سوف أتوقف عند ظاهرة لها حضور كبير في بناء الرواية، وهي "التضمين"، حيث نرى ألواناً منه عديدة ومتنوعة، والتضمين بصفة عامة يهدف إلى تنمية حوادث الرواية أو الأفكار التي تدور على ألسنة الشخصيات أو توكيدها وبلورتها في نفس القارئ، أو التذكير بمبدأ أو قيمة تبدو غائبة أو بعيدة عن ذهن المتلقي.

ومن صور التضمين، الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والشعر القديم والشعر الحديث والشعر الأجنبي "المترجم"، وبعض النكات المضحكة، والقصص القصيرة والرسائل والقصص التاريخية وبعض الحكايات "الحقيقية" والتراث الشعبي.
ويلاحظ أن التضمين بالقرآن الكريم يحتل مساحة كبيرة في الرواية التي لا تكتفي باستدعاء الآيات، ولكنها تستدعي نصوصاً من تفسيرها لبعض المعاصرين، مما يؤكد إسلامية الشخصية الرئيسة وإسلامية رؤيتها وتصورها.
ففي زنزانته يسعى حسان إلى التغلب على محنته، وقضاء الوقت بالقراءة، ويربط ما يعيشه بما ورد في المجلد السادس من تفسير "ظلال القرآن" حول أول سورة "العنكبوت" وآخرها.
الم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (3) .
وفي نهاية السورة:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين 69  .
وبعد سرد يتناول واقع السجين داخل الزنزانة ومطالب السجن من النزيل يستغرق فترات طويلة، يعود البطل أو الشخصية الرئيسة "حسان" إلى تذكر الكتاب "الظلال"، فأقبل عليه وفتحه على مكان يعرفه من التفسير وقرأ:
"ومحور السورة كما أسلفنا هو الحديث عن الفتنة والابتلاء... وذلك مع التهوين من شأن القوى الأرضية التي تقف في وجه الإيمان والمؤمنين، وتفتنهم بالأذى، وتصدهم عن السبيل، وتوكيد أخذ الله للمسيئين، ونصر للمؤمنين الذين يصبرون على الفتنة، ويثبتون للابتلاء، سنة الله التي مضت في الدعوات من لدن نوح عليه السلام وهي السنة التي لا تتبدل، والتي ترتبط بالحق الكبير المتلبس بطبيعة هذا الكون، والذي يتمثل كذلك في دعوة الله الواحدة التي لا تتبدل طبيعتها".
إن هذا التضمين القرآني مع تفسيره يوضح موقف الشخصية الرئيسة من قضية الابتلاء، أو الجهاد الذي يقتضي التضحية، وحين يتبدى لها أن "الضريبة" التي تدفعها تبدو كبيرة وفوق طاقتها، فإنها تعود إلى المرجعية الأساسية التي تحل لها المشكل، وهي القرآن الكريم، واختيارها لسورة "العنكبوت" بداية ونهاية يؤكد هذا الحل المتمثل في الابتلاء، وانتصار المبتلين في نهاية الأمر لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين 69 (العنكبوت)، وهو ما يشرحه تفسير الظلال شرحاً وافياً مقنعاً بليغاً.
ويمثل التضمين بالشعر في الرواية حجماً ملحوظاً أيضاً سواء كان شعراً قديماً أو حديثاً أو مترجماً، وسوف نكتفي بالإشارة إلى بعض الأمثلة الدالة، ومنها هذه الأبيات التي أنشدها "عابد" المتدين على مسامع زميله في الزنزانة "عمر" الماركسي، يكشف من خلالها عن نظرة الإسلام إلى المرأة ودورها في الدفاع عن الأوطان:
"أختاه. دقي القيد، وارميه بوجه الجاهلية
ما عدت خادمة، ولست برغم من جحدوا.. ضحية
شّدى يديك على الزناد، وثبتيه يا أخية
وتعلمي ضمد الجراح، فربما كنت الضحية
وخذي جمالك من لظى البارود في الساح العتية
لا تطلبي يا أختنا غير البطولة، يا أبية
فالثورة انطلقت، وأنت مع الرجال، بهم قوية
الماس ولي عهده، فتزيني بالبندقية...".
وإنشاد هذه الأبيات يأتي في سياق الكشف عن أهمية مشاركة المرأة المسلمة في الحياة عامة، ومنها الجهاد دفاعاً عن الأوطان والشرف والكرامة، وتبدو قيمة هذه المقطوعة الشعرية في أنها تثبت لبعض القوى الفكرية التي تظن أن الإسلام يغض من قيمة المرأة ويقيدها بقيود ظالمة أن الإسلام يُعلي من شأن المرأة، في مجالات الحياة المختلفة، بل يجعلها شريكاً للرجل في ميدان البطولة والفداء، ووجود نص شعري يتحدث عن هذه المكانة يؤكد للماركسيين والعلمانيين وأشباههم أن دعاواهم غير صحيحة ومن وحي الخيال، والسياق الروائي "الحوار بين المتدين والماركسي" جعل للنص الشعري قيمة عملية تدحض مزاعم المتحاملين على الإسلام.
وبعد.. فالرواية حافلة بالعديد من الجوانب الفنية التي تحتاج إلى معالجة أكثر استفاضة، ولكنها بصفة عامة، تسجل مرحلة من مراحل عذابات المواطن المتدين، الذي قد تدفعه عمليات الحصار والقهر، إلى الانحراف نحو طريق كله أشواك ومعاناة... ولا شك أن المدين الأول هو التسلط الذي تفرضه الأنظمة الاستبدادية، وخاصة إذا تزيَّت بزي طائفي عنصري بغيض، يحلل لها العنف والإرهاب وقهر الشرفاء، وهي أنظمة تجلب على شعوبها ومواطنيها الهزيمة أمام الأعداء والتخلف أمام الشعوب، ويبقى لها من التاريخ صفحات حالكة السواد، مليئة بالدماء والآلام!.

انتهى

         


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة   العلوم الاجتماعية