قراءات
في الأدب الفلسطيني المقاوم
رمضان
عمر
أعلم، مسبقاً، أن طَرْقَ موضوع الأدب
المقاوِم، في زمن تداعت - فيه- الأكلَة على قصعتها، وسُيِّست مفاهيم النقد والأدب؛
لتنسجم مع تطورات "الواقعية السياسية العالمية"؛ مغامرة نقدية محمومة، ومسيرة شائكة
عصية،
تجدف عكس تيارات التجديد المزعومة؛ من شأنها أن تفتح أبواباً.. أراد لها
قراصنة النقد الموجَّه أن تبقى موصدة.
وكنت أعلم، أيضاً، أن مزاجية النقد "الدبلوماسية"
التي تشكلت عبر إمكانات نمطية هائلة، ستفرض نوعاً من الإلزام النصي
المقروء؛ سواءٌ أكان ذلك في عالم الإيداع الفني أم في عالم النقد الأدبي الخالص؛
وستقلل من قدرات هذا النص الاختراقية.
ومن هنا، فإن مجرد التفكير في طرح هذا
الموضوع - على الرغم من وضوح دلالاته، وشرف غاياته، وسلامة مساربه- يثير في النفس
مكامن
القلق، ويطرح عليها أسئلة ثقيلة، تلخصها عبارة فطرية قلقة: هل تستطيع
ذلك؟…
ولا أنكر على النفس هذا التموج الذهني والقلق النفسي؛ فمعركة النقد
حامية
الوطيس، وقادة المحاور، شانها شأن سائر المعارك التاريخية الكبرى؛ خصوصاً،
إذا
كان الموضوع الجدلي في الخصومات النقدية سياسي الواجهة.
فالقضية النقدية
التي
نفرش لها بساط البحث، سياسية المعامع ، أيديولوجية المقاطع، ومهما حاول
المعارضون سلخ التصورات الفكرية والسياسية والفلسفية عن النصوص الأدبية المخلوقة؛
فإن
طبائع الإنتاج وحقائق الوجود تفرض نوعاً من الإلزام "السيو فكري" في دراسة النص
الأدبي المكتوب، وتستدعي نوعاً من القراءات الظلالية حول خلفيات النص
المبدع.
عندما يتناول أديب مرموق نصاً أدبياً… يخرج فيه عن هموم الجمع إلى
قضايا
الذات البحتة؛ فإن النقد المنصف لا ينكر على الأديب ذلك الفعل، بيد أن السؤال
المتمرد الذي يقف للنص في آخر سطر يخرج به الكاتب من نصه، سينتصب شامخاً ليقول
للكاتب: لماذا…. ؟
ومن هنا لم يستطع النقد الحديث في بدايات القرن المنصرم
أن
يتصور تلك المزاجية الشوقية؛ عندما غص شعر "شوقي" بمدح أقطاب العائلة الخيدوية
الحاكمة بعشرات النصوص، ثم إذا ما جاءت قضية وطنية عليها إجماع شعبي واسع ليمر
عليها
مرور الكرام ويطرقها على عكس ما تشتهي الجماهير؛ فيقول في الزعيم العربي
المشهور أحمد عرابي:
صغير في الذهاب وفي الإياب أهذا كل شأنك يـا عرابي؟
نعم، قد يقول قائل: من حق شوقي أن يقول ما يريد، ويعبر عن آرائه الخاصة في الأحداث
السياسية أو الاجتماعية أو الحياتية؛ بيد أن النقد لن يكون ساذجاً ليقبل
بهذه
البساطة, التعليل.
وكذلك، حين نتابع النصوص الدرويشية الأخيرة, منذ
غزو
لبنان حتى يومنا هذا؛ فإننا نلمح تمرداً جذرياً على التاريخ الدرويشي المشكل
لقصيدة الشعر المقاوم في ذاكرة التاريخ الأدبي للشعر الفلسطيني المعاصر؛ فمنذ أن
كتب
درويش ديوانه "لماذا تركت الحصان وحيداً"؛ داخلاً من خلاله في عملية بناء تجربة
شعرية
جديدة؛ تبلور الذات، وتؤرخ للسيرة، وتنسلخ من الطبيعة الشعرية المقاومة
انسلاخاً يفصل بين عهدين؛ والنقد الفلسطيني يقف حائراً أمام جدليات النص المتغير؛
مما
جعل النقاد ينظرون إلى تلك النصوص على أنها تطورات فنية لمجنون التراب المتيم
بالوطن وكأنهم - بتوددهم ذلك للشاعر الكبير- يعلنون عن ضعف قدراتهم الاستقلالية،
وعجز
إرادتهم النقدية؛ لأن الشاعرية الدرويشية في نظرهم أكبر من أن تنالها أقلامهم
المتواضعة، قهم لا يتناولون من النصوص الدرويشية إلا ما يرفع مصافهم أمام الكبراء
ويرضي
عنهم أصحاب السيادة والسلطان.
وقد عمق هذا التناول الدرويشي لموضوع
الشعر
الذاتي، وذلك التحول الجذري من الهم الجماعي إلى بناء شخصية المتنبي (لكن ليس
في
بلاط سيف الدولة بل من خلال عبق الشهداء وصفصاف الأرض)، الهوة بين النص الدرويشي
في
عصر القصائد الوطنية والنص الدرويشي المحدث في باحات مدرسة ما بعد الحداثة،
لتصبح
هالة التطور الجمالي في النص الإبداعي المكتوب آخر إيمان ثقافي تقر له بلابل
درويش
الشعرية؛ فكان سرير الغريبة بموضوعه العاطفي وخصوصياته الدرويشية ووحدة
قصائده الموضوعية - بعد أن استقامت للشاعر لذة الاستقرار من خلال قصيدة الوطن
والمقاومة- ليؤكد ذلك التحول الشمولي، ولا ننتظر كثيراً حتى يتأكد هذا الانطباع
بصورته النهائية عندما ندخل في جدارية الموت وبناء الأنا الشاعرية من خلال النص
الذي
أراد له درويش أن يكون نصاً فوقياً مقدساً:
أنا الرسالةُ والرسولُ
أنا العناوينُ الصغيرةُ والبريدُ
سأصير يوماً ما أريدُ. (1)
أنا لا ألوم درويش على هذه الانزوائية، ولا أنكر عليه ذلك الرونق الساحر
الذي
يجعلني أعاود الكرة بعد الكرة في كل نص درويشي جديد أقرأه فليس بيني وبين
الرجل
خلاف جمالي، بيد أنني لا أتوقع منه غير ذلك "حين يبحث لنفسه عن موقعية فنية،
داخل
الإبداع الذاتي". ولا تظللني الدهشة، أيضاً، حينما أتابع انهماكه في بناء
سلطته
الشعرية بعيداً عن النص المقاتل؛ فدرويش نفسه طالب الجمهور أن يعذره ويسمح له
بهذا
الانزلاق الذي يسعى إليه مستفيداً من "مسطبة الفعل المقاوم"، بيد أنني أنكر
على
النقاد اعتبار درويش رمزاً فريداً للشعر المقاوم وقراءة وحيدة لفلسطين التاريخ
والحاضر.
فدرويش نفسه، أعلن عن نفسه أنه: "يتكلم شعراً ولا ينحدث عن عملية
السلام، وشعره يسعى إلى الخروج عن دوره في تمثيل الجماعة شعرياً أو بالطريقة
التقليدية؛لأنه - كما يزعم- في مرحلة ثقافية حساسة؛ لذلك فعلى المفردات أن تكون
دقيقة". (2)
تلك المرحلة الثقافية الحساسة، التي لا تسمح للنقد أن يعطيها
توصيفاً أبعد من دلالاتها الفردية على شخصية درويش الشاعر والإنسان، وليست أبداً
وصفاً
لثقافة درويش الرمز والمقاومة؛ ولا ثقافة فلسطين التاريخ والكيان؛ فدرويش
بشاعريته العملاقة يمكن اعتباره رمزاً للهالة الشعرية الجمالية، بيد أنه - من حيث
دلالة
الشخصية على الفعل المقاوم- فرد من أفراد الأقلية في التعبير عن فلسفة الجمع
بين
واقعية الحل السلمي وجدلية الصراع المختزل في دلالة الواقع الفلسطيني المرير،
هذا
الخلط الساذج بين الشعرية العملاقة والانتمائية المحتملة هي التي جعلته يدلي
بهذا
الاعتراف الخطبر - دون أن يثير ذلك في أذهان ناقديه مواطن
الاستغراب:
"وأنا
أَعتَبِرُ نفسي وريثاً لكلّ هذه الثقافات، ولا أتضايق،
البَتَّةَ، في التصريح بِوُجود جزءٍ يهوديّ فِيَّ. لا أستطيع أن أتَصَوَّر امتلاكاً
حصرياً لهذه الأرض. أنا أَرُدُّ على الإسرائيليين الذين يَدّعون أنهم يمثلون
امتداداً لِمَملكة إسرائيل بالقول بأني امتدادٌ للكنعانيين. لا أريد أن أقول إنني
كنت
هنا قَبلَهُم، أنا أقول فقط: أنا منتوجُ كلّ هذا وأَقْبَلُهُ وأضطلع به".
(3)
محمود درويش يريد لنفسه مقاسات ثقافية خاصة تناسب المرحلة وتسمح - له-
ببناء
هالته الشعرية من خلال متطلبات المرحلة، وهي مقاسات تخالف الأصول الدينية
والقومية وحتى السياسية لجمهوره القارئ؛ فهو من الناحية الدينية أوغل في النص
المسيحي، وتخفف من أثر الثقافة الإسلامية في شعره، بل عبث في غير موضع بقداسة
الكلمات الدينية.
يقول: "لديَّ كُلُّ الأسباب التي تدفعني لاعتبار المسيح
صديقاً شخصياً. إنّه ابنُ البلد، فهو من "الناصرة" في الجليل. ثمّ إن رِسَالَتَه
بسيطةٌ جداً، رسالةُ السلام والعدالة. فهو في أَمثالِهِ (القصص القصيرة ذات المدلول
الأخلاقي، والتي تَرِدُ بشكل أكبر في الأناجيل الأربعة), يتحدث كما لو كان شاعراً.
فهو
في حدّ ذاته حالةً شعرية: يريد تَدجين السجّان من خلال مُهَامَسَتِهِ، بل وحتى
معانقته، فهو يُواجِهُ العنفَ بالرِقَّة. إنه صديقُ الضعفاء، والمحرومين،
والمنعزلين. وهو في هذا رمزٌ للتسامُح ولِوَحْدة البشرية. وأخيراً، هو صورةُ
المعاناة. وبما أنه كذلك، فهو يُلهِمُنَا ويمنحُنَا الشجاعة. لأنّ الشعب
الفلسطينيَّ، اليومَ، هو الموضوعُ على الصليب بسبب سياسة الاحتلال الإسرائيلي. لقد
أصبحَ
موتُ الفلسطينيّ مسألة غير مهمة مثلها مثل النشرة الجوية (الطقس)، وغزوُ
أمريكا، التي وضعت نفسها فوق القانون، للعراق لم يعمل إلاّ على إضفاء القداسة على
وضعية
الاحتلال". (4)
وعن السبب الذي يجعل درويش يذكر المسيح أكثر مما يذكر
النبيّ محمد (ص)، يقول: "لأني أُحِسُّ بأني أستطيع أن أتَحدَّثَ عن أحدهما
بِحُرّيّة، بينما أَشْعُر كما لو أنَّه توجد رِقَابَةٌ مَا حين أتحدث عن الآخَر.
وبما
أنّه تمّ قبول الفصلُ بين الدينيّ والسياسيّ في المسيحية، فإنه يبدو سَهْلاً
مُحَاوَرَةُ المسيح. لقد استطاع الفنّانون أن يُصوّروا المسيحَ أشقَرَ، أَسْمَر أو
أسودَ، ولكني لا أستطيعُ أنْ أتَخَيَّل "محمداً" إلاّ عربيّاً". (5)
هذا
التصور الديني الذي شكل جزءاً واسعاً من ثقافة درويش أثر على المساحة الثقافية
الوطنية في قصائده المتأخرة؛ وخصوصاً، حينما غدت الساحة الفلسطينية رهينة التأثير
المباشر للصحوة الإسلامية التي يختلف معها درويش، وتحولت -معها- مصطلحات الفعل
البطولي السائد من الفعل الطروادي المذبوح "الضحية المطلقة" التي تغني بها درويش في
أحمد
الزعتر وماجد أبو شرار إلي جهادية الشكل الأصولي في بطولات يحي عياش وفتحي
الشقاقي.
لا
يستطيع درويش أن يتناول الفعل المقاوم بواجهته الإسلامية التي
تقود
معركة الوجود بين ترهات العهد القديم المزورة وحقائق الإسلام المزلزلة؛ وهو
النقيض المباشر لهذه الصحوة؛ إذاً فإن كان الوطن يعني عبق الشهادة فلا مكان لدرويش
في
هذه المعادلة.
ومن هنا كان التناقض في الانتمائية الدرويشية لقصيدة
المقاومة حين تعارضت تلك القصيدة مع بطولات الإسلاميين؛ فعزف عنها بطريقته الخاصة:
"أنتَ
كشاعر فلسطينيّ، شَاهِدٌ على مأساة شعبِكَ وكذلك شاهد على الإيمان
بالإنسانية. وكلمة "شَاهِد" هي المعنى الأول لكلمة "شَهِيد". والذين يقومون بعمليات
–
انتحارية- يُطْلَق عليهم أيضاً "شُهَدَاء". كيف يمكن أن نكون شهيداً ونتسبَّبَ في
موت
أشخاص أبرياء؟"
يجيبُ محمود درويش: "كذلك في القرآن، كلمة "شهيد" تعني
أيضاً
"شَاهِد". يوجد خلطٌ في تحديد العمليات الانتحارية. وهنا لا يتعلّق الأمرُ
بـ"شهداء"
ولكن بـ"انتحاريين"
Kamikazes.
وفي
الحروب، يوجد انتحاريون kamikazes
في
كلّ
الأطراف. إنّ كلمة "شهيد" كلمة مفتوحةٌ جداً. المسيحُ ومحمد الدُرّة والشعب
العراقيّ الذي هَلَك تحت القنابل "الذكيّة" الأمريكية"، هم شهداء، لأنهم يَشْهَدون
بإنسانيتهم في وجه الرُّعب والبربرية. الانتحاري
Kamikaze،
في
نظري، هو من يمنح
حياتَهُ من أجل قضية يعتقد أنها عادلةٌ. أنا أَدَنْتُ، ولم أَكُن الوحيدَ، العمليات
الانتحارية kamikazes
التي
تَسْتَهْدِف مَدَنِيّين. الإسلاميون يَرُدّون بالقول:
إنّ
الإسرائيليين يقتلون هُم أيضاً مدنيين (فلسطينيين). وجوابي هو: ليس علينا أن
نفعل
مثلهم (الإسرائيليين)، لأننا إن فَعلْنَا مثلهم، فما هو الفرقُ بين الجلاّد
والضحية؟". (6)
هذه الثقافة الفلسطينية التي لفعت عدداً من الشعراء اليسارين
الذين
عرفتهم الساحة الفلسطينية خلال عقود أربعة - شهدت غياباً شبه كلي لأصحاب
الفكر
الإسلامي عن دور النشر ومحافل الثقافة والأدب - وعرفتهم الأقلام النقدية على
أنهم
شعراء المقاومة ثم لما انقلبت الموازين وهبت موجة الفكر الإسلامي المعاصر لم
يعد
بوسعهم متابعة النهج الشعري "المقاوم" في ظل تحول الراية من يد اليسار
الثقافي إلى أدبيات الفكر الإسلامي المجاهد
ومن هنا لم يستطع درويش أن يتناول من
صفحة
الإبداع الاستشهادي غير محمد الدرة؛ لأن تناول عياش وطوالبة ورائد الكرمي
وصلاح
شحادة هدمٌ جريء للثقافة التغريبية التي آمن بها درويش في مدرسة التعايش مع
(الإسرائيليين)!
حتى قصيدتا "محمد الدرة"، و "عابرون في كلام عابر" لم
تكونا
مصادر طمأنينة لدرويش بل كانتا هماً فرضته حاجة الجمهور المراقب، مما دعاه
إلى
الاعتذار عن الأولى والوعد بحذفها، والمراوغة السياسية في الحديث عن الثانية؛
يقول
درويش:
"أنا
متورط مع محمد الدرة، داخلياً، وليس بمعنى المطالبة
الخارجية. يمكن أن نكون هناك إصغاء إلى مطالب خارجية. وهذا أمر موجود في لا وعيي،
وفي
وعي أي واحد فينا، لكن هذا الموضوع لا يشكل أسلوبية جديدة، ولن يغير مشروعي
الشعري الذي أتابعه. فأنا أعرف ما لدي". (7)
وقد يتصور القارئ أن قصائد
درويش
التي نتحدث عنها هي من النوع الثقيل الذي يقلق الاحتلال ويزلزل أركانه؛ ذلك
وهم
تبدده نظرة عاجلة إلى إحدى القصيدتين التي تمثل النمط الدرويشي في الشعر "
المقاوم" أعني طروادية المشهد المأسوي الذي يتعاطف معه إنسانياً دون التدخل المباشر
في
إنشاء قصيدة الفعل المقاوم فهو هنا يتحدث عن المأساة دون تناول المشهد الإبداعي
في
ثورة الأقصى التي كان محمد أثراً من آثارها:
أيها المارون بين الكلمات
العابره
منكم السيف - ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار - ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى - ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقص.. وانصرفوا
وعلينا، نحن، أن نحرس ورد
الشهداء..
وعلينا، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء! (8)
وكذلك حين تناول
في
ديوانه الأخير (حالة حصار) - الصادر في إبريل 2002عن دار رياض الريس - موضوعاً
قد
ينظر إليه للوهلة الأولى على أنه عودة للشعر المقاوم وانعكاس لواقع الحياة
الجمعية المؤلمة، لم يثلج صدور متابعيه إذ سرعان ما تبددت هذه الملاحظة حينما نكتشف
أن
محمود درويش محاصر بـ (الهالة) وليس محاصراً بـ (الحالة) وتلك حالة حصاره. فدرويش
منذ وقت بعيد يسعى ليكون بعيداً عن القصيدة المناسباتية، والقصيدة الوطنية
كما
يطرحهما السائد الشعري، وقد حاصر نفسه بإيجاد المعادلة الفنية من أجل خلق النص
الشعري "الحقيقي الذي لا يرسف بالقيد" - على حد تعبيره -، نص يُحلّق بجناح الشعر
والفن
دون أن يثقله الموضوع، أو يهبط به هبوطاً قسرياً.
إذن درويش كتب
أخيراً النص الذي يريده وتخلص من عقدة المطالبة الجماهرية واستراح لذاته عندما خلا
ميدان
الوطن من فرسان اليسار وأصبح المجد فيه لسواعد النص المجاهد مما جعله يعزف عن
النقد
السياسي عزوفاً يحمل في ثناياه كبرياء الواصلين واستغناء
المتنفذين:
"فما
لا يعنيني نوعان من النقد: النقد المدرسي الذي يبسط الدلالة
ولا
يميز بين صورة الشيء وطيفه، ويشرح القصيدة شرحاً بلاغياً مدرسياً، هنا استعارة
وهنا
كناية وهنا معنى وهنا مبنى.. إلخ. والنقد الثاني الذي لا يعنيني هو النقد
السياسي المباشر الذي يفسر الأندلس بأنها مؤتمر مدريد، ويخلط بين غرناطة 1492
وأوسلو 1993". (9)
ومن خلال الرسالة التي أرادها درويش لنفسه كشاعر وصل إلى
ما
يصبو إليه وانتظر ساعة الحسم في قول النقد ما تشتهي أذنه أن تسمع؛ فهو فوق النقد
عندما
يكون النقد نقداً تنقيبياً والنقد ذراعه الأيمن حينما يخرج النقد ليقول: هذا
هو
درويش!!
أقول ليست لنا خلافات جوهرية مع النص الدرويشي الذي نحترمه
ونقدره – على الرغم من أننا نجد أن لنا حقا في محاكمة النص الإنساني المبدع بغض
النظر
عن قائله؛ فكل يأخذ منه ويرد!
إذاً فالموضوع عندنا هو النص المكتوب
بغض
النظر عن كاتبه. لماذا طرق في هذه اللحظة الزمنية ولم يطرق في لحظات أخر؟
ولماذا كانت الذات عالية أمام ضجة الفعل السياسي؟ كيف يعقل أن تمر أقلام العمالقة
الموهوبين على قضايا الأمة مروراً لا يسمح لها ولو بالتفاتة قصيرة!!
ولماذا
كان
الشعر الفلسطيني المقاوم هو العنوان الأوضح في المرحلة الثورية الاشتراكية
بينما
تصبح الذاتية الغامضة والرومانسية الجنوحة هي موضوعات الإبداع في عصر العولمة
والانفراد السياسي للقطب الواحد.
ومن هنا، نستطيع أن نقول: إن موضوع الأدب
المقاوم يعود ليطرح نفسه ثانية أمام إبداعات الأدباء المشهورين ممن يعيشون داخل
الواقع السياسي المرير وينأون بكتاباتهم عن ملامسة هذا الواقع وإدلاء دلوهم فيه وهو
كذلك
يقف أمام تلك الدراسات النقدية التي استجابت لتطبيع النقد والأدب سياسياً.
لماذا لا يتناول النقد النص الدرويشي بكافة الدالات الممكنة في إطار
التطورات الشعرية؟ لماذا تسلط الأضواء على الشعرية الدروشية المتألقة وتترك قضايا
التحول المغولة لتصل إلى غاياتها المروعة خارج نطاق المراقبة النقدية.
أنا -
كغيري- من الذين تابعوا النص الدرويشي من بداياته, وجدت كما وجد الآخرون تألق
العبارة الشعرية واكتمال النمط المراد وانفراد النص الدرويشي بما يمكنه من دخول
عالم
التميز الجدير. هذا إذا كنا نتحدث عن الشكل الجمالي المجرد فانا يروقني درويش
كما
راقني من قبل دانتي وجوتيه وإقبال والمتنبي وامرؤ القيس والمعري, في قدرتهم على
الصياغات الفريدة شكلاً مع التمايز في الدالات الفكرية والخلفيات الفلسفية لدى
المتنافسين.
عندما أقرأ درويش وأقارن بين زمنين لا أستطيع أن أقف على مجرد
التطور الفني في قصيدة ما بعد الحداثة؛ فمن الطبيعي أن تتطور التجربة الشعرية لدى
شاعر
اكتملت له أدوات النص الإبداعي بعد سنوات نافت على الأربعين.
كانت
الحلقات المشكلة للتجربة الأولى في النصوص الدرويشية تؤكد حقيقة موضوعية واحدة هي
أن لا
ثقافة بدون مقاومة ولا مقاومة بدون ثقافة، وكانت القصيدة الدرويشية تبنى على
فلسفة
التحدي القائم على جدلية الإصرار والمواجهة: (10)
سنخرج من معسكرنا
ومنفانا
سنخرج من مخابئنا
ويشتمنا أعادينا
هلا …
همج….
عرب
نعم عرب ولا نخجل. (11)
هذه الثورية القومية التي حولت
الوطن
سابقاً - عند درويش- إلى حالة ذهنية استقطبت كافة الرموز لتكون واجهة القصيدة
الفلسطينية المتكررة، ويصبح الشعر المقاوم - من خلالها- نمطاً مميزاً للقصيدة
الفلسطينية الفاعلة، وعلى نفس الوتيرة الصوتية كان يصرخ سميح القاسم:
ربما
تطعم
لحمي للكلاب
ربما تلقي على قريتنا
كابوس رغب
يا
عدو
الشمس
لكن لم أساوم
وإلى أخر نبض
في
عروقي سأقاوم. (12)
نعم كان هناك نص مقاوم عند درويش وإيمان بالفعل المقاوم، أيضاً، إيمان يصل
إلى
حد الاعتقاد الراسخ الذي يعتبر الخروج على هذه الشاكلة الشعرية نوعاً من
الخيانة المرفوضة.
يقول درويش في إحدى مقالاته: "إن رفض القتال العادل
معناه
رفض الحرية والتحرر" فهل قرر شعراء المقاومة أن السعي إلى الحرية والتحرر
يستحق
التنديد ورفض المقاومة المسلحة". (13)
وقد أثار الدكتور عادل الأسطة
جملة
من التساؤلات حول موجة التغيرات والتنازلات التي طالت النصوص الشعرية
الدرويشية الأخيرة وتساءل عن تلك الأسباب التي دعت درويش كي يحذف ويغير حتى في
نصوصه
القديمة التي كتبت ونشرت وانتهى أمرها، وفي مقابلة مع درويش بتاريخ
14\5\1993،
يقول
درويش: لقد ركز البعض على عبارة "معاهدة الصلح" في قصيدة "أحد عشر
كوكباً على آخر المشهد الأندلسي" وأول تلك المعاهدة المتصلة بسقوط غرناطة معتبراً
أنها
مني ضد مفاوضات
السلام، لقد آلمني ذلك كثيراً إذ لا يمكن لي أن أتعامل مع
المفاوضات من خلال الكتابة عن غرناطة. (14)
هذا التعليق الدرويشي الأخير هو
الموضوع المحوري للقراءة النقدية الكاملة حين يقرأ النص بناء على قراءات رديفة
لظروف
الكتابة وظروف الكاتب نفسه، وهنا تبدو المفارقة العجيبة بين الذات الدرويشية
الشاعرة المجردة عن دلالات المكان والزمان والموقعية السياسية؛ وهنا نحن بحاجة ماسة
-
كي
نفقه النص الدرويشي- أن نلم ببعض التفاصيل الموضوعية من سيرته الخاصة.
أنا لا أستطيع أن أقرأ النصوص الدرويشية بعد العودة من المنفى مع المشروع
التسووي مغفلاً ذلك التعاقد الضمني مع النهج السلطوي السلمي؛ وقد قرأت معظم الأعداد
التي
حررها درويش في مجلة الكرمل فلم ألمح أثراً واحداً لوردية الدم وذهبية التراب
وتاريخ البعد الجغرافي الذي حلم به الشاعر في منفاه.
إذن نحن هنا أمام
صورتين متناقضتين/ السياسي المثقف, والشاعر السياسي. وهما - في عرف من مهر الفن
والسياسة- لا يلتقيان إلا بشروط موضعية تقدح بأحد بنود الصدق المطلوبة في التجربة
الشعرية وأعني بذلك وجوب التضحية بأحد الصدقين: الفني أو الأخلاقي؛ ولم يكن درويش
أول
من وقع في هذا التناقض، فقد سبقه إميل حبيبي الذي سرعان ما يلحظ القارئ ذلك
التناقض الواضح بين مقالاته السياسية ونصوصه الروائية، وقد اعترف نفسه بذلك؛ فقال:
"اختياراتي
السياسية تمنعني أحياناً من قول كل شيء، ولا أكتب إلا حين أكون مستعداً
لأن
أقول كل شيء. هنالك أحياناً ضرورات سياسية ومتطلبات ديبلوماسية لا تجعل الإنسان
يتصرف
كما يشتهي. اضطر مرات أن أسكت، ومرات أخرى اضطر فيها إلى أن أبتسم في وجه
عدوي
وأصافحه. وأجد مرات أخرى طريقاً وسطاً من أجل استمرار الحركة السياسية ولكن في
الأدب
فإن ذلك غير جائز إطلاقاً.
ويضيف: أنا موثق في التاريخ والسياسة،
ولكن
في الأدب فأنا لم أعمل موثقاً، الموضوع الذي لا أستطيع قول كل الحقيقة فيه لا
أكتبه، عندما أكتب الأدب فأنا أكتب كل شيء، وأما في السياسة فأنا أسايس، هناك فرق
بين
العمل السياسي والعمل الفني فالعمل السياسي يحتاج إلى دبلوماسية، أما العمل
الفني
فيجب أن أكون صادقاً". (15)
الهوامش:
1_ محمود درويش الجدارية.
2ـ مجموعة من
الكتاب، محمود درويش المختلف الحقيقي، 1999ن
ص19.
3ـ من لقاء أجرته معه صحيفة "ليبيراسون" الفرنسية.
4ـ المصدر السابق.
5ـ المصدر السابق.
6_ انظر
رمضان عمر: سيرة فدوى
طوقان وأثرها في دراسة أشعارها، 1998 نابلس ص 58. وانظر سيرة فدوى طوقان: الرحلة
الأصعب ص33.
7ـ مجلة السفير اللبنانية.
8ـ محمود
درويش: عابرون في
كلام عابر.
9ـ السفير اللبنانية.
10ـ انظر
شاكر النابلسي: مجنون
التراب صفحة 106.
11_ محمود درويش الديوان صفحة 151.
12ـ سميح
القاسم ،الديوان،
دار العودة بيروت ص 447.
13ـ مقالة
لدرويش بعنوان: شعراء المقاومة
ضد المقارنة، مجلة الآداب (بيروت العدد الثامن - 1974- ص7).
14ـ نقلاً عن
جريدة القدس العربي - لندن.
15ـ الدكتور
عادل الأسطة، ظواهر سلبية في مسيرة
محمود درويش الشعرية وأبحاث أخرى, صفحة 7.