عن دار "الدار" القاهرية.. صدر مؤخرًا الديوان الجديد - السابع - للشاعر رفعت سلام ، بعد انقطاع استمر ست سنوات.
يقدم الديوان تجربةً جديدةً تقوم على تضافر النص اللغوي مع نص تشكيلي على امتداد العمل ، دون إمكانية للفصل بينهما ، أو استبعاد أحد العناصر ، منذ الصفحة الأولى ، بل منذ تصميم الغلاف.
يتأسس النص اللغوي الشعري على "تعدد الأصوات" ، حيث يحتل كل صوت - في غالبية العمل - فضاء كل صفحتين متقابلتين (لكل صوت البنط الطباعي الخاص به). وهي أصوات لا تقدم نفسها دفعةً واحدة: بل تتعدد مرات حضورها المستقل في النص الشعري ، إلى أن تأتي بها خاتمة العمل متزامنةً ، متقاطعةً ، مختلطة. هي أصوات ـ الأنا ـ الشعرية ، والراوي ، والمرأة ، والرجل ، والديناصور الأخير ، والبرابرة.
لكن هذه الأصوات المتقطعة تحتضن ، متزامنةً ، صوتًا ممتدًّا ، من بداية العمل حتى نهايته ، يقع - بصريًّا - في قلب الصفحة ، حيث تحيط به تلك الأصوات. هو صوتّ فانتازي ، غريب ، قد يمثل وعي ولا وعي الشاهد الذي رأى كل شيء ، والعرَّاف ، والبهلول ، والحكيم ، والصعلوك ، والشاعر ، والعاشق الذي يهيم على وجهه في الأزمنة والأمكنة بلا أسلاك شائكة ، لا في الوعي ولا في الحضور الطباعي لصوته.
وإذا كانت النصوص السابقة تحتل ما يُسمَّى "مَتن" الصفحة ، فإن الهامش - بكل معنًى - ليس فراغًا أو خواءً: بل تحتله أصوات تبدو - للوهلة الأولى - "هامشية". أصوات لا يدري أحد من أين جاءت على وجه التحديد. شذراتّ من أساطير ، أبياتّ من شعرْ قديم ، أقوالّ مأثورة أو غير مأثورة ، صرخاتّ ، عباراتّ عابرةّ من شارعْ ما ، حًكمةّ غابرةّ ممَّا قبل التاريخ ، إلخ. هي الأصوات التي ترفرف - في السًّر - في فضاء الذاكرة.
أما النص التشكيلي - الذي قام الشاعر بصياغته - فيقدم بدوره مستويين من العناصر: مستوى أقرب إلى الرمزي ، الإيحائي ، الذي قد ينتمي إلى الوعي والحساسية الراهنة ، وله حضوره المهيمن في قلب الصفحة أساسًا وبالخطوط السميكة والحجم الكبير ، ومستوًى يستمده - بالأساس - من عناصر اللغة الهيروغليفية (تلك الأبجدية التي تقوم على رسم الكائنات الأولية المتعايشة مع الإنسان) ، فضلا عن بعض الكائنات الدنيا ، التي تتحرك - غالبًا - في حدود الهامش البصري للصفحة.
وإذا كانت رسوم المستوى الرمزي ، الإيحائي ، ليست موحدةً أو ثابتة (هي متغيرة ، متبدلة ، متداخلة العناصر غالبًا) ، فإن رسوم الهامش ثابتة في الشكل ، لكنها ليست ثابتة الموقع: إذ تتحرك وتمشي بلا ضابط أو رابط ، وفق ما يحلو لها. وأحيانًا ما تحاول أن تقحم نفسها في المتن بين الحين والحين ، متخليةً عن موقعها الهامشي. كائناتّ بريةّ ، بعضها أليف وديع ، وبعضها قاتل أو - في الحد الأدنى - كريه.
لكن فضاء النصوص - كل صفحتين متقابلتين - يحرسه من أعلى الصقر الإلهي الفرعوني "حورس" (يمين الصفحة اليمنَى ، ويسار الصفحة اليسرى ، العلوي).
إنها رؤية للعالم الراهن ، وإيقاعاته المتخبطة المتلاطمة. أصواتّ ووجوه صارخة من ألم وعذاب ، أو صارخة في وعيد وتهديد. وجوه عادية راهنة من الحياة اليومية للمدينة القاهرة ، ووجوه أسطورية أو تاريخية تحمل ظلالها وأصداءها وأصواتها العابرة للزمان والمكان. وديناصور غابر - قادم من عصور ميتة - لا يريد أن يترك المشهد لأصحابه الأحياء. وامرأة تحلق في سماء المشهد تبحث عن عاشقها لتمنحه ما لم تمنحه امرأة. ورجل يهيم على وجهه في الأزمنة والتواريخ ، لا يدري تمامًا ما يبحث عنه.. وكائنات أو رموز تشكيلية تجوس وتتخلل المشهد المتغير ، متغيرة بدورها ، مومئةً أو مندسةً أو مقتحمة للعالم المتضارب المختلط.
تجربة تجمع - في آن - اللغوي بالبصري ، وتعيد النظر في العلاقة بين الهامش والمتن ، وتطرح سؤال تعدد الأصوات في القصيدة العربية الراهنة ، بل "تزامن الأصوات والكائنات والرموز" في المكان الواحد.
المراجع
addustour.com
التصانيف
أدب مجتمع الآداب قصة العلوم الاجتماعية