قالَ

قُلْتُ

لَنا ( الخراسانيين ) صَنْعَةُ السِّلاحِ مِنْ لِبْدٍ وَدِرْعٍ ، وَلَنا مِمّا جَعَلْناهُ رِياضَةً وَتَمْرينًا وَإِرْهاصًا لِلْحَرْبِ وَتَثْقيفًا وَدُرْبَةً لِلْمُجاوَلَةِ وَالْمُشاوَلَةِ وَلِلْكَرِّ بَعْدَ الْكَرِّ ، مِثْلُ الدَّبّوقِ ، وَالنَّزْوُ عَلَى الْخَيْلِ صِغارًا ، وَمِثْلُ الطَّبْطابِ وَالصَّوالِجَةِ الْكِبارِ ، ثُمَّ رَمْيُ الْمُجَثَّمَةِ وَالْبُرْجاسِ وَالطّائِرِ الْخُطّافِ ؛ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْأَثَرَةِ ، وَأَوْلى بِشَرَفِ الْمَنْزِلَةِ .

هو " الْبِرْجاس " ، بكسر الباء فيما ذكرته لي جدتي نعمات - رحمها الله ! - في سيرة الزير سالم ، بأنه كان يلعبه الجروُ هجرس وخالُه ، حين قتله ثأرًا بأبيه كليب .

الْخارِجيُّ لا يُحْسِنُ أَنْ يُعالِجَ فَرَسَه إِلّا مُعالَجَةَ الْفُرْسانِ لِخُيولِهِمْ . وَالتُّرْكيُّ أَحْذَقُ مِنَ الْبَيْطارِ ، وَأَجْوَدُ تَقْويمًا لِبِرْذَوْنِه عَلى ما يُريدُه مِنَ الرّاضَةِ . وَهُوَ اسْتَنْتَجَه ، وَهُوَ رَبّاهُ فِلوًا ، وَتَتَبَّعَه إِنْ سَمّاه ، وَإِنْ رَكَضَ رَكَضَ خَلْفَه . وَقَدْ عَوَّدَه ذلِكَ حَتّى عَرَفَه كَما يَعْرِفُ الْفَرَسُ " أَقْدِمْ " ، وَالنّاقَةُ " حَلْ " ، وَالْجَمَلُ " جاهِ " ، وَالْبَغْلُ " عَدَسْ " ، وَالْحِمارُ " ساسا " ، وَكَما يَعْرِفُ الْمَجْنونُ لَقَبَه ، وَالصَّبيُّ اسْمَه !

أدركت فنّيّي سياراتنا حديثا ، يسخرون ممن يسوقها ولا يعرفها بأنه " سَوّاقْ طارَهْ " ، و" الطارة " عندهم ، سَكّان السيارة ( عَجَلَةُ قيادتها ) . وقد أدركت فلاحينا قديما ، يحفزون الحصان بـ" شي " ، والحمار بـ" حا " ، والجمل بـ" حِيَهْ " ، والبقرة بـ" عَهْ " ، وصغيرتها بـ" حُهْ " ، والعنزة بـ" سِكْ " ، والنعجة بـ" هُفّ " ، و" هِرْيَهْ " !

قالَ حُمَيْدٌ ( أبو غانم بن عبد الحميد الطوسي ، أحد أمراء الدولة العباسية ) : وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ قَوْمٌ إِلّا وَالتَّسانُدُ فِي الْحُروبِ وَالِاشْتِراكُ فِي الرِّياسَةِ ضارٌّ لَهُمْ ، إِلَّا الْأَتْراكَ ، عَلى أَنَّ الْأَتْراكَ لا يَتَسانَدونَ ، وَلا يَتَشارَكونَ ، وَذلِكَ أَنَّ الَّذي يُكْرَهُ مِنَ الْمُسانَدَةِ وَالْمُشارَكَةِ اخْتِلافُ الرَّأْيِ وَالتَّنافُسُ فِي السِّرِّ وَالتَّحاسُدُ بَيْنَ الْأَشْكالِ وَالتَّواكُلُ فيما بَيْنَ الْمُشْتَرِكينَ (...) فَما ظَنُّكَ بِقَوْمٍ إِذا تَسانَدوا لَمْ يَضُرَّهُمُ التَّسانُدُ ؛ فَكَيْفَ يَكونونَ إِذا تَحاسَدوا ! فَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى الْمَأْمونِ قالَ : لَيْسَتْ بِالتُّرْكِ حاجَةٌ إِلى حُكْمِ حاكِمٍ بَعْدَ حُمَيْدٍ ؛ فَإِنَّ حُمَيْدًا قَدْ مارَسَ الْفَريقَيْنِ ، وَحُمَيْدٌ خُراسانيٌّ ، وَحُمَيْدٌ عَرَبيٌّ ؛ فَلَيْسَ لِلتُّهَمَةِ عَلَيْهِ طَريقٌ ! قالوا : وَأَتَى الْخَبَرُ ذَا الْيَمينَيْنِ طاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ ، فَقالَ : ما أَحْسَنَ ما قالَ حُمَيْدٌ ! أَما إِنَّه لَمْ يُقَصِّرْ ، وَلَمْ يُفَرِّطْ . فَهذا قَوْلُ الْخَليفَةِ الْمَأْمونِ ، وَحُكْمُ حُمَيْدٍ ، وَتَصْويبُ طاهِرٍ .

مثل تركيب هذه الأحكام ، قولي من كلمة مناقشة رسالتي للماجستير ، في عقب عبارة الجاحظ عن ابن عتاب التي رويتها عن أبي مذود ( يكون الرجل نحويا ... ) : رحم الله ابن عتاب بقوله ، وأبا عثمان بنقله ، وقاتل أبا مذود بتحسينه !

قالَ سَعيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ سَلْمٍ الْهُنائيُّ ، وَكانَ ذا رَأْيٍ فِي الْحَرْبِ وَابْنَ ذي رَأْيٍ فيها .

اتصلت في عمان ببني هناءة ، وكانوا ينتسبون بفتح الهاء ، وكنت أكسرها لهم ، فالآن جاءنا الضم ، وهو الضبط ! ثم كانوا يقلبون الهمزة عند تلك الانتسابة واوا !

الْأَتْراكُ قَوْمٌ لا يَعْرِفونَ الْمَلَقَ (...) ، وَإِنَّما كانَ عَيْبَهُمْ ، وَالَّذي يوحِشُ مِنْهُمْ ، الْحَنينُ إِلَى الْأَوْطانِ !

هذا اسم آخرة رسائل هذا المجلد الأول ، قد ورد في أولاها !

أَنْتَ لا تَغْلَطُ فِي التُّرْكيِّ ، وَلا تَحْتاجُ فيهِ إِلى قِيافَةٍ ، وَلا إلى فِراسَةٍ ، وَلا إِلى مُساءَلَةٍ .

ولكنني غلطت فيه سنة 1982م ، وكنت أحج يافعا وأبي ، وبينا أصلي في المسجد الحرام ، إذا حولي جماعة حسنة المعارف ، فأسأل أحدهم : إيراني ؟ فقال : تورك ! ثم تطوعت ببيان مُنْتَسَبي : مصري ... إيجبشن ... مصري ... ليبيا ، مشيرا إلى تجاور البلدين ! فقال : مِسْري ! فحمدت الله أن عرفها على أي وجه !

قالوا : مِثْلُ ذلِكَ مِنَ الْأَعاجيبِ (...) أَنَّ الْعَرَبَ لا تَقومُ لِلتُّرْكِ ، وَالتَّرْكَ لا تَقومُ لِلرّومِ ، وَالرّومَ لا تَقومُ لِلْعَرَبِ !

مثل هذا عجبا - وإن كان من الإحْماض - أحوالُ أندية كرة القدم المصرية ؛ فإن فريق الإسماعيلي لا يقوم لفريق الزمالك ، وفريق الزمالك لا يقوم لفريق الأهلي ، وفريق الأهلي لا يقوم لفريق الإسماعلي ! " لَه في زَمالِكَ حِكَم " ، أو كما قال أستاذنا وصديقنا الدكتور محمود محمد الطناحي - رحمه الله ! - وكان " أَهْلاويًّا " ، كما ينسب المصريون !

كانْ ( يزيد الناقص ) يَرْتَجِزُ في حُروبِهِ الَّتي قَتَلَ فيهَا الْوَليدَ بْنَ يَزيدَ بْنِ عاتِكَةَ :

أَنَا ابْنُ كِسْرى وَأَبي خاقانْ

وَقَيْصَرٌ جَدّي وَجَدّي مَرْوانْ

فَلَمّا صارَ إِلَى الِافْتِخارِ في شِعْرِه بِالنَّجْدَةِ وَالثَّقافَةِ بِالْحَرْبِ ، لَمْ يَفْخَرْ إِلّا بِخاقانَ فَقَطْ ، فَقالَ :

فَإِنْ كُنْتُ أَرْمي مُقْبِلًا ثُمَّ مُدْبِرًا وَأَطْلُعُ مِنْ طَوْدٍ زَليقٍ عَلى مُهْر

فَخاقانُ جَدّي فَاعْرِفي ذاكِ وَاذْكُري أَخابيرَه فِي السَّهْلِ وَالْجَبَلِ الْوَعْر

قَوْلُه : " وَأَطْلُعُ " ، يُريدُ : وَأَنْزِلُ ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الشّامِ ! وَأَخذوها مِنْ نازِلَةِ الْعَرَبِ في أَوَّلِ الدَّهْرِ . وَجَعَلَ دابَّتَه مُهْرًا ، لِأَنَّ ذلِكَ أَشَدُّ وَأَشَقُّ .

في الأول تحريد ؛ إذ كيف تجامع " خاقانْ = فالاتْ " في ضربه ، " دي مَرْوانْ = مفعولات " في ضرب الآخر ، ولا وجه للتفعيلة الأولى ، والوجه للآخرة !

ثم مثل ما في " أَطْلُعُ " من تضاد لطيف ، ما في " دَعَمَ " ؛ فهو عند المصريين " قَوّى " ، وما إليها من المساعدة على البنيان ، وعند العُمانيين " صَدَمَ " ، وما إليه من هدم البنيان !

مَنْ عَرَفَ ما طُبِعَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ ، وَجَرَتْ بِه عاداتُهُمْ ، وَعَرَفَ أَسْبابَ اتِّصالِهِمْ وَاتِّصالِه بِهِمْ ، وَتَقَصّى عِلَلَ ذلِكَ - كانَ خَليقًا - إِنْ لَمْ يُحِطْ بِعِلْمِ ما في قُلوبِهِمْ - أَنْ يَقَعَ مِنَ الْإِحاطَةِ قَريبًا !

يعتمد الجاحظ كثيرا على تفسير الحكم الأمثالية ، على طريقة حل المعقود ؛ فهذا مثلا موضع قولهم : " مَنْ طَلَبَ شَيْئًا وَجَدَه ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ أَوْشَكَ أَنْ يَقَعَ قَريبًا مِنْهُ " !

إِذا صَفا لَكَ أَخٌ فَكُنْ بِه أَشَدَّ ضَنًّا مِنْكَ بِنَفائِسِ أَمْوالِكَ ! ثُمَّ لا يُزَهِّدَنَّكَ فيهِ أَنْ تَرى مِنْهُ خُلُقًا أَوْ خُلُقَيْنِ تَكْرَهُهُما ؛ فَإِنَّ نَفْسَكَ الَّتي هِيَ أَخَصُّ النُّفوسِ بِكَ لا تُعْطيكَ الْمَقادَةَ في كُلِّ ما تُريدُ ؛ فَكَيْفَ بِنَفْسِ غَيْرِكَ !

والله المستعان !

رُبَّما ذَكَرَ رَجُلٌ اللّهَ - تَبارَكَ ، وَتَعالى ! - فَكانَ ذلِكَ الذِّكْرُ إِثْمًا لَه ، لِأَنَّه قَدْ يُدْخِلُه في بابِ تَفْخيمِ الذَّنْبِ الْحَقيرِ ، وَالْإِغْراءِ وَالتَّحْريضِ ، فَيَسْفِكُ الدَّمَ الْحَرامَ ، أَوْ يُعَظِّمُ الْجُرْحَ الصَّغيرَ - كذا وكأن الصواب " الْجُرْمَ " - بَلْ رُبَّما ضَحِكَ وَتَبَسَّمَ ، فَأَغْرى وَحَرَّضَ ، وَأَثِمَ وَأَوْبَقَ !

خرج رجل عن مجلس طاوس - رضي الله عنه ! - سيد التابعين ، فقال رجل في عقبه : سُبْحانَ اللّهِ ! فقال طاوس : ما رَأَيْتُ " سُبْحانَ اللّهِ " ، ذَنْبًا إِلَّا الْيَوْمَ !

كَتَبَ النَّبيُّ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - إِلى بَنِي الْجُلَنْدى ، فَلَمْ يُؤْمِنوا ، وَكَذلِكَ كِسْرى ، وَكَذلِكَ الْحارِثُ بْنُ أَبي شَمِرٍ ، وَكذلِكَ هَوْذَةُ بْنُ عَليٍّ الْحَنَفيُّ ، وَكَذلِكَ الْمُقَوْقِسُ عَظيمُ الْقِبْطِ صاحِبُ الْإِسْكَنْدَريَّةِ ، وَكَذلِكَ قَيْصَرُ مَلِكُ الرّومِ . عَلى أَنَّ بَنِي الْجُلَنْدى قَدْ أَسْلَموا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الْكِتابِ ، وَلكِنَّ النَّجاشيَّ أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ ، فَدامَ لَه مُلْكُه ، وَنَزَعَ اللّهُ مِنْ هؤُلاءِ النِّعْمَةَ . وَقَيْصَرُ إِنْ كانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ مُلْكِه شَيْءٌ فَقَدْ أَخْرَجوهُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ يَبْلُغُه ظِلْفٌ أَوْ حافِرٌ ، وَصارَ لا يَتَمَنَّعُ إِلّا بِالْخَليجِ ، وَبِالْعِقابِ وَالْحُصونِ ، وَبِالشِّتاءِ وَالثُّلوجِ وَالْأَمْطارِ .

ما زال العمانيون يسمون " الجُلَنْدى " ذكورهم ، كما فعل تلميذي منهم النجيب سعود الظفري ، ثم يحولونه بالتدليل أو التدلل إلى " جِلَنْد " ! ولقد كنت أعلق على جدار غرفتي بجامعة السلطان قابوس ، فوق مقعدي ، صورة رسالة رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - إلى بني الجلندى المشار إليها هنا !

الْعَرَبُ قَدْ تَجْعَلُ الشَّيْءَ أُمَّ ما لَمْ يَلِدْ ؛ مِنْ ذلِكَ قَوْلُهُمْ : ضَرَبَه عَلى أُمِّ رَأْسِه ، وَكَذلِكَ أُمُّ الْهاوِيَةِ ، وَالضَّيْفُ يُسَمّي رَبَّةَ مَنْزِلِه أُمَّ مَثْوايَ .

لكن أَذْكُرُ أننا كنا على طعام أستاذنا جميعا محمود محمد شاكر - رحمه الله ! - وفينا أبو همام الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم ، وبعض كبار العلماء وزوجه ، فذكر أن العربي يسمي زوجه " أُمَّ مَثْواي " ! فقلت : " نحن نسميها في بلدنا " أُمّ زِعيزَعْ " ! فتَحَرَّجَ ، وغضبت زوجُه ، واستغرق الدكتور عبد اللطيف الضحكُ قائلا : سامحه ، لا يقصد ، سامحه ، لا يقصد !

               


المراجع

odabasham.net

التصانيف

مجتمع  مجتمع   الآداب   قصة   العلوم الاجتماعية