عاش عباس محمود العقاد قرابة ثلاثة أرباع قرن(28يونيو 1889-13 مارس 1964م) غذى المكتبة العربية خلالها بما يزيد على مائة كتاب، زيادة على آلاف من المقالات والبحوث نشرت في الصحف والمجلات. ويعد العقاد نموذجا نادرا (للعصامية العلمية) في العصر الحديث. فهو لم يحصل في حياته إلا على الشهادة الابتدائية، ولكنه استطاع أن يقرأ بنهم شديد، ويحصل (بالتثقيف الذاتي) ما لم يحصله أصحاب أرقى الشهادات وأعلاها، فلا عجب أن يغزر عطاؤه، وأن يتعدد إنتاجه ويتنوع، فيضرب بقلمه شتى المجالات والموضوعات: من أدبية وسياسية واجتماعية وتاريخية وفلسفية. وجاءت كتبه في التراجم والسير قرابة أربعين كتابا، من أشهرها ما كتبه عن الأنبياء وعظماء الإسلام، وجاء بترتيبها التاريخي على النحو التالي: 1 عبقرية محمد (1942)، 2- عبقرية عمر (1942)، 3 الصديقة بنت الصديق (1943)، 4- عمرو بن العاص (1944)، 5 أبو الشهداء: الحسين بن علي(1945)، 6 داعي السماء: بلال بن رباح(1945)، 7- عبقرية خالد (1945)، 8- الشيخ الرئيس ابن سينا(1946)، 9 عبقرية الإمام (1949)، 10- عبقرية الصديق (1951)، 11-(القائد الأعظم محمد علي جناح (1952)، 12- عبقرية المسيح (1953)، 13- فاطمة الزهراء والفاطميون (1953)، 14- ابن رشد (1953)، 15- أبو الأنبياء الخليل إبراهيم (1953)، 16- ذو النورين: عثمان بن عفان (1954)، 17- معاوية ابن أبي سفيان في الميزان (1956)، 18- الرحالة ك: عبد الرحمن الكواكبي (1959)، 19- الشيخ محمد عبده (1963).

وفي هذه التراجم- وخصوصا (العبقريات الإسلامية) لا يعطينا العقاد (سيرة الرجل العظيم) إنما يعطينا (صورته الإنسانية) بكل ملامحها وسماتها، وهو يصدر عبقرياته دائما بقوله إنها ليست تاريخا لمن يطلبون التراجم والتاريخ. فيقول في مقدمة (عبقرية الصديق)( إنني لا أكتب ترجمة للصديق-رضي الله عنه- ولا أكتب تاريخيا لخلافته وأحداث عصره(1). وكتابه في (عبقرية عمر).. ليس بسيرة لعمر، ولا بتاريخ لعصره على نمط التواريخ التي تقصد بها الحوادث والأنباء، ولكنه وصف له، ودراسة لأطواره، ودلالة على خصائص عظمته، واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس وعلم الأخلاق، وحقائق الحياة (2). وفي سبيل ذلك نجد العقاد يخالف ( المنهج السردي) في كتابه التراجم من ناحتين: الأولى: الناحية الترتيبية: فهو لا يلتزم ترتيب وقائع الحياة من المهد إلى اللحد، بل يقدم ويؤخر فيها تبعا لمقتضيات منهجه الذي اشتهر (بالمنهج النفسي). والثانية: الناحية التقديرية أو التقييمية: فقيمة (الحدث) في نظره لا ترتبط بضخامته وتوهجه وامتداده الزماني والمكاني، بل بقدر ما يعكسه من دلالات وقيم وأبعاد إنسانية ونفسية (3).

ولعل من أهم ما يشد النظر في عبقريات العقاد أمران: الأول: توقير الشخصيات. والثاني ما سماه العقاد بمفتاح الشخصية: فتوقير العظماء من أمثال أبي بكر وعمر وخالد لازمة من لوازم العبقريات كلها يحرص العقاد عليها، وهي لا تجري مجرى المجاملة التي تقتضيها الأعراف، وليست كذلك من قبيل (عبادة الأبطال)، ولا من قبيل (التزويق الفني) فتجميل الصورة شيء، وتوقير صاحبها شيء آخر، فإنك لو صورت أبا بكر فرفعت صورته مكانا عليا لم تكن قد أضفت إليه جمالا غير جماله، أو غير ملامحه النفسية بحيث تخفى على من يعرفها، فهذا هو التوقير الذي لا يخل بالصورة، ولا يعاب على المصور، وليس هو بالتجميل المصطنع الذي يضل الناظر عن الحقيقة) (4). وانطلاقا من هذا التوقير يفسر العقاد كل الهنات العارضة التي علقت بمعجم العظماء؛ لأن: من ركب الهائل من أمره فعذره في ذلك المركب كما تصدى العقاد لمفتريات أعداء الإسلام، والشبهات التي أثاروها، وأخذ يفندها بعارضة قوية وحجة نافذة. أما ( مفتاح الشخصية) فاصطلاح عقادي، لم يستخدمه أحد قبل العقاد- فيما أعلم- وعاش مغرما باستخدامه حتى في دارساته المقالية أو الفصلية عن الشخصيات(5) ومفتاح الشخصية (ليس بوصف لها، ولا بتمثيل لخصائصها ومزاياها، ولكنه أداة تنفذ بك إلى دخائلها ولا تزيد) (6). -فمفتاح شخصية أبي بكر هو (الإعجاب بالبطولة) (7). -ومفتاح شخصية عمر هو (طبيعة الجندي) (في أخلاقه الوازعة الحاكمة) (8). -ومفتاح شخصية خالد هو طبيعة الجندي (في أخلاقه الدافعة الهاجمة)(9). -ومفتاح شخصية علي هو (آداب الفروسية) (10). والعقاد بثقافته الموسوعية يوظف علوم العصر وثقافته القانونية والنفسية والاجتماعية والقواعد والمعارف العسكرية والأدلة العقلية والمنطقية في عرض مختلف القضايا ومناقشتها، وربط الأسباب بالمسببات، واستخلاص الأحكام والخلوص إلى النتائج التي يراها حاسمة؛ لأنها تعينه على تحديد ملامح الصورة وتشخصيها. والتزاما بموضوع هذا المقال وعنوانه نكتفي بهذه الخلاصة المركزة لأهم خطوط (المنهج النفسي) الذي أخذ العقاد نفسه به في هذه التراجم (11)، لنقف وقفة متأنية مع آراء الآخرين في هذه التراجم، ثم نعرض رأينا فيما كتب وكتبوا.. لقد تعرض العقاد للنقد الكثير فيما كتبه من تراجم، وخصوصا ما كتبه عن عظماء الإسلام، وباستعراض هذا النقد يمكن تصنيفه في ثلاثة أنواع: 1 نقد الدوافع. 2 نقد المنهج والطريقة- وهو يمكن أن نسميه بالنقد الخارجي أو الشكلي. 3 نقد المضامين والأفكار والقضايا والأخبار والروايات، وهو ما يمكن أن نطلق عليه النقد الداخلي أو الموضوعي. أولا : نقد الدوافع يرى الكاتب رجاء النقاش أن العقاد لم يلجأ إلى الكتابات الدينية بعامة، والعبقريات الإسلامية بخاصة إلا لدوافع أو بواعث سياسية نفعية:

إذ أن العقاد بعد أن استقال من حزب الوفد وهو حزب الأغلبية- أحس أنه خسر جماهيريا، فوجد أن الدين هو البديل الذي يوصله إلى قلوب الجماهير، فكتب العبقريات(..فارتدت إليه بصورة مضاعفة- عندما دخل حظيرة الإسلام والكتابات الدينية- مكانة لدى الجماهير فاقت مكانته الأولى أيام كان كاتب الشعب الأول في مرحلة ثورة 1919 الوطنية) (12). وهو تعليل غير صحيح في نظرنا لعدة أسباب أهمها: 1 أن شخصية العقاد عاشت على الفردية والاستعلاء، ولم يكن يهتم بالجماهير ولا بالمكاسب الشعبية، فهو أكثر كتابنا استعمالا لبعض الكلمات الحادة للدلالة على الجماهير ونفسيتها مثل (الدهماء ) و(الغوغائية إلخ ... ) 13). 2 في سنة 1940 تحدى العقاد مشاعر الجماهير المصرية بإصدار كتابه ( هتلر في الميزان)، وفيه يهاجم هتلر هجوما ضاريا، في وقت كانت المشاعر المصرية والعربية تتعاطف فيه مع ألمانيا وهتلر. 3 بدأ العقاد كتاباته الدينية الجادة بكتابه (النازية والأديان) سنة 1940م- أي قبل استقالته من الوفد- لا بالعبقريات الإسلامية التي صدر منها كتابان سنة 1942م. 4 كانت كتابات العقاد في شتى العلوم والفنون- ومنها العبقريات- كتابات للخاصة، ولم تكن كتابات على المستوى الجماهيري الشعبي، وذلك لطابعها العلمي التحليلي العميق. 5 كانت الكتابات الدينية في ذلك الوقت- وبخاصة عن عظماء الإسلام تمثل تيارا دافقا أسهم فيه الدكتور محمد حسين هيكل بكتبه عن حياة محمد وحياة أبي بكر وحياة عمر- وهو رأس رؤوس حزب الأحرار الدستوريين، وساهم فيه طه حسين الوفدي- بكتابه (على هامش السيرة) وتوفيق الحكيم- اللاحزبي- بكتابه (محمد) (14). 6 العقاد- بعد إصدار عبقرياته لم يحرز أي كسب جماهيري سياسي، ولو على مستوى التمثيل الشعبي؛ لأن (الشعبية الجماهيرية) كانت مرتبطة أساسا بعضوية حزب الوفد، لا بالعطاء الفكري العظيم الذي قدمه في العبقريات. ولكننا لا نستطيع أن ننكر أن هذا (الاعتزال الفكري) كان عاملا مساعدا مهما- لا في كتابة العقاد عبقرياته فحسب ، ولكن في غزارة إنتاجه الذي تعددت ألوانه وأنواعه من تراجم وأدب ونقد وشعر وفلسفة وسياسة. ثانيا: نقد المنهج وينتقد سيد قطب- رحمه الله- طريقة العقاد، ويكشف ما تنطوي عليه من أخطار ومزالق، فهي ليست مأمونة في يد كل كاتب؛ لأن الغلطة الصغيرة فيها تذهب بالصورة كلها، فهي غلطة في سمة إنسانية لا في حادثة جزئية، وحتى في يد العقاد لا تخلو من نقص؛ لأن الشخصية الإنسانية ليست وحدة ثابتة في جميع الظروف والأحوال، فالاكتفاء بالسمات البارزة والخصائص الكبيرة والحوادث المختارة لا يكفل تصوير الشخصية من كل جوانبها، وفي جميع ملابساتها، ولا يضمن لنا صورة من الحياة المتسلسلة للبطل- كما عاشها أول مرة، أي لا يضمن لنا سمة القصة، وهي سمة ضرورية في ترجمة الشخصية.(15). وهو نقد سديد إلى حد بعيد، فأقل غلطة في المادة أو الاستنتاج يشوه ملامح الصورة كلها؛ لأنه لا يمكن عزل الجزء أو العنصر الغالط، فالغلط في (المادة) أو (الاستنتاج) في هذا المنهج- وإن بدا جزئيا- يشبه إلى حد كبير ارتعاشة يد المصور بآلة التصوير (الكاميرا) إذ ينتج عن ذلك صورة مهزوزة تائهة الملامح كأنها ليس بينها وبين صاحبها أدنى صلة. والعقاد في العبقريات وغيرها من التراجم كان يعتمد أحيانا على كلمة عابرة تصدر من الشخصية أو على حدث واحد صغير ويستخلص منه سمة من سماتها وأحيانا سمات و دلالات متعددة، فلو فرضنا أن هذا الحدث موضوع، لا مكان له على مسرح الواقع لانهار كل ما رتبه عليه العقاد من سمات ودلالات، وأساء ذلك إلى (صورة الشخصية)؛ لأنها لا تقبل التفتيت والتجزيء.

بعكس الحال في المنهج السردي التقليدي: فالخبر الغالط والرواية المشكوك فيها يمكن عزلها وإسقاطها، ويبقى من تاريخ الشخصية، ووقائع حياتها ما يطمأن إليه على سبيل اليقين. قيادات رشيدة: وفي نطاق المنهج أيضا نقرا أغرب نقد أو اتهام وجه إلى العبقريات أو بتعبير أدق- إلى العقاد نفسه، وخلاصته أنه لم يكتب هذه العبقريات إلا ليحارب بها تيار المد الإسلامي، ويؤكد صحة أفكاره في أولية الفرد في التاريخ وأحقيته كمحرك له، وليطعن في جدوى تنظيمات المد الإسلامي الجماعية في العصر الحديث، ويشوه إيمانهم بهذا الجانب في الإسلام ويشكك في دور العقائد والتربية في توجيه الأشخاص (16). وهو اتهام ظاهر الوهن؛ لأنه حكم على (نية) خافية لا يعلمها إلا الله، ولم يقدم الكاتب دليلا على صحة اتهامه. على أننا إذا استقرأنا التاريخ وجدنا أن (الجماعة العظيمة) ما وجدت إلا بوجود (العبقري المحرك العظيم). وهل انتصرت الأمة الإسلامية إلا بفضل القيادات الرشيدة من أمثال أبي بكر وعمر وخالد، وعصور انحسار المد الإسلامي كان من الممكن أن تمتد وتستمر لولا أن قيض الله للأمة (أفرادا عظاما) من أمثال صلاح الدين وسيف الدين قطز و ابن تيمية والعز بن عبد السلام. ولست أدري بماذا يحكم الكاتب على ما كتبه المستشرقون من مزاعم ومفتريات تصدى العقاد لنقضها في عبقرياته إذا حكمنا على هذه العبقريات بأنها حرب للمد الإسلامي وتشويه لعقيدة المسلم. ثالثا: نقد المضامين يأخذ بعضهم على العقاد التمحل الشديد في الأحكام، وفي التفريق غير المستساغ بين سمات الشخصية وخصائصها، والتلاعب غير الموفق بالكلمات (فعمر رجل عظيم، والنبي إنسان عظيم، ومعاوية رجل قدير لا عظيم، كل هذا تمحل فارغ يدل على نشاط ذهني، ولكنه نشاط مصطنع، فإن الرجل العظيم لا يكون عظيما إلا بعنصر الإنسانية فيه، والقدرة صورة من صور العظمة، ومن كان كمعاوية في نظر معاصريه أسود من عمر نفسه لا تثبت له القدرة لتنتفي عنه العظمة(17). والواقع أن العقاد كان مولعا- في سبيل رسم الصورة الإنسانية للشخصية- بالتفريق بين السمات والملامح التي قد تبدو للنظر العاجل متماثلة أو متداخلة، وله في ذلك آيات تشهد له بالقدرة الذهنية والحاسة الفنية المرهفة، ومن ذلك تفريقه بين الطبيعة الجندية الوازعة الحاكمة، والطبيعة الجندية الهاجمة عند كل من عمر وخالد. وتفريقه بين مفتاح الشخصية والصفة الغالبة، وتفريقه بين إعجاب أبي بكر بمحمد النبي، وإعجاب عمر بالنبي محمد(18). ومن هذا القبيل- في تراجمه الأدبية- تفريقه البارع بين: إمامة الطريقة، وإمامة الصناعة وتفريقه بين الصدق التاريخي والصدق الخلقي والصدق الفني (19). والعقاد حينما أطلق لفظة (الإنسانية) على محمد، ولفظة (الرجولة) على عمر لم يقصد إلى بيان تعارض أو تناقض بين وصفين إنما قصد إلى إبراز الصفة البارزة في (إنسان) بعثه الله (رحمة مهداة للبشر)، وإنسان كانت القوة والرجولة من أ برز صفاته في مصادمة الرجال والأحداث، فالنبي لا يكون رجلا عظيما وكفى، بل لا بد أن يكون إنسانا عظيما فيه كل خصائص الإنسانية الشاملة(20).

وليس من اللازم أن تكون القدرة صورة من صورة العظمة، فقد يكون الإنسان قادرا، ولكنه غير عظيم (وليس من اللازم اللازب أن تقترن القدرة بالعمل الذي تستطيعه العبقرية لما يتفق أحيانا من وقوف العوائق بينها وبين الإنجاز أو الاتجاه إلى ذلك العمل)(21). ويعترض بعض النقاد (22) على ما يسميه العقاد (بمفتاح الشخصية) لأن المقياس الواحد، أو الصفة الرئيسية الواحدة لا تكفي، وذلك لتغيير مواقف الإنسان في كل الأحوال(23). فشخصية عمر على سبيل التمثيل- نمت وتطورت، ولم تثبت على حالة واحدة،وطبيعة الجندي فيه- إن فسرت بعض مواقفه- لا يمكن أن تفسر بعضها الآخر مثل عزل خالد في إبان مجده العسكري، فهذا الموقف يحكمه مقاييس أخرى غير طبيعة الجندي عند عمر مثل إحساس عمر بالعدالة، أو إشعار جماهير المسلمين المحاربين بأن دورها يفوق دور الأفراد مهما كانت قيمتهم وقدرتهم) (24). وكلام العقاد في (مفتاح الشخصية)- وإن شابه بعض الغموض أحيانا- يفهم منه أنه غير الصفة- بمفهومها العام- وهو كذلك غير الصفة الرئيسية التي سماها العقاد (الضابط) (25)، فمفتاح الشخصية في مفهومه يكاد يقترب من مفهوم (الغريزة) في خفائها وسيطرتها وقدرتها، وذلك لا يتعارض مع نمو الشخصية وتعدد مراحلها وأطوارها، وقد عاشت (الطبيعة العسكرية) في (عمر) الجاهلية، كما بقيت في (عمر) الإسلام، وإن تغيرت مظاهرها والأشكال التي تجسدت فيها إلى ما يمكن أن يكون تساميا أو إعلاء Sublimation.

وأعجب كيف غاب عن الأستاذ النقاش أن عزل عمر خالدا كان عملا من (الأعمال العسكرية)، فعمر هو القائد الأعلى يعزل قائدا من قواده، وعمر القائد الأعلى يتخذ هذا القرار دون أن يستشير فيه أحدا شأن الأوامر والقرارات العسكرية (العليا) في وقتنا الحاضر. استقراء ناقص: ونحن نرى أن أبرز ما يمكن أن نأخذه على العقاد (الاستقراء الناقص) فهو يعتمد- كما عرفنا- على قلة من الأخبار والأحداث، ويستنبط منها السمات النفسية التي يركب منها (الصورة الإنسانية) للشخصية. وهو لا شك مزلق خطير؛ لأن الحدث الواحد لا يمكن أن يدل على ملمح نفسي ثابت أصيل، بل لابد من تواتر الأحداث واطرادها حتى يصح الاستنتاج، ويسلم الحكم، ومع هذا الاعتبار الأخير يجب أن يستقيم الباعث الدافع مع العمل الذي تطلب منه الدلالة، لأن بذل المال للفقراء- مثلا- قد يكون وراءه باعث نفسي غير التقوى وحب الإحسان والرحمة والأريحية. ويرتبط بهذا المأخذ إسراف العقاد أحيانا في الإخلاص لمنهجه إلى حد الاستسلام الذي ينكره ا لعلم والمنطق: ففي سبيل (رواء الصورة) أو استكمال ملامحها على نسق معين قد يستعين العقاد ببعض الروايات والأخبار الواهنة والمرجوحة إذا كان لها من الدلالات ما (يخدم) الصورة، ويبرز لها رواء آسرا وبريقا أخاذا، فهو لكي يثبت لعمر بن الخطاب سبقه الحكومات والدساتير الحاضرة إلى قاعدة (إسقاط التهمة عن المذنب لبطلان التفتيش) يورد قصة عمر وكيف تسور حائط بيت ودخله دون استئذان؛ لأنه سمع صوت رجل وامرأة فإذا أمامها زق خمر، فلما نهرها على هذه المعصية جابهه الرجل بأنهما عصيا الله في واحدة أما عمر فقد عصى الله في ثلاث وهي: التجسس، ودخول البيوت من غير أبوابها، وعدم الاستئذان والتسليم على أهلها) فيعفو عمر عنهما (26). والقصة ظاهرة الافتعال، ولا تتفق مع ما عرف عن عمر من تلمسه الشبهات لاتقاء إقامة الحدود. وهي بدلالتها لا تخدم رواء الصورة العمرية، بل قد تؤدي إلى (عكس المطلوب) فكيف يغيب عن عمر- رضي الله عنه- وهو من الأئمة المجتهدين- وما ذكره به رجل من عامة الناس من آداب اجتماعية فرضها الإسلام وأصبحت مشهورة عند الكافة؟ ومن هذا القبيل ما ذكره العقاد في (عبقرية عمر) من أن (الهيبة) كانت صفة من أبرز الصفات العمرية، وهذا صحيح، فقد كان (مهيبا) في نظر أعدائه، كما كان ( مهيبا) في أنظار الرعية، ومما استدل به العقاد على هذه (السمة) أن عمر كان (يحتجم) ذات يوم فتنحنح عمر فجأة، فسقط الحجام (مغشيا) عليه.

وأن عمر كان يمشي ذات يوم ووراءه جماعة من المسلمين، فبدا له أن ينظر وراءه فجأة، فلم يبق واحد منهم (إلا وحبل ركبتيه ساقط) على حد قول العقاد، ولست أدري- لو صح هذان الخبران- كيف استطاع عمر بهؤلاء وأمثالهم أن يدك قواعد إمبراطوريتي الفرس والروم، وأن يحقق- بهؤلاء وأمثالهم في عشر سنين- من الانتصارات والفتوحات، ما لم تحققه الإمبراطورية الرومانية من قبل في ألف عام باعتراف المؤرخين الغربيين. ولا يستقيم الخبران إلا إذا كان عمر لا مهيبا- ولكن دمويا جبارا- لا يعرف العدل والرحمة والإنسانية شأن الأكاسرة والقياصرة. على أن التاريخ يروي لنا صورا متعددة من صراحة الرعية معه وجرأتها على مواجهة بعض آرائه بالاعتراض، فامرأة تخطئه فيما يراه بشأن (تحديد) المهور، وينزل على رأيها، ورجل- من عامة الناس- يعلن- على رؤوس الأشهاد- أنه (لو رأى فيه اعوجاجا لقومه بالسيف).. إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة. ونأخذ على العقاد أيضا أنه يلح ويسرف في الدفاع عن شخصيته بصورة تخرج أحيانا على الخط الموضوعي العقلاني، مما قد يدفع القارئ إلى الوقوع تحت تأثير ما يسمى في علم النفس (بالإيحاء العكسي). ومثال ذلك: دفاع العقاد عن عمر حين عزل خالد بن الوليد، وكان من ركائزه الأساسية في هذا الدفاع: أن خالدا (انتهى دوره التاريخي) (27). وكأن عزل خالد كان ضرورة الضرورات التي لا محيص عنها لسلامة الدولة الإسلامية. ونقاط الضعف في هذا الدفاع تتمثل فيهما يأتي: 1 أن خالدا عزل وهو في عنفوان قوته وقمة انتصاراته، فلم يكن في حياته ومواقفه ما يوحي بانتهاء هذا الدور. 2 أن انتهاء هذا الدور التاريخي مسألة ترتبط بعمر أكثر من ارتباطها بخالد، أو بعبارة أخرى كان عزل خالد (عملية إنهاء عمرية)، ولمن تكن (عملية انتهاء خالدية) وقد يؤيد هذا التكييف أن أبا بكر ما كان ليعزل خالدا- لو امتد به الأجل؛ لأن وجهة نظره في خالد معروفة، وهو القائل عنه (ما كنت لأشيم (لأغمد) سيفا سله الله على المشركين). لقد أجهد العقاد نفسه، وحملها من المشاق في الدفاع عن عمر في هذه المسألة بخاصة- ما كان في غنى عنه؛ لأن حق الحاكم في عزل ولاته وقواده كحقه في اختيارهم لا يحتاج إلى دفاع أو تبرير، وهو حق مقرر معروف في الدساتير الحديثة. ولا يستطيع أكثر الناس عداء لعمر أن يدعي أنه بهذا العزل أراد تحقيق مصلحة ذاتية، أو ضحى بصالح عام للدولة الإسلامية. وربما أراد عمر بحاسته السياسية القديرة أن يغذي الدولة الإسلامية بدماء جديدة في المواقع التي أخذت بأضواء القادة الباهرين، وقد يكون في بقاء خالد في موقعه وهو أشهر وأقوى قائد في زمنه- حجب لكثير من الشخصيات الشابة ذات الإمكانات القيادية القادرة التي ما كانت تستطيع أن تؤدي دورها القيادي في وجود شخصية قيادية باهرة كشخصية خالد بن الوليد.

إنما يكون عمر في حاجة إلى دفاع مستميت حقا إذا ما أدى عزل خال إلى هزيمة الدولة وتقهقر جيوشها، أو على الأقل- توقف مسيرتها في الزحف والانتصار-، ولكن الواقع التاريخي يقرر أن المسيرة استمرت، وأن سلسلة الانتصارات لم تنقطع في شرق وغرب وشمال وجنوب، ولعل أشهر فتح تم بعد عزل خالد- هو فتح مصر ومنها انطلق الإسلام إلى النوبة والشمال الإفريقي. ولكن هذه النقود الموجهة إلى العبقريات الإسلامية يجب ألا تنسينا أن هذا العطاء الذي قدمه العقاد للمكتبة العربية سيظل له قيمته الطيبة بمنهجه الجديد، وعمقه الفكري، وتصديه للهجمات الشرسة العاتية التي شنها أعداء الإسلام من المستشرقين والصليبيين على القيم الإسلامية وعظماء الإسلام. المراجع والتعليقات (1)العقاد: عبقرية الصديق 7 ( دار الهلال: القاهرة 1955) (2)العقاد: عبقرية عمر 6 ( دار الهلال: القاهرة 1968). (3)انظر: عبقرية الصديق 7- وشوقي ضيف مع العقاد 86 (دار المعارف القاهرة 1964). (4)عبقرية الصديق 8. (5)انظر مثلا كتابه (رجال عرفتهم) ففي الفصل الذي كتبه عن الشيخ علي يوسف يرى أن مفتاح شخصيته (العصامية) (دار الهلال: القاهرة 1963). (6)عبقرية عمر 74. (7)عبقرية الصديق 61. (8)عبقرية عمر 76. (9)عبقرية خالد 246(دار الهلال: القاهرة د.ت). (10)عبقرية الإمام 20 (دار المعارف: القاهرة 1952).

(11)أخذ العقاد نفسه بهذا المنهج- على سبيل التغليب-ولكننا نجد في تراجمه بصمات واضحة لقواعد المنهج الأخرى كالتاريخ والاجتماعي والانطباعي وغيرها، ومن ثم نجد أن صلاح عبد الصبور قد جانبه التوفيق حينما ذكر أن العقاد لم يعط اهتماما للعوامل الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والجنسية في صنع العظيم وتكييف علاقته بمجتمعه (ماذا يبقى منهم للتاريخ 43، دار الكتاب العربي القاهرة 1968). وهذا غير صحيح- كما ألمعنا- فالعقاد لم يغفل هذه العوامل، وإن كان يرى أن المقام الأول في صنع العظيم للعوامل والخصائص الذاتية (راجع مثلا فصل (شئون المجتمع 108-123) من كتاب العقاد: (ذو النورين: عثمان بن عفان: دار الهلال: القاهرة 1954) وراجع كذلك النصف الأول من كتابه (بلال: داعي السماء) مطبعة الاستقلال: القاهرة د.ت.). (12)رجاء النقاش: عباس العقاد بين اليمين واليسار 209(ط1- بيروت 1973). (13)صلاح عبد الصبور: مرجع سابق 41، وارجع كذلك إلى ذلك الحوار الذي أجراه العقاد بين أبي العلاء وتلميذه، وفيه يزري بالكثرة من سواد الأمة لأن (أكثرهم لا يعقلون) وعلى النقيض يبدي اعتزازه وتوقيره بالصفوة.. أهل الذكر الذي يعلمون (رجعة أبى العلاء 116.ط3 بيروت 1967). (14)انظر د. أحمد هيكل: تطور الأدب الحديث في مصر 285(دار المعارف: القاهرة 1968). (15)سيد قطب النقد الأدبي: أصوله ومناهجه 102 (دار الفكر العربي: القاهرة 1947). (16)انظر غازي التوبة: الفكر الإسلامي المعاصر (227-226) (ط1 بيروت 1969). (17)إحسان عباس: فن السيرة 64(ط2 دار الثقافة بيروت). (18)انظر: عبقرية الصديق 81. (19)شاعر الغزل: عمر بن أبي ربيعة 54(ط 5 دار المعارف: القاهرة 1965). (20)انظر عبقرية عمر 196. (21)السابق 18. (22)رجاء النقاش: مرجع سابق. (23)السابق 223. (24)السابق 222. (25)انظر: عبقرية عمر 75. (26)السابق: 176-177. (27)عبقرية خالد: 217. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي)عدد(1)بتاريخ(1414هـ)


المراجع

bab.com

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة   العلوم الاجتماعية