قالَ

قُلْتُ

اعْلَمْ أَنَّ الْمَقاديرَ رُبَّما جَرَتْ بِخِلافِ ما تُقَدِّرُ الْحُكَماءُ ، فَيَنالُ بِهَا الْجاهِلُ في نَفْسِهِ الْمُخْتَلِطُ في تَدْبيرِه ، ما لا يَنالُ الْحازِمُ الْأَريبُ الْحَذِرُ ؛ فَلا يَدْعُوَنَّكَ ما تَرى مِنْ ذلِكَ إِلَى التَّضْييعِ وَالِاتِّكالِ عَلى مِثْلِ تِلْكَ الْحالِ ؛ فَإِنَّ الْحُكَماءَ قَدِ اجْتَمَعَتْ عَلى أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِالْحَزْمِ وَقَدَّمَ الْحَذَرَ فَجاءَتِ الْمَقاديرُ خِلافَ ما قَدَّرَ ، كانَ عِنْدَهُمْ أَحْمَدَ رَأْيًا وَأَوْجَبَ عُذْرًا ، مِمَّنْ عَمِلَ بِالتَّفْريطِ وَإِنِ اتَّفَقَتْ لَهُ الْأُمورُ عَلى ما أَرادَ .

سبحان الله !

كيف يعبأ بذلك من رصد نفسه لتطوير نفسه في خدمة أهله وأمته !

أم كيف يعبأ بذلك من يتحرك بمهاراته الأربع ( الإنصات ، والتحدث ، والقراءة ، والكتابة ) ، كيف شاء !

قال محمد عفيفي مطر للشيخ أمين الخولي بَلَديِّه رئيس تحرير مجلة الهلال ، بعدما أهمل نشر أعماله التي أرسلها إليه حولين كاملين : لم تمنعني شيئا ؛ ما زلت أقرأ ما أريد ، وأكتب ما أريد !

يا حُسْنَها كلمةً ينبغي أن نقولها لكل من ظن أن بيده أمرنا : لم تمنعنا شيئا !

قَدْ قالوا لَيْسَ مِمّا يَسْتَعْمِلُ النّاسُ كَلِمَةٌ أَضَرُّ بِالْعِلْمِ وَالْعُلَماءِ وَلا أَضَرُّ بِالْخاصَّةِ وَالْعامَّةِ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : ما تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ شَيْئًا ! وَلَوِ اسْتَعْمَلَ النّاسُ مَعْنى هذَا الْكَلامِ ؛ فَتَرَكوا جَميعَ التَّكَلُّفِ ، وَلَمْ يَتَعاطَوْا إِلّا مِقْدارَ ما كانَ في أَيْديهِمْ - لَفَقَدوا عِلْمًا جَمًّا وَمَرافِقَ لا تُحْصى ، وَلكِنْ أَبَى اللّهُ إِلّا أَنْ يَقْسِمَ نِعَمَه بَيْنَ طَبَقاتِ جَميعِ عِبادِه قِسْمَةَ عَدْلٍ ، يُعْطي كُلَّ قَرْنٍ وَكُلَّ أُمَّةٍ حِصَّتَها وَنَصيبَها ، عَلى تَمامِ مَراشِدِ الدّينِ وَكَمالِ مَصالِحِ الدُّنْيا : فَهؤُلاءِ مُلوكُ فارِسَ ، نَزَلوا عَلى شاطِئِ الدِّجْلَةِ ، مِنْ دونِ الصَّراةِ إِلى فَوْقِ بَغْدادَ فِي الْقُصورِ وَالْبَساتينِ ، وَكانوا أَصْحابَ نَظَرٍ وَفِكْرٍ وَاسْتِخْراجٍ وَاسْتِنْباطٍ مِنْ لَدُنْ أَزْدَشيرَ بْنِ بابَكَ إِلى فَيْروزَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ ، وَقَبْلَ ذلِكَ ما نَزَلَها مُلوكُ الْأَشْكانِ بَعْدَ مُلوكِ الْأَرْدَوانِ - فَهَلْ رَأَيْتُمْ أَحَدًا اتَّخَذَ حَرّاقَةً أَوْ زَلّالَةً أَوْ قارِبًا ؟ وَهَلْ عَرَفُوا الْخَيْشَ مَعَ حَرِّ الْبِلادِ وَوَقْعِ السَّمومِ ؟ وَهَلْ عَرَفُوا الْجَمّازاتِ لِأَسْفارِهِمْ وَمُنْتَزَهاتِهِمْ ؟ وَهَلْ عَرَفَ فَلّاحوهُمُ الثِّمارَ الْمُطَعَّمَةَ وَغِراسَ النَّخْلِ عَلَى الْكُرْداتِ الْمُسَطَّرَةِ ؟ وَأَيْنَ كانوا عَنِ اسْتِخْراجِ فُوهِ الْعُصْفُرِ ؟ وَأَيْنَ كانوا عَنْ تَغْليقِ الدّورِ وَالْمُدُنِ وَإِقامَةِ مَيَلِ الْحيطانِ وَالسَّوارِي الْمائِلَةِ الرّوسِ الرَّفيعَةِ السُّموكِ الْمُرَكَّبَةِ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ ؟ وَأَيْنَ كانوا عَنْ مَراكِبِ الْبَحْرِ في مُمارَسَةِ الْعَدوِّ الَّذي فِي الْبَحْرِ ، إِنْ طارَتِ الْبَوارِجُ أَدْرَكَتْها ، وَإِنْ أَكْرَهَتْها فاتَتْها - بَعْدَ أَنْ كانَ الْقَوْمُ أَسْرى في بِلادِ الْهِنْدِ يَتَحَكَّمونَ عَلَيْهِمْ وَيَتَلَعَّبونَ بِهِمْ ؟ وَأَيْنَ كانوا عَنِ الرَّمْيِ بِالنّيرانِ ؟ نَعَمْ ، وَكانوا يَتَّخِذونَ الْأَحْصارَ وَيُنْفِقونَ عَلَيْهَا الْأَمْوالَ ، رِجالُهُمْ دُسْمُ الْعَمائِمِ وَسِخَةُ الْقَلانِسِ ، وَكانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذا مَرَّ بِالْعَطّارِ ، أَوْ جَلَسَ إِلَيْهِ ، فَأَرادَ كَرامَتَه - دَهَنَ رَأْسَه وَلِحْيَتَه لا يَحْتَشِمُ مِنْ ذلِكَ الْكَبيرُ ، وَكانَ أَهْلُ الْبَيْتِ إِذا طَبَخُوا اللَّحْمَ غَرَفوا لِلْجارِ وَالْجارَةِ غَرْفَةً غَرْفَةً !

يتمدح أبو عثمان بما انفتح للمسلمين من أبواب الإبداع في خدمة معايش الناس . فكيف به لو اطلع على ما نشأ من كسلهم وركودهم وانفتاح أبواب الإبداع لأعدائهم دونهم ، في خدمة معايشهم وإفساد معايش غيرهم ! كيف به لو رأى منجزات الهندسة الوراثية التي لا أرتاب في سعيها من قديم إلى استنساخ الإنسان ، أو منجزات الطاقة النووية التي يختلط فيها السلمي بالحربي ، أو منجزات أسلحة التدمير الشامل ، أو طاقات شركات الأعمال العالمية التي تفوق طاقة الواحدة منها طاقات دول كاملة ... ! إذن لوضع كتابه في تمني صدق أن لو لم يترك الأول للآخر شيئا ! لو تأمل الكلمة من حيث الاشتغال بالحق والخير والجمال والإيمان والفهم والإخلاص والعمل والإحسان والتقوى والورع ، لصدَّقها كما صدقها من قبله أبو عمرو بن العلاء - رضي الله عنه ! - القائل : " ما نَحْنُ فيمَنْ سَبَقَ إِلّا كَبَقْلٍ في آثارِ نَخْلٍ طِوالٍ " !

عُدَّ الرِّجالَ وَالنِّساءَ حَتّى تَعْرِفَ ما قُلْنا ، فَتَعْلَمَ أَنَّ اللّهَ - تَعالى ! - لَمْ يُحَلِّلْ لِلرَّجُلِ الْواحِدِ مِنَ النِّساءِ أَرْبَعًا ثُمَّ أَرْبَعًا مَتى وَقَعَ بِهِنَّ مَوْتٌ أَوْ طَلاقٌ ، ثُمَّ كَذلِكَ لِلْواحِدِ ما بَيْنَ الْواحِدَةِ مِنَ الْإِماءِ إِلى ما يَشاءُ مِنَ الْعَدَدِ مَجْموعاتٍ وَمُفْتَرِقاتٍ - لِئَلّا يَبْقَيْنَ إِلّا ذَواتِ أَزْواجٍ .

أراد : لم يحلل كذ إلا لكذا ، ولكن في تركيب العبارة كزازة !

 

جاءَ فِي الْحَديثِ : " مَنْ أَخْرَبَ خَزائِنَ اللّهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللّهِ " ! قالوا : خَزائِنُ اللّهِ هِيَ مِصْرُ ؛ أَما سَمِعْتُمْ قَوْلَ يوسُفَ : " اجْعَلْني عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ " ! وَقالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو : " الْبَرَكَةُ عَشْرُ بَرَكاتٍ : تِسْعٌ بِمِصْرَ وَالْواحِدَةُ في جَميعِ الْأَرْضِ " .

فما تقول إذا وجدتها قد مضى فيها رأي الخائن والخبيث والعدو ، حتى تَكارَهَتْ هي وأهلُها ؛ فلم يعودوا يجتهدون في سبيلها ، ولم تعد تجتهد في سبيلهم ! ووقع عجز ، ووقع إهمال ، ووقع إحجام ، وعمت بلايا لا مخرج منها ، إلا أن تَجْثُمَ طامَّةٌ كبرى بأهلٍ على أهلٍ !

الْبَلاغَةُ إِصابَةُ الْمَعْنى وَالْقَصْدُ إِلَى الْحُجَّةٍ مَعَ الْإيجازِ ، وَمَعْرِفَةُ الْفَصْلِ مِنَ الْوَصْلِ .

" البلاغة " مصدر " بَلُغَ " ، و" البلوغ " مصدر " بَلَغَ " ، فإذا كان " البلوغ " من طبع البالغ أو تُوِهِّمَ فيه أنه كذلك ، قيل : " بَلُغَ " ، وسمي بليغا . ولقد كان مما عمله لي تلامذتي في مُقرَّر المسائل العجيبة الغريبة المدهشة ( قاعة بحث ) بدبلوم كلية دار العلوم من جامعة القاهرة ، " العلاقات النحوية بين صفتي البلاغة والعجز " ، وربما كان أحسن أن يكون الانقطاع مكان العجز .

رُبَّما كانَ الْإيجازُ مَحْمودًا وَالْإِكْثارُ مَذْمومًا ، وَرُبَّما رَأَيْتَ الْإِكْثارَ أَحْمَدَ مِنَ الْإيجازِ . وَلِكُلٍّ مَذْهَبٌ وَوَجْهٌ عِنْدَ الْعاقِلِ . وَلِكُلِّ مَكانٍ مَقالٌ ، وَلِكُلِّ كَلامٍ جَوابٌ ، مَعَ أَنَّ الْإيجازَ أَسْهَلُ مَرامًا وَأَيْسَرُ مَطْلَبًا مِنَ الْإِطْنابِ ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْكَثيرِ كانَ عَلَى الْقَليلِ أَقْدَرَ . وَالتَّقْليلُ لِلتَّخْفيفِ ، وَالتَّطْويلُ لِلتَّعْريفِ ، وَالتَّكْرارُ لِلتَّوْكيدِ ، وَالْإِكْثارُ لِلتَّشْديدِ .

في هذا نظر ؛ فإنك إذا أردت أن يستوعب الموجز مراد المطنب ، كان الإيجاز أصعب ! ولأمر ما قيل لسعد زغلول : لم لا توجز ؟ قال : لا أجد وقتا !

ثم إن هذه الأغراض التي ختمتَ بها ، جائزة لا واجبة !

الْحَقُّ بَيِّنٌ لِمَنِ الْتَمَسَه ، وَالنَّهْجُ واضِحٌ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَسْلُكَه ، وَلَيْسَ فِي الْعُنودِ دَرَكٌ ، وَلا مَعَ الِاعْتِرامِ فَلَجٌ ، وَالرُّجوعُ إِلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمادي فِي الْباطِلِ ، وَتَرْكُ الذَّنْبِ أَيْسَرُ مِنَ الْتِماسِ الْحُجَّةِ ، كَما كانَ غَضُّ الطَّرْفِ أَهْوَنَ مِنَ الْحَنينِ إِلَى الشَّهْوَةِ .

بيان منسق مضفور من جمل مأثورة أو كالمأثورة ، أظن أن العربية تختص به ، ويفتتن العجم ( غير العرب ) حين يترجم إلى لغاتهم ، كما افتتنوا به حديثًا في لغة جبران !

إِنْ كانَ النُّبْلُ بِالتَّنَبُّلِ ، وَاسْتِحْقاقُ الْعِظَمِ بِالتَّعَظُّمِ وَبِقِلَّةِ النَّدَمِ وَالِاعْتِذارِ وَبِالتَّهاوُنِ بِالْإِقْرارِ - فَكُلُّ مَنْ كانَ أَقَلَّ حَياءً وَأَتَمَّ قِحَةً وَأَشَدَّ تَصَلُّفًا وَأَضْعَفَ عُدَّةً ، أَحَقُّ بِالنُّبْلِ وَأَوْلى بِالْعُذْرِ ! وَلَيْسَ يوجِبُ لِكَ الرِّفْعَةَ أَنْ تَكونَ عِنْدَ نَفْسِكَ دونَ أَنْ يَراكَ النّاسُ رَفيعًا ، وَتَكونَ فِي الْحَقيقَةِ وَضيعًا ! وَمتى كُنْتَ مِنْ أَهْلِ النُّبْلِ لَمْ يَضُرَّكَ التَّبَذُّلُ ، وَمَتى لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِه لَمْ يَنْفَعْكَ التَّنَبُّلُ .

واهًا لهذه المعاني الجليلة ، ثم واهًا واها !

" هِيَ الْمُنى لَوْ أَنَّنا نِلْناها " !

ينبغي أن نتعلَّمها ونعلِّمها ، ينبغي أن نفهم أننا نعكس مقتضاها !

لَوْلا خَوْفُ جَميعِ الْمَظْلومينَ مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِمُ الْعَجْزُ ، وَأَلّا يُوَجَّهَ احْتِمالُهُمْ إِلَى الذُّلِّ - لَزاحَمَ السّادَةَ فِي الْحِلْمِ رِجالٌ لَيْسوا في أَنْفُسِهِمْ بِدونِهِمْ ، وَلَغَمَرَهُمْ بَعْضُ مَنْ لَيْسَ مَعَه مِنْ أَسْبابِهِمْ !

ما أغنى هذا الكلام ، وأغمضه !

أيها السادة الحلماء ، إنما حَلَّمَكُمْ سُلْطانُكم ، ولولا خوف الاتصاف بالذل والعجز عن الانتصاف ، لحَلَمَكُمْ ( غلبكم في الحِلْم ) كثير من رعاياكم المظلومين ، ولكنهم يأبَوْن الحِلْم !

النَّبيلُ لا يَتَنَبَّلُ ، كَما أَنَّ الْفَصيحَ لا يَتَفَصَّحُ ، لِأَنَّ النَّبيلَ يَكْفيهِ نُبْلُه عَنِ التَّنَبُّلِ ، وَالْفَصيحُ تُغْنيهِ فَصاحَتُه عَنِ التَّفَصُّحِ . وَلَمْ يَتَزَيَّدْ أَحَدٌ قَطُّ إِلّا لِنَقْصٍ يَجِدُه في نَفْسِه ، وَلا تَطاوَلَ مُتَطاوِلٌ إِلّا لِوَهْنٍ قَدْ أَحَسَّ بِه في قوَّتِه !

ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، فينكشف الأصيل من الزائف !

" وَمَهْما تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَليقَةٍ وَإِنْ خالَها تَخْفى عَلَى النّاسِ تُعْلَم " !

لَمْ تَرَ الْعُيونُ وَلا سَمِعَتِ الْآذانُ وَلا تَوَهَّمَتِ الْعُقولُ ، عَمَلًا اجْتَباهُ ذو عَقْلٍ أَوِ اخْتارَه ذو عِلْمٍ ، بِأَوْبَأَ مَغَبَّةً وَلا أَنْكَدَ عاقِبَةً وَلا أَوْخَمَ مَرْعًى وَلا أَبْعَدَ مَهْوًى وَلا أَضَرَّ عَلى دينٍ وَلا أَفْسَدَ لِعِرْضٍ وَلا أَوْجَبَ لِسُخْطِ اللّهِ وَلا أَدْعى إِلى مَقْتِ النّاسِ وَلا أَبْعَدَ مِنَ الْفَلاحِ وَلا أَظْهَرَ نُفورًا عَنِ التَّوْبَةِ وَلا أَقَلَّ دَرَكًا عِنْدَ الْحَقيقَةِ وَلا أَنْقَضَ لِلطَّبيعَةِ وَلا أَمْنَعَ مِنَ الْعِلْمِ وَلا أَشَدَّ خِلافًا عَلَى الْحِلْمِ ، مِنَ التَّكَبُّرِ في غَيْرِ مَوْضِعِه ، وَالتَّنَبُّلِ في غَيْرِ كُنْهِه !

وإنما موضعه أن يكون على المتكبرين المتنبلين ، أو على الرؤساء المتجبرين ! فأما الذي في خِلْقة أهلنا بصعيد مصر ، فنحلة في كُنْهِهِمْ بدويَّة قديمة ، يُعْرفون جميعا بها ، ويعذرون عليها !

              


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة   العلوم الاجتماعية