعيًا على الظلم، والخنوع منتصرًا للعدل والحق.

 وبقدر حرصه على رسم هذه النماذج الشاذة للحكام، والشعوب يصور من ناحية أخرى صورة للحاكم العادل والأمة المثالية مبرزًا طبيعة العلاقة بين الحاكم والأمة، والأسس التي اعتمدت عليها حتى حققت بقاءها الكريم ونصرها المؤزر.

يقول مطران في قصيدته القصصية: "حرب غير عادلة ولا متعادلة بين أمة كبيرة وأمة صغيرة، جـ 1، ص 173:

هـذا  الـرئيس iiومثله
ومـن الـمـلوك iiأعزة
لم  يكبروا بسوى iiالغنى
قـد  قـام يرتقب iiالعدا
وتـحـف  أمتـه iiبـه
هـي أمـة iiمـستحدث
مـا  شـيدوا من هيكل
قـلـوا ولـكن iiأدركوا
ذادوا عـن iiاسـتقلالهم
أرزاقـهـم  حـل iiلطا
شـم  رواسـيهم iiوأنـ










في الناس يعظم من عظمْ
لايـصـلحون  له iiحشم
والـكـبرياء  عن الخدم
كـالـزاد  يرقبـه iiالنهِمْ
كـصغار ليث في iiالأُجم
تـاريـخـها  بين iiالأمم
ضـخم  ولا رفعوا iiهرم
بـالـبأس  شأوا لم iiيرم
وديـارهـم ذود iiالـبهم
ـلـبـها وموطنهم iiحرم
ـفـسهم  ومعطسهم أشم

اللغة والقيم التعبيرية:

أسلوب الأديب هو طريقته في التفكير والتصوير والتعبير، وهو نتيجة طبيعية لمواهبه، وصورة لشخصيته هو، وإذن لا يمكن أن يكون قويًا صادقًا ممتازًا إلا إذا استمده من نفسه، وصاغه بلغته وعبارته، دون تقليد سواه من الأدباء (أحمد الشايب: الأسلوب 134)، ويلجأ النقاد إلى تقسيم الأسلوب الأدبي إلى عناصر هي: العاطفة، الفكرة، الخيال، الألفاظ، العبارات.

"وهو ـ كما هو ظاهرـ تقسيم صناعي؛ لأن الإبداع الفني عملية خلق تنصهر فيها كل العناصر في كيان واحد جديد، وقد ثارت مشكلة اللفظ، والمعنى من قديم، والحيقة أنها مشكلة فيها من الافتعال أكثر مما فيها من الصدق، والواقع؛ لأننا لا نستطيع أن نتصور معنى بغير لفظ: فالألفاظ هي القوالب التي تصب فيها الأفكار والمعاني والصور، لذا يجب أن تكون الألفاظ حية نابضة، ذات نظام، ونسق يسمح لها بأن تشع أكبر شحنتها من الصور، والظلال، والإيقاع , وأن تتناسق ظلالها وإيقاعاتها مع الجو الشعوري، الذي تريد أن ترسمه , وألا يقف بها الأديب عند الدلالة المعنوية الذهنية، فوصول اللفظ إلى الحالة التجريدية معناه أنه مات، وأصبح رمزًا فحسب . والأديب الموهوب هو الذي يرد عليه حياته فيجعله يشع صورة وظلالا، ويرسم حالة ومشهدًا" (سيد قطب: النقد الادبي .. 43)

 وإذا كانت هذه هي قيمة الكلمة في العمل الأدبي، بصفة عامة، فإنها في الشعر بصفة خاصة تكون أقوى دلالة، وأكثر إيحاء وإشعاعًا إذا ما توافرت لها الشرائط السابقة، وأخذت مكانها الذي خلقت له في البناء الشعري، لذلك يفقد الشعر ـ كما يرى أليوت ـ كثيرًا جدًّا من روائه وروحه بالترجمة، بعكس النثر الفني الذي لا يفقد بالترجمة إلا قدرًا قليلاً من جماله، أما الإنتاج العلمي فلا يكاد يفقد بالترجمة شيئًا يذكر من قيمته".

 والشاعر العبقري المطبوع هو الذي لا تكون الكلمات عنده مجرد وسيلة أداء وتعبير فقط , بل تكون الكلمات ذات كيان خاص لخلق ما يتجاوز المدلول اللغوي، وفي ذلك يقول سارتر " أما الشاعر فبعد أن يصب عواطفه في شعره ينقطع عهده بمعرفتها، إذ تكون الكلمات قد سيطرت عليها ونفذت خلالها وألبستها أثوابًا مجازية، فلم تعد الكلمات تدل عليها حتى في نظر الشاعر نفسه، فقد أصبح الانفعال شيئًا له كثافة الأشياء وبدت عليه مسحة الغموض، إذ اكتسب الخصائص الغامضة للألفاظ التي صار حبيسها" (ما الأدب ؟ : د. غنيمي هلال ص 16).

 والشاعر المطبوع هو الذي يستطيع بسليقته الشعرية النادرة , وطبعه الفني الثرار أن يخلق توازنًا دقيقًا بين ألفاظه ومعانيه، وقد كان شعر الخليل تتزن فيه وتتناسب الشاعرية الصافية مع الصناعة الفنية... ولما كانت الشاعرية في الشعر هي الروح التي تحل في التعبير الشعري، أو بتعبير أدق لما كانت هي الحالة النفسية القائمة وراء الجسم المادي للقصيدة، فإن الكمال في الشعر يقوم على أساس الاتزان بين الروح الشعرية، والتعبير الشعري من جهة من جهاته" (إسماعيل أدهم: المقتطف مايو 1940م ـ 547).

 وفي إجمال مركز نستطيع أن نقول: إن ألفاظ الخليل كانت مناسبة لأفكاره ومعانيه، ومناسبة لأغراضه ومراميه , ومناسبة لمقتضيات الحال.

 والكلمات عنده ـ كما ألمعنا ـ لا تكتفي بأداء وظيفتها الوضعية، بل تتعداها إلى تأدية وظيفتها التأثيرية الإيحائية، فتعطي تأثيرها القوي، وتلقي إشعاعها وظلالها التي توحي مقدمًا بطبيعة الموقف، وطبيعة الشخصية . ولننظر أولاً إلى تركيب متكامل يبرز هذه السمة، وهو البيت الأول:

 سجدوا لكسرى إذ بدا إجلالاً        كسجودهم للشمس إذ تتلالا

فنحن هنا أمام سجود لا خضوع، والسجود يوحي بأحط أنواع الاستسلام والهوان، وهم يسجدون له إذا "بدا" لا إذا "طلب" , فهي إذن سمة أمة "قابلة" وليست استجابة لأمر مفروض.

ويؤيد لفظ "إجلالا" ما ذهبنا إليه , فالمسئولية إذن مسئولية الأمة ابتداء، فهي التي ألهت حاكمها, وسجدت له سجودهم للشمس في أزهى وأنور صورها، والشاعر نفسه يصرح بهذه القابلية في البيت 41:

 لكن أرادت ما تريد مطيعة          وتناولت منك الأذى إفضالا

 ومع إيماننا بأن الكلمة تكتسب حياتها من السياق، وتعكس إيحاءها في التركيب إلا أننا نستطيع أن نقول إن لمفردات مطران ما نستطيع أن نسميه " الإيحاء الفردي الذاتي" ، ولننظر إلى هذه الألفاظ (التبر، شمسا , يزهو، العرش، الجواهر، شرفة، لؤلؤة، السنا" . فمن الواضح أنها تلقي في النفس ـ حتى وهي منعزلة بعضها عن بعضها الآخرـ "ظلالا ملكية" أو إن شئت "ظلالا كسروية" , ثم تكون كل كلمة في مكانها من السياق , وهو ما يمكن أن نسميه "التنسيق أو الإيحاء التركيبي" ، بحيث يخل التقديم والتأخير بالمعنى والتصوير والإيحاء.

ولنكتف بمثال واحد هو البيت السابع والثلاثون:

 واذبح ودمر واستبح أعراضهم         واملأ بلادهمو أسى ونكالاً

(في أساس البلاغة: نكل عن اليمين وعن العدو نكولا، ونكتله عن كذا فطمته". ونكلت به: أي جعلت غيره ينكل أي يفعل مثل فعله وهو النكال . وفي مختار الصحاح : ونكل به تنكيلاً، أي جعله نكالاً وعبرة لغيره.

وفي القاموس المحيط: ونكل به تنكيلاً أي صنع به صنيعًا يُحذر غيره أو نكله: نحاه عما قبله، والنكال والنكلة بالضم، وكمقعد ما تكلف به غيرك، كائنًا ما كان . وكسمع قبل النكال.

 فالطاغية يذبح ويقتل وهي الجريمة التي يرتكبها ضد الرعية، ليس هذا فقط بل إنه يدمر ما تملك الرعية، من حرث، ومسكن، ومال، ثم تأتي جريمته في حق العرض، والشرف، والكرامة الإنسانية، بعد أن يكون قد نشر في القلوب الرعب والهلع، ثم تأتي النتيجة الطبيعية لكل أولئك وهي الأسى والنكال، والأسى هو الحزن.

 فكل أولئك يمثل مراحل سلوكية للطاغية، يتلو بعضها بعضًا، فالألفاظ زيادة على أدائها المعنى، وزيادة على ما فيها من إيحاء قوي صارخ بفداحة وحشية الطاغية، هذه الألفاظ تتسابق في ترتيب يتفق مع منطق الواقع السلوكي للطاغية، بحيث يكون الإخلال بهذا التركيب إخلالاً بالمعنى، وإساءة إلى الإيحاء.

 وفي القصيدة استهلال قوي صارخ كأنه انفجار فجائي مدمر بلا مقدمات، وبلا تهيئ نفسي، وكأن عاطفة الشاعر قد غلبته لشدة إحساسه بفداحة جناية الأمة المستسلمة، وكأن الشاعر قد نزه لسانه عن ذكر الأمة الساجدة في هذا الاستهلال فعبر عنها بضمير الغائب، ويختم القصيدة بهذا القرار القوي الحاسم:

 ما كانت الحسناء ترفع سترها        لو أن في هذي الجموع رجالا

فقوة اللفت والإثارة واضحة في الاستهلال، وواضحة في الخاتمة، وقد استعان الشاعر من أجل ذلك بعدة وسائل تعبيريها منها:

الالتفات (يا أمة الفرس العريقة .. يا يوم قتل .. كسرى أتبقى ...".

كما استعان بالتضاد كالمقابلة بين شطري البيت الثاني، والمقابلة بين شطري البيت الثالث، والمقابلة بين شطري البيت الثامن.

 ويكثر الشاعر كذلك من الأسلوب الإنشائي، يا أمة الفرس، نداء للتوبيخ، ماذا أحال؟ استفهام للاستنكار، يا يوم قتل: نداء للتحسر. أبزرجمهر حكيم فارس، استفهام للاستنكار، كسرى أتبقى. نداء استفهام للاستنكار، أين التفرد: استفهام للاستعباد، اذبح: أمر للتوبيخ والتقريع، أتعجبًا وسؤالاً: للتقرير أو التوبيخ , فهل ترى: استفهام للتوبيخ.

 ويلجأ الشاعر إلى الحوار الخارجي بين الجلاد والرعية، ثم بين الجلاد وبنت الوزير، بزرجمهر، وكان مطران بارعًا في إدارة هذا الحوار، بالمعيارين الكمي والكيفي، فالجلاد يسأل الرعية التي تجمعت بالآلاف في أمواج متدافقة هل من شافع لبزرجمهر؟ سؤال موجز محدد تعود الرعية عليه عند القيام بمهتمه المحددة، ولا يستطيع أن يزيد عليه بواقع وظيفته، وبواقع طبيعة مهمته، وبواقع هذه الآلاف التي لا يصل إلى آذانها إلا مثل هذه الكلمات الموجزة القليلة، ثم تأتي إجابة الأمة المستسلمة المفزوعة في "النفي المؤكد" لا. لا.

وعلى نفس المنهج، وبالكلم المركز أيضًا واستجابة لأمر كسروي لا يملك هو أن يزيد عليه أو ينقص منه، يسأل بنت الوزير "مولاي يعجب كيف لم تـتقـنعـي؟" وترد الفتاة , والإيجاز هنا لا يتسع لمشاعر فتاة ستفجع في أبيها المظلوم بعد لحظات، والمسألة فوق ذلك ليست مسألة شخص سيلقي الموت ظلمًا بأمر حاكم طاغية، إنما هي قضية ثلاثية الأبعاد:

حاكم طاغية، أمة مستسلمة، ضحاياهم صفوة الأمة، وهي القضية الأبدية التي تدور في كل زمن كأنها قطعة منه , أو إن شئت فقل: إنها قطعة من الكيان الإنساني المنكود.

 وهي قضية فصلها مطران في خمسين بيتًا , ثم أعطى بنت الوزير الشهيد الحق في إصدار خلاصتها , أو قرارها الحاسم في أربعة أبيات كانت هي خير ختام للقصيدة.

 


المراجع

odabasham.net

التصانيف

شعر  أدب  قصائد  شعراء   العلوم الاجتماعية