الــمرحلـة الثانيـــة
أدب طفـــرة
س بالرغم من أن تقسيم تاريخ الأدب العربي إلى عصور خاضعة للتقسيم السياسي
أصلته الدراسات الاستشراقية، حتى صار نمطيا، يتداوله الكتبة والدارسون واحدا بعد
آخر، إلا أنه كان لبعض المستشرقين نظرات حصيفة، وتميز في الحديث عن الأدب الإسلامي،
نجد بعض من ذلك – على سبيل المثال لا الحصر – عند كارلو نالينو المشار إليه آنفا،فقد
ذهب إلى أن أثر الإسلام في الأدب كان عظيما، مفندا ما جاء في عدد من الكتب التي
كانت متداولة في المدارس المصرية آنذاك، وأكد نالينو أن ذلك الأثر " لا يقدر مقداره
في حياة الأمم الإسلامية وآدابهم وعلومهم، وهو أكبر من تأثير الإنجيل في النصارى"،
ويرى أن "أول من يصلح له اسم شاعر إسلامي هو حسّان بن ثابت الأنصاري"،لأن "حسن
إسلامه ظاهر في جملة من أشعاره" (38)،وهذا على عكس ما شاع في الناس من أن الإسلام
لم يؤثر في الشعراء، وأن شعر حسان ضعف في الإسلام. ويصرف نالينو صفة الإسلامية عن
جملة من الشعراء الذين عاشوا في صدر الإسلام، لأن شعرهم لم يستجب لروح القرآن
الكريم، ومن هؤلاء متمم بن نويرة اليربوعي،صاحب المراثي في أخيه مالك الذي قتل في
جملة العرب المرتدين. (39)
على أن هناك مستشرقا آخر كان له تميز في حديثه عن الأدب الإسلامي،وهو
المستشرق الألماني الكبير كارل بروكلمان، فقد قدم تقسيما فريدا لأدبنا، وجعله في
قسمين كبيرين:
1-
أدب الأمة العربية من أوليته إلى سقوط الأمويين.
2-
الأدب الإسلامي باللغة العربية،من قيام دولة بني العباس إلى الآن.
لقد ميز بروكلمان إذن بين أدبين: أدب الأمة العربية والأدب الإسلامي، ونكاد نقرأ
أنه يميز في هذا بين الأدب العربي والأدب الإسلامي.فالأدب العربي هو ما صدر عن
العرب،كما أن الأدب الألماني صادر عن الألمان، والروسي عن الروس، والإنجليزي عن
الإنجليز. وأما (الأدب الإسلامي) فقد أطلق بروكلمان هذا المصطلح مراعيا أمرين
اثنين:فأما الأمر الأول فهو إسهام الشعوب الإسلامية في هذا الأدب، وأما الأمر
الثاني فهو تخلص هذا الأدب من الروح الجاهلية وبقاياها التي كانت ما تزال قائمة على
عهد بني أمية، كالعصبية القبلية.وهذا يعني أن بروكلمان نظر إلى المصطلح من جانبين
اثنين وهما:الامتداد الجغرافي المتصل بالأمم المفتوحة وانتشار الشعوب الإسلامية في
أقطار من الأرض شتى من جهة، حيث لم يعد ذلك الأدب محصورا في جزيرة العرب وأطرافها
فحسب،ثم جانب النظر إلى ذلك الأدب في بعده العميق المتصل بالقيم المستجيبة لروح
الإسلام. وهذا يثير قضية أساسية تتعلق بعلاقة الأدب باللغة، فبالرغم من أن هؤلاء
الأدباء المنتمين إلى شعوب إسلامية مختلفة قد اتخذوا العربية لسانا في آدابهم، إلا
أن ذلك غير كاف لجعل هذا الأدب عربيا خالصا، عند بروكلمان، فالأصح عنده أن يقال إنه
أدب إسلامي مكتوب بالعربية. وهذا يفتح أفقا آخر له أهميته، وهو أن صفة الإسلامية
التي اكتسبها هذا الأدب ليست نابعة من اللغة بقدر ما هي نابعة من الدين الذي اعتنقه
هؤلاء وعاشوه وتمثلوه وتشربوه فانعكست روحه في آدابهم.وهذا يعني أننا نستطيع أن
نتحدث أيضا عن أدب إسلامي غير عربي.فمنذ القرن الرابع الهجري مثلا سيصير للأدب
الإسلامي لسان آخر، إضافة إلى العربية، هو اللسان الفارسي، الذي أنجب عبر التاريخ
أدباء كباراً لا تقل مكانتهم عن أدباء العربية، إن لم تتفوق عليهم، في نظر بعض
الدارسين الفرس.وقل مثل ذلك عبر تتابع العصور عن الأدب الأردي والأدب التركي
وغيرهما..
فهل ينطبق هذا على عدد من الآداب المعاصرة؟
وإلى
م ينسب الأدب؟ أإلى اللغة، بغض النظر عن المحتوى الفكري والمذهب الفني؟ فنقول الأدب
العربي والأدب الفرنسي والأدب الإنجليزي والأدب الإسباني ؟ مستندين إلى اللغة التي
كتبت بها تلك الآداب.أم ينسب الدب إلى الأرض/البقعة الجغرافية؟فنقول الأدب الهندي
والأدب المصري والأدب الأندلسي؟ أم إلى الدين،بغض النظر عن العرق أو اللغة أو
الوطن؟فنقول الأدب اليهودي والأدب النصراني والأدب البوذي والأدب الإسلامي؟ أم إلى
الفكر والإيديولوجيا؟فنقول الأدب الوجودي والأدب الإشتراكي والأدب العبثي والأدب
الليبرالي؟ أم إلى المذهب الفني؟ فنقول الأدب الكلاسي والأدب الرومانسي والأدب
الرمزي والأدب الواقعي؟
والحال أن كل تلك الاستعمالات واردة، بل هي حقيقة واقعة. فكيف التمييز؟
إننا عندما نقول مثلا: (الأدب الفرنسي)،فإننا نعني أدبا معينا لابد فيه من تحقق
شرطين ليصبح جديرا بهذه الصفة:
1-
إنه أدب صيغ بلسان خاص ،هو اللسان الفرنسي.
2-
إنه أدب ينتمي إلى بقعة جغرافية معينة هي فرنسا.
فإذا انتفى أحد هذين الشرطين سقطت التسمية، وأصبحنا أمام أدب بحاجة إلى تسمية جديدة
تتطلبها الدقة في نعت الأشياء، وقد تكون هذه التسمية بسيطة، وقد تكون مركبة،فالأدب
الذي يصدر عن أدباء الكيبك مثلا لا يصح أن يسمى أدبا فرنسيا،وإن اتخذ الفرنسية
لسانا، وإلا كان ذلك جناية على أهل هذا البلد،وكذلك الشأن مع آداب أخرى تنتمي إلى
أقطار بعيدة عن فرنسا،مثل جزر سيشيل والريينيون وغيرهما.. ولذلك يُتحدث في مثل هذه
الأحوال عادة عن أدب ما وراء البحار.
Littérature d’outre mer
ويرصد لهذا الأدب جوائز خاصة لا تختلط مع الجوائز التي ترصد للكتاب الفرنسيين
الخلّص، كما ترصد جوائز للذين يكتبون بالفرنسية من المهاجرين المقيمين بفرنسا.
إن
ما تكتبه أندريه شديد، وما يكتبه الطاهر بنجلون، وما كتبه يوما رشيد بوجدرة، ليس
أدبا فرنسيا خالصا بحال، وإن اتخذ الفرنسية لسانا، بل وإن أنشئ على أرض فرنسا، فكيف
إذا كان هذا الأدب مكتوبا في أرض أصحابه؟.
ولذلك تجد أصحاب هذا الشأن يتحدثون عن (الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية). فهو إذن
أدب (مغاربي) لأن أصحابه ينتمون أصلا إلى المغرب العربي، ولكن بما أنهم لم يكتبوا
أدبهم بلغة وطنية كان لابد من تلك اللاحقة المزيلة لكل التباس: (المكتوب بالفرنسية).
ولذلك قال أديب الثورة الجزائرية مالك حداد رحمه الله تعالى:"لا تلمني إذا صدمتك
رطانتي.. قد أراد لي الاستعمار أن أحمل اللكنة في لساني...أن أكون معقود
اللسان."(40)
إنه
الوعي الذي أدركه مالك حداد، ولم يدركه حتى الآن بعض أبناء جلدتنا ممن لا يزال يكتب
بلغة المستعمر.
وما قيل عن الأدب الفرنسي يقال عن غيره من الآداب، كالأدب الروسي والألماني والروسي
والصيني..ولذلك يميز عادة بين الأدبين الإنجليزي والأمريكي، بالرغم من تقارب
اللسانين.
قد تبدو هذه القضية شائكة ومعقدة بالغة التعقيد، إلا أنه قد كفانا همها منذ ما يقرب
من قرن من الزمن الناقد الفرنسي فان تيكم عندما اعترضته وهو يعالج قضية الأدب
المقارن،حيث قرر بنوع من التفصيل الواضح ما يلي: (هنا نقطة أولى ينبغي توضيحها: ما
هي حدود أدب من الآداب في عصر من العصور؟ما هي الحدود التي إذا تعديناها جاز لنا أن
نتحدث عن أدب أجنبي، وعن تأثر أو تأثير به فيه؟ الجواب على هذا سهل حيثما تكن
المساحة اللغوية منطبقة كل الانطباق أو بعضه على المساحة السياسية، كما هو الشأن
بين فرنسا وإنجلترا أو فرنسا وأسبانيا. لكن هذا الانطباق غير متوفر في غالب
الأحيان، وهناك حالات كثيرة يصعب أن نجد لها حلا عاما، فكثيرا ما تكون اللعة
السائدة في بلد من البلدان ممتدة إلى ما وراء حدوده، وهن لا بد أن نتساءل: هل نلحق
الآثار التي تظهر فيما وراء هذه الحدود بالأدب القومي الذي تنتجه الأمة؟ أما
الألمان فإنهم يعتقدون بذلك فيما يتعلق بهم، فتراهم يضعون الكتاب السويسريين هالر،
وبودمر، وج كيلر، والكاتبين النمسويين روجرز وأنتسنجروبر في عداد الأدباء الألمان،
بل في منازل طيبة من مصاف هؤلاء الأدباء. وأما في فرنسا، حيث الوحدة القومية قديمة
مغرقة في القدم، وحيث الشعور بهذه الوحدة عميق قوي، فإننا نستحي أن ننسب إلينا من
ليس منا. لكننا لأسباب بديهية نعد روسو، ودي ميستر، كاتبين فرنسيين، رغم أن الأول
من جنيف والثاني من سافوا، ونقبل في عدادنا، فينه، وشيرر، ورو، وشربولي لسويسريين،وردنباخ،
وفرهارن البلجيكيين، لأنهم حوموا حول باريس كمركز أدبي، ولكننا ندع لسوسرا توبفر،
وندع لبلجيكا كاميل ليمونيه، لأنهما آثرا البقاء في بلادهما، ولذلك يجب أن نعد
تأثير زولا في كاميل ليمونيه داخلا في نطاق الأدب المقارن، وكذلك الرومنطيقية في
جنيف، وكذلك التأثيرا الفرنسية في الأدب الكندي المكتوب باللغة الفرنسية، وكذلك
الكتاب الأمريكان بالنسبة إلى الأدب الإنجليزي، فقد أصبح الإنجليز لا يدخلون آثارهم
في نطاق الأدب الإنجليزي، لهذا يجب أن ننظر إلى تأثير كارليل في إمرسون أو تأثير
إدجار بوا في القصاصين الإنجليز على أنه من موضوعات الأدب المقارن.
وهذه البلدان أو غيرها يمكن أن تكون مقسمة بين عدة لغات…الخ)(40مكرر)
وكذلك الشأن في (الأدب العربي) مصطلحا، فهو أدب ينتمي إلى أمة العرب،وبلاد العرب،
ولسان العرب. ولعل اللسان هنا أوفى، إذ ليست العربية من أحدكم من أم ولا أب، ولكن
العربية اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي، كما جاء في الأثر.
أما عندما نتحدث عن الأدب الإسلامي فإن الأمر يختلف قليلا أو كثيرا.إننا لا نستطيع
مثلا أن نحدد الأدب الإسلامي بالمكان، إذ الإسلام لا مكان له محددا، فالأرض كلها
للمسلم وطن. كما لا نستطيع تمييز هذا الأدب باللسان، ولو كان هذا اللسان عربيا
مبينا، إذ في ذلك من التضييق ما لا يخفى على اللبيب.وإن كان بعض التعريفات تريد
الانطلاق من المكان أو اللسان أو منهما معا، إلا أنها تصطدم عند التطبيق بأن الأدب
الإسلامي يأبى ذلك التحديد، وهو المنطلِق بطبعه إلى الآفاق.
فالمكان هنا ممتدّ، وهو قابل للتحول المستمر، واللسان متعدد، وإن كنا لا نجادل في
أن العربية هي لغة الأدب الإسلامي الأولى، ذلك بأن غير العرب من الأدباء المسلمين
جعلوا للعربية من أدبهم حظا وافرا.
وهذا أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى، يتحدث عن واقع العربية وآدابها في الهند
،وحسبك به حجة في هذا الباب، فيقول:"لو وصل المد اللغوي والثقافي والحضاري الذي
احتضن مصر والشام والعراق، إلى أسوار هذه القارة الهندية وتوغل فيها،كما نوغل في
ربوع الشرق العربي، وربطها الخيط النوراني الذي انبثق من الجزيرة العربية في فجر
الفتح الإسلامي، لكان لهذه البلاد شأن غير هذا الشأن...
ولكن بالرغم من أن اللغة العربية لم تكن في يوم من الأيام لغة النطق والتفاهم على
مستوى الشعب والجمهور، فإن صلة هذه القارة باللغة العربية وحركة التأليف والتدوين
عميقة وقديمة، وقد قدر الله أن تظل هذه البلاد متمسكة عبر القرون والأجيال بعلوم
الكتاب والسنة مسايرة لركب التأليف، والإنتاج العلمي السيار، حين ساق إليها في
طليعة الدعاة الغزاة، وفي مقدمة الكتيبة المؤمنة المغامرة في أوائل القرن الثاني
الهجري، المحدث الكبير الربيع بن صبيح السعدي الذي يقول عنه الجلبي في "كشف
الظنون": هو أول من صنف في الإسلام، أو كان يلي أول المصنفين في الإسلام كما قال
بعضهم، وكان قد خرج مع عبد الملك بن شهاب المسمعي من مطوعة أهل البصرة، فمات بأرض
الهند في سنة ستين ومائة وكانت في موته شهيدا خارجا في سبيل الله حياةٌ للعلم، وبث
للهمم، وحفز للعزائم، وتأمين لمستقبل هذه البلاد العلمي والتأليفي." (نظرات في
الأدب:70).
ويذكّرنا أبو الحسن ببعض أعلام الثقافة العربية الإسلامية في الهند، ومن بينهم
الإمام رضي الدين أبو الفضائل الشيخ حسن بن محمد الصغاني (ت 650هـ)،من لاهور،
والعلامة محمد طاهر الفتني (ت 986هـ)، والشيخ عبد النبي الأحمد نكري،من علماء
القرن الثاني عشر، والعلامة التهانوي،صاحب (كشاف اصطلاحات الفنون)، وهو أشهر من أن
يعرّف.والسيد مرتضى بن محمد البلكرامي المشهور بالزبيدي، صاحب (تاج العروس)، وهو
أشهر من نار على علم، كما يقال.ومن الشعراء مولانا السيد غلام علي البلكرامي،صاحب:
(
السبع السيارة)، وهي سبعة دواوين له بالعربية.وقد سجل الشيخ أبو الحسن للهند أنها،
"وهي الخاضعة لنفوذ الفرس الأدبي والثقافي، والتي كانت تعيش على فتات مائدة العرب
في اللغة والأدب، أنجبت في مختلف عصورها من استطاع أن يسمو على الأسلوب الأدبي
التقليدي الذي كان يسيطر على العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، بعد أن ظهر كتاب
(المقامات) للحريري، على المسرح الأدبي" (نفسه:72)
وبنظرة الفاحص المحقق، والذواقة المدقق، يكشف أبو الحسن عن أمر ذي بال، متعلق
بتجديد الأدب، فيقول: (وإذا لم تكن الهند المجليةَ في مضمار التحرر من قيود السجع
والقوافي، والبديع والصنائع اللفظية، وإيثار جانب المعاني على جانب زخرفة الألفاظ،
وإرسال النفس على سجيتها، وإطلاق عنان القلم، فقد كان السبق في ذلك، والزعامة
العلمية لنابغة العرب، وإمام فلسفة التاريخ،العلامة عبد الرحمن بن خلدون التونسي
ولمقدمته العظيمة الفريدة التي هزت العقول والأذواق، وشقت طريقا جديدا للإنشاء
والبحوث العلمية، (*)، أقول: إذا لم يقدر للهند أن تكون هي المجلية في هذا المضمار،
وقد كان طبيعيا، لأنها كانت في آخر حدود العالم الإسلامي وتحت نير الحكم العجمي
السياسي والثقافي، فقد كانت المُصَلِّيةَ في هذا المضمار،إذ نبغ فيها الإمام أحمد
بن عبد الرحيم المعروف بولي الله الدهلوي(م1176هـ)،فألف كتاب"حجة الله البالغة"،
والكتاب ...مثال لسلامة الذوق الأدبي، ونصاعة اللغة، وقوة العبارة وانسجامها،
وبعدها عن السجع البارد..."
هذا عن بعض من كتب من أهل العجم بالعربية، يسوقه أبو الحسن عن علم ومعرفة يقينية،
وهو الخبير بعدة لغات، منها العربية، ومنها الأوردية التي كتب بها مسلمو القارة
الهندية تحفا من الأدب الإسلامي الرفيع.
إلا أننا لا نملك، وليس من حقنا، أن نلغي لغات الشعوب الإسلامية من غير
العرب، وهي تتوافر على أدب غني وغزير ومتنوع، و إلا فأين يمكن أن نضع فريد الدين
العطار والجامي ونظامي وحالي والسمرقندي وجلال الدين الرومي والشيرازيين من
القدماء، ومحمد إقبال ومحمد عاكف ونجيب فاضل وسعيد النورسي ومرال معروف وجانكيز
ضاغجي من المحدثين؟
على أن المثير في أطروحة بروكلمان أنه يجعل الأدب الإسلامي مقترنا بدولة بني
العباس، مما يعني أن هذا الأدب ظل كامنا كمون النار في الحجر منذ مجيء الإسلام، حتى
إدا انطلق انطلق فجأة مستويا مع مجيء العباسيين دونما تمهيد، مما يجعل نطلق عليه
اسم (أدب طفرة).
فهل صحيح أن قيم الإسلام ظلت غائبة عن الأدب طوال عصر الرسول صلى الله عليه وسلم
وعهد الخلفاء الراشدين وزمن بني أمية، ثم ظهرت طفرة؟
وهل صحيح أن مساهمة الشعوب الإسلامية في الأدب أيضا تأخرت إلى زمن العباسيين، على
الرغم من أن زمن الفتوحات الكبرى، شرقا وغربا، إنما كان على عهد الخلفاء الراشدين
وزمن الأمويين؟
أليس هذا خضوعا جديدا للتفسير السياسي للأدب، حيث يصبح الأدب تابعاً للتحولات
السياسية؟ ثم هل من تحول هو أعظم في حياة الناس من التحول من الجاهلية والشرك إلى
الإيمان والتوحيد؟ وأيهما أشد أثرا على حياة الناس وفكرهم وسلوكهم وآدابهم:انهيار
الأصنام التي كان يقوم عليها المجتمع الجاهلي، أم انهيار أسرة حاكمة وقيام أخرى،
وكلاهما يجمعهما التوحيد؟
لقد ذهب فريق من الباحثين إلى أن التحولات الفنية تحتاج دائما إلى فترة زمنية
لتنضج، وإن شأن الآداب في ذلك مخالف لشأن السياسة، فالتحول السياسي أسرع ظهورا من
التحول الفكري والأدبي، وقد رأينا كلمة طه حسين في هذا الموضوع صدر هذا البحث. وعلى
هذا يذهب هؤلاء إلى أن أثر الإسلام في الأدب كان ضعيفا أول الإسلام، وانه كان لا بد
من فترة زمنية كافية حتى يظهر ذلك الأثر واضحا نطقا جليا.
وبالرغم من أن هذا الرأي ترده كثير من النصوص الأدبية التي قيلت على عهد الرسول صلى
الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، إلا أنه أسد من القول بالطفرة التي قال بها
بروكلمان.
وإذا كانت بعض الأحداث البشرية المحدودة الأثر أحيانا، كحرب 56 ، وهزيمة يونيو 67،
قد أحدثت في الأدب والفكر العربيين ما لم تحدثه النكبة نفسها، في نظر بعض المحللين،
فكيف إذا تعلق الأمر بأكبر تحول عرفته البشرية قاطبة في تاريخها الطويل،وهو انبثاق
الإسلام على عهد محمد صلى الله عليه وسلم؟
وأما مساهمة غير العرب من المسلمين في الأدب، فلا شك أنها استفاضت في العصر
العباسي، إلا أن أصولها قديمة،فهذا سحيم عبد يني الحسحاس،شاعر من أصل حبشي، وكان
على عهد عمر رضي الله عنه،وكان متعهرا في شعره، يتغزل بنساء سادته،حتى لقد حذره عمر
رضي الله عنه، عندما سمع قوله من يائيته:
وبِـتْـنَا وِسَـادَانا إلى iiعَلَجَانةٍ
تُـوَسّـدُنِـي كَفّاً وتَثْني iiبِمِعْصَمٍ |
|
وحِقْفٍ تهــَاداهُ الرِّيَاحُ تهَادِيَا
عليَّ وتَحْوِي رِجْلَها مِنْ iiوَرَائِيَـا |
وقال
له: ويلك، إنّك لمقتولٌ.
ومع ذلك كان يصدر عن سحيم من الشعر أحياناً ما يظهر فيه أثر الإسلام،ومن ذلك مطلع
رائيته تلك التي عدت من المفردات التي لا مثيل لها، وهو قوله:
عُـمَيْرَةَ وَدِّعْ إن تجَهَّـزْتَ غاديَـا
كَفَى الشَّيْـبُ والإسْلامُ للمَرْءِ ناهِيَا(41)
إذ
قال له عمر،وقد سمع هذا البيت:لو قلت مثل هذا لأعطيتك.وفي رواية:لو قدمت الإسلام
على الشيب.
بل إن بروكلمان نفسه يذكر بعض الشعراء من العجم، ممن عاشوا قبل العصر العباسي، أي
إن غير العرب، أو لنقل المستعربين،كما نعتهم بذلك عمرو الكلبي في بائيته
المشهورة،كانوا يقرضون الشعر قبل عصر بني العباس، فكان لهم بذلك إسهام في حركة
الشعر العربي،وممن ذكرهم بروكلمان، سحيم،وزياد الأعجم،مولى عبد القيس، قال:"وكان
يستعمل كلمات فارسية في الشعر العربي"(42)، وإسماعيل بن يسار الذي(كان مبتلى
بالعصبية للعجم والفخر عليهم) (43) ، وأبو العطاء السندي الذي (كان يجمع بين اللثغة
واللكنة)(44)،وحماد بن سابور الديلمي، ومن أشعرهم نصيب بن رباح الشهير بغزلياته.
وأما دفع الإسلامية عن الأدب في عصر بني أمية، لغلبة العصبية القومية التي نهى عنها
الإسلام، فقد ظهر في العصر العباسي ما كان أشدّ من ذلك، وهو الشعوبية التي عملت على
نخر كيان الدولة سياسيا وثقافيا، بل إنها عملت على تقويض قيم المجتمع الإسلامي،إذ
كان أغلب الشعوبيين من الزنادقة.
وعلى هذا يظل مفهوم الأدب الإسلامي، عند بروكلمان، منطلقا من أنه الأدب الذي أسهمت
فيه كل الشعوب التي انضوت تحت لواء الإسلام، وهذا في الحقيقة على أهميته ليس غير
عنصر واحد من عناصر الأدب الإسلامي، ومع ذلك لا يستطيع أحد أن يجحد أن هذا
المستشرق استطاع أن يضع يده عليه متجاوزا التحديد الذي جعل ذلك الأدب حبيس فترة
قصيرة من عمر التاريخ.
الهوامش:
(38)تاريخ آداب اللغة العربية: 106
(39)نفسه: من 99 إلى 108
(40)ديوان الشقاء في خطر:37
(*)رأي الندوي عن ابن خلدون حصيف جدا،وانظره مفصلا في المقدمة،باب الأدب،وراجع كتاب
الندوي: (نظرات في الأدب)،مطبوعات رابطة الأدب الإسلامي العالمية،رقم 1،دار
القلم،دمشق، 1408هـ، 1988م .وانظر بحثنا (خطاب المقدمة:ابن خلدون أديبا)
(40مكرر) :الأدب المقارن:فان تيجم،دار الفكر العربي ، دون ذكر لمكان الطبع أو
تاريخه، ولا اسم المترجم، أو المترجمين،صص 63-64
وقد اجتهدنا هنا في التعريف بمعظم الأعلام المذكورين في كتاب فان تيجم، مع كتابة
أسمائهم باللغة الأصلية:
- Haller (Albert von) 17O8-1777
شاعر سويسري يكتب
بالألمانية، له: (أشعار سويسرية 1732) وله قصيدة وصفية في (جبال الألب1729
)وبها حقق مجده الأدبي.
- Bodmer (Johann Jakob) 1698-1783
كاتب وناقد سويسري،
يكتب بالألمانية،
أعادت كتاباته اكتشاف
الشعر الألماني في العصر الوسيط، وترجم نثرا رائعة الشاعر الإنجليزي ملتون:
(الفردوس المفقود).
- Keller (Gottfried) 1819-1890
شاعر وروائي سويسري،
يكتب بالألمانية.كانت أشعاره ذات طابع سياسي،مستلهمة من الوقائع السياسية، ومن
فلسفة فيورباخ الإنسانية الإلحادية.استقر في برلين خمس سنوات.نشر رواية تربوية على
شكل سيرة (هنري الأخضر)،1854-1955.كما نشر حكايات (قصص زوريخية)،1878م،ورواية (مارتن
صلندر)1886مزتتقاطع في أدبه الرومانسية بالواقعية.
- Rosegger (Peter) 1843-1917
روائي سويسري، من أب
فلاح، كان مشدودا إلى وصف حياة مواطني بلده وعاداتهم في قصصه.من أعماله رواية (غابة
المولد)1877م، حيث ينتقد الحداثة، و(في زمن الشباب)1895م وقد نذر كثيرا من أعماله
الأدبية للدين، منها (في البحث عن الله)1883م، حيث توجه متقدما من إيمان مصبوغ
بالاتجاه الطبيعي إلى مسيحية إنسانية.
- Rousseau(Jean Jaques) 1712-1778
الكاتب والفيلسوف الفرنسي الشهير، سويسري الأصل.
- Cherbuliez (Victor) 1829-1899
سويسري الأصل، من جنيف، روائي وناقد، رحل إلى الشرق، فانطبعت رواياته بطابع شرقي.
- Rodenbach (Georges)1855-1898
شاعر وروائي بلجيكي
الأصل، يكتب بالفرنسية، مارس المحاماة في بروكسيل مدة عامين، ثم أسس مع صديق له
مجلة (بلجيكا الشابة)، نشر ديوان: (الشبيبة البيضاء) عام 1886م، ثم توالت دواوينه
بعد ذلك، وهي ذات عناوين دالة، منها: (سلطة الصمت1891 م)، (حيوات مغلقة1896م)،(مرآة
السماء المولدية1898م)، وله مسرحية عنوانه: (النقاب 1894م)
-Lemonnier(Camille)1844-1913
كاتب بلجيكي، يكتب
بالفرنسية، ساهم في إصدار عدد من المجلات الأدبية، منها: (بلجيكا الشابة) الآنفة
الذكر، جمع بين الواقعية والمثالية، فمن روايته الواقعية: (الزوج)1881م،و(نهاية
البرجوازيين)1892، ومن الاتجاه المثالي روايته: (آدم وحواء)،1899، و(في قلب الغابة
الغض)1900، ولاسيما (الحق في السعادة)1904، تتميز كتابته بنثرية غنائية، وهو ناقد
تشكيلي أيضا.
-
Zola(Emile) 1840-1902
زعيم
الروائيين الطبيعيين المشهور، وكان يسعى إلى توظيف المنجزات العلمية في أعماله
الروائية. له عدد كبير من الروايات.وله في النقد الأدبي (الرواية التجريبية1880)،
وفي النقد الفني: (إدوار مونيه 1967) وله أيضا: (القصة الطبيعية والاجتماعية لأسرة
من الإمبراطورية الثانية 1871-1893) في عشرين مجلدا،، وله توجه نحو المسيحية
الجديدة، يظهر في كتابه: (الأناجيل الأربعة 1893-1903) ومن أشهر أعماله: (جيرمنال
"الشهر السابع في عهد الثورة الفرنسية" 1885) و (إني أتهم 1898)، وأما انطلاق شهرته
بين معاصريه فقد كانت من خلال: (الصاعقة1877).
-
Emerson(Ralph Waldo) 1803-1882
شاعر وفيلسوف أمريكي، مؤسس مذهب (التسامي)، وهي فلسفة دينية ذات نزعة صوفية.كان
خطابه عام1837 في جامعة هارفارد إعلانا للاستقلال الثقافي الأمريكي.ناضل ضد
الاسترقاق، وهو أحد من أثروا في نيتشه.
Poe(Edgar allan)1809-1849
الكاتب الأمريكي الشهير،الشاعر واروائي والناقد، عش في بريطاني ما بين 1813-1820،
وانقطعت دراسته في جامعة فيرجينيا في عام 1826، بدأ ينشر شعره منذ 1827 (تامرلان
وأشعار أخرى)،ثم (الأعراف 1829) وهي قصيدة مستوحى عنوانها من القرآن الكريم، وأثر
القرآن فيها أغرى بعض الدارسين بدراستها ضمن الأدب المقارن وبيان أثر القرآن الكريم
فيها (انظر على سبيل المثال:د. عدنان محمد وزان في دراسته:مطالعات في الأدب
المقارن،1403 هـ - 1983م)وله (أشعار 1831)، من أعماله الشهيرة: (قصص خارقة)، وفي
عام 1845 نشر قصيدته الشهيرة (الغراب).وهو القائل : (إن رعبي غير قادم من ألمانيا،
إنه نابع من روحي).
ممن تأثروا به الشاعر
الفرنسي بودلير.
Carlyle(Thomas)1795-1881
مؤرخ وناقد وفيلسوف
اسكتلندي، تأثر بالكتاب الألمان من أمثال شيللر، وكوته، وهردر.بدأت شهرته مع كتابه:
( تاريخ الثورة الفرنسية1837)، وكتابه: (الأبطال، وعبادة الأبطال1841).كان يركز على
العبقرية الفردية في تاريخ البشرية، مدافعا عن العدالة الاجتماعية.
Toepffer (Radolphe) 1799-1846
كاتب سويسري بالفرنسية،
ولد في جنيف، له: (مكتبة عمي 1832)، و( أسفار ملتوية1842 )، و(قصص من جنيف)، وقد
مهدت أعماله ورسومه لفن الرسوم المتحركة.
Verhaeren(Emile)
1855-1916
أديب بلجيكي يكتب
بالفرنسية، شاعر وكاتب قصصي ومسرحي وناقد أدبي، تطور من الفن الطبيعي إلى التصوف،
وعرف أزمة روحية.صدر له عام1890(المشاعل السوداء)ن ثم احتفى بشعر الجماهير والمدن
الصناعية، فأصدر عام 1895 (المدن المتمغطة). وفي عام 1910 أصدر (الإيقاعات
السَِّنـّية).
Vinet (Alexandre Radolphe)1797-1847
رجل دين بروتستانتي، وناقد أدبي سويسري، يكتب
بالفرنسية،كان أستاذا للأدب الفرنسي في بازل، أستاذ كرسي للأدب الفرنسي عام 1845،في
لوزان،حيث كان زميلا للناقد الشهير سانت بيف،له (حرية العبادات 1826) وفي عام
أصدر 1842( مقال في بيان حول المعتقدات الدينية،وحول فصل الكنيسة عن الدولة).عني
عناية خاصة بالأدب الفرنسي والتعريف به، ومن كتبه في هذا المجال: (منتقيات أدبية
فرنسية 1829-1830)ـ (دراسات حول باسكال1848)،(دراسات حول الأدب الفرنسي في القرن
التاسع عشر1849-1851)،(تاريخ الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر1853).
(41)انظر القصيدة في ديوان سُحيم عبد بني الحسحاس، بتحقيق المرحوم عبد العزيز
الميمني، رئيس قسم اللغة العربية بجامعة عليكره بالهند. القاهرة:1369هـ -1950م
(42) تاريخ الأدب
العربي:بروكلمان،1/231
(43)نفسه:1/239
(44)نفسه:1/245