تدب على الأرض بعنف , تتسارع أنفاسها
فيعلو صدرها ويهبط ثائراً , رقبتها الخمرية منتصبة وعليها يتوهج رأسها الصغير
منفعلاً , شعرها الأسود الفاحم يلف وجهها منسدلاً تتقاذفه حركات جسدها النافرة.
تدب الأرض.. تدور حول نفسها وتدور معها
أعين تحسبها ترقص .. يتماوج شعرها تخفي به دموعها الغزيرة .. يدها تقبض على
صناجاتها النحاسية تدق بهما بعنف لتخفي دقات قلبها الصاخبة .. تلقي برأسها للخلف في
كبرياء جريح .. تمسك بطرف
ثوبها الموشى بلون جرحها .. تلف حوله.. تدخله بين أهدابها المسافرة..
ينظر إليها ..يعانقها بعينيه ويقبض بيده على يد
أخرى تلبس خاتمه ..تقترب منه,
تلفحه أنفاسها التي تشبع منها, يشم عطرها, يتذكر عرقه الذي اختلط به.. تميل
عليه,
تجذبه الأخرى , يحكم قبضته على يدها فيشعر بوخز
الخاتم ..
شعرها يخفي نصف وجهها ونصف وجهه.. يرتعش.. تقف مبتعدة ..يظهر كل وجهه وقد
اختفت معالمه.. تعانقه صاحبة الخاتم , تنبت له عينان
..تدب الأرض ويعلو التصفيق , ينبت له فم وأنف.. ينهض
ثائراً..يدب الأرض معها , يدورحولها ممسكاً بخصرها.. يرتفع الضجيج تجذبه صاحبة
الخاتم , يدور حولها , يقع قلبه على الأرض .. تدب الأرض بقدميها.. تركع .. ترفع
قلبه .. تضمه إلى صدرها بشوق ..
تخرج قلبها ..تخيطهما معاً .. تنسج منهما وشاحاً ..
تعطيه لصاحبةالخاتم.
* * * *
لست أدرى تحديدا إجابة محددة ؛ تجيب عن
تساؤل يتحرك فى ذهنى كثيرا ؛ لماذا لا يوجد حركة نقد للقصة القصيرة شاملة ومتطورة ؛
تتناسب مع التطوّر المستمر لهذا اللون الأدبى .
وربما توجد مسافة هلامية واسعة بين
القصة القصيرة ومسألة نقدها ؛ وحتى إن وُجِد هذا النقد ؛ يوجد كحالات استثنائية
عارضة ؛ فلا يوجد حركة نقدية تواكب ؛ ولا يوجد كُتاب قصة متفقين على الحد الأدنى من
ثوابت هذا الفن وعناصره بشكل يؤخر ظهور حركة نقدية شاملة.
آمنت منذ فترة طويلة من الزمن أن القصة
القصيرة ؛ هى بالضرورة أقرب الفنون الأدبية لروح العصر ؛ كونها قصيرة إلى درجة ؛
تتناسب طرديا مع ذلك الإيقاع السريع لمفردات حياتنا وواقعنا ؛ فالزمن ذاته أصبح
يلهث من حولنا ؛ الأمر الذى انعكس بدوره على القصة القصيرة ذاتها ؛ وجعلها تتجه إلى
تكثيف المُكثف وضغط المضغوط فى جدلية فنية جديرة بالبحث والتأمل .
اعترف هنا ؛ أن هناك شيئٌ ما يقبع خلف
هذه الكتابة ؛ وخصوصا إنها قد آلت على نفسها أن تكون قصة قصيرة للغاية- بدون جداً ؛
وحين أقول للغاية ؛ فأنا أعنى ما أقوله هنا ؛ لأن الظاهر بوضوح عند القراءة
المبدئية للقصة كحالة فنية؛ يبدو الزهد الواضح فى استخدام ولو الحد الأدنى من
اللغة السردية للكشف عن حقيقة الفكرة المراد طرحها هنا؛ ربما سيقول القائل هنا
: أن الإسراف فى استخدام اللغة ليس من سمات القصة القصيرة فى شيئ، وأقول نعم هى
كذلك فعلا ؛ لكن فى حقيقة الأمر الفكرة كنواة للقصة التى تحت أيدينا؛ هى بالضرورة
فكرة ثرية ؛ بل يمكن القول إنها فكرة أزلية إذا جاز التعبير؛ لذلك جاءت القصة
تعبيرا مهما عن كل ما تحمله تقنيات كتابة القصة القصيرة كفن يتحرك بقوة داخل
العقلية المبدعة؛ لها العديد من الثوابت المعروفة ؛ من إيجاز وتكثيف ووحدة للفكر
والمضمون والانطباع الذى تريد القاصة هنا أن تقوله من وراء هذا السياق السردى
المضغوط فعلا .
يجب الاعتراف لهذا النوع من الكتابة
عموما ؛ وفى منحى القصة القصيرة تحديدا ؛ بأنها كتابة صعبة جدا ؛ فالتجربة الفنية
والحياتية متى كانت على درجة كبيرة من الأتساع والشمول والتوّغل فى مفردات عالمها ؛
كان هذا نذيرا بأن نجد مبدعا إلى حد قد يبدو متطرفا نوعا ؛ قادرا بشكل مبهر على
صناعة اختزال جد مدهش ومعبر .
وتحمل فيما تحمل دلالات نفسية غريبة ؛
عند التماس الفاعل مع مُنتج صاحبه ؛ أيا كان نوع الإبداع المقروء عموما .
فالاقتصاد الواضح فى اللغة ؛ له دلالة
؛ والرغبة فى التكثيف داخل بنية القصة ؛ دون أن نغفل أن التكثيف فى القصة القصيرة
ركن أصيل من تقنيات هذا الإبداع ، لكن أقصد التكثيف الذى يصل بمداه إلى حد ضغط
الحالة القصصية برمتها ؛ له دلالة أيضا .
اللغة عموما وعاء ونظام ، وإطار نضع
داخله أفكارنا ، وليس مجرد نظام صوتى معين ، وعلى الدرجة نفسها ؛ لا ندّعى أن اللغة
نظام أصم ، بل هى آليات تتآلف من أجل ما يمكن تسميته أداء وظيفى للغة ، ومن أجل
اكتشاف طرائق جديدة للتعبير ؛ والتحليق بها لأفاق دلالية جديدة . ومتى وجدنا مبدعا
، مهما اختلفت التصنيفات النوعية لإبداعه ؛ شعرا أو نثرا ، وعلى اعتبار أن القصة
القصيرة عموما قالب نثرى فى حقيقته ، يميل إلى تطويع أقل عدد ممكن من المفردات وضغط
منظومة اللغة عموما داخل قصته ؛ على اعتبار إننا نقرأ هنا قصة فى الأساس ؛ وتكون
منظومة اللغة المضغوطة داخل الحالة القصصية قادرة حتى بعد هذا الضغط ؛ أن تبقى
مُعبرة عن فكرته المُراد طرحها ؛ فنحن بالضرورة نقف أما إبداع حقيقى يستحق القراءة
على المدى القريب ؛ ويستحق الدرس والتأمل على المدى البعيد .
هنا يمكن لنا أن نلتمس وجهة نظر
المبدع عموما فى بنيّة اللغة ، وحسابات الجوار التى تحكم أنساقها ؛ ونفهم على
الدرجة نفسها كيفية تعامله مع قيمة اللغة من منطلق دلالى ؛ وقدرته الفاعلة على
التحليق والتجاوز فوق ما استقر يقينا من دلالتها المعجمية عند العامة .
وفى هذه القصة تحديدا ، أرى أن مبدعتنا
" انتصار عبد المنعم" تقف من اللغة فى قصتها موقف " عطّار" يتعامل مع أعشابه
وعقاقيره من منطلق حسابات مفرطة فى الدقة ؛ لا تتهاون مقدار خردله ، من حساباتها مع
اللغة كمنظومة أداء متكاملة .
قلت أن الكتابة بمثل هذا الزهد ؛
بمعنى أن تظل القصة مكثفة إلى أقصى حدود التكثيف ؛ تعنى اتساع دائرة الخبرة الفنية
والحياتية ؛ ومن هذا المنطلق يبدو على البعد أن أفكار قصصها ربما تأتى من وعى حاضر
بقوة أثناء عملية الخلق للحالة القصصية ؛ أو أن قصصها كلها إلا قليلا تأتى من
منطلق تجربة إنسانية عريضة ؛ فهل هذا مدعاة للقول أن فعل الكتابة يتحرك من منطلق
أفكار قصصية جاهزة ؟
فى حقيقة الأمر ؛ أن وحدة الفكر داخل
القصة والهدف والانطباع كأركان وثوابت لكتابة القصة القصيرة فى المطلق ؛ لا تعنى
بالضرورة أن الفكرة جاهزة ومختمرة دوما أثناء فعل الكتابة ؛ ربما القِصّر الواضح
لقصصها يعطينا هذا الانطباع؛ وربما على الدرجة نفسها تزاحم تلك الأطياف التى تغلف
اللغة السردية من منطلق لغة شاعرة إلى درجة لا يمكن إنكارها على كل حال ؛ هو من
يتجه بنا إلى هذا القول؛ وربما أتفق ولو نسبيا مع هذا الرأى إلى حين ، لكن أعود من
حيث بدأت لأقول من منطلق بحث آخر يبدو مختلفا . لأسأل نفسى على الأقل .. كيف تنظر
مبدعتنا عموما للقصة القصيرة كفن ؟
سؤال قد يبدو على درجة كبيرة من
السذاجة ، إذا أخذنا بعين الاعتبار إننا نقرأ لكاتبة ناضجة فى الأساس ؛ وتعرف
بالضرورة ماذا تريد .
يجب فى البداية أن نعترف لمبدعتنا بشيء
من الجرأة ونحن نطالع منجزها القصصى ؛ لأن قصة مكتوبة على هذه الوتيرة من الضغط
العارم للغة السردية ؛ هى فى حقيقة الأمر تعبير مهم عن رؤية عريضة لواقع القصة
القصيرة الآن على محك التجريب المستمر الذى يحدث فيها فى السنوات الأخيرة .
وعلى الدرجة نفسها يأخذ هذا اللون من
الكتابة القصصية عموما عتبات افتراضية من شأنها الرهان على متلق للقصة القصيرة
مختلف على كل حال ؛ قارئ ذو مواصفات خاصة ؛ قارئ استثنائي ، له قدرات عالية على
الاستيعاب والتأويل المعقول والمقبول ، يقرأ قصتها من أجل أن يكون منتجا ومشاركا فى
إنجاز النص ؛ وفى إطار طرح قصصى لا يخلو من حداثية الرؤية أثناء الخلق الفنى بوجه
عام .
قد أبدو كرجل يمارس ضربا من ضروب
السفسطة هنا ؛ لا غضاضة فى ذلك ، لكن فقط أحاول أن أبدو لنفسى على الأقل كمن يمتحن
قدراته الشخصية على التحليل السيكولوجى لعناصر هذا الإبداع .
لست أدرى تحديدا لماذا اقتنعت بكتاب
قرأته فى فرنسا وكان يتناول على ما أذكر مسألةLa
créativité et la santé أو الإبداع والصحة ؛ عن طبيعة الربط بين هذه
الكتابة القصصية { المضغوطة} ، أو تلك الكتب القليل عدد صفحاتها عموما ؛ وأمراض
الجهاز الهضمى ؛ إذا أخذنا بعين الاعتبار أن عملية الخلق الإبداعى بالفعل عملية
مخاض ؛ تسيطر عليها أجواء من التوتر الإيجابى حقا ؛ من أجل تمام العمل الفنى إجمالا
ومعظم أمراض الجهاز الهضمى ترتكز على أسباب نفسية .
فهل هذا مدعاة للقول أن مبدعتنا تعانى
اعتلالا معينا فى واحد من وظائف الجهاز الهضمى ؟! ربما قد يصادفنى الصواب ، لكن
الأرجح هنا ؛ أن هذه الكتابة ونظرا لأصالة الإبداع الذى نطالعه لمبدعتنا ؛ هو
بالضرورة نتاج حالة من حالات التوتر والغليان عموما ؛ حيث يبدو فعل الكتابة بوجه
عام ينطلق من وحى قضية قد تم حسمها فى وعى مبدعتنا .
قد أسبح فى حالة من حالات الهذيان
الباحث عن الحقيقة ؛ وأقول وأنا ممتلئ بثقة لها ما يبررها عندى على الأقل ، من أن
"انتصار عبد المنعم" قد تكون بصدد تنظير جديد لفن القصة القصيرة ؛ فليست القصة
القصيرة لقطة من واقع الحياة ؛ تستعرض قطاعا أفقيا لهذا الواقع ؛ وليست من أجل
إلقاء الضوء على جزء من واقع مصاب بآفة التهميش ، وأنماط بشرية تعانى من التجاهل .
رغم توفر هذه التوجهات عموما ؛ لكن الواضح بجلاء هنا ؛ أن القصة القصيرة عندها ؛ ما
هى إلا وجهة نظر شديدة الخصوصية ؛ خلقتها حالة من حالات التأمل العميق ؛ تتبناها
وهى بصدد تقييم بعض المواقف والأفكار التى يفرزها الواقع المعاش على وعيها؛ لتتحول
القصة كحالة فنية إلى مجرد رأى يعبر عن صاحبته .
ربما سأجد نفسى مضطرا للدفاع عن هذا
الرأى الذى شعرت به بعد مطالعة إبداع انتصار عبد المنعم ؛ وأقول بعد أن أمتحن
ذاكرتى ولو قليلا هنا :
إن هذه القاصة لا تريد من القصة
القصيرة سوى أن تكون شرارة لثورة ما ؛ أو دعوة للتثويرغالبا ؛ وأن المتأمل لقصصها
بعد القراءة المتأنية ؛ سيلمح على البعد حمى من رفض عارم للعديد من المضامين التى
تحتاج لإعادة النظر لها بعين المراجعة أو التحليل أو التغيير .
وخصوصا أن قصة بهذا الضغط ؛ شئنا أن
أبينا ؛ تتخذ من وحدة الانطباع مرجعية أولى فى كتابة القصة القصيرة ، بل ومن أجل
هذا الهدف قد لا نشعر – إرهاصة من الكاتبة على زعمى – بقيمة الحكاية كواحدة من
تداعيات القصة ، بل والأكثر من هذا إننا حتى بعد قراءة القصة قد نتساءل فى دهشة عن
حبكة ، فلا نجد إلا تصاعد درامى متسارع الخطى ينتهى إلى مفارقة ؛ دون أن نشعر بهذه
الحبكة ؛ لا عن غياب ؛ لكن لأن الكاتبة أصلا ؛ لا تتجه إلى صناعة حبكة بقدر إصرارها
على تصدير لقطة محكية ؛ خاطفة وسريعة ولكنها عميقة الأثر والدلالة .
وربما هذا الذى يفسر لى بجلاء واضح ؛
التركيز الكامل على تلك الجُمل الخاطفة ؛ والسريعة ؛ الأمر الذى يحيل لغة السرد
عموما إلى لغة تركض من أجل السيطرة والاستحواذ على اللقطة القصصية المُراد الحديث
عنها ؛ دون التنازل ولو عن شذرات منها ؛ الأمر الذى يجعلنى أتوقف قليلا عند إيقاع
القصة نفسه ؛ بداية من العنوان الموجز والمعبر " غجرية" والذى أحال الحالة القصصية
كلها للمرأة كمركز للأحداث وعلاقتها الأزلية بآدم ومن ثم الرجل فى المطلق .
حاولت فى حقيقة الأمر استجلاء قيمة
العنوان لخدمة الهدف منه ؛ فوجدت كل التأويلات تتجه بى للفلسفة فى حقيقة الأمر ؛
وخصوصا أن امرأة غجرية هى بالضرورة جريئة وجميلة وكثيرا جدا لا يمكن الوثوق فى
تهذيب الحضارة لها . وكأننا نتحدث عن المرأة فى حال الفطرة الأولى ؛ وفى الوقت ذاته
المرأة المركز ؛ مصدر كل فتنة وإثارة ..
لكنها على كل الأحوال تحيل هذا الرجل
إلى كائن له معالم مختلفة بمجرد التماس الرقيق معه ؛ فمهما تكن غجرية ، ولكنها لمسة
التحضر والرقىّ فى حياته ، ولقد ارتبطا معا من منطلق غريزى فى الأساس من أجل تغيير
وجه العالم ومهما اعترض هذا الهدف من منغصات ( وخز الخاتم) ولكنهما معا رغم انسحاقه
( رائحة عرقه) وسوء ظن المجتمع فى نظرته أحيانا للمرأة ( ثوب موشى بلون جرحها ) .
اعترف أن أهم ما جذبنى لهذه القصة ؛
تلك الكتابة الرمزية الفياضة والممتلئة بالإيحاءات والإيماءات الشعورية والفكرية
بشكل لا يمكن تجاوزه مطلقا ؛ ومن خلال لقطة سريعة وخاطفة وانطباعية فى ذات الوقت .
الأمر الذى جعلنى أربط طواعية بين هذه
القصة والقصيدة الفكرة ؛ والتى كانت واحدة من تجليات الشعر الرومانسى عموما ؛ لذلك
ففى هذه النوعية من الكتابة ؛ تسقط الحواجز بين بنائية القصة القصيرة وبنائية
القصيدة ؛ بل وتتداخل الحدود ويتحدا معا فى الكثير من آليات الطرح عموما ؛ من خلال
التكثيف العارم للغة ؛ والقدرة الفاعلة على الحسم الدلالى لجميع مفرداتها ؛ وهنا
وفى ذلك النمط المدهش من الكتابة ؛ تظهر القصة القصيرة فى أروّع مظاهرها ؛ حيث تبدو
كهمس أو وميض من ضوء .
هنا نعترف لانتصار عبد المنعم ؛ أنها
كاتبة مقتدرة فعلا ؛ فالسيطرة على الكتابة بهذا الشكل لا تأتى من فراغ ؛ من خلالها
استطاعت السيطرة على منظومة أدواتها من أجل التماس الفاعل مع القصة القصيرة كفن
معروف عنه أنه شديد المراوغة وبروح شاعرة إذا صح ظنّى .
قد يقول القائل : أن الأفكار تُعرض
بهذا الشكل خوفا من ازدواج المضامين المطروحة داخل القصة وهنا أقول :
الشكل ليس قالب توضع فيه المضامين ؛
وهذا تصوّر خاطئ فى حقيقة الأمر ؛ بل الشكل هو التعبير والبناء معا ؛ ومن خلال
جدلية تصاعدية للعديد من الدلالات التى تخلقها القصة دون أن يسبب ذلك خللا ؛ بل
تتصاعد من أجل اكتمال كل حالات التوتر فى نسيج هارمونى واحد يحمل أهم ما يميز القصة
القصيرة كفن على الإطلاق : وحدة الانطباع الإنساني ومن خلال جسور خلقها فن واع بين
الكاتب والقارئ معا .
ربما لا أريد هنا أن أقف موقف المدافع
للتصدى لتهمة قد تبدو جاهزة لذلك النوع من القصّ ؛ وهى توارى الوصف ولو قليلا لحساب
المجاز ؛ لكنّى أحاول فقط إلقاء الضوء على مستوى معين من الحرفية التى تبدو متطرفة
نوعا ؛ وإن كانت – قليلا – تأتى على عكس المراد منها.
يعرف المتابع الشغوف للقصة القصيرة ،
أن المجاز إذا سيطر على القصة يخلق حالة من حالات التباعد الجمالى بين الدوال
ودلالتها ؛ بل ويتم اغتيال الحدث شئنا أم أبينا ؛ وبالتالى يضيع المغزى منها .
لكن الإنصاف يدعونا رغم ما هو كائن
فعلا من شاعرية اللغة والتركيز على المجاز والرمز عموما والإحكام فى البناء
والتكثيف ؛ أن نعترف إننا لم نلحظ ذلك عموما وربما بعد القراءة الثانية والثالثة .
ربما لتلك القدرة والحرفية التى
تستطيع بوعى شديد ؛ وتعرف أنه مهما تداخلت الأجناس الأدبية سيظل على الدوام للقصة
تحديدا جماليتها الخاصة ؛ والوعى الكامل بأن اللغة وسيلة أسلوبية فى الأساس ؛
والمحك الرئيسى على الدوام أن الكتابة بالضرورة بصمة المبدع وشخصيته .
بل وعلينا أن نعترف هنا وبموضوعية إننا
بالفعل قد قرأنا قصة جيدة ؛ مؤثرة بجماليات بناءها والتعامل مع الرمز فيها عبر
مشاهد حسية متعددة ؛ عبرت عن أهم ما يمكن ملاحظته عند مبدعتنا : التأصيل للقصة
المعبرة عن وجهة نظرها حيال العديد من المفاهيم والأفكار ومنها فكرة هذه القصة .
ورغم أن الرمز فيها ليس هدفه صياغة
واقع بديل بما له من دلالات ؛ فلم يكن عنوان " غجرية" تحديدا واللاحق له من إسقاطات
رمزية عن دور المرأة مع الرجل فى هذا الرباط الأزلى ؛ سوى رمز تحريضى ؛ بل وكان
يحتوى كمرموز على أعلى رجات الحميمية ؛ حيث ظل الرمز فى المنطقة الآمنة بين الغموض
الذى يحيل القصة كلها إلى لغز ؛ ولم يتجه كذلك إلى الإضمار كسمة من سمات الفن عموما
ونظرا لخصوصية الفكرة المطروحة .
والغريب فى هذه القصة تحديدا ؛ إننا
نجد بفطرية ملموسة ؛ وأقول بفطرية نظرا للكم الهائل من التفجيرات التى تحيلها القصة
ككل ؛ وعى شديد النضج والفهم الكامل لحقيقة الرمز كتعبير خاص عن الجدلية بين
اتجاهين ؛ واحد منهما واقعى كليا والآخر إنسانى إلى درجة كبيرة ؛ يستمد قوته من تلك
الجدلية ومن حالة الموائمة بين القاصّة والقارئ من منطلق وضعية اللغة ووضعية
المجتمع .
* * * *
كنت أود فى حقيقة الأمر أن استجلى ما
فى هذه الكتابة من أسرار ؛ ولكن حسبى أن صنعت شيئا ؛ ربما كان من جملة ما أخفيه من
كتابات يغلب عليه مزاج العجلة .
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع الآداب قصة العلوم الاجتماعية