التَّثْقيفُ الْعَرَبيُّ الْإِسْلاميُّ

[1] إذا هَجَرَ المُثَقَّفون ثَقافَتَهم جَهِلوها ؛ فضاع إيمانهم بها ، وزَهِدوا فيها ، واختلفوا ؛ فمِنْ مُتَشاغِلٍ عنها بمادّيّات حضارته وكأنها لُغْزٌ يُعَنِّتُه النَظَرُ فيه ، ومِنْ مُدْبِرٍ عنها إلى غيرها من الثقافات وكأنها عارٌ يَنْبَغي أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ ، ومِنْ مُقْبِلٍ عليها بالتحريف وكأنها قَرْزَمَةٌ يَنْبَغي أَنْ يُهَذِّبَها - حتى إذا ما تَيَسَّرَ لبعضهم أن يَسْتَوْعِبَها حتى تَمْلَأَ عليه أَقْطارَ نفسه ، فَيُؤْمِنَ بها حتى يَصيرَ هو نَفْسُه مَظْهَرَ كُنْهِها ، ويَحْرِصَ عليها حتى يَصيرَ هو نَفْسُه لِسانَ حالِها - أقبل يتأتى إلى   تعليمها ، ويغري المثقفين بمراجعتها .

ويبدو لي أن حَيَواتِ الثقافات الكبيرة حيواتٌ مستديرة ، تتوالى فيها من قديم إلى حديث ، أحوالُ الوصال والهجران ، والاستيعاب والجهل ، والقوة والضعف ؛ فقد ابتليت الثقافة العربية الإسلامية في القرن الهجري الرابع عشر ( الميلادي العشرين ) ، بطوائف من أولئك الجاهلين الشاكين الزاهدين ، تَشاغَلوا ، وأَدْبَروا ، وحَرَّفوا ، وتَمَكَّنوا 1 ، حتى نشأ مصطفى صادق الرافعي ( 1880-1937م ) ، ثم تلميذه محمود محمد شاكر ( 1909-1997م ) - رحمهما الله ! - فلم يكونا إلا مُثَقَّفَيْنِ أوتِيا من استيعاب الثقافة العربية الإسلامية والإيمان بها والحرص عليها ، ما أقبلا يَتَأَتَّيان به إلى تعليمها والإغراء بمراجعتها 2 ، حتى استحدثا أساليب أدبية متعددة مختلفة ، أثرت في المتلقين تأثيرا شديدا .

أَشَدُّ الْأَساليبِ التَّثْقيفيَّةِ تَأْثيرًا

[2] ولكن ثَمَّ أسلوبين مَجازيَّيْن ، كانا أشد أساليبهما تأثيرا 3 :

1   تَكْمِلَةُ الْكُتُبِ الْقَديمَةِ : فيه يكتبان نصوصهما فيما يريدان أن يبيناه لمعاصريهما من معالم الثقافة التي استوعباها ، على منهج كتاب قديم أَثيرٍ لَدَيْهِما مَعْروفٍ مَشْهورٍ لَدى المتلقين ، ثم ينسبان نصوصهما تلك إلى هذا الكتاب ، مُتَقَوِّيَيْنِ بأثره الراسخ في نفوس المتلقين ، مُدَّعِيَيْنِ أنه وقعت لكل منهما نسخة منه لم تقع لغيره حتى صاحب الكتاب نفسه ، موقِنَيْنِ أنه لن يغفل أحد من المتلقين عن مَجاز عملهما !

أما الرافعي فنسب نصوصا في مخاصمة بعض الأدباء ، إلى كتاب " كليلة ودمنة " ، ثم ضمنها كتابه " تحت راية القرآن " . وأما شاكر فنسب نصوصا في مخاصمة بعض الأدباء كذلك ، إلى الكتاب نفسه ، على أَثَرِ أستاذه ، ثم ضَمَّنَها كتابه " أباطيل وأسمار " ، ونسب نصوصا أخرى في استشراف مستقبل الوطن العربي ، إلى كتاب " تاريخ الطبري " ، ثم تَضَمَّنَها كتابُ " جمهرة مقالات محمود محمد شاكر " ، الصادر بعد وفاته .

2   تَكْمِلَةُ الْمَجالِسِ الْقَديمَةِ : فيه يكتب الكاتبان نصوصهما فيما يريدان أن يبيناه لمعاصريهما من معالم الثقافة التي استوعباها ، على منهج مجالس أعلام حملة ثقافتهما القدماء التي يرويها الأخباريّون ، ثم ينسبان نصوصهما تلك إلى هؤلاء الأعلام ، مُتَقَوِّيَيْنِ بأثرهم الراسخ في نفوس المتلقين ، مُدَّعِيَيْنِ أنهما سمعا وشاهدا ما لم يسمعه أو يشاهده غيرهما حتى الأخباريّون السابقون أنفسهم ، موقِنَيْنِ أنه لن يغفل أحد من المتلقين عن مجاز عملهما هذا كذلك .

أما الرافعي فروى نصوصا في تهذيب الأخلاق النفسية والاجتماعية ، عن بعض العلماء والزهاد ، ثم ضمنها كتابه " وحي القلم " . وأما شاكر فروى نصوصا في تهذيب الأخلاق النفسية والاجتماعية كذلك ، وفي تنبيه الوعي السياسي ، عن أبي الخطاب عمر بن أبي ربيعة الشاعر الغَزِل المشهور ، ثم تَضَمَّنَها كتاب " جمهرة مقالات محمود محمد شاكر " نفسه . وعلى رغم وضع شاكر فوق عناوين نصوص هذا الأسلوب ، عبارة " من مذكرات عمر بن أبي ربيعة " ، يَمْنَعُ من إضافتها إلى الأسلوب الأول ، أَلّا وجود في الكتب القديمة ، لما تشير إليه العبارة !

جَوامِعُ الْأُسْلوبَيْنِ وَفَوارِقُهما

[3] وعلى رغم تجلي آيتين من اتصال الحاضر الذليل بالماضي العزيز    ( هَمِّ الكاتبين ) في نصوص الأسلوبين : استدعاء الماضي إلى الحاضر في نصوص الأسلوب الأول ، ورحيل الحاضر إلى الماضي في نصوص الأسلوب الأخير - مَيَّزَ هذين الأسلوبين الاثنين في خلال ذلك الاتصال الواحد :

1   أن الأسلوب الأول أميل إلى العِلْميَّة - وإن عُدَّ كتاب " كليلة ودمنة " في الكتب الفنية - من حيث يجري مجرى عمل المُحَقِّقين ، والأخير أميل إلى الفَنّيَّة ، من حيث يجري مجرى عمل القَصّاصين ؛ فكأنما حرص الكاتبان على أن يسلكا إلى المتلقين ، كل سبيل !

2   أن أحداث نصوص الأسلوب الأول مُدَّعاةٌ على الكتب المنسوبة إليها ، وأحداث نصوص الأسلوب الأخير مُحَقَّقَةٌ على أصحابها ، وإن شابَتْها زيادات لا تؤثر فيها .

3   أن افتراق الأسلوبين بما سبق ، أفضى إلى كثرة نصوص الكاتبين في الأسلوب الأخير عنها في الأسلوب الأول ، وإن كانت نصوص شاكر على وجه العموم أقل كثيرا من نصوص أستاذه ، شأنَ المُعارَضَةِ ؛ فمهما أحبَّ التلميذُ المعارِضُ أستاذَه المعارَضَ ، وكان مُوَفَّقًا في مُعارَضَتِه ، فَسَيَظَلُّ أكبرُ إخلاصه لما يستنبطه هو نفسه ، ما دام فنانًا مبدعًا !

نُصوصُ الْأُسْلوبِ الْأَخيرِ

[4] ولقد كان في جلال الغاية التي أَمَّها الكاتبان ، وفي صدق معنى المدرسة الثقافية الواحدة بينهما ، وفي نجاح أسلوبهما الأخير الواضح في زيادة نصوصه على نصوص الأسلوب الأول - ما يستغرق تأمل النحوي ، حتى يوازن بينهما موازنة نصية نحوية ؛ فيشرح من معالم الغاية والمدرسة والأسلوب ، ما يتقدم بدراسته النحوية في سبيل وعي علمي جديد .

·        فانطلقت من نصوص شاكر هذه القليلة ، في الأسلوب الأخير :

1        " ذات النطاقين " 4 ، في الشدائد التي عانتها حتى ماتت .

2        " الحقيقة المؤمنة " 5 ، فيما ابتلي به عروة بن الزبير .

3        " أيام حزينة " 6 ، فيما ابتلي به ابن أبي عتيق .

4        " جريرة ميعاد " 7 ، في بعض المواقف الغزلية .

5        " صديق إبليس " 8 ، في بعض المواقف الغزلية .

6        " صديق إبليس " 9 ، في بقية ذلك .

7        " حديث غد " 10 ، في إجلاء يهود عن بلاد العرب .

·        إلى نصوص الرافعي هذه الكثيرة في الأسلوب الأخير نفسه :

1        " سمو الحب " 11 ، في الحب بين الرجل والمرأة .

2        " قصة زواج وفلسفة مهر " 12 ، في حسن اختيار الزوج .

3        " ذيل القصة وفلسفة المال " 13 ، بقية ذلك .

4        " زوجة إمام " 14 ، في مكانة المرأة .

5        " زوجة إمام : بقية الخبر " 15 ، في بقية ذلك .

6        " قبح جميل " 16 ، في حسن اختيار الزوجة .  

7        " رؤيا في السماء " 17 ، في حسن علاقة الزوج بزوجته .

8        " بنته الصغيرة " 18 ، في الفوز بالأبناء .

9        " بنته الصغيرة " 19 ، في بقية ذلك .

10   " الانتحار " 20 ، في علاج اليأس من الدنيا .

11   " الانتحار " 21 ، في بقية ذلك .

12   " الانتحار " 22 ، في بقية ذلك .

13   " الانتحار " 23 ، في بقية ذلك .

14   " الانتحار " 24 ، في بقية ذلك .

15   " الانتحار " 25 ، في تمام ذلك .

16   " السمكة " 26 ، في الإيثار على النفس .

17   " الزاهدان " 27 ، في بقية ذلك .

18   " إبليس يعلم " 28 ، في بقية ذلك .

19   " الدنيا والدرهم " 29 ، في بقية ذلك .

20   " الشيطان " 30 ، في معنى الصلاح والفساد .

21   " الأسد " 31 ، في ثبات العلماء وكراماتهم .

22   " أمراء للبيع " 32 ، في جلال العلماء وسطوتهم .

مادَّةُ الْمُوازَنَةِ

[5] تَلَمَّسْتُ كُلَّ زَوْجَيْنِ مُتَشابِهَيْنِ مِقْدارًا وَرِسالَةً ، حتى عثرت لنص شاكر الثاني " الحقيقة المؤمنة " ، على نص الرافعي الحادي والعشرين " الأسد " ؛ فَفَصَّلْتُهما بما اسْتَوْعَبْتُهما ، وعَنْوَنْتُ فُصولَهما ، ورَقَّمْتُهما ، وشَكَّلْتُهما ، على النحو التالي :

" الْأَسَدُ " ، لِلرّافِعيِّ 33 :

[ 1 : مَشْهَدُ وَفاةِ الْبَطَلِ ]

" جَلَسَ أَبو عَليٍّ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرّوذَباديُّ الْبَغْداديُّ في مَجْلِسِ وَعْظِه بِمِصْرَ بَعْدَ وَفاةِ شَيْخِه أَبي الْحَسَنِ بُنانٍ الْحَمَّالِ الزّاهِدِ الْواسِطيِّ شَيْخِ الدِّيارِ الْمِصْريَّةِ ، وَكانَ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِعِبادَتِه وَزُهْدِه ، وَقَدْ خَرَجَ أَكْثَرُ أَهْلِ مِصْرَ في جِنازَتِه ، فَكانَ يَوْمُه يَوْمًا كَالْبُرْهانِ مِنَ الْعالَمِ الْآخَرِ لِأَهْلِ هذِه الدُّنْيا : ما بَقِيَ أَحَدٌ إِلّا اقْتَنَعَ أَنَّه في شَهَواتِ الْحَياةِ وَأَباطيلِها كَالْأَعْمى في سوءِ تَمْييزِه بَيْنَ لَوْنِ التُّرابِ وَلَوْنِ الدَّقيقِ ؛ إِذْ يَنْظُرُ كُلُّ امْرِئٍ في مَصالِحِه وَمَنافِعِه مِثْلَ هذِه النَّظْرَةِ ، بِاللَّمْسِ لا بِالْبَصَرِ ، وَبِالتَّوَهُّمِ لا بِالتَّحْقيقِ ، وَعَلى دَليلِ نَفْسِه في الشَّيْءِ لا عَلى دَليلِ الشَّيْءِ في نَفْسِه ، وَبِالْإِدْراكِ مِنْ جِهَةٍ واحِدَةٍ دونَ الْإِدْراكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ ، ثُمَّ يَأْتي الْمَوْتُ ، فَيَكونُ كَالْماءِ صُبَّ عَلى الدَّقيقِ وَالتُّرابِ جَميعًا ، فَلا يَرْتابُ مُبْصِرٌ وَلا أَعْمى ؛ وَيَبْطُلُ ما هُوَ باطِلٌ ، وَيَحِقُّ الَّذي هُوَ حَقٌّ .

[ 2 : التَّطَلُّعُ إِلى لِقاءِ الْبَطَلِ ]

وَتَكَلَّمَ أَبو عَليٍّ ، فَقالَ : كُنْتُ ذاتَ يَوْمٍ عِنْدَ شَيْخِنا الْجُنَيْدِ في بَغْدادَ ، فَجاءَه كِتابٌ مِنْ يوسُفَ بْنِ الْحَسَنِ شَيْخِ الرَّيِّ وَالْجِبالِ في وَقْتِه ، يَقولُ فيهِ :

لا أَذاقَكَ اللّهُ طَعْمَ نَفْسِكَ ، فَإِنَّكَ إِنْ ذُقْتَها لَمْ تَذُقْ بَعْدَها خَيْرًا أَبَدًا !

قالَ : فَجَعَلْتُ أُفَكِّرُ في طَعْمِ النَّفْسِ : ما هُوَ ، وَجاءَني ما لَمْ أَرْضَه مِنَ  الرَّأْيِ ، حَتّى سَمِعْتُ بِخَبَرِ بُنانٍ - رَحِمَه اللّهُ ! - مَعَ أَحْمَدَ بْنِ طولونَ أَميرِ   مِصْرَ ، فَهُوَ الَّذي كانَ سَبَبَ قُدومي إِلى هُنا لِأَرى الشَّيْخَ وَأَصْحَبَه وَأَنْتَفِعَ بِه .

[ 3 : مَكانَةُ أَمْثالِ الْبَطَلِ ]

وَالْبَلَدُ الَّذي لَيْسَ فيهِ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الدّينِ الصَّحيحِ وَالنَّفْسِ الْكامِلَةِ وَالْأَخْلاقِ الْإِلهيَّةِ ، هُوَ في الْجَهْلِ كَالْبَلَدِ الَّذي لَيْسَ فيهِ كِتابٌ مِنَ الْكُتُبِ أَلْبَتَّةَ ، وَإِنْ كانَ كُلُّ أَهْلِه عُلَماءَ ، وَإِنْ كانَ في كُلِّ مَحَلَّةٍ مِنْهُ مَدْرَسَةٌ ، وَفي كُلِّ دارٍ مِنْ دورِه خِزانَةُ كُتُبٍ ؛ فَلا تُغْني هذِه الْكُتُبُ عَنِ الرِّجالِ ؛ فَإِنَّما هِيَ صَوابٌ أَوْ خَطَأٌ يَنْتَهي إِلى الْعَقْلِ ، وَلكِنَّ الرَّجُلَ الْكامِلَ صَوابٌ يَنْتَهي إِلى الرّوحِ ، وَهُوَ في تَأْثيرِه عَلى النّاسِ أَقْوى مِنَ الْعِلْمِ ، إِذْ هُوَ تَفْسيرُ الْحَقائِقِ في الْعَمَلِ وَحَياتُها عامِلَةً مَرْئيَّةً داعِيَةً إِلى نَفْسِها . وَلَوْ أَقامَ النّاسُ عَشْرَ سِنينَ يَتَناظَرونَ في مَعاني الْفَضائِلِ وَوَسائِلِها ، وَوَضَعوا في ذلِكَ مِئَةَ كِتابٍ ، ثُمَّ رَأَوْا رَجُلًا فاضِلًا بِأَصْدَقِ مَعاني الْفَضيلَةِ ، وَخالَطوهُ وَصَحِبوهُ - لَكانَ الرَّجُلُ وَحْدَه أَكْبَرَ فائِدَةً مِنْ تِلْكَ الْمُناظَرَةِ ، وَأَجْدى عَلى النّاسِ مِنْها ، وَأَدَلَّ عَلى الْفَضيلَةِ مِنْ مِئَةِ كِتابٍ وَمِنْ أَلْفِ كِتابٍ ؛ وَلِهذا يُرْسِلُ اللّهُ النَّبيَّ مَعَ كُلِّ كِتابٍ مُنَزَّلٍ لِيُعْطِيَ الْكَلِمَةَ قوَّةَ وُجودِها ، وَيُخْرِجَ الْحالَةَ النَّفْسيَّةَ مِنَ الْمَعْنى الْمَعْقولِ ، وَيُنْشِئَ الْفَضائِلَ الْإِنْسانيَّةَ عَلى طَريقَةِ النَّسْلِ مِنْ إِنْسانِها الْكَبيرِ .

وَما مَثَلُ الْكِتابِ يَتَعَلَّمُ الْمَرْءُ مِنْهُ حَقائِقَ الْأَخْلاقِ الْعالِيَةِ ، إِلّا كَوَضْعِ الْإِنْسانِ يَدَه تَحْتَ إِبِطِه لِيَرْفَعَ جِسْمَه عَنِ الْأَرْضِ ؛ فَقَدْ أَنْشَأَ يَعْمَلُ ، وَلكِنَّه لَنْ يَرْتَفِعَ ؛ وَمِنْ ذلِكَ كانَ شَرُّ النّاسِ هُمُ الْعُلَماءَ وَالْمُعَلِّمينَ إِذا لَمْ تَكُنْ أَخْلاقُهُمْ دُروسًا أُخْرى تَعْمَلُ عَمَلًا آخَرَ غَيْرَ الْكَلامِ ؛ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَجْلِسُ مَجْلِسَ الْمُعَلِّمِ ، ثُمَّ تَكونُ حَوْلَه رَذائِلُه تُعَلِّمُ تَعْليمًا آخَرَ مِنْ حَيْثُ يَدْري وَلا يَدْري ، وَيَكونُ كِتابُ اللّهِ مَعَ الْإِنْسانِ الظّاهِرِ مِنْهُ ، وَكِتابُ الشَّيْطانِ مَعَ الْإِنْسانِ الْخَفيِّ فيهِ .

[ 4 : صِفَةُ الْبَطَلِ عِنْدَ اللِّقاءِ ]

قالَ أَبو عَليٍّ : وَقَدِمْتُ إِلى مِصْرَ لِأَرى أَبا الْحَسَنِ وَآخُذَ عَنْهُ وَأُحَقِّقَ ما سَمِعْتُ مِنْ خَبَرِه مَعَ ابْنِ طولونَ ؛ فَلَمّا لَقيتُه لَقيتُ رَجُلًا مِنْ تَلاميذِ شَيْخِنا الْجُنَيْدِ ، يَتَلَأْلَأُ فيهِ نورُه ، وَيَعْمَلُ فيهِ سِرُّه ؛ وَهُما كَالشَّمْعَةِ وَالشَّمْعَةِ في الضَّوْءِ وَإِنْ صَغُرَتْ واحِدَةٌ وَكَبِرَتْ واحِدَةٌ ؛ وَعَلامَةُ الرَّجُلِ مِنْ هؤُلاءِ أَنْ يَعْمَلَ وُجودُه فيمَنْ حَوْلَه أَكْثَرَ مِمّا يَعْمَلُ هُوَ بِنَفْسِه ، كَأَنَّ بَيْنَ الْأَرْواحِ وَبَيْنَه نَسَبًا شابِكًا ، فَلَه مَعْنى أُبوَّةِ الْأَبِ في أَبْنائِه : لا يَراهُ مَنْ يَراهُ مِنْهُمْ إِلّا أَحَسَّ أَنَّه شَخْصُه الْأَكْبَرُ ؛ فَهذا هُوَ الَّذي تَكونُ فيهِ التَّكْمِلَةُ الْإِنْسانيَّةُ لِلنّاسِ ، وَكَأَنَّه مَخْلوقٌ خاصَّةً لِإِثْباتِ أَنَّ غَيْرَ الْمُسْتَطاعِ مُسْتَطاعٌ .

وَمِنْ عَجيبِ حِكْمَةِ اللّهِ أَنَّ الْأَمْراضَ الشَّديدَةَ تَعْمَلُ بِالْعَدْوى فيمَنْ قارَبَها أَوْ لامَسَها ، وَأَنَّ الْقُوى الشَّديدَةَ تَعْمَلُ كَذلِكَ بِالْعَدْوى فيمَنِ اتَّصَلَ بِها أَوْ صاحَبَها ؛ وَلِهذا يَخْلُقُ اللّهُ الصّالِحينَ ، وَيَجْعَلُ التَّقْوى فيهِمْ إِصابَةً كَإِصابَةِ الْمَرَضِ ، تَصْرِفُ عَنْ شَهَواتِ الدُّنْيا كَما يَصْرِفُ الْمَرَضُ عَنْها ، وَتَكْسِرُ النَّفْسَ كَما يَكْسِرُها ذاكَ ، وَتُفْقِدُ الشَّيْءَ ما هُوَ بِه شَيْءٌ ، فَتَتَحَوَّلُ قيمَتُه ، فَلا يَكونُ بِما فيهِ مِنَ الْوَهْمِ ، بَلْ بِما فيهِ مِنَ الْحَقِّ . وَإِذا عَدِمَ النّاسُ هذا الرَّجُلَ الَّذي يُعْديهِمْ بِقوَّتِه الْعَجيبَةِ ، فَقَلَّما يَصْلُحونَ لِلْقوَّةِ ، فَكِبارُ الصّالِحينَ وَكِبارُ الزُّعَماءِ وَكِبارُ الْقوّادِ وَكِبارُ الشُّجْعانِ وَكِبارُ الْعُلَماءِ وَأَمْثالُهُمْ ، كُلُّ هؤُلاءِ مِنْ بابٍ واحِدٍ ، وَكُلُّهُمْ في الْحِكْمَةِ كَكِبارِ الْمَرْضى .

[ 5 : شُهودُ كَرامَةِ الْبَطَلِ ]

قالَ أَبو عَليٍّ : وَهَمَمْتُ مَرَّةً أَنْ أَسْأَلَ الشَّيْخَ عَنْ خَبَرِه مَعَ ابْنِ طولونَ ، فَقَطَعَتْني هَيْبَتُه ، فَقُلْتُ أَحْتالُ بِسُؤالِه عَنْ كَلِمَةِ شَيْخِ الرَّيِّ : " لا أَذاقَكَ اللّهُ طَعْمَ نَفْسِكَ " . وَبَيْنَما أُهَيِّئُ في نَفْسي كَلامًا أُجْري فيهِ هذِه الْعِبارَةَ ، جاءَ رَجُلٌ ، فَقالَ لِلشَّيْخِ :

لي عَلى فُلانٍ مِئَةُ دينارٍ ، وَقَدْ ذَهَبَتِ الْوَثيقَةُ الَّتي كُتِبَ فيها الدَّيْنُ ، وَأَخْشى أَنْ يُنْكِرَ إِذا هُوَ عَلِمَ بِضَياعِها ؛ فَادْعُ اللّهَ لي وَلَه أَنْ يُظْفِرَني بِدَيْني وَأَنْ يُثَبِّتَه عَلى الْحَقِّ .

فَقالَ الشَّيْخُ : إِنّي رَجُلٌ قَدْ كَبِرْتُ ، وَأَنا أُحِبُّ الْحَلْوى ؛ فَاذْهَبْ ، فَاشْتَرِ رِطْلًا مِنْها ، وَائْتِني بِه حَتّى أَدْعُوَ لَكَ !

فَذَهَبَ الرَّجُلُ ، فَاشْتَرى الْحَلْوى ، وَوَضَعَها لَه الْبائِعُ في وَرَقَةٍ ، فَإِذا هِيَ الْوَثيقَةُ الضّائِعَةُ ! وَجاءَ إِلى الشَّيْخِ ، فَأَخْبَرَه ، فَقالَ لَه :

خُذِ الْحَلْوى ، فَأَطْعِمْها صِبْيانَكَ ، لا أَذاقَنا اللّهُ طَعْمَ أَنْفُسِنا فيما نَشْتَهي !

ثُمَّ إِنَّه الْتَفَتَ إِلَيَّ ، وَقالَ :

لَوْ أَنَّ شَجَرَةً اشْتَهَتْ غَيْرَ ما بِه صِحَّةُ وُجودِها وَكَمالُ مَنْفَعَتِها ، فَأُذيقَتْ طَعْمَ نَفْسِها ، لَأَكَلَتْ نَفْسَها ، وَذَوَتْ !

قالَ أَبو عَليٍّ : وَالْمُعْجِزاتُ الَّتي تَحْدُثُ لِلْأَنْبِياءِ ، وَالْكَراماتُ الَّتي تَكونُ لِلْأَتْقِياءِ ، وَما يَخْرِقُ الْعادَةَ وَيَخْرُجُ عَنِ النَّسَقِ - كُلُّ ذلِكَ كَقَوْلِ الْقُدْرَةِ عَنِ الرَّجُلِ الشّاذِّ : هُوَ هذا . فَلَمْ تَبْقَ بي حاجَةٌ إِلى سُؤالِ الشَّيْخِ عَنْ خَبَرِه مَعَ ابْنِ طولونَ ، وَكُنْتُ كَأَنّي أَرى بِعَيْنَيْ رأْسي كُلَّ ما سَمِعْتُ ، بَيْدَ أَنّي لَمْ أَنْصَرِفْ ، حَتّى لَقيتُ أَبا جَعْفَرٍ الْقاضِيَ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدّينَوَريَّ ، ذاكَ الَّذي يُحَدِّثُ بِكُتُبِ أَبيهِ كُلِّها مِنْ حِفْظِه ، وَهِيَ واحِدٌ وَعِشْرونَ مُصَنَّفًا ، فيها الْكَبيرُ وَالصَّغيرُ ؛ فَقالَ لي :

لَعَلَّكَ اشْتَفَيْتَ مِنْ خَبَرِ بُنانٍ مَعَ ابْنِ طولونَ ، فَمِنْ أَجْلِه - زَعَمْتَ - جِئْتَ إِلى مِصْرَ ؟

قُلْتُ : إِنَّه تَواضَعَ ؛ فَلَمْ يُخْبِرْني ، وَهِبْتُه ؛ فَلَمْ أَسْأَلْهُ .

قالَ : تَعالَ أُحَدِّثْكَ الْحَديثَ :

[ 6 : صِفَةُ خَصيمِ الْبَطَلِ ]

كانَ أَحْمَدُ بْنُ طولونَ مِنْ جارِيَةٍ تُرْكيَّةٍ ، وَكانَ طولونُ أَبوهُ مَمْلوكًا حَمَلَه نوحُ بْنُ أَسدٍ عامِلُ بُخارى إِلى الْمَأْمونِ فيما كانَ مُوَظَّفًا عَلَيْهِ مِنَ الْمالِ وَالرَّقيقِ وَالْبَراذينِ وَغَيْرِ ذلِكَ ؛ فَوُلِدَ أَحْمَدُ في مَنْصِبِ ذِلَّةٍ تَسْتَظْهِرُ بِالطُّغْيانِ ، وَكانَتْ هاتانِ طَبيعَتَيْهِ إِلى آخِرِ عُمُرِه ، فَذَهَبَ بِهِمَّتِه مَذْهَبًا بَعيدًا ، وَنَشَأَ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِه عَلى أَنْ يُتِمَّ هذا النَّقْصَ وَيَكونَ أَكْبَرَ مِنْ أَصْلِه ؛ فَطَلَبَ الْفُروسيَّةَ وَالْعِلْمَ  وَالْحَديثَ ، وَصَحِبَ الزُّهّادَ وَأَهْلَ الْوَرَعِ ، وَتَمَيَّزَ عَلى الْأَتْراكِ وَطَمَحَ إِلى الْمَعالي ، وَظَلَّ يَرْمي بِنَفْسِه ، وَهُوَ في ذلِكَ يَكْبُرُ وَلا يَزالُ يَكْبُرُ ، كَأَنَّما يُريدُ أَنْ يَنْقَطِعَ مِنْ أَصْلِه وَيَلْتَحِقَ  بِالْأُمَراءِ ، فَلَمّا الْتَحَقَ بِهِمْ ظَلَّ يَكْبُرُ لِيَلْتَحِقَ بِالْمُلوكِ ، فَلَمّا بَلَغَ هؤُلاءِ كانَتْ نيَّتُه عَلى ما يَعْلَمُ اللّهُ !

قالَ : وَكانَ عَقْلُه مِنْ أَثَرِ طَبيعَتَيْهِ كَالْعَقْلَيْنِ لِرَجُلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : فَلَه يَدٌ مَعَ الْمَلائِكَةِ ، وَيَدُه الْأُخْرى مَعَ الشَّياطينِ :

فَهُوَ الَّذي بَنى الْمارِسْتانَ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ وَأَقامَ فيهِ الْأَطِبّاءَ ، وَشَرَطَ إِذا 34 جيءَ بِالْعَليلِ أَنْ تُنْزَعَ ثِيابُه وَتُحْفَظَ عِنْدَ أَمينِ الْمارِسْتانِ ، ثُمَّ يُلْبَسَ ثِيابًا وَيُفْرَشَ لَه وَيُغْدى عَلَيْه وَيُراحَ بِالْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ وَالْأَطِبّاءِ حَتّى يَبْرَأَ ، وَلَمْ يَكُنْ هذا قَبْلَ إِمارَتِه .

وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَظَرَ في الْمَظالِمِ مِنْ أُمَراءِ مِصْرَ .

وَهُوَ صاحِبُ يَوْمِ الصَّدَقَةِ ، يُكْثِرُ مِنْ صَدَقاتِه كُلَّما كَثُرَتْ نِعْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِ ، وَمَراتِبُه لِذلِكَ في كُلِّ أُسْبوعٍ ثَلاثَةُ آلافِ دينارٍ سِوى مَطابِخِه الَّتي أُقيمَتْ في كُلِّ يَوْمٍ في دارِه وَغَيْرِها ، يَذْبَحُ فيها الْبَقَرَ وَالْكِباشَ وَيَغْرِفُ لِلنّاسِ ، وَلِكُلِّ مِسْكينٍ أَرْبَعَةُ أَرْغِفَةٍ يَكونُ في اثْنَيْنِ مِنْها فالوذَجُ وَفي الْآخَرَيْنِ مِنَ الْقُدورِ ، وَيُنادى : مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ دارَ الْأَميرِ فَلْيَحْضُرْ ! وَتُفْتَحُ الْأَبْوابُ ، وَيَدْخُلُ النّاسُ وَهُوَ في الْمَجْلِسِ يَنْظُرُ إِلى الْمَساكينِ وَيَتَأَمَّلُ فَرَحَهُمْ بِما يَأْكُلونَ وَيَحْمِلونَ ؛ فَيَسُرُّه ذلِكَ ، وَيَحْمَدُ اللّهَ عَلى نِعْمَتِه . وَكانَ راتِبُ مَطْبَخِه في كُلِّ يَوْمٍ أَلْفَ دينارٍ ، وَاقْتَدى بِه ابْنُه خُمارَوَيْهِ ، فَأَنْشَأَ بَعْدَه مَطْبَخَ الْعامَّةِ يُنْفِقُ عَلَيْهِ ثَلاثَةً وَعِشْرينَ أَلْفَ دينارٍ كُلَّ شَهْرٍ . وَقَدْ بَلَغَ ما أَرْسَلَه ابْنُ طولونَ إِلى فُقراءِ بَغْدادَ وَعُلَمائِها في مُدَّةَ وِلايَتِه ، أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِئَتَيْ أَلْفِ دينارٍ .

وَكانَ كَثيرَ التِّلاوَةِ لِلْقُرْآنِ ، وَقَدِ اتَّخَذَ حُجْرَةً بِقُرْبِه في الْقَصْرِ وَضَعَ فيها رِجالًا سَمّاهُمْ بِالْمُكَبِّرينَ ، يَتَعاقَبونَ اللَّيْلَ نُوَبًا يُكَبِّرونَ ، وَيُسَبِّحونَ ، وَيَحْمَدونَ ، وَيُهَلِّلونَ ، وَيَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ  تَطْريبًا ، وَيُنْشِدونَ قَصائِدَ الزُّهْدِ ، وَيُؤَذِّنونَ أَوْقاتَ الْأَذانِ .

وَهُوَ الَّذي فَتَحَ أَنْطاكيَّةَ في سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتّينَ وَمِئَتَيْنِ ، ثُمَّ مَضى إِلى طَرْسوسَ كَأَنَّه يُريدُ فَتْحَها ، فَلَمّا نابَذَه أَهْلُها وَقاتَلَهُمْ أَمَرَ أَصْحابَه أَنْ يَنْهَزِموا عَنْها ، لِيَبْلُغَ ذلِكَ طاغِيَةَ الرّومِ فَيَعْلَمَ أَنَّ جُيوشَ ابْنِ طولونَ عَلى كَثْرَتِها وَشِدَّتِها لَمْ تَقُمْ لِأَهْلِ طَرْسوسَ ، فَيَكونَ بِهذا كَأَنَّه قاتَلَه وَصَدَّه عَنْ بَلَدٍ مِنْ بِلادِ الْإِسْلامِ ، وَيَجْعَلَ هذا الْخَبَرَ كالْجَيْشِ في تِلْكَ النّاحِيَةِ !

وَمَعَ كُلِّ ذلِكَ فَإِنَّه كانَ رَجُلًا طائِشَ السَّيْفِ ، يَجورُ وَيَعْسِفُ ، وَقَدْ أُحْصِيَ مَنْ قَتَلَهُمْ صَبْرًا أَوْ ماتوا في سِجْنِه ، فَكانوا ثَمانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا .

وَأَمَرَ بِسَجْنِ قاضيهِ بَكّارِ بْنِ قُتَيْبَةَ في حادِثَةٍ مَعْروفَةٍ , وَقالَ لَه :

غَرَّكَ قَوْلُ النّاسِ ما في الدُّنْيا مِثْلُ بَكّارٍ ؟ أَنْتَ شَيْخٌ قَدْ خَرِفْتَ !

ثُمَّ حَبَسَه ، وَقَيَّدَه ، وَأَخَذَ مِنْهُ جَميعَ عَطاياهُ مُدَّةَ وِلايَتِه الْقَضاءَ ، فَكانَتْ عَشَرَةَ آلافِ دينارٍ ، قيلَ إِنَّها وُجِدَتْ في بَيْتِ بَكّارٍ بِخَتْمِها لَمْ يَمَسَّها زُهْدًا وَتَوَرُّعًا .

وَلَمّا ذَهَبَ شَيْخُكَ أَبو الْحَسَن يُعَنِّفُه وَيَأْمُرُه بِالْمَعْروفِ وَيَنْهاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ ، طاشَ عَقْلُه ؛ فَأَمَرَ بِإِلْقائِه إِلى الْأَسَدِ ، وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذي طارَ في الدُّنْيا حَتّى بَلَغَكَ في بَغْدادَ !

[ 7 : تَعْريضُ الْبَطَلِ لِلِافْتِراسِ ]

[ 7 = 1 : صِفَةُ الْأَسَدِ ]

قالَ : وَكُنْتُ حاضِرَ أَمْرِهِمْ ذلِكَ الْيَوْمَ ، فَجيءَ بِالْأَسَدِ مِنْ قَصْرِ ابْنِه خُمارَوَيْهِ . وَكانَ خُمارَوَيْهِ هذا مَشْغوفًا بِالصَّيْدِ ، لا يَكادُ يَسْمَعُ بِسَبُعٍ في غَيْضَةٍ أَوْ بَطْنِ وادٍ إِلّا قَصَدَه وَمَعَه رِجالٌ عَلَيْهِمْ لُبودٌ ، فَيَدْخُلونَ إِلى الْأَسَدِ ، وَيَتَناوَلونَه بِأَيْديهِمْ مِنْ غابِه عَنْوَةً وَهُوَ سَليمٌ ، فَيَضَعونَه في أَقْفاصٍ مِنْ خَشَبٍ مُحْكَمَةِ الصَّنْعَةِ يَسَعُ الْواحِدُ مِنْها السَّبُعَ وَهُوَ قائِمٌ . وَكانَ الْأَسَدُ الَّذي اخْتاروهُ لِلشَّيْخِ ، أَغْلَظَ ما عِنْدَهُمْ ، جَسيمًا ، ضارِيًا ، عارِمَ الْوَحْشيَّةِ ، مُتَزَيِّلَ الْعَضَلِ ، شَديدَ عَصَبِ الْخَلْقِ ، هَرّاسًا ، فَرّاسًا ، أَهْرَتَ الشِّدْقِ ، يَلوحُ شِدْقُه مِنْ سَعَتِه وَرَوْعَتِه كَفَتْحَةِ الْقَبْرِ ، يُنْبِئُ أَنْ جَوْفَه مَقْبَرَةٌ ، وَيَظْهَرُ وَجْهُه خارِجًا مِنْ لِبْدَتِه ، يَهُمُّ أَنْ يَنْقَذِفَ عَلى مَنْ يَراهُ فَيَأْكُلَه !

[ 7 = 2 : هَجْمَةُ الْأَسَدِ ]

وَأَجْلَسوا الشَّيْخَ في قاعَةٍ ، وَأَشْرَفوا عَلَيْهِ يَنْظُرونَ ، ثُمَّ فَتَحوا بابَ الْقَفَصِ مِنْ أَعْلاهُ ، فَجَذَبوهُ ؛ فَارْتَفَعَ ، وَهَجْهَجوا بِالْأَسَدِ يَزْجُرونَه ؛ فَانْطَلَقَ يُزَمْجِرُ وَيَزْأَرُ زَئيرًا تَنْشَقُّ لَه الْمَرائِرُ ، وَيَتَوَهَّمُ مَنْ يَسْمَعُه أَنَّه الرَّعْدُ وَراءَه الصّاعِقَةُ ! ثُمَّ اجْتَمَعَ الْوَحْشُ في نَفْسِه ، وَاقْشَعَرَّ ، ثُمَّ تَمَطّى كَالْمَنْجَنيقِ يَقْذِفُ الصَّخْرَةَ ، فَما بَقِيَ مِنْ أَجَلِ الشَّيْخِ إِلّا طَرْفَةُ عَيْنٍ .

[ 7 = 3 : ذُهولُ الْأَسَدِ ]

وَرَأَيْناهُ عَلى ذلِكَ ساكِنًا مُطْرِقًا لا يَنْظُرُ إِلى الْأَسَدِ وَلا يَحْفِلُ بِه ، وَما مِنّا إِلّا مَنْ كادَ يَنْهَتِكُ حِجابُ قَلْبِه مِنَ الْفَزَعِ وَالرُّعْبِ وَالْإِشْفاقِ عَلى الرَّجُلِ ./1 وَلَمْ يَرُعْنا إِلّا ذُهولُ الْأَسَدِ عَنْ وَحْشيَّتِه :/2 فَأَقْعى عَلى ذَنَبِه ،/3 ثُمَّ لَصِقَ بِالْأَرْضِ هُنَيْهَةً يَفْتَرِشُ ذِراعَيْهِ ،/4 ثُمَّ نَهَضَ نَهْضَةً أُخْرى كَأَنَّه غَيْرُ الْأَسَدِ ،/5 فَمَشى مُتَرَفِّقًا ثَقيلَ الْخَطْوِ تُسْمَعُ لِمَفاصِلِه قَعْقَعَةٌ مِنْ شِدَّتِه وَجَسامَتِه ،/6 وَأَقْبَلَ عَلى الشَّيْخِ ،/7 وَطَفِقَ يَحْتَكُّ بِه وَيَلْحَظُه وَيَشَمُّه كَما يَصْنَعُ الْكَلْبُ مَعَ صاحِبِه الَّذي يَأْنَسُ بِه ، وَكَأَنَّه يُعْلِنُ أَنَّ هذِه لَيْسَتْ مُصاوَلَةً بَيْنَ الرَّجُلِ التَّقيِّ وَالْأَسَدِ ، وَلكِنَّها مُبارَزَةٌ بَيْنَ إِرادَةِ ابْنِ طولونَ وَإِرادَةِ  اللّهِ !/8

[ 7 = 4 : يَقينُ الْبَطَلِ ]

وَضَرَبَتْهُ روحُ الشَّيْخِ ؛ فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَه وَبَيْنَ الْآدَميِّ عَمَلٌ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ بِإِزاءِ لَحْمِ وَدَمٍ ، فَلَوْ أَكَلَ الضَّوْءَ وَالْهَواءَ وَالْحَجَرَ وَالْحَديدَ ، كانَ ذلِكَ أَقْرَبَ وَأَيْسَرَ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ هذا الرَّجُلَ الْمُتَمَثِّلَ في روحانيَّتِه ، لا يُحِسُّ لِصورَةِ الْأَسَدِ مَعْنًى مِنْ مَعانيها الْفاتِكَةِ ، وَلا يَرى فيه إِلّا حَياةً خاضِعَةً مُسَخَّرَةً لِلْقوَّةِ الْعُظْمى الَّتي هُوَ مُؤْمِنٌ بِها وَمُتَوَكِّلٌ عَلَيْها ، كَحَياةِ الدّودَةِ وَالنَّمْلَةِ وَما دونَها مِنَ الْهَوامِّ وَالذَّرِّ ! وَوَرَدَ النّورُ عَلى هذا الْقَلْبِ الْمُؤْمِنِ يَكْشِفُ لَه عَنْ قُرْبِ الْحَقِّ - سُبْحانَه ، وَتَعالى ! - : فَهُوَ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيِ الْأَسَدِ وَلكِنَّه هُو وَالْأَسَدَ بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ . وَكانَ مُنْدَمِجًا في يَقينِ هذِه الْآيَةِ : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا } . وَرَأى الْأَسَدُ رَجُلًا هُوَ خَوْفُ اللّهِ ، فَخافَ   مِنْهُ ، وَكَما خَرَجَ الشَّيْخُ مِنْ ذاتِه وَمَعانيها النّاقِصَةِ ، خَرَجَ الْوَحْشُ مِنْ ذاتِه وَمَعانيها الْوَحْشيَّةِ : فَلَيْسَ في الرَّجُلِ خَوْفٌ وَلا هَمٌّ وَلا جَزَعٌ وَلا تَعَلُّقٌ بِرَغْبَةٍ ، وَمِنْ ذلِكَ لَيْسَ في الْأَسَدِ فَتْكٌ وَلا ضَراوَةٌ وَلا جوعٌ وَلا تَعَلُّقٌ بِرَغْبَةٍ . وَنَسِيَ الشَّيْخُ نَفْسَه ، فَكَأَنَّما رآهُ الْأَسَدُ مَيِّتًا وَلَمْ يَجِدْ فيهِ ( أَنا ) الَّتي يَأْكُلُها ، وَلَوْ أَنَّ خَطْرَةً مِنْ هَمِّ الدُّنْيا خَطَرَتْ عَلى قَلْبِه في تِلْكَ السّاعَةِ أَوِ اخْتَلَجَتْ في نَفْسِه خالِجَةٌ مِنَ الشَّكِّ ، لَفاحَتْ رائِحَةُ لَحْمِه في خَياشيمِ الْأَسَدِ ؛ فَتَمَزَّقَ في أَنْيابِه وَمَخالِبِه .

[ 7 = 5 : دَهْشَةُ الشُّهودِ ]

قالَ : وَانْصَرَفْنا عَنِ النَّظَرِ في السَّبُعِ إِلى النَّظَرِ في وَجْهِ الشَّيْخِ ، فَإِذا هُوَ ساهِمٌ مُفَكِّرٌ . ثُمَّ رَفَعوه ، وَجَعَلَ كُلٌّ مِنّا يَظُنُّ ظَنًّا في تَفْكيرِه :

فَمِنْ قائِلٍ : إِنَّه الْخَوْفُ أَذْهَلَه عَنْ نَفْسِه !

وَقائِلٍ : إِنَّه الِانْصِرافُ بِعَقْلِه إِلى الْمَوْتِ .

وَثالِثٍ يَقولُ : إِنَّه سُكونُ الْفِكْرَةِ لِمَنْعِ الْحَرَكَةِ عَنِ الْجِسْمِ ؛ فَلا يَضْطَرِبُ .

وَزَعَمَ جَماعَةٌ أَنَّ هذِه حالَةٌ مِنَ الِاسْتِغْراقِ يَسْحَرُ بِها الْأَسَدَ !

وَأَكْثَرْنا في ذلِكَ وَتَجارَيْنا فيهِ ، حَتّى سَأَلَه ابْنُ طولونَ :

ما الَّذي كانَ في قَلْبِكَ ، وَفيمَ كُنْتَ تُفَكِّرُ ؟

فَقالَ الشَّيْخُ : لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ بَأْسٌ ، وَإِنَّما كُنْتُ أُفَكِّرُ في لُعابِ الْأَسَدِ : أَهُوَ طاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ " !

" الْحَقيقَةُ الْمُؤْمِنَةُ " ، لِشاكِرٍ :

[ 1 : مُصيبَةُ مَوْتِ شابٍّ نَبيلٍ ]

" قالَ عُمَرُ بْنُ أَبي رَبيعَةَ : ... فَبادَرْتُ أَعْدو يَكادُ يَنْشَقُّ عَلَيَّ جِلْدي مِنْ شِدَّةِ الْعَدْوِ ؛ فَقَدْ أَكَلَتْ مِنّي السِّنُّ وَتَعَرَّقَتْني أَنْيابُ الْكِبَرِ ، فَما جاوَزْتُ رَوْضَةَ قَصْرِ أَميرِ الْمُؤْمِنينَ 36 ، حَتّى تَقَطَّعَتْ أَنْفاسي مِنَ الْجَهْدِ ، وَتَلَقّاني الْآذِنُ :

ما عَدا بِكَ يا أَبا الْخَطّابِ ؟

فَقُلْتُ : ائْذَنْ لي عَلى أَميرِ الْمُؤْمِنينَ ؛ فَقَدْ نَزَلَ بِنا ما لا رَدَّ لَه .

وَتَبِعْتُه وَاللّهِ إِنَّ فَرائِصي لَتُرْعَدُ وَكَأَنّي مَحْمومٌ قَدْ جَرَتْ عَلَيْه هَبَّةُ ريحٍ بارِدَةٍ ! وَغابَ الْآذِنُ ، فَما هُوَ إِلّا أَميرُ الْمُؤْمِنينَ يَسْتَقْبِلُني كَالْفَزِعِ ، وَقَدْ خَرَجَ إِلَيَّ ، فَقالَ :

أَيُّ شَيْءٍ هُوَ ، يا ابْنَ أَبي رَبيعَةَ ؟

قُلْتُ : وَاللّهِ ما أَدْري - يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ - فَما كانَ إِلّا وَمُحَمَّدُ بْنُ عُرْوَةَ تَحْتَ سَنابِكِها ، فَما زالَتْ تَضْرِبُه بِقَوائِمِها ، وَما أَدْرَكْناهُ إِلّا وَقَدْ تَهَشَّمَ وَجْهُه ، وَتَحَطَّمَتْ أَضْلاعُه !

وَكَأَنَّما فارَقَتْني الرّوحُ ، فَما أَشْعُرُ إِلّا وَأَميرُ الْمُؤْمِنينَ قائِمٌ عَلى رَأْسي يَنْضَحُ الْماءَ عَلى وَجْهي ، وَقَدْ قُرِّبَتْ إِلَيَّ مِجْمَرَةٌ يَسْطَعُ مِنْها ريحُ الْمَنْدَلِ الرَّطْبِ ، فَلَمّا أَفَقْتُ وَرَجَعَتْ إلَيَّ روحي سَأَلَني أَميرُ الْمُؤْمِنينَ أَنْ أَقُصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ .

[ 2 : صورَةُ مَوتِ الشّابِّ النَّبيلِ ]

قُلْتُ : خَرَجْنا أَنا وَمُحَمَّدُ بْنُ عُرْوَةَ وَهِشامٌ أَخوهُ نُريدُ مَنْزِلَنا مِنْ قَصْرِ أَميرِ الْمُؤْمِنينَ ، نَرْجو أَنْ نَتَخَفَّفَ مِنْ بَعْضِ ثِيابِنا ؛ فَقَدْ أَنْهَكَنا الْحَرُّ ، فَنَظَرَ مُحَمَّدٌ إِلى مِرْآةٍ مِنْ فِضَّةٍ مَجْلوَّةٍ مُعَلَّقَةٍ في الْبَيْتِ ، ثُمَّ قالَ :

أَتَذْكُرُ يا أَبا الْخَطّابِ حَجَّتَنا تِلْكَ ؟

قُلْتُ : أَيَّتَهُنَّ ؛ فَقَدْ أَكْثَرْتَ وَعَمَّكَ الْحَجَّ ؟

فَقالَ : سُرْعانَ ما نَسِيَ الشَّيْخُ ! لَقَدْ كَبِرْتَ ، وَاللّهِ ، يا أَبا الْخَطّابِ ! وَقَدْ حَدَّثَني أَبي بِالَّذي كانَ مِنْكَ ، فَقَدْ كُنْتَ تُسايِرُه وَتُحادِثُه ، فَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ سَأَلْتَه :

وَأَيْنَ زَيْنُ الْمَواكِبِ ، يا أَبا عَبْدِ اللّهِ ؟

فَقالَ لَكَ : أَمامَكَ .

فَأَرَدْتَ تَرْكُضُ راحِلَتَكَ تَطْلُبُني ، فَقالَ لَكَ :

يا أَبا الْخَطّابِ ، أَوَلَسْنا أَكْفاءً كِرامًا لِمُحادَثَتِكَ ، وَنَحْنُ أَوْلى أَنْ تُسايِرَنا !

فَقُلْتَ لَه : بَلى ، بِأَبي أَنْتَ وَأُمّي ، يا أَبا عَبْدِ اللّهِ ! وَلكِنّي مُغْرًى بِهذا الْجَمالِ ، أَتْبَعُه حَيْثُ كانَ !

ثُمَّ عَدَلْتَ بِراحِلَتِكَ ، وَضَرَبْتَها ، وَأَقْبَلْتَ إِلَيَّ ، وَجَعَلَ أَبي يَتَعَجَّبُ مِنْكَ وَيَضْحَكُ ، وَقَدْ اسْتَنارَ وَجْهُه ! إِحْدى سَوْآتِكَ هِيَ ، وَاللّهِ ، يا أَبا الْخَطّابِ !

فَضَحِكْتُ لِقَوْلِه ، وَتَناقَلْنا الْحَديثَ ، وَإِذا هُوَ ساكِنٌ ساجٍ كَأَنَّما غَشِيَتْهُ غاشِيَةُ هَمٍّ ، فَقُلْتُ :

ما بِكَ ؟

فَزَفَرَ - واللّهِ ، يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ - زَفْرَةً كَأَنَّما انْشَقَّتْ لَها كَبِدي ، ثُمَّ قالَ :

أَرَأَيْتَ هذا الْجَمالَ الَّذي تَبِعْتَه ، يا أَبا الْخَطّابِ ، يوشِكُ أَنْ يَكونَ طَعامًا يَلْحَسُه تُرابُ الْقَبْرِ ؛ فَما تَرى إِلّا عَظْمًا أَغْبَرَ مِنْ جُمْجُمَةٍ تَقْذِفُ الرُّعْبَ مِنْ مَحْجِرَيْها !

لَقَدْ رَوَّعَني - وَاللّهِ ، يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ - حَتّى تَطَيَّرْتُ وَما بِيَ الطِّيَرَةُ ؛ فَأَرَدْتُ أَنْ أَصْرِفَه عَنْ بَعْضِ وَهْمِه ، أَنْ يَكونَ الصَّيْفُ قَدْ أَوْقَدَ عَلَيْهِ حَرَّه ،   فَحَيَّرَه ؛ فَانْطَلَقْنا جَميعًا إِلى سَطْحِ الْبَيْتِ نَسْتَظِلُّ بِظُلَّتِه ، وَنَسْتَرْوِحُ النَّسَماتِ ، وَأَقْبَلْنا نَضْحَكُ وَنَعْبَثُ وَنَلْهو مِنْ بَعْضِ اللَّهْوِ ، وَإِذا طائِرٌ يَحومُ يُصَفِّقُ بِجَناحَيْهِ ، ثُمَّ رَنَّقَ فَكَسَرَهُما مِنَ الْإِعْياءِ ، ثُمَّ سَقَطَ ، ثُمَّ دَرَجَ ، ثُمَّ اضْطَرَبَ قَدْ كادَ يَقْتُلُه الظَّمَأُ ؛ فَجَرى إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ لِيَأْخُذَه فَيَبُلَّ ظَمَأَه ؛ فَخَفَّ الطّائِرُ ؛ فَهَوى إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ لِيُدْرِكَه ؛ فَما نَرى - وَاللّهِ - مُحَمَّدًا : قَدِ اخْتَطَفَه أَجَلُه ، فَجَذَبَه ، فَهَوى بِه إِلى إِسْطَبْلِ الدّوابِّ ، فَيَقَعُ بَيْنَها ، فَيُثيرُها ، فَتَهيجُ ، وَإِذا زَيْنُ الْمَواكِبِ تَحْتَ سَنابِكِها تَضْرِبُه ، فَما أَدْرَكْناهُ - وَاللّهِ ، يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ - إِلّا جُثَّةً قَدْ ذَهَبَ رَأْسُها ، وَما نَرى إِلّا الدَّمَ ! رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِ ! لَقَدْ ...

[ 3 : مُصيبَةُ فَسادِ رِجْلِ الْبَطَلِ أَبي الشّابِّ النَّبيلِ ]

قالَ أَميرُ الْمُؤْمِنينَ : إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعونَ 37 ! إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ  راجِعونَ ! فَكَيْفَ نَحْتالُ لِهذا الْأَمْرِ ، يا ابْنَ أَبي رَبيعَةَ ؟

قُلْتُ : فيمَ الْحيلَةُ - يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ - وَقَدْ ذَهَبَ الْقَدَرُ بِما يُحْتالُ لَه !

فَقالَ : أَها هُنا أَنْتَ ، يا عُمَرُ ! نِمْتَ وَسارَ الرَّكْبُ ! هذا أَبوهُ أَبو عَبْدِ اللّهِ شَيْخٌ كَبيرٌ يوشِكُ أَنْ يُصابَ في نَفْسِه !

قُلْتُ : يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ ، هذا مُصابُه في ابْنِه ، فَما مُصابُه في نَفْسِه ؟ إِلّا أَنْ يَكونَ الْخَبَرُ إِذا يَبْلُغُه ، وَسَأَحْتالُ لَه .

قالَ أَميرُ الْمُؤْمِنينَ : مَهْلًا يا عُمَرُ ، لَقَدْ عَلِمْتَ أَنْ أَبا عَبْدِ اللّهِ كانَ قَدِ اشْتَكى رِجْلَه ، وَما زالَ يَشْتَكي ؛ فَبَيْنا نَحْنُ السّاعَةَ جُلوسٌ ، إِذ دَخَلَ عَلَيْنا أَبو الْحَكَمِ الطَّبيبُ النَّصْرانيُّ ، فَاسْتَأْذَنْتُ أَبا عَبْدِ اللّهِ أَنْ يَدَعَ أَبا الْحَكَمِ حَتّى يَرى رِجْلَه ، فَما راعَنا إِلّا أَبو الْحَكَمِ يَقولُ إِنَّها الْأُكْلَةُ ، وَإِنَّها قَدِ ارْتَفَعَتْ تُريدُ الرُّكْبَةَ ، وَإِنَّها إِذا بَلَغَتِ الرُّكْبَةَ أَفْسَدَتْ عَلَيْهِ جَسَدَه كُلَّه فَقَتَلَتْهُ ، فَما بُدٌّ مِنْ أَنْ تُقْطَعَ رِجْلُه السّاعَةَ خَشْيَةَ أَنْ تَدِبَّ الْأُكْلَةُ إِلى حَيْثُ لا يَنْفَعُ الْقَطْعُ وَلا الْبَتْرُ .

فَوَجَمْتُ وَاللّهِ لِهذا الْبَلاءِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ بِه الْقَدَرُ عَلى شَيْخٍ مِثْلِ أَبي عَبْدِ اللّهِ في إِدْبارٍ مِنَ الْعُمُرِ . وَأَخَذَ أَميرُ الْمُؤْمِنينَ بِيَدي ، وَقامَ ، فَدَخَلْنا مَجْلِسَ الْخِلافَةِ ، وَإِذا وُجوهُ النّاسِ قَدْ جَلَسوا إِلى عُرْوَةَ أَبي عَبْدِ اللّهِ يُواسونَه وَيُصَبِّرونَه وَيُذَكِّرونَه بِقَدَرِ اللّهِ خَيْرِه وَشَرِّه ، وَإِذا فيهِمْ سُلَيْمانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخو أَميرِ الْمُؤْمِنينَ ، وَعُمَرُ ابْنُ عَبْدِ الْعَزيزِ ، وَالْقاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، وَقَدْ حَضَرَه وَلَدُه هِشامٌ ؛ فَأَرَمَّ قَدِ انْتُسِفَ لَوْنُه مِنَ الْحَزَنِ عَلى أَخيهِ وَالرَّحْمَةِ لِأَبيهِ . وَأَقْبَلَ أَميرُ الْمُؤْمِنينَ وَأَنا مَعَه عَلى عُرْوَةَ ، فَتَفَرَّقَ النّاسُ إِلى مَجالِسِهِمْ ، وَإِذا عُرْوَةُ كَأَنْ لَيْسَ بِه شَيْءٌ ، يَرِفُّ وَجْهُه كَأَنَّه فِلْقَةُ قَمَرٍ وَهُوَ يَضْحَكُ ، وَيَقولُ :

لَقَدْ كَرِهْتُ - يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ - أَنْ يَقْطَعوا مِنّي عُضْوًا يَحُطُّ عَنّي بَعْضَ ذُنوبي ، فَقَدْ حُدِّثْنا أَنَّ أَبا بَكْرٍ قالَ :

يا رَسولَ اللّهِ كَيْفَ الصَّلاحُ بَعْدَ هذِه الْآيَةِ : { لَيْسَ بِأَمانيِّكُمْ وَلا أَمانيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سوءًا يُجْزَ بِه } ، فَكُلُّ سوءٍ عَمِلْناهُ جُزينا بِه ؟

فَقالَ رَسولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - : غَفَرَ اللّهُ لَكَ ، يا أَبا   بَكْرٍ ! أَلَسْتَ تَمْرَضُ ؟ أَلَسْتَ تَنْصَبُ ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ ؟ أَلَسْتَ تُصيبُكَ اللَّأْواءُ ؟

قالَ : بَلى ، يا رَسولَ اللّهِ .

قالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - : فَهُوَ ما تُجْزَوْنَ بِه ؛ فَإِنَّ ذاكَ بِذاكَ .

لَوَدِدْتُ - يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ - أَنَّها بَقِيَتْ بِدائِها ؛ فَهِيَ كَفّارَةٌ تَحُتُّ الذَّنْبَ .

قالَ أَميرُ الْمُؤْمِنينَ : غَفَرَ اللّهُ لَكَ ، غَفَرَ اللّهُ لَكَ ! وَما أَعْجَبُ لِصَبْرِكَ ؛ فَأُمُّكَ أَسْماءُ بِنْتُ أَبي بَكْرٍ الصِّدّيقِ ذاتُ النِّطاقَيْنِ ، وَأَبوكَ حَواريُّ رَسولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - وَابْنُ عَمَّتِه الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ ، فَرَضِيَ اللّهُ عَنْكَ ، وَأَرْضاكَ ، يا أَبا عَبْدِ اللّهِ !

[ 4 : قَطْعُ رِجْلِ الْبَطَلِ ]

[ 4 = 1 : صِفَةُ الطَّبيبِ ]

فَما كِدْنا نَقومُ حَتّى أَقْبَلَ أَبو الْحَكَمِ . وَهُوَ شَيْخٌ نَصْرانيٌّ طَويلٌ فارِعٌ مَشْبوحُ الْعِظامِ ، قَدْ تَخَدَّدَ لَحْمُه ، أَحْمَرُ أَزْهَرُ أَصْلَعُ الرَّأْسِ إِلّا شَعَراتٍ بيضًا قَدْ بَقِيَتْ لَه ، كَثُّ اللِّحْيَةِ طَويلُها ، لَوْ ضَرَبَتْها الرّيحُ لَطارَتْ بِه .

[ 4 = 2 : يَقينُ الْبَطَلِ ]

وَدَخَلَ أَبو الْحَكَمِ وَراءَ لِحْيَتِه وَهِيَ تَسْعى بَيْنَ يَدَيْهِ ، حَتّى وَقَفَ عَلى عُرْوَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، فَقالَ :

لا بُدَّ مِمّا لَيْسَ مِنْهُ بُدٌّ - يا أَبا عَبْدِ اللّهِ - وَإِنّي - وَاللّهِ - لَأَرْحَمُكَ ، وَأَخْشى أَنْ يَبْلُغَ مِنْكَ الْجَهْدُ ، فَما أَرى لَكَ إِلّا أَنْ نَسْقِيَكَ الْخَمْرَ حَتّى لا تَجِدَ بِها أَلَمَ الْقَطْعِ .

قالَ عُرْوَةُ : أَبْعَدَكَ اللّهُ مِنْ شَيْخٍ ! وَبِئْسَ - وَاللّهِ - ما رَأَيْتَ ! إِنّا - وَاللّهِ - ما نُحِبُّ أَنْ يَرانا اللّهُ بِحَيْثُ نَسْتَعينُ بِحَرامِه عَلى ما نَرْجو مِنْ عافِيَتِه !

قالَ أَبو الْحَكَمِ : فَنَسْقيكَ الْمُرْقِدَ ، يا أَبا عَبْدِ اللّهِ ؟

قالَ عُرْوَةُ : ما أُحِبُّ أَنْ أُسْلَبَ عُضْوًا مِنْ أَعْضائي وَأَنا لا أَجِدُ أَلَمَ ذلِكَ فَأَحْتَسِبَه عِنْدَ اللّهِ .

قالَ أَبو الْحَكَمِ : وَقاكَ اللّهُ ، يا أَبا عَبْدِ اللّهِ ! لَقَدْ أَلَنْتَ مِنّا قُلوبًا كانَتْ   قاسِيَةً .

ثُمَّ الْتَفَتَ أَبو الْحَكَمِ إِلى رِجالٍ سودٍ غِلاظٍ شِدادٍ قَدْ وَقَفوا ناحِيَةً ، فَقالَ :

أَقْبِلوا .

فَأَقْبَلوا ؛ فَأَخَذَتْهُمْ عَيْنُ عُرْوَةَ ؛ فَأَنْكَرَهُمْ ، فَقالَ :

ما هؤُلاءِ ؟

فَقالَ أَبو الْحَكَمِ : يُمْسِكونَكَ ، فَإِنَّ الْأَلَمَ رُبَّما عَزَبَ مَعَه الصَّبْرُ .

قالَ عُرْوَةُ : أَما تُقْلِعُ - أَيُّها الشَّيْخُ - عَنْ باطِلِكَ ! انْصَرِفوا ، يَرْحَمْكُمُ   اللّهُ ! وَإِنّي لَأَرْجو أَنْ أَكْفِيَكُمْ ذلِكَ مِنْ نَفْسي . وَلا - وَاللّهِ - ما يَسَعُني أَنَّ هذا الْحائِطَ وَقاني أَذاها ، فَاحْتَمَلَ عَنّي أَلَمَها . أَقْبِلْ يا - أَبا الْحَكَمِ - وَخُذْ فيما جِئْتَ   لَه . { رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادي لِلْإيمانِ أَنْ آمِنوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنوبَنا وَكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْميعادَ } .

[ 4 = 3 : مَجْلِسُ الْقَطْعِ ]

فَرَأَيْتُ أَبا الْحَكَمِ وَقَدْ بَرَقَ وَجْهُه وَتَوَقَّدَ كَأَنَّما أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرِ ، ثُمَّ نَشَرَ دُرْجًا كانَ في يَدِه ، وَأَخْرَجَ مِنْشارًا دَقيقًا طَويلًا صَقيلًا يَضْحَكُ فيهِ الشُّعاعُ ، وَوَضَعَ الطَّسْتَ ، وَمَدَّ أَبو عَبْدِ اللّهِ رِجْلَه عَلى الطَّسْتِ وَهُوَ يَقولُ :

بِاسْمِ اللّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ ، وَسُبْحانَ اللّهِ ، وَاللّهُ أَكْبَرُ ، وَلا حَوْلَ وَلا قوَّةَ إِلّا بِاللّهِ ، { رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِه وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا } . تَقَدَّمْ - يا أَبا الْحَكَمِ - فَقَدِ احْتَسَبْتُها لِلّهِ .

فَما بَقِيَ - وَاللّهِ - أَحَدٌ في الْمَجْلِسِ إِلّا اسْتَدارَ ، وَدَفَنَ وَجْهَه في كَفَّيْهِ ، وَبَكى الْقَوْمُ ؛ فَعَلا نَشيجُهُمْ ، وَإِنَّ عُرْوَةَ لَساكِنٌ قارٌّ يَنْظُرُ إِلى ما يُرادُ بِه ، وَكَأَنَّما مَلَكٌ قَدْ جاءَ إِلى الْأَرْضِ يَسْتَقْبِلُ آلامَها بِروحٍ مِنَ السَّماءِ .

[ 4 = 4 : عَمَلُ الْقَطْعِ ]

 وَوَضَعَ أَبو الْحَكَمِ مِنْشارَه في اللَّحْمِ إِلى الْعَظْمِ وَإِنَّ عُرْوَةَ لَصائِمٌ يَوْمَه   ذاكَ ،/1 فَما تَضَوَّرَ وَجْهُه ،/2 وَلا تَقَبَّضَ وَالْمِنْشارُ يَأْكُلُ في عَظْمِه الْحَيِّ ،/3 وَما يَزيدُ عَلى أَنْ يُهَلِّلَ وَيُكَبِّرَ وَيُسَبِّحَ اللّهَ ، وَكَأَنَّ الدّارَ - وَاللّهِ -/5 قَدْ أَضاءَ جَوُّها كَأَنَّه شُعاعٌ يَنْسَكِبُ مِنْ تَهْليلِه وَتَكْبيرِه ./4 وَدَخَلَ رِجالٌ يَحْمِلونَ مَغارِفَ مِنْ حَديدٍ يَفورُ مِنْها ريحُ الزَّيْتِ وَقَدْ غَلى فيها عَلى النّارِ ،/6 وَدَنَوْا ،/7 فَما هُوَ إِلّا أَنْ فَرَغَ أَبو الْحَكَمِ وَقَدْ فارَ الدَّمُ مِنْها وَتَفَجَّرَ مِثْلَ الْيَنْبوعِ ، فَأَخَذَها أَبو الْحَكَمِ يَغْمِسُها في الزَّيْتِ ، فَيَسْمَعُ نَشيشَها فيهِ حَتّى حَسَمَ الدَّمَ ،/8 وَإِذا عُرْوَةُ قَدْ غُشِيَ عَلَيْهِ ،/9 وَإِذا وَجْهُه قَدْ صَفِرَ مِنَ الدَّمِ ، وَقَدْ نَجِدَ ؛ فَنَضَحَ وَجْهُه بِالْعَرَقِ ، وَلكِنَّه بَقِيَ مُشْرِقًا نَيِّرًا يَرِفُّ كَأَنَّه عَرارَةٌ تَحْتَ النَّدى ./10

[ 4 = 5 : دَهْشَةُ الطَّبيبِ ]

قالَ أَبو الْحَكَمِ :

ما رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ ، يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ ! إِنَّه رَجُلٌ ، وَإِنَّها الْحَقيقَةُ الْمُؤْمِنَةُ ، وَإِنَّ إيمانَه لَيَحوطُه ، وَيُثَبِّتُه ، وَيُسَكِّنُه ، وَيَنْفُضُ عَنْهُ الْجَزَعَ !

ثُمَّ الْتَفَتَ إِلى عُرْوَةَ يَقولُ :

جَزاكَ اللّهُ خَيْرًا ، يا أَبا عَبْدِ اللّّهِ ! لَأَنْتَ - وَاللّهِ - تِمْثالُ الصَّبْرِ في إِهابِ   رَجُلٍ .

[ 5 : انْتِباهُ الْبَطَلِ إِلى رِجْلِه الْمَقْطوعَةِ ]

وَما لَبِثْنا ، حَتّى إِذا أَفاقَ أَبو عَبْدِ اللّهِ جَلَسَ يَقولُ :

لا إِلهَ إِلّا اللّهُ ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ !

وَيَمْسَحُ عَنْ وَجْهِه النَّوْمَ وَالْعَرَقَ بِكَفَّيْهِ ، وَيَنْظُرُ ، فَيَرى قَدَمَه في يَدِ رَجُلٍ يَهُمُّ أَنْ يَخْرُجَ بِها ؛ فَيُنادِيهِ :

عَلى رِسْلِكَ ، أَيُّها الرَّجُلُ ! أَرِني ما تَحْمِلُ !

فَيَأْخُذُ قَدَمَه في يَدِه ، فَيَرْنو إِلَيْها وَقَدْ سَكَنَ وَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ ، ثُمَّ يُقَلِّبُها في  يَدَيْه ، ثُمَّ يَقولُ لَها :

أَما وَالَّذي حَمَلَني عَلَيْكِ ، لَقَدْ عَلِمْتُ أَنّي ما مَشَيْتُ بِكِ إِلى حَرامٍ وَلا مَعْصِيَةٍ . اللّهُمَّ ، هذِه نِعْمَةٌ أَنْعَمْتَ بِها عَلَيَّ ، ثُمَّ سَلَبْتَنيها ، أَحْتَسِبُها عِنْدَكَ راضِيًا مُطْمَئِنًّا ؛ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفورُ الرَّحيمُ .  خُذْها ، أَيَّها الرَّجُلُ .

ثُمَّ أَضاءَ وَجْهُه بِالْإيمانِ وَالصَّبْرِ عَنْ مِثْلِ الدُّرَّةِ في شُعاعِ الشَّمْسِ . قالَ أَميرُ الْمُؤْمِنينَ :

غَفَرَ اللّهُ لَكَ ، يا أَبا عَبْدِ اللّهِ ! وَإِنَّ في النّاسِ لَمَنْ هُوَ أَعْظَمُ بَلاءً مِنْكَ . يا عُمَرُ ، نادِ الرَّجُلَ مِنْ أَخْوالي .

فَيُقْبِلُ عُمَرُ وَمَعَه رَجُلٌ ضَريرٌ مَحْطومُ الْوَجْهِ لا تُرى إِلّا دَمامَتُه ، فَيَقولُ لَه أَميرُ الْمُؤْمِنينَ :

حَدِّثْ أَبا عَبْدِ اللّهِ بِخَبَرِكَ ، يا أَبا صَعْصَعَةَ .

[ 6 : تَخْفيفُ مُصيبَةِ الْبَطَلِ بِرِجْلِه ]

فَيَلْتَفِتُ الرَّجُلُ إِلى عُرْوَةَ ، وَيُقْبِلُ عَلَيْهِ ، فَيَقولُ :

ابْنَ الزُّبَيْرِ ، قَدْ - وَاللّهِ - لَقيتُ الْبَلاءَ ، يا فَقيهَ الْمَدينَةِ وَابْنَ حَواريِّ رَسولِ اللّهِ ، صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! وَإِنّي - وَاللّهِ - مُحَدِّثُكَ عَنّي بِخَبَري ؛ عَسى أَنْ يَرْفَعَ عَنْكَ : فَقَدْ بِتُّ لَيْلَةً في بَطْنِ وادٍ ، وَلا أَعْلَمُ عَبْسيًّا في الْأَرْضِ يَزيدُ مالُه عَلى مالي ، فَطَرَقَنا سَيْلٌ جارِفٌ كَأَنَّه الطّوفانُ ، يَتَقاذَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَوْجًا كَالْجِبالِ ؛ فَذَهَبَ بِما كانَ لي مِنْ أَهْلٍ وَمالٍ وَوَلَدٍ ، إِلّا صَبيًّا مَوْلودًا وَبَعيرًا نِضْوًا ضَعيفًا . فَنَدَّ الْبَعيرُ يَوْمًا وَالصَّبيُّ مَعي ، فَوَضَعْتُه ، وَاتَّبَعْتُ الْبَعيرَ أَطْلُبُه ، فَما جاوَزْتُ ابْني قَليلًا إِلّا وَرَأْسُ الذِّئْبِ في بَطْنِه ، قَدْ بَعَجَها بِأَنْيابِه الْعُصْلِ ، فَاسْتَلَّ أَحْشاءَه ، وَإِنَّ الصَّغيرَ لَيَصْرُخُ ، وَيَرْكُضُ بِرِجْلَيْهِ الْأَرْضَ ؛ فَكِدْتُ - وَاللّهِ - أَسوخُ في الْأَرْضِ مِمّا رَأَيْتُ ، وَلكِنّي ذَكَرْتُ اللّهَ ، وَاسْتَعَنْتُه ، وَاحْتَسَبْتُ الصَّغيرَ ، فَتَرَكْتُه لِقَدَرِ اللّهِ ، وَاتَّبَعْتُ الْبَعيرَ ، فَهَمَمْتُ آخُذُ بِذَنَبِه وَقَدْ أَدْرَكْتُه ، فَرَمَحَني رَمْحَةً حَطَمَ بِها وَجْهي وَأَذْهَبَ عَيْني ، فَأَصْبَحْتُ لا ذا مالٍ وَلا ذا وَلَدٍ وَلا ذا بَصَرٍ . وَإِنّي أَحْمَدُ اللّهَ إِلَيْكَ ، يا أَبا عَبْدِ اللّهِ ، فَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ ؛ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ   الْأُمورِ .

قالَ عُرْوَةُ : لَقَدْ أَفْضَلَ اللّهُ عَلَيْكَ ، يا أَبا صَعْصَعَةَ ، وَإِنّي لَأَرْجو لَكَ   الْجَنَّةَ .

قالَ عُمَرُ بْنُ أَبي رَبيعَةَ : وَأَلاحَ إِلَيَّ أَميرُ الْمُؤْمِنينَ أَنْ أَقْبِلْ ، فَدَنَوْتُ إِلَيْهِ ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ :

إِنْ أَرَدْتَ الْحيلَةَ فَقَدْ أَمْكَنَتْكَ ، فَاذْهَبْ إِلى أَبي عَبْدِ اللّهِ ، فَانْعَ إِلَيْهِ وَلَدَه زَيْنَ الْمَواكِبِ .

قُلْتُ : هُوَ - وَاللّهِ - الرَّأْيُ ، يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ .

[ 7 : إِطْلاعُ الْبَطَلِ عَلى مُصيبَةِ مَوْتِ ابْنِه ]

ثُمَّ مَضَيْتُ إِلى عُرْوَةَ وَقَدْ غَلَبَتْني عَيْناي بِالْبُكاءِ ، فَلَمّا قارَبْتُه قُلْتُ :

عَزاءَكَ ، يا أَبا عَبْدِ اللّهِ !

فَقالَ عُرْوَةُ : فيمَ تُعَزّيني ، يا أَبا الْخَطّابِ ؟ إِنْ كُنْتَ تُعَزّيني بِرِجْلي فَقَدِ احْتَسَبْتُها لِلّهِ .

قُلْتُ : رَضِيَ اللّهُ عَنْكَ ، بِأَبي أَنْتَ وَأُمّي ، بَلْ أُعَزّيكَ بِزَيْنِ الْمَواكِبِ .

فَدُهِشَ ، وَتَلَفَّتَ ، وَلَمْ يَرَ إِلّا هِشامًا وَلَدَه ، فَرَأَيْتُ في وَجْهِه الْمَعْرِفَةَ ، ثُمَّ   هَدَأَ ، فَقالَ :

ما لَه ، يا أَبا الْخَطّابِ ؟

فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ ، وَتَحَلَّقَ النّاسُ حَوالَيْنا ، وَتَكَنَّفونا ، وَأَخَذْتُ أُحَدِّثُه بِشَأْنِه ، وَوَاللّهِ ما يَزيدُ عَلى أَنْ يَقولَ :

لا حَوْلَ وَلا قوَّةَ إِلّا بِاللّهِ ، وَإِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعونَ !

فَلَمّا فَرَغْتُ مِنْ خَبَري ما زادَ عَلى أَنْ قالَ :

وَكُنْتُ إِذا الْأَيّامُ أَحْدَثْنَ هالِكًا أَقولُ شَوًى ما لَمْ يُصِبْنَ حَميمي

ثُمَّ رَفَعَ وَجْهَه إِلى السَّماءِ وَقَدْ تَنَدَّتْ عَيْناهُ ، ثُمَّ قالَ :

اللّهُمَّ ، إِنَّه كانَ لي أَطْرافٌ أَرْبَعَةٌ ، فَأَخَذْتَ واحِدًا ، وَأَبْقَيْتَ لي ثَلاثَةً ؛ فَلَكَ الْحَمْدُ فيما أَخَذْتَ وَأَبْقَيْتَ - اللّهُمَّ - أَخَذْتَ عُضْوًا ، وَتَرَكْتَ أَعْضاءً ، وَأَخَذْتَ ابْنًا ، وَتَرَكْتَ أَبْناءً . وَايْمُ اللّهِ لَئِنْ كُنْتَ أَخَذْتَ لَقَدْ أَبْقَيْتَ ، وَلَئِنِ ابْتَلَيْتَ لَطالَما عافَيْتَ ؛ سُبحانَكَ - رَبَّنا - إِلَيْكَ الْمَصيرِ . قوموا إِلى جِهازِ أَخيكُمْ يَرْحَمْكُمُ اللّهُ ، وَانْظُروا ، لا تَكونُ عَلَيْهِ نائِحَةٌ وَلا مُعْوِلَةٌ ؛ فَإِنَّ رَسولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - نَهى عَنِ النِّياحَةِ ، وَمُروهُنَّ بِالصَّبْرِ لِلصَّدْمَةِ ؛ فَإِنَّ رَسولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - أَتى عَلى امْرَأَةٍ تَبْكي صَبيًّا لَها ، فَقالَ لَها :

اتَّقي اللّهَ ، وَاصْبِري !

فَقالَتْ : وَما تُبالي بِمُصيبَتي !

فَلَمّا ذَهَبَ قيلَ لَها :

إِنَّه رَسولُ اللّهِ ، صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ !

فَأَخَذَها مِثْلُ الْمَوْتِ ؛ فَأَتَتْ بابَه ، فَلَمْ تَجِدْ عَلى بابِه بَوّابينَ ، فَقالَتْ :

يا رَسولَ اللّهِ ، لَمْ أَعْرِفْكَ ، فَقالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - :

إِنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ أَوَّلِ الصَّدْمَةِ .

وَجَزاكَ اللّهُ خَيْرًا عَنّي وَعَنْ وَلَدي ، يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ ! { فَلِلّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمينَ وَلَه الْكِبْرياءُ في السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيم } " .

جَوامِعُ النَّصَّيْنِ

[6] نص الرافعي إحدى وتسعون وثمانمئة وألف ( 1891 ) كلمة      كتابية 38 ، ونص شاكر ثمانون وثمانمئة وألف ( 1880 ) ، يكادان يتطابقان ؛ ففَرْقُ ما بَيْنَ مِقْدارَيْهِما مِنَ الضَّآلة بحيث لا مُعْتَبَرَ له .

يبدو نصُّ الرافعي " مَوْعِظَةً " منسوبة إلى أبي علي الروذبادي الذي لم يتردد له علينا ذكر حتى نعرفه ، ويبدو نصُّ شاكر " رِسالَةً " منسوبة أبي الخطاب عمر بن أبي ربيعة الشاعر الغزل الشهير الذي صار اسمه رمزا فنيا شعريا ، وفي الأمرين القصد نفسه :

أراد الرافعي أن ينبه المتلقين على أن من رجال الثقافة العربية الإسلامية الكبار مَغاميرَ كالمشاهير ، بل أكثر ، ليفتشوا عنهم ، ويعرضوا نفوسهم على أقوالهم وأفعالهم وإقراراتهم وعلومهم ومعارفهم وخبراتهم ، وينصتوا لهم ، حتى إذا ما كشفوا لهم من أسرارها ما استغلق عليهم وعلى مشاهير من قصدوهم ، رجعوا إليهم ، وتعلقوا بهم ، وتعجبوا كيف يخرج ذلك كله عمن أهملوا معرفتهم ، وأيقنوا أن قد جهلوا في غير مَجْهَلٍ ، وشكوا في غير مَشَكٍّ ، وزهدوا في غير مَزْهَدٍ !

كان الرافعي حريصا على معنى المدرسة الثقافية الواحدة ؛ فقد أجلس التلميذ مجلس أستاذه ، ثم رَوّاه عنه برًّا بذكراه ، وكأنما يحذر المتلقين إذا أهملوا ذلك المعنى ، أن ينقطع فيهم ما بين التلامذة والأساتذة ( الحاضر والماضي ) ، حتى يقول بعضهم تيها وعقوقا وجهلا ونكرانا : نحن جيل لا أساتذة لنا !

واعتنى الرافعي بمعنى العلم كثيرا ، ولا سيما تلقيه كِفاحًا تَطْبيقًا ؛ فجعل راويته التلميذ البار ، يحار في علم مسألة عويصة ؛ فيرحل في طلب علمها . وألح على ضرورة ملازمة الأستاذ العالم العامل ، الذي يدل عمله بعلمه على صدق إيمانه به .

وأراد شاكر أن ينبه المتلقين على أن من صِفاتِ رجال ثقافتنا العربية الإسلامية الكبار ، مَغاميرَ كالمشاهير ، بل أرسخ ، ليفتشوا عنها ، ويعرضوا عليها تَصَوُّراتهم السابقة ، وينصتوا لها ، حتى إذا ما كشفت لهم من أسرار أصحابها ما استخفى عليهم ، رجعوا إليهم ، وتعلقوا بهم ، وتعجبوا كيف جمعوا في نفوسهم ذلك كله الذي أهملوا معرفته ، وأيقنوا أن قد جهلوا في غير مَجْهَلٍ ، وشكوا في غير مَشَكٍّ ، وزهدوا في غير مَزْهَدٍ !

يظل متلقو نص شاكر كلما اختلفت أحداثه وأشخاصه ومواقفه ، يعودون إلى راويته المنفرد بعلمها ، الشاعر المنقطع عندهم للغزل الصريح ، ليحكموا عليها حكمهم عليه ؛ فربما قال بعضهم : إذا كان لمثل هذا الشاعر المنقطع للغزل الصريح ، هذا الإحساس العالي بالثقافة العربية الإسلامية ، فكيف بغيره من العلماء المنقطعين للبحث ، والزهاد المنقطعين للعبادة ، وغيرهم !

كان شاكر حريصا على معنى انتماء الفنان الثقافي ؛ فقد أشعر الشاعر العربي المسلم الكبير ، المنقطع للغزل الصريح ، بمشاعر عالية من الإيمان والإحسان ، وكأنما يحذر فناني المتلقين ، أن يتلمسوا أول طريق الفن العربي الإسلامي ، عند أول طريق الكفر والفسوق والعصيان 39 !

و معنى الانتماء الثقافي الذي حرص عليه شاكر ، كمعنى المدرسة الثقافية الثقافية الواحدة الذي حرص عليه الرافعي ، فإن كان معنى شاكر أشمل وأعمق وأعلى من معنى الرافعي ، فإن معنى الرافعي من سبل بلوغ معنى شاكر .

فُصولُ الْأَحْداثِ

حُضورُ الْأَعْلام

[7] أدار الرافعي أحداث نصه على ثمانية عشر علما من أعلام العقيدة والسلطان والزهد والعز والعلم والذل 40 . وأدار شاكر أحداث نصه على سبعة عشر علما من أعلام العقيدة والزهد والسلطان والحرية والغزل والفتوة والعدل والهمة والعز 41 .

وإذا كان تعريفُ بعض النحويين للعَلَمِ بأنه " ما وُضِعَ لِشَيْءٍ بِعَيْنِه غَيْرَ مُتَناوِلٍ غَيْرَه بِوَضْعٍ واحِدٍ " 42 ، واضحَ العلاقة بمعنى " العَلامَة " المعجمي الوارد فيه - فمكانة العلم في نصي الرافعي وشاكر ، أعلق بمعنييه هذين المعجميين 43 :

1        " شيء يُنْصَب فـي الفَلَوات تهتدي به الضالَّة " .

2        " الراية التـي تـجتمع إِلـيها الـجُنْد " .

فلم يرد الرافعي وشاكر حين أدارا على تلك الأعلام أحداث نصيهما ، إلا أن ينصبا منارات على طرق المتلقين المسافرين ، ورايات أمام جيوش المتلقين المجاهدين ، ينتبهون بها ، ويقيسون أنفسهم إليها ، حتى يعيشوا هذه الحياة   الواحدة ، كِرامًا عِزازًا .

إننا إذا تأملنا بنيان الثقافة العربية الإسلامية - ومثلها سائر الثقافات - وجدنا العَقيدَة قلبه - فهي التي تحرك الإنسان العربي المسلم إلى علومه ومعارفه وخبراته وأفعاله وأقواله وإقراراته - ثم وجدنا السُّلْطان مظهر تلك العَقيدَة ؛ فكل عقيدة لا سلطان لها على معتقديها وهم من الأوهام ، حتى شاعت في الثقافة العربية الإسلامية عبارة " إِنَّ اللّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطانِ ما لا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ " ، ثم وجدنا الزُّهْد منهج الثقافة العربية الإسلامية في الجمع بين العَقيدَة والسُّلْطان ، حتى شاعت عبارة السؤال والجواب " قيلَ : مَنِ الْمُلوكُ ؟ قالَ : الزُّهّادُ " .

ولقد اجتمع كاتبانا على ضرورة تثقيف المتلقين ؛ فتحريا استعمال أعلام العقيدة والسلطان والزهد ، تحريا واحدا ؛ فكانت عند كل منهما 75% ! وهو تطابق عجيب ، لا يكون إلا عن مدرسة واحدة ، فيها الإستاذ والتلميذ !

ولكن في خلال ذلك كانت أعلام العقيدة عند الرافعي 25% ، وأعلام السلطان 25% ، وأعلام الزهد 24% - على حين صارت أعلام العقيدة عند شاكر 42% ، وأعلام السلطان 13% ، وأعلام الزهد 19% ؛ فعلى حين تطابقت عند الرافعي أولا منزلتا أعلام العقيدة والسلطان ، فَتَلَتْها قريبا منزلة أعلام الزهد - ظهرت عند شاكر أولا منزلة أعلام العقيدة ، ثم تلتها بعيدا منزلة أعلام الزهد ، فتلتها منزلة أعلام السلطان .

ربما كانت في ذلك دلالة على تطور رأي التلميذ قليلا بعد اختبار رأي الأستاذ في مدرسة الحياة التي أمامه ؛ فلقد كانت مجموعة مقالات الرافعي " وحي القلم " ، في العقد التالي لسقوط الخلافة ، وفيه بقي الناس متعلقين برجوعها ، حتى عقدوا الآمال على من لا يستحق ، من مثل كمال أتاتورك ؛ فربما كان ذلك وراء تطابق منزلتي العقيدة والسلطان عند الرافعي ، حتى إذا ما جاء شاكر بعد ذلك ، وانكشف خداع أتاتورك الذي لم ينج منه كثير من العلماء الكبار ، حتى الشيخ محمد وكيل الأزهر ، أبو شاكر - لم يستثره ما استثار أستاذه ، وارتاح إلى تصحيح العقيدة ، وإلى منهج الجمع بين العقيدة والسلطان من قَبْلِ تولي السلطة .

وكذلك كانت أعلام العقيدة عند الرافعي ، اسما واحدا ، وأعلام السلطان أربعة أسماء ، وأعلام الزهد خمسة أسماء - على حين صارت أعلام العقيدة عند شاكر خمسة أسماء ، وأعلام السلطان اسمين اثنين ، وأعلام الزهد اسمين اثنين .

ربما كان أحد الأسماء أكثر استعمالا أو أغلب ، ولكن لا ريب في أن إكثار الأسماء من سياسة الدعوة والحرص على المعنى ؛ فلذا كانت أعلام العقيدة عند شاكر أكثر من أعلام غيرها ؛ فربما احتاج الناس إلى قرآن يمشي على الأرض  فكان رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - وكان صحابته - رضي الله عنهم ! - على حين لم ينتبه الرافعي لذلك المعنى السياسي الدعوي .

ولكن في خلال ذلك غلبت أفكار الزهد ( العفة والجلد والصبر ) على رسالتي النصين ، بعد ما طار في أرجائهما نفس كريم من أخلاق الزاهدين العالية ، فكان الرافعي أحفى في الأعلام بذلك من شاكر ؛ إذ أدار أحداث نصه على خمسة أعلام ، ولم يدرها شاكر إلا على علمين اثنين فقط .

صَوْتا الْكاتِبَيْنِ

[8] إذا كان نص الرافعي موعظة قصصية نسبها إلى أبي علي ، ونص شاكر رسالة قصصية نسبها إلى أبي الخطاب ، وقمتُ في مقام المطلع على موعظة الواعظ ورسالة المرسل كلتيهما ، رأيتُ نص شاكر أكثر ملاءمة لطبيعة الرسالة من ملاءمة نص الرافعي لطبيعة الموعظة .

لقد كان شاكر كأنه وقع على كتاب " مذكرات عمر بن أبي ربيعة " حقا ؛ فأسرع ينقل منه دون أن يضيف إليه إلا عبارة " قال عمر بن أبي ربيعة " التي صَدَّرَ بها الرسالة - على حين خلط الرافعي طبيعة نصه بطبيعة نص شاكر ؛ فتكلم هو من دون أن يشبه عمر بن أبي ربيعة اشتراكًا ولا استماعًا ، حتى استولى على الفصلين الأول والثالث كليهما وعلى نصف الفصل الرابع ، فإذا أراد أن يُنْطِقَ الواعظ عاد بجملة " قال أبو علي " ، وإذا استطال كلام الواعظ نفسه زاد فعل القول الماضي " قال " على مثل ما نجد في مجلسيات الأصفهاني بـ" الأغاني " مثلا ؛ فبـ" قال " هذا ، كان القدماء ينبهون المتلقين على استمرار كلام الراوي .

لقد كتب الرافعي نصوص هذا الأسلوب التي منها نصنا ، في عقده السادس الأخير ( 1930 - 1937م ) 44 ، وكان في شيخوخته ، وكتب شاكر نصوص الأسلوب نفسه التي منها نصنا ، في عقده الرابع ( 1939 - 1949 ) 45 ، وكان في شبابه ؛ فكأنما أراد شاكر أن يكفكف من شأو نفسه ، ويُخْرِجَها من البَيْنِ ؛ فقد ظهر الرافعي بصوته العالي ، مظهر مُعَلِّمِ المتلقين الذي يشرح لهم رأيه هو ومذهبه ، وكأنه صوت الحقيقة المطلقة ، قد حضرت تشهد !

ثم لا ريب في ملاءمة شاكر لتيار الواقعية الغالب على عصره آنذاك ، بتحري إخراج القصة من الحياة كما تكون فيها ، ثم على طريقة المذكرات التي لا ينقضي عجبي من قبول شاكر أن يستعملها في تتويج أعماله ، وليست مما رأيناه يحبه ، ولو عُرِضَتْ عليه في أواخر عمره لجعلها من رقاعات المتأخرين !

تَفْصيلُ الْفُصولِ

[9] أفرد الكاتبان عدد فصول النصين ( سبعة فصول ) ، وكأنما حَرَصا على منهج التَّدْوير الجدير بشدة التأثير ؛ فمهما تَشَعَّبت أفكار رسالة النص ؛ وَتَفَصَّلَتْ بها الفصول ، تَلاقَتْ في فصل يغلق دائرتها ويحكم رسالتها ، يختلف المتلقون في تعيينه ، ولكن يغلب أن يكون الأخير .

اتفق الكاتبان على أن يَتَأَتَّيا إلى المتلقين ، بمفهوم الموت في الثقافة العربية الإسلامية ؛ فمنذ أوصى سيدنا أبو بكر ، سيدنا خالد بن الوليد - رضي الله عنهما ! - حين بعثه إلى المرتدين ، وصيته الجليلة الخالدة : " احْرِصْ عَلى الْمَوْتِ توهَبْ لَكَ الْحَياةُ " ، فَعَمِلَ بها ، حتى قال في موته مقالته الجليلة الخالدة : " لَقَدْ لَقيتُ كَذا وَكَذا زَحْفًا ، وَما في جَسَدي مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلّا وَفيهِ ضَرْبَةٌ أَوْ طَعْنَةٌ أَوْ رَمْيَةٌ ، وَها أَنا ذا أَموتُ حَتْفَ أَنْفي كَما يَموتُ الْعَيْرُ ؛ فَلا نامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَناءِ " - جرى مجراه القائد العربي المسلم ، حتى كان يفتح عقول الملوك قبل فتح بلادهم ، بمقالته الجليلة الخالدة : " جِئْتُكُمْ بِجُنْدٍ يُحِبّونَ الْمَوْتَ كَما تُحِبّونَ أَنْتُمُ الْحَياةَ " !

لقد تَلَبَّسَتِ الكاتبين حالُ القائد العربي المسلم ، نَفْسُها ؛ فأقبلا يحيطان نصيهما بدائرة من الموت محكمة :

أما الرافعي فقد عَرَّضَ بَطَلَه للافتراس في الفصل الأخير ، ولم يُفْتَرَسْ ، ولكنه أفاض في مقام موته في الفصل الأول ؛ فجعل الفصل الأول نتيجة الفصل الأخير ؛ فلو لم يفهم البطل حقيقة حياته ما فهم الناس حقيقة موته ، ولبقي متلقو النص ينتظرون أن تؤديهم القصة إلى موته ! ولقد اتفقت بين الفصلين الأول والأخير ، عبارتا الكاتب عن دهشة الناس من حياة البطل ومن وفاته جميعا ؛ فإذا تأملنا قوله من الفصل الأخير :

" جَعَلَ كُلٌّ مِنّا يَظُنُّ ظَنًّا في تَفْكيرِه : فَمِنْ قائِلٍ (...) وَقائِلٍ (...) وَثالِثٍ يَقولُ (...) وَزَعَمَ جَماعَةٌ (...) " .

وقوله من الفصل الأول :

" كانَ يَوْمُه (...) : ما بَقِيَ أَحَدٌ إِلّا اقْتَنَعَ أَنَّه في شَهَواتِ الْحَياةِ وَأَباطيلِها كَالْأَعْمى في سوءِ تَمْييزِه بَيْنَ لَوْنِ التُّرابِ وَلَوْنِ الدَّقيقِ " .

رأينا الشهود فيهما يفكرون في كل وجه إلا الحقيقة . وربما كان من ملاءمة كل عبارة لفصلها ، أن تكون عبارة الفصل الأول ، من تفصيل إجمال ما قبلها ، وعبارة الفصل الأخير ، من إجمال تفصيل ما بعدها ؛ فقد كان فصل القصة الأخير مبتدأ حياة البطل الحقيقية ، وفصلها الأول منتهاها !

وأما شاكر فقد بدأ نصه بمصيبة موت ابن البطل ، ثم لم يطلعه عليها إلا في الفصل الأخير ؛ فكان مثل الرافعي في جعل الأول للمتلقين خاتمة الأخير . ولقد اتفقت كذلك بين الفصلين الأول والأخير ، عبارتا الكاتب عن أثر مصيبة الموت ؛ فإذا تأملنا قوله عن عمر بن أبي ربيعة ، في الفصل الأخير :

" قَدْ غَلَبَتْني عَيْناي بِالْبُكاءِ " .

وقوله عنه في الفصل الأول :

" كَأَنَّما فارَقَتْني الرّوحُ " .

رأيناه في الفصلين وهو من الشهود ، مفعولا به ، مغلوبا على أمره : تغلبه عيناه أخيرا ، وتغلبه روحه أولا ! وربما كان من ملاءمة كل عبارة لفصلها ، أن يكون فاعل عبارة الفصل الأول باطنيا " الروح " ، وفاعل عبارة الفصل الأخير ظاهريا " عيناي " ؛ فقد كانت الوطأة في الفصل الأول على عمر بن أبي ربيعة الراوية نفسه ، وفي الفصل الأخير على غيره !

تَرْتيبُ الْفُصولِ

[10] ومن باب الحرص على منهج التدوير السابق ، أن جعل الرافعي في فصل " تعريض البطل للافتراس " ، أفدح الأحداث ( الحَدَثان ) ، وأشدها تأثيرا في المتلقين ، ثم جعله سابعا خاتمة الفصول وأكبرها ، وصعد إليه بها قليلا قليلا :

·        الفصل الأول : 124 كلمة كتابية .

·        الفصل الثاني : 76 كلمة كتابية .  ( 306 )

·        الفصل الثالث : 230 كلمة كتابية .( 306 )

·        الفصل الرابع : 194 كلمة كتابية .

·        الفصل الخامس : 248 كلمة كتابية .

·        الفصل السادس : 498 كلمة كتابية .

·        الفصل السابع : 521 كلمة كتابية .

فإن بدت أطوالها مضطربة ، ففي كون ثالثها بمنزلة التعليق على ثانيها ، ورابعها بمنزلة المقدمة لخامسها ، ما يوضح تصاعدها .

وجعل شاكر في فصل " قطع رجل البطل " ، أفدح الأحداث ( الحَدَثان ) كذلك ، وأشدها تأثيرا في المتلقين ، ثم جعله رابعا واسطة الفصول السبعة   وأكبرها ، من قبله ثلاثة ومن بعده ثلاثة ، وصعد إليه بما قبله ، ثم صعد مرة أخرى بما بعده إلى حدث آخر على جهة مضاعفة المصائب :

·        الفصل الأول : 149 كلمة كتابية .

·        الفصل الثاني : 304 كلمة كتابية .

·        الفصل الثالث : 396 كلمة كتابية .

·        الفصل الرابع : 408 كلمة كتابية .

·        الفصل الخامس : 148 كلمة كتابية .

·        الفصل السادس : 209 كلمة كتابية .

·        الفصل السابع : 266 كلمة كتابية .

من دون أن يكون الفصل الأخير ( فصل الحدث الزائد ) ، أطول من الفصل الرابع ( فصل الحَدَثان ) ، على رغم ما فيه من مضاعفة المصائب ؛ فإن مصيبة الموت أزلية أبدية . ثم إن المتلقين كانوا قد عرفوا مصيبة الموت في الفصل الرابع ( فصل الحَدَثان ) ؛ فكان فيه المرادُ كلُّه ، ولكن الكاتب تحرك على طبيعته ؛ فصعد إلى مجتمع المصائب عند البطل ، مثلما صعد له عند المتلقين .

نَسْجُ النَّصَّيْنِ

[11] كان فصل الرافعي الأول نظرة خارجية كلية ، ربط فيها المنتهى بالمبتدأ ، لم يجد من شخوص قصته من ينظر هذه النظرة ، فنظرها لهم ، قائلا :

" جَلَسَ أَبو عَليٍّ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرّوذَباديُّ الْبَغْداديُّ في مَجْلِسِ وَعْظِه بِمِصْرَ بَعْدَ وَفاةِ شَيْخِه أَبي الْحَسَنِ بُنانٍ الْحَمَّالِ الزّاهِدِ الْواسِطيِّ شَيْخِ الدِّيارِ الْمِصْريَّةِ " .

ثم كان فصل شاكر الأول كلمة داخلية مجملة ، أنطق بها أحد شخوص قصته ، قائلا :

" ... فَبادَرْتُ أَعْدو يَكادُ يَنْشَقُّ عَلَيَّ جِلْدي مِنْ شِدَّةِ الْعَدْوِ " .

جملة أول فصل الرافعي الأول ، فعلية ماضوية هادئة مطمئنة ، مُفَصَّل نَسَبُ فاعلها تَفْصيلَ كُتُبِ الأنساب ، محتاج قارئها إلى تمهل كثير ، نبه بها المتلقي على معنى المدرسة السابق ذكره . وجملة أول فصل شاكر الأول ، محذوفة في جمل كثيرة سَتُشْرَحُ في الفصل الثاني ، مَدْلولٌ عليها بفاء عطف الجملة الثانية الفعلية الماضوية الثائرة القلقة ، ألقى بحذفها المتلقي في مجرى الأحداث .

وإن في هذا وذاك ، لعلامة أولية مهمة ، على مَنْهَجَيْ نَسْجِ النَّصَّيْنِ :

1   الِاسْتِبْطانُ الْمِثاليُّ الصّوفيُّ : منهج من الإمعان في تتبع دقائق الصفات الكامنة في العناصر القصصية ، يتحرك حركة عمودية من أعلى إلى  أسفل ، ومن أسفل إلى أعلى ، دَوالَيْك .

2   الِاسْتِبْطانُ الْواقِعيُّ الْفَنّيُّ : منهج من الإمعان في تتبع دقائق الصفات الظاهرة على العناصر القصصية ، يتحرك حركة أفقية من وراء إلى أمام ، ومن أمام إلى وراء ، دَوالَيْك .

فعل حين يَسْلُكُ الرافعي المنهج الأول ؛ فيطول الجمل ، ويثقلها ، ويقللها ، ويشغلها بِتَحْليلِ الأشخاص والأحداث - يَسْلُكُ شاكر المنهج الأخير ؛ فيقصر   الجمل ، ويخففها ، ويكثرها ، ويشغلها بتحريك الأشخاص والأحداث .

تَوْصيلُ الْفُصولِ

[12] إذا تأملنا مفاصل الفصول ، حيث يخيط كل من الكاتبين أطرافها ، فيضم أول اللاحق إلى آخر السابق ، وجدنا ما يلي :

1   جملة أول فصل الرافعي الثاني معطوفة على جملة أول نصه ، كرر فيها اسم فاعلها بعد ما طال بين الموضعين من كلام الكاتب الطارئ بينهما :

" جَلَسَ أَبو عَليٍّ (...) وَتَكَلَّمَ أَبو عَليٍّ (...) " .

وجملة أول فصل شاكر الثاني معطوفة على جملة آخر فصله الأول :

" سَأَلَني (...) قُلْتُ (...) " .

فعلى حين عبر شاكر عن ثورة عمر بترتيب جملة قوله على جملة سؤاله من دون أن يتيح للفاء بينهما مكانا ؛ إذ ليس أقدر على تحريك الأحداث من حذف العاطف ، وليس أكثر حذفا بين الجمل من فاء العطف بين جمل الأقوال 46 - عبر الرافعي عن هدوء راويته أبي علي بعطف جملة تكلمه على جملة جلوسه بالواو دون ترتيب وكأن تكلمه كصمته ، تمهيدا للمعنى الذي سينطقه به في الفصل   الرابع ، قائلا :

" عَلامَةُ الرَّجُلِ مِنْ هؤُلاءِ أَنْ يَعْمَلَ وُجودُه فيمَنْ حَوْلَه أَكْثَرَ مِمّا يَعْمَلُ هُوَ بِنَفْسِه " .

2        وجملة أول فصل الرافعي الثالث اسمية اعتراضية مقترنة بواو :

" وَالْبَلَدُ الَّذي لَيْسَ فيهِ (...) هُوَ في الْجَهْلِ كَالْبَلَدِ الَّذي لَيْسَ فيهِ (...) " .

وجملة أول فصل شاكر الثالث فعلية ماضوية معطوفة على جملة أول فصله الثاني :

" قُلْتُ (...) قالَ أَميرُ الْمُؤْمِنينَ (...) " .

فعلى حين يستمر تعبير شاكر عن ثورة الأحداث ، باستثقال فاء الترتيب والتعقيب نفسها ، يعترض الرافعي بكلامه كلامَ راويته أبي علي ، إِمْعانًا في غَلْغَلَتِه فيه ، تَوَسُّعًا في التَّحْليل .

3        وجملة أول فصل الرافعي الرابع فعلية ماضوية زائدة :

" قالَ أَبو عَليٍّ (...) " .

وجملة أول فصل شاكر الرابع اسمية منسوخة بـ" كاد " :

" فَما كِدْنا نَقومُ (...) " .

فعلى حين يستعمل الرافعي زيادة رواة المجالس القديمة التي يصلون بها كلام المتحدث بعضه ببعضه على رغم الاستطراد ، وكأن كلامه من كلام أبي  علي ، يرتب شاكر أول الفصل على آخر سابقه ترتيبا سريعا ، ولا يملك أن يحذف العاطف لعدم الدلالة عليه ، كما كان يحذفه لدلالة كثرة الاستعمال عليه ؛ فليست الجملتان المتعاطفتان هنا قوليتين ، كما كانتا هناك .

4        وجملة أول فصل الرافعي الخامس هي الفعلية الماضوية الزائدة نفسها :

" قالَ أَبو عَليٍّ (...) " .

وجملة أول فصل شاكر الخامس فعلية ماضوية :

" وَما لَبِثْنا (...) " .

فعلى حين يستعمل الرافعي زيادة رواة المجالس القديمة نفسها ، ولكن في أصل موضعها ؛ إذ يصل كلام أبي علي بعضه ببعضه على رغم استطراده - يرتب شاكر أول الفصل على آخر سابقه من دون الفاء ولا " ثم " ؛ إذ هو مطمئن إلى فهم معنى الترتيب من منطق الأحداث ، ثم هو لم يشأ أن يحدد زمان ما بين غَشْيَةِ البطل وإفاقته ، وإن أوحى بالتركيب إلى أن حوار ما بين أبي الحكم وأمير المؤمنين ، قد أَمَرَّ الوقتَ من دون أن يَتَبَيَّنَ له تَحْديدًا .

5        وجملة أول فصل الرافعي السادس اسمية منسوخة بـ" كان " :

" كانَ أَحْمَدُ بْنُ طولونَ مِنْ جارِيَةٍ تُرْكيَّةٍ " .

ابتدائية في أول تَفْصيل مفعول جملة آخر الفصل الخامس ، الْمُجْمَلِ :

" قالَ : تَعالَ ، أُحَدِّثْكَ الْحَديثَ : كانَ أَحْمَدُ (...) " .

وجملة أول فصل شاكر السادس فعلية مضارعية :

" فَيَلْتَفِتُ الرَّجُلُ إِلى عُرْوَةَ " .

معطوفة على جملة آخر الفصل الخامس :

" فيقول له (...) فيلتفت (...) " .

فعلى حين يُفَصِّلُ الرافعي المفعول به ، ويطول الجملة تطويلا تحليليا ، يؤرخ به تطور خصيم البطل النفسي - يقصر شاكر الجملة ، ويغير الأشخاص ، ويحرك الأحداث .

6   وجملة أول فصل الرافعي السابع ، فعلية ماضوية زائدة بين أجزاء اعتراض كبير ، بعضه في آخر الفصل السادس ، وبعضه في أول الفصل السابع :

" فَأَمَرَ (...) - (...) قالَ (...) - فَجيءَ (...) " .

وجملة أول فصل شاكر السابع فعلية ماضوية معطوفة بالفاء على جملة آخر فصله السادس الفعلية الماضوية :

" قُلْتُ : (...) ثُمَّ مَضَيْتُ (...) " .

فعلى حين يغلغل الرافعي الفصل الأخير في الذي قبله ، يحركه شاكر حركة جديدة واضحة ، ويحدد ترتيبه .

لا ريب في أن غَلْغَلَةَ الفصل في الفصل تَوْسيعًا لِإِطارِ السابق لِيَشْمَلَ اللاحق - أَثَرٌ واضح من آثار انتهاج الرافعي منهج الاستبطان المثالي الصوفي . ثم لا ريب في أن تَحْديدَ حدود الفصول وإسراع الأحداث ، أثر واضح كذلك من آثار انتهاج شاكر منهج الاستبطان الواقعي الفني .

رَبْطُ الْأَقْوالِ

[13] إذا تَتَبَّعْنا عند الرافعي أواخر جمل ما قبل أفعال القول وأوائل جمل ما بعدها ، وجدنا هذه العبارات :

1        " جاءَه كِتابُ (...)  قالَ : فَجَعَلْتُ (...) " .

التي عَطَفَ فيها جُملةَ " جَعَلْتُ (...) " بالفاء ، على جملة " جاءَه (...) " ، وكلتاهما من كلام أبي علي الراوي الكبير .

2        " هُوَ الَّذي كانَ (...) قالَ أَبو عَليٍّ : وَقَدِمْتُ (...) " .

التي عطف فيها جملة " قَدِمْتُ (...) " بالواو ، على جملة " هُوَ الَّذي كانَ (...) " ، وكلتاهما من كلام أبي علي الراوي الكبير .

3        " لَمّا لَقيتُه لَقيتُ رَجُلًا (...) قالَ أَبو عَليٍّ : وَهَمَمْتُ (...) " .

التي عطف فيها جملة " هَمَمْتُ (...) " بالواو ، على جملة " لَمّا لَقيتُه لَقيتُ رَجُلًا (...) " ، وكلتاهما من كلام أبي علي الراوي الكبير .

4        " قالَ : لَوْ (...) قالَ أَبو عَليٍّ : وَالْمُعْجِزاتُ (...) " .

التي استأنف فيها جملة " الْمُعْجِزاتُ (...) " بالواو ، عن جملة " قالَ : لَوْ (...) " ، وأولاهما من كلام البطل ، والأخيرة من كلام أبي علي الراوي الكبير .

5        " لَمّا بَلَغَ هؤُلاءِ كانَتْ نيَّتُه (...) قالَ : وَكانَ عَقْلُه (...) " .

التي عطف فيها جملة " كانَ عَقْلُه (...) " بالواو ، على جملة " (...) كانَتْ نيَّتُه (...) " ، وكلتاهما من كلام الدينوري الراوي الصغير .

6        " أَمَرَ (...) - قالَ : وَكُنْتُ (...) - فَجيءَ (...) " .

التي عطف فيها جملة " جيءَ (...) " بالفاء ، على جملة " أَمَرَ (...) " ، واعترض بينهما بجملة " كنت (...) " المقترنة بالواو ، وكلتاهما من كلام الدينوري الراوي الصغير .

7        " لَوْ أَنَّ خَطْرَةً (...) قالَ : وَانْصَرَفْنا (...) " .

التي عطف فيها جملة " انْصَرَفْنا (...) " بالواو ، على جملة لو أن خطرة (...) " ، وكلتاهما من كلام الدينوري الراوي الصغير .

·        وإذا تأملنا أشباهها عند شاكر كذلك ، وجدنا هذه العبارات :

1        " قالَ عُمَرُ بْنُ أَبي رَبيعَةَ : (...) فَبادَرْتُ (...) " .

التي عَطَفَ فيها جُمْلَةَ " بادَرْتُ (...) " ، على جملة محذوفة ، وكلتاهما من كلام عمر نفسه الراوي الوحيد .

2        " قالَ : بَلى (...) قالَ (...) : فَهُوَ (...) " .

التي استأنف فيها جملة " هُوَ (...) " بالفاء ، عن جملة " بَلى " الباقيةِ منها أداةُ الجواب ، وأولاهما من كلام سيدنا أبي بكر - رضي الله عنه ! - والأخيرة من كلام رسول الله ، صلى الله عليه ، وسلم !

3        " قالَ عُرْوَةُ : (...) إِنّا (...) قالَ أَبو الْحَكَمِ : فَنَسْقيكَ (...) " .

التي اسْتَأْنَفَ فيها جملة " نَسْقيكَ (...) " بالفاء ، عن جملة " إِنّا " ، ومصدراهما واضحان .

4        " قالَ عُرْوَةُ : (...) قالَ عُمَرُ بْنُ أَبي رَبيعَةَ : وَأَلاحَ (...) " .

التي عطف فيها جملة " أَلاحَ (...) " بالواو ، على جملة " قالَ عُرْوَةُ : (...) ، وكلتاهما من كلام عمر نفسه الراوي الوحيد .

5        " قالَ لَها : اتَّقي اللّهَ وَاصْبِري ! فَقالَتْ : وَما تُبالي (...) " .

التي استأنف فيها جملة " ما تُبالي (...) " بالواو ، عن جملة " اصْبِري " ، وأولاهما من كلام رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - والأخيرة من كلام المرأة الباكية .

إن الاستئناف عن الجملة مثل العطف عليها ، وجه من ربط أخيرتهما بالأولى في نسيج النص الواحد ، مهما يكن اختلاف المجاورة التي في الاستئناف والمداخلة التي في العطف 47 .

ثم إن من طبيعة الحوار الحي ، أن تتوالى الجمل فيه بما يلائمها من وجوه الربط وأدواته المختلفة ( العطف وأدواته ، والاستئناف وأدواته ، ... ) ، وسواء أَتَوالَتْ تلك الجمل من طرف واحد من أطراف الحوار ، أم من أكثر من طرف ؛ فمن ثم كان حِرْصُ الكاتِبَيْنِ على تلك الأدوات ، وَجْهًا مِنْ نَفْخِ روح الحياة الطبيعية في نصيهما ، على حين يتناساها كثير من كتاب اللغة العربية إذا أقبلوا يسجلون ذلك الحوار الحي ، وكأن كل طرف من أطرافه يُكَلِّمُ نفسه !

ثم إن لمنهج كل من الكاتبين في نسج نصه ، لأثرا ؛ فعلى حين وقع العطف على ما تَقَدَّمَ ، والاستئناف عنه ، في كلام طرف رافعيٍّ واحد في أكثر العبارات السابقة ، لاشتغال الرافعي بتحليل الأشخاص والأحداث كما سبق - وقع العطف على ما تَقَدَّمَ ، والاستئناف عنه في كلام أكثر من طرف شاكريٍّ في أكثر العبارات السابقة ، لاشتغال شاكر بتحريك الأشخاص والأحداث ، كما سبق .

عَطْفُ الْمُتَشابِهاتِ

[14] إذا تَتَبَّعْنا عند الرافعي تراكيب العطف ، وجدنا هذه العبارات :

1        " خالَطوهُ ، وَصَحِبوهُ " .

2        " قارَبَها ، أَوْ لامَسَها " .

3        " اتَّصَلَ بِها ، أَوْ صاحَبَها " .

4        " قَتَلَهُمْ صَبْرًا ، أَوْ ماتوا في سِجْنِه " .

التي عطف فيها جملًا فعلية ماضوية بالواو و" أو " ، على مثلها .

5        " يَخْرِقُ الْعادَةَ ، وَيَخْرُجُ عَنِ النَّسَقِ " .

6        " يَجورُ ، وَيَعْسِفُ " .

7        " يُزَمْجِرُ ، وَيَزْأَرُ " .

8        " لا يَنْظُرُ إِلى الْأَسَدِ ، وَلا يَحْفِلُ بِه " .

التي عطف فيها جملًا فعلية مضارعية بالواو ، على مثلها .

9        " بِعِبادَتِه ، وَزُهْدِه " .

10   " في شَهَواتِ الْحَياةِ ، وَأَباطيلِها " .

11   " مَصالِحِه ، وَمَنافِعِه " .

12   " صِحَّةُ وُجودِها ، وَكَمالُ مَنْفَعَتِها " .

التي عطف فيها مركبات إضافية بالواو ، على مثلها .

13   " الزُّهّادَ ، وَأَهْلَ الْوَرَعِ " .

14   " غَيْضَةٍ ، أَوْ بَطْنِ وادٍ " .

اللتين عطف فيهما مركبين إضافيين بالواو و" أو " ، على مفردين .

15   " كَالشَّمْعَةِ وَالشَّمْعَةِ " .

16   " زُهْدًا ، وَتَوَرُّعًا " .

17   " الْفَزَعِ ، وَالرُّعْبِ ، وَالْإِشْفاقِ " .

18   " أَقْرَبَ ، وَأَيْسَرَ " .

19   " الْهوامِّ ، وَالذَّرِّ " .

التي عطف فيها المفردات بالواو ، على أمثالها ، حتى عطف المفرد على نفسه في ظاهر عبارته الأولى !

·        وإذا تَتَبَّعْناها كذلك عند شاكر ، وجدنا هذه العبارات :

1        " أَكَلَتْ مِنّي السِّنُّ وَتَعَرَّقَتْني أَنْيابُ الْكِبَرِ " .

2        " بَرَقَ وَجْهُه وَتَوَقَّدَ " .

3        " ما تَضَوَّرَ وَجْهُه وَلا تَقَبَّضَ " .

4        " فارَ الدَّمُ مِنْها وَتَفَجَّرَ " .

5        " تَحَلَّقَ النّاسُ حَوالَيْنا وَتَكَنَّفونا " .

6        " قَدِ اخْتَطَفَه أَجَلُه فَجَذَبَه فَهَوى بِه " .

7        " وَقاني أَذاها فَاحْتَمَلَ عَنّي أَلَمَها " .

8        " قَدْ نَجِدَ فَنَضَحَ وَجْهُه بِالْعَرَقِ " .

التي عطف فيها جملًا فعلية ماضوية بالواو والفاء ، على مثلها .

9        " نَعْبَثُ وَنَلْهو " .

10   " يُواسونَه وَيُصَبِّرونَه " .

11   " يُثَبِّتُه وَيُسَكِّنُه وَيَنْفُضُ عَنْه الْجَزَعَ " .

التي عطف فيها جملا فعلية مضارعية بالواو ، على مثلها .

12   " لا يَنْفَعُ الْقَطْعُ وَلا الْبَتْرُ " .

13   " لا تَكونُ عَلَيْهِ نائِحَةٌ وَلا مُعْوِلَةٌ " .

اللتين عطف فيهما مفردين بالواو ، على مثليهما .

لن يستغني الصراع القصصي عن عطف الأحداث والأعيان والصفات ، كل منها بعضه على بعض ، على وجوه العطف المختلفة . ولقد جرى شاكر مجرى الرافعي ، في عطف متشابهات الأحداث والأعيان والصفات ، التي لا يَعْلَمُ فَرْقَ ما بَيْنَها كَثيرٌ مِنَ الْمُتَلَقّينَ ، تَنْبيهًا على الفروق اللغوية التفكيرية ، تَحْقيقًا للثقافة العربية الإسلامية في نفسها ، ثم تَمْييزًا لها من غيرها من الثقافات .

ويزيد عطف المتشابهات سطوعا ، مُوازَنَتُها أي أن تتفق أوزان المتشابهات - إن كانت مفردات - أو عناصرها - إن كانت مركبات - وسواء أكانت مسجوعة أم لا ؛ فمن ثم كانت الموازنة ظاهرة بديعية أخص من السجع 48 ، مثلما في عبارات الرافعي السابقات ( 2 ، 11 ، 18 ) ، و في مثل عبارتي شاكر السابقتين  ( 11 ، 12 ) 49 - فإن المتشابهات إذا توازنت أغرت المتلقي بالإسراع إلى الحكم عليها بالاتحاد ( أن المتعاطفين شيء واحد ) ، حتى إذا ما تأملها فاجأته باختلافها ؛ فَكانَتْ أشد تأثيرًا فيه .

ولقد احتفى بذلك الرافعي أكثر من شاكر ، حتى استعمله في خمسة أنواع من التراكيب ، وَضَّحْتُها بما سبق من تَمْييز وتَعْليق ، ولم يستعمله شاكر إلا في ثلاثة فقط . ثم على حين اجتمع الرافعي وشاكر على استعمال الواو ، افترقا في    " أو " والفاء ؛ فاستعمل الرافعي " أو " ، واستعمل شاكر الفاء ، وجرى كل منهما على ما يلائم منهجه ؛ فاستفاد الرافعي مما في " أو " من إبهام في تحليل تلك المتشابهات ، واستفاد شاكر مما في الفاء من ترتيب وتعقيب 50 ، في تحريك تلك المتشابهات على حالها ، فأما إبهامها فيزيدها تَشابُهًا ، وأما إسراع تحريكها فلا يتيح للمتلقي أن يتأملها !

من ذلك مثلا عبارة الرافعي الرابعة ؛ فلقد أراد أن يحلل طبيعة البطش في أحمد بن طولون ؛ فاستفاد من الفرق اللطيف بين قتله خصومه صبرا ( قَصْدِه سَجْنهم حتى يهلكوا ) ، وموت خصومه في سجنه ( إِهْمالِه لهم فيه حتى يهلكوا ) ، ومن عطف جملتيهما بـ" أو " الإبهامية - وعبارة شاكر السادسة ؛ فلقد أراد أن يصور حرص الموت على الشاب النبيل ؛ فاستفاد من الفرق اللطيف بين اختطاف الشيء ( أخذه سريعا ) ، وجذبه ( مده ) ، والهوي به ( إسقاطه ) ، ومن عطف جملها بالفاء الترتيبية التعقيبية .

وعبارة الرافعي الخامسة عشرة ، دليل زيادة حفاوته بعطف المتشابهات ؛ فقد حذف من كلا المعطوفين صفتيهما : ( الكبيرة ) ، و( الصغيرة ) المفهومتين مما بعد 51 ، وترك المتلقي يعجب لارتكابه هذا الحذف الذي أفضى إلى عطف كلمة على مثلها أي إلى إِفْرادِ ما يَنْبَغي تَثْنِيَتُه ، حَفاوَةً منه بعطف المتشابهات كما سبق ، وإمعانا في الموازنة .

تَرْكيبُ الْمُفاجَأَةِ

[15] إذا تَتَبَّعْنا عند الرافعي " إذا " الفجائية ، عثرنا على هاتين العبارتين :

1        " فإِذا هِيَ الْوَثيقَةُ الضّائِعَةُ " .

2        " فإِذا هُوَ ساهِمٌ مُفَكِّرٌ " .

اللتين اقترنت فيهما " إذا " بالفاء ، ودخلت على جملة اسمية مبتدؤها ضمير غيبة .

·        وإذا تَتَبَّعْناها كذلك عند شاكر ، وجدنا هذه العبارات :

1        " وإِذا هُوَ ساكِنٌ ساجٍ " .

التي اقترنت فيها " إذا " بالواو ، ودخلت على جملة اسمية مبتدؤها ضمير غيبة .

2        " وإِذا طائِرٌ يَحومُ " .

التي اقترنت فيها " إذا " بالواو ، ودخلت على جملة اسمية مبتدؤها نكرة .

3        " وإِذا زَيْنُ الْمَواكِبِ تَحْتَ سَنابِكِها " .

4        " وإِذا فيهِمْ سُلَيْمانُ " .

5        " وإِذا عُرْوَةُ كَأَنْ لَيْسَ بِه شَيْءٌ " .

6        " وإِذا عُرْوَةُ قَدْ غُشِيَ عَلَيْهِ " .

التي اقترنت فيها " إذا " بالواو ، ودخلت على جملة اسمية مبتدؤها علم .

7        " وإِذا وُجوهُ النّاسِ قَدْ جَلَسوا إِلى عُرْوَةَ " .

8        " وإِذا وَجْهُه قَدْ صَفِرَ مِنَ الدَّمِ " .

اللتين اقترنت فيهما " إذا " بالواو ، ودخلت على جملة اسمية مبتدؤها مضاف إلى معرفة .

إن المفاجأة أسلوب مهم من أساليب تنمية صراع الأشخاص الذي لا تستغني عنه قصة ، غير بعيد من أسلوب التعقيب السابق ذكره ؛ ومن ثم مال إليه شاكر المولع بتحريك الأشخاص والأحداث ، أكثر من الرافعي المولع بتحليلهما ، حتى استعمله في أربعة أنواع من التراكيب وَضَّحْتُها بما سبق من تَمْييز وتَعْليق ،  ولم يستعمله الرافعي إلا في نوع واحد فقط .

وأعجب ما في العبارات السابقة ، اقتران " إذا " بالفاء في عبارتي الرافعي كلتيهما على قلتهما ، واقترانها بالواو في عبارات شاكر الثماني كلها ! ولكن إذا تأملنا سياق كل عبارة ، وجدنا الواو هي المستعملة فيما قبل عبارتي الرافعي كلتيهما ، والفاء هي المستعملة فيما قبل عبارات شاكر الأربع ( 3 ، 5 ، 6 ، 7 ) ، وقبل الجملتين المقترنتين بـ" إذا " الفجائية نفسها ، اللتين قبل عبارتيه ( 4 ، 8 ) ؛ فمن ثم يكون كل من الكاتبين قد جَهَّزَ التركيب من قبل مجيء " إذا " ؛ حتى تطمئن في مكانها ، إحساسًا خاصًّا واحدًا ، اجتمع عليه الأستاذ والتلميذ .

الإجمال ثم التفصيل

[16] إذا تتبعنا عند الرافعي ، أطراف الجمل المتوالية ، وجدنا هذه العبارات :

1        " كانَ يَوْمُه كَالْبُرْهانِ (...) : ما بَقِيَ أَحَدٌ إِلّا (...) " .

2        " جَعَلْتُ أُفَكِّرُ في طَعْمِ النَّفْسِ : ما هُوَ " .

3        " لَه مَعْنى أُبوَّةِ الْأَبِ في أَبْنائِه : لا يَراهُ مَنْ يَراهُ مِنْهُمْ (...) " .

4        " تَعالَ أُحَدِّثْكَ الْحَديثَ : كانَ أَحْمَدُ (...) " .

5        " كُنْتُ أُفَكِّرُ في لُعابِ الْأَسَدِ : أَهُوَ طاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ " .

التي قدم فيها جُمَلًا إِجْماليَّةً ، ثم أَبْدَلَ منها جُمَلًا تَفْصيليَّةً .

6        " كانَ عَقْلُه مِنْ أَثَرِ طَبيعَتَيْهِ (...) : فَلَه يَدٌ مَعَ الْمَلائِكَةِ (...) " .

7        " لَمْ يَرُعْنا إِلّا ذُهولُ الْأَسَدِ عَنْ وَحْشيَّتِه : فَأَقْعى عَلى ذَنَبِه (...) " .

8        " يَكْشِفُ لَه عَنْ قُرْبِ الْحَقِّ (...) : فَهُوَ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيِ الْأَسَدَ (...) " .

9        " كَما خَرَجَ الشَّيْخُ (...) خَرَجَ الْوَحْشُ (...) : فَلَيْسَ في الرَّجُلِ (...) " .

10   " جَعَلَ كُلُّ مِنّا يَظُنُّ (...) : فَمِنْ قائِلٍ (...) " .

التي قدم فيها جملا إجمالية ، ثم عَطَفَ عليها جملا تفصيلية .

·        وإذا تَتَبَّعْناها كذلك عند شاكر ، وجدنا هذه العبارات :

1        " ما نَرى - وَاللّهِ - مُحَمَّدًا : قَدِ اخْتَطَفَه أَجَلُه (...) " .

التي قدم فيها جُمْلَةً إِجْماليَّةً ، ثم أَبْدَلَ منها جُمْلَةً تَفْصيليَّةً .

2        " إِنّي - وَاللّهِ - مُحَدِّثُكَ عَنّي بِخَبَري (..) : فَقَدْ بِتُّ (...) " .

التي قدم فيها جُمْلَةً إِجْماليَّةً ، ثم عَطَفَ عليها جُمْلَةً تَفْصيليَّةً .

في الإجمال إغماض ، ثم في التفصيل إيضاح ، ولكن لا سبيل إلى اكتشاف الإجمال وإغماضه إلا بعد الفراغ من التفصيل وإيضاحه ؛ فإن المتلقي لا يستطيع أن يميز ذلك حتى يأتيه هذا ، وعندئذ يحتاج إلى أن يعود مرة أخرى إلى الإجمال الذي لم ينتبه إلى أنه إجمال ، ليحسن فهمه وربطه بتفصيله بعد أن انتبه إلى أنه تفصيل 52 !

وإن عطف التفصيل بالفاء على الإجمال 53 ، لأشد ثقلا على المتلقي من إبداله منه ؛ فإنه يَظُنُّ في الجملة المقترنة بالفاء كُلَّ ظَنٍّ ، حتى يَتَبَيَّنَ أنها تفصيلُ ذلك الإجمال ، فأما الإبدال فأقرب وجوه التفصيل ؛ فمن ثم يظهر وجه ميل الرافعي إلى الإجمال والتفصيل المناسبين لمنهجه أكثر من شاكر ، وإن انقسمت العبارتان الواقعتان لشاكر منه ، على وجهي الإبدال والعطف ، كما انقسمت عبارات أستاذه .

فَصْلُ الْحَدَثانِ

جَوامِعُ الذِّرْوَتَيْنِ

 [17] هذا فصل الحدث الذي تتأزم به سائر الأحداث ، بل الذي من أجله كان كثير منها ؛ فهو الحدث الأكبر الحق ( الحَدَثان ) ، الذي لم يستعظم معه أي من الكاتبين المحقِّقَيْن ، أن يَخْتَرعا فَيَزيدا ما يُمَهِّدُ له ، ويُجَلّيه . مثل ذلك مثل فصل المُداواة بالكَيِّ إِذا تَخَيَّلْنا لَها فَصْلًا مَعيشيًّا ، تكون فيه أحداث من التَّمْهيد والتَّجْلية ، كاستفحال المرض ، وظهور ضرورة الكي ، والسفر إلى الطبيب ، ومثول المريض أمامه ، وتجهيز المياسم ، وإحمائها ، وحضور المساعدين ، واضطراب الأصحاب في أثناء الكي ، ودهان الموضع بعقب الكي ، وصعوبة حركة المريض بعقبه - ولكن أهم ما فيه من أحداث هو الكي نفسه ، الذي يجتمع فيه على المريض ، المَرَضُ والطَّبيبُ والمَياسِمُ والمُساعِدونَ !

في هذا الفصل يُعَرِّضُ الرافعيُّ البَطَلَ للافتراس فلا يُفْتَرَسُ ، ويُعَرِّضُه شاكرٌ لقطع رجله فتُقْطَعُ ؛ فلم يكن تعريض البطل لقطع رجله من دون أن تقطع ، بكفء لتعريضه للافتراس وإن لم يفترس ؛ فقد تَمَثَّلَ بالأسد المفترِس مِثالُ الموت ، وَشَتّانَ التَّعَرُّضُ لِفَقْدِ النَّفْسِ وَالتَّعَرُّضُ لِفَقْدِ رِجْلٍ ! ثم إن مكانة البطل التاريخية التي حملت كلا الكاتبين على الكتابة عنه والتَّوَسُّلِ به إلى تَثْقيفِ المُتَلَقّين ، موكولة في كثير من شأنها ، إلى بقائه على رغم الحَدَثان مِثالًا حَيًّا يُكْبِرُه الناس ويؤوبون إلى أقواله وأفعاله وأحواله .

تَفْقيرُ الْفِقَرِ

 [18] كما أفرد الكاتبان عدد فصول النصين ( سبعة فصول ) ، واجتمعا عليه ، أفردا عدد فقر فصلي الحدثان ( خمس فقر ) ، واجتمعا عليه ، حِرْصًا على منهج التَّدْوير نفسه ، الجدير بشدة التأثير ؛ فمهما تَشَعَّبت معاني فِكْرَةِ الفَصْل ، وتَفَقَّرَتْ بها الفقر ، تَلاقَتْ في فقرة تغلق دائرتها وتحكم رسالتها .

ولقد كانت فقرة " يقين البطل " ، أطول فقر فصل الحدثان عند الكاتبين جميعا ، هي الفقرةَ التي أغلقا بها للمتلقي دائرة الخصوصية التي تتيسر للمتثقف المتحقق بهذه الثقافة العربية الإسلامية ؛ فبمعرفة حدود الوجود وغايته وقدرة الموجد ومراده ، يتكون مثل هذا اليقين الذي يكمل للمتلقي مواقف أمثال هؤلاء الأبطال وإن لم تبلغه كُمالاتها .

صِفَةُ الطَّبيبِ كَصِفَةِ الْأَسَدِ

[19] أخرج شاكر فقرته الأولى ( صفة الطبيب ) ، مخرج فقرة الرافعي الأولى ( صفة الأسد ) ؛ فكان الطبيب لديه بمنزلة الأسد لدى الرافعي . إن مقتضى الحال إذا لزم التشبيه ، أن تكون " الأُكْلَةَ " هي التي تُشَبَّهُ بالأسد ، لا الطبيب ! ولكن لما كان الطبيب هو الذي عرفها وذكرها وعالجها بما يشبه الافتراس ، نَزَّله شاكر منزلة الأسد . ثم هنا لطيفة فنية ؛ فلقد حرك الرافعي الأسد إلى أعمال ومشاعر لم يستطع شاكر أن يحرك إلى مثلها " الأكلة " ، وكان على أَثَرِ أستاذه عَفْوًا أو قَصْدًا ؛ فاستفاد من وجود الطبيب !

ولقد تأنق كل منهما في وصف موصوفه ؛ فأكثر من صفاته ، وألبس بعضها ببعض على طريقة " عطف المتشابهات " السابقة نفسها - وكلا النعوت والمعطوفات توابع - ثم جعلها في عقب خبرِ جملةٍ اسميةٍ : أما الرافعي فَنَسَخَها بـ" كان " ، ثم أورد الأوصاف أخبارًا أخرى ، مُعَدَّدَةً مُفَرَّقَةً . وأما شاكر فَجَرَّدَها من النواسخ ، ثم أورد الأوصاف نعوتًا للخبر ، مُعَدَّدة مُفَرَّقة :

الرافعي

شاكر

" كانَ الْأَسَدُ الَّذي اخْتاروهُ لِلشَّيْخِ أَغْلَظَ ما عِنْدَهُمْ

" هُوَ شَيْخٌ

1

جَسيمًا

نَصْرانيٌّ

2

ضارِيًا

طَويلٌ

3

عارِمَ الْوَحْشيَّةِ

فارِعٌ

4

مُتَزَيِّلَ الْعَضَلِ

مَشْبوحُ الْعِظامِ

5

شَديدَ عَصَبِ الْخَلْقِ

قَدْ تَخَدَّدَ لَحْمُه

6

هَرّاسًا

أَحْمَرُ

7

فَرّاسًا

أَزْهَرُ

8

أَهْرَتَ الشِّدْقِ

أَصْلَعُ الرَّأْسِ إِلّا شَعَراتٍ بيضًا قَدْ بَقِيَتْ لَه

9

يَلوحُ شِدْقُه مِنْ سَعَتِه وَرَوْعَتِه كَفَتْحَةِ الْقَبْرِ يُنْبِئُ أَنَّ جَوْفَه مَقْبَرَةٌ

كَثُّ اللِّحْيَةِ

10

وَيَظْهَرُ وَجْهُه خارِجًا مِنْ لِبْدَتِه يَهُمُّ أَنْ يَنْقَذِفَ عَلى مَنْ يَراهُ فَيَأْكُلَه " .

طَويلُها

11

×

لَوْ ضَرَبَتْها الرّيحُ لَطارَتْ بِه " .

وعلى رغم مُضيِّ أحداث القصتين كلتيهما ، وكون قصة شاكر المُتَوَفّى رجالُها في أواخر القرن الهجري الأول ، أَوْغَلَ في القدم من قصة الرافعي المُتَوَفّى رجالُها في أواخر القرن الهجري الثالث - أَخْرَجَنا الرافعيُّ من إطار نصه منذ دخل إليه ، على منهجه في المثالية ، وكأنما خشي أن نُدَنِّسَه ، وأَحاطَنا شاكرٌ بإطار نصه منذ دخل إليه ، على منهجه في الواقعية ، وكأنما خشي ألا نَتَأَثَّره ؛ فلم يكن غريبا ألا ينسخ شاكر جملته بـ" كان " ، مثلما نسخها الرافعي .

ثم على حين جعل الرافعي أوصاف الأسد أخبارا طبيعتها النحوية التجاور لا التداخل ، بيانا لوجه من قسوة مختاريه ؛ إذ مَيَّزوا الأسود بعضها من بعض قليلا قليلا دون عجلة ، بالصفة من صفاتها بعد الصفة ، حتى اختاروه بحيث تتجمع فيه الصفات كلها ؛ فإذا ما هاجم البطلَ ، كان مِنْ صِفاتِه في قَطيعِ أُسودٍ تُهاجِمه - جعل شاكر أوصاف الطبيب نعوتا طبيعتها النحوية التداخل لا التجاور ، بيانا لغرابة شأن هذا الطبيب الذي قَرَّبَه أمراء المسلمين في ذلك الزمان العزيز ، ومكنوه على رغم نصرانيته ، كيف كان أزهر ( نَيِّرًا ) على رغم شيخوخته ، و أصلع على رغم كثاثة لحيته ، حتى إذا ما أَقْبَلَ ، أَقْبَلَ مِزاجٌ غَريبٌ ؛ فكأنه عَيْنٌ مُريبَةٌ .

الْيَقينُ الْيَقينُ

[20] ولقد جرى شاكر في فقرته الثانية ( يقين البطل ) ، مجرى الرافعي سَميَّتِها الرابعة ( يقين البطل ) ، فأنبت في بطله اليقين بكلام الحق - سبحانه ، وتعالى ! - كما أنبته الرافعي :

فأما الرافعي فقد أنطق الراوي بقوله في البطل : " كانَ مُنْدَمِجًا في يَقينِ هذِه الْآيَةِ : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا } " ، الذي يعبر عن فهم الراوي لحال البطل من اليقين ، فهو يتكلم عنه ، ولم يستطع أن يُنْطِقَ البَطَلَ نَفْسَه .

وأما شاكر فقد كان في مقام يتيح له أن يُنْطِقَ البَطَلَ بما يريد من أفكار التَّثْقيفِ الْعَرَبيِّ الْإِسْلاميِّ ؛ فجعله يقول : { رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادي لِلْإيمانِ أَنْ آمِنوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنوبَنا وَكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْميعادَ } .

كلتا العبارتين من كلام الحق - سبحانه ، وتعالى ! - ولكن ثم فرقًا بين البطل الشاكري المجتمع الناس حوله وفيهم الطبيب النصراني المعلقة به آمال الحاضرين على رغم قسوة عمله ، والبطل الرافعي المفرد الصامت ، الذي ذهب الناس في تخيل سره المذاهب .

إن العبارة القرآنية عند شاكر شعار إسلامي ، يُثَبِّتُ به البطل نفسَه والمسلمين ، ويدعو غيره من غير المسلمين إلى الإسلام الذي بنى في البطل مثل هذا اليقين ، وليس أدل من قول شاكر بعدئذ على لسان عمر بن أبي ربيعة :

" رَأَيْتُ أَبا الْحَكَمِ وَقَدْ بَرَقَ وَجْهُه وَتَوَقَّدَ كَأَنَّما أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرِ " !

مَجْلِسُ الْقَطْعِ كَهَجْمَةِ الْأَسَدِ

[21] ثم أخرج شاكر فقرته الثالثة ( مجلس القطع ) ، مخرج فقرة الرافعي الثانية ( هجمة الأسد ) ، في وَشْك معمعة الحدثان ، وتأنق في وصفها بقوله في الطبيب :

" نَشَرَ دُرْجًا كانَ في يَدِه ، وَأَخْرَجَ مِنْشارًا دَقيقًا طَويلًا صَقيلًا يَضْحَكُ فيهِ الشُّعاعُ ، وَوَضَعَ الطَّسْتَ " .

كما تأنق الرافعي في وصفها بقوله في الأسد :

" انْطَلَقَ يُزَمْجِرُ وَيَزْأَرُ زَئيرًا تَنْشَقُّ لَه الْمَرائِرُ ، وَيَتَوَهَّمُ مَنْ يَسْمَعُه أَنَّه الرَّعْدُ وَراءَه الصّاعِقَةُ ! ثُمَّ اجْتَمَعَ الْوَحْشُ في نَفْسِه ، وَاقْشَعَرَّ ، ثُمَّ تَمَطّى كَالْمَنْجَنيقِ يَقْذِفُ الصَّخْرَةَ " .

وكما كادت صفات الأسد والطبيب تتطابق في الفقرتين الأوليين ، كادت حركات هجمتيهما تتطابق هنا ؛ فقد جعلها شاكر ثلاث حركات :

1        " نَشَرَ ... " .

2        " وَأَخْرَجَ ... " .

3        " وَوَضَعَ ... " .

وجعلها الرافعي أربعا بمنزلة ثلاث :

1        " انْطَلَقَ ... " .

2        " ثُمَّ اجْتَمَعَ ... " .

3        " وَاقْشَعَرَّ ... " .

4        " ثُمَّ تَمَطّى ... " .

ولكن إذا أضفنا الاقشعرار إلى الاجتماع لأنه من لوازمه - وإلا لم يكن الاجتماع من باب الهجوم - كانت حركتا الأسد الثانية والثالثة حركة واحدة ، وكانت الحركات كلها عند الرافعي ثلاثا مثلما هي عند شاكر ، ولا سيما أن الجمل الرافعية كلها ، متعاطفة بـ" ثم " ، إلا الثالثة والثانية المتعاطفتين بالواو لتكونا بتلك المنزلة الواحدة السابق ذكرها .

جمل الكاتبين فعلية ماضوية ، وعلى حين تعاطفت بـ" ثم " عند الرافعي ، تعاطفت بالواو عند شاكر ؛ إذ لا ترتيب في الشاكرية مثل الذي في الرافعية ؛ فربما عمل الطبيب بعضها مع بعض أو قبل بعض ، فأما الأسد فيجري على ترتيب حركاته فطرة الله التي فطره عليها ، من دون أن يخرم منها حرفا ، أو تكون له فيها يد !

وقد مكنت الرافعي فطرة الأسود الثابتة على حركات واحدة وترتيب واحد مهما كانت الأسود ومهما كان التكرار ، من أن يستوعبهما ويتأنق في وصفهما ، إلى ذلك الحد الذي لم يتيسر لشاكر !

عَمَلُ الْقَطْعِ كَذُهولِ الْأَسَدِ

[22] ثم أخرج شاكر فقرته الرابعة ( عمل القطع ) ، مخرج فقرة الرافعي الثالثة ( ذهول الأسد ) ، في ذروة معمعة الحدثان ، حيث يتصاول كِفاحًا الخصيمُ الباطش والبطلُ المبطوش به . ولكن على حين قدم الرافعي الجملة الأولى في البطل :

" وَرَأَيْناهُ عَلى ذلِكَ (...) الرَّجُلِ " .  

ثم أخر الجملة الثانية في الخصيم :

" وَلَمْ يَرُعْنا إِلّا ذُهولُ الْأَسَدِ عَنْ وَحْشيَّتِه " .

جاعلا الست الباقيات ( 3-8 ) تفصيلا لإجمال تلك الجملة الثانية :

" أَقْعى (...) وَإِرادَةِ اللّهِ " !

قدم شاكر الجملة الأولى في الخصيم :

" وَضَعَ أَبو الْحَكَمِ (...) يَوْمَه ذاكَ " .

ثم الجمل الأربع التاليات ( 2-5 ) في البطل :

" ما تَضَوَّرَ وَجْهُه (...) مِنْ تَهْليلِه وَتَكْبيرِه " .

ثم الجمل الثلاث التاليات ( 6-8 ) في الخصيم :

" دَخَلَ رِجالٌ (...) حَتّى حَسَمَ الدَّمَ " .

ثم أخر الجملتين الباقيتين ( 9-10 ) ، في البطل :

" إِذا عُرْوَةُ (...) تَحْتَ النَّدى " .

إنه لما أخر الرافعي فقرة ( يقين البطل ) عن فقرة ( ذهول الأسد ) ، اضطر إلى تقديم جملة أولى من جمل ( ذهول الأسد ) في بطله ، ولولا هذا ما ذكر بطله ؛ فقد ألغى المصاولة المنتظرة بين الأسد وبينه ، وجعلها بين إرادة ابن طولون وإرادة الحق - سبحانه ، وتعالى ! - على رغم امتناع الكفاءة ، دلالة على جهل ابن طولون ؛ فمن ثم لم نجد في فقرته ما وجدناه في فقرة شاكر بين جمل الخصيم الباطش ( أبي الحكم ومنشاره ورجاله ) وجمل البطل ( عروة ) ، من تداخل .

لقد كانت ذروة المعمعة عند الرافعي ، من عمل الأسد وحده ، دلالة على انقطاع ما بينه وبين البطل ، فأما عند شاكر فلقد كانت ذروة المعمعة في توالي أعمال القطع من الطبيب ومساعديه ، وتوالي أعمال الصبر من عروة .

دَهْشَةُ الطَّبيبِ كَدَهْشَةِ الشُّهودِ

[23] ثم أخرج شاكر فقرته الخامسة ( دهشة الطبيب ) ، مخرج فقرة الرافعي الخامسة ( دهشة الشهود ) ، بحيث تكون بمنزلة الهالة تحيط بالبطل من كل جهة ، وتبهر من حوله ، وتزيد من الأثر الذي يريده .

ولكن أطرف ما اختلف فيه الكاتبان ، أن يخرج الرافعي الدهشة من  الشهود ، ولا يتجاوزهم إلى الخصيم الذي صار الآن ابن طولون نفسه ، إلا بعد ما يدل على أنهم أكثروا من دهشتهم حتى اضطر الخصيم إلى إظهار اندهاشه - على حين يخرج شاكر الدهشة من الخصيم صريحة واضحة :

" ما رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ ، يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ ! إِنَّه رَجُلٌ ، وَإِنَّها الْحَقيقَةُ الْمُؤْمِنَةُ ، وَإِنَّ إيمانَه لَيَحوطُه ، وَيُثَبِّتُه ، وَيُسَكِّنُه ، وَيَنْفُضُ عَنْهُ الْجَزَعَ " .

ينبغي ألا نغفل عن أن شاكرا نثر ابتلاءات بطله على أرجاء القصة ، فصحبتها دهشات متعددة مختلفة لم يحتج إلى الزيادة عليها ، ولكنه لما وصل إلى آخر فقر فصل الحدثان ، تحرى أن يجعل فضل البطل من شهادة خصيمه الذي لا يدين بدينه . ثم إن لكون فصل الحدثان آخر فصول قصة الرافعي ، أثرا في تكثيفه دهشة الشهود ، بعبارة من كلام البطل :

" لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ بَأْسٌ ، وَإِنَّما كُنْتُ أُفَكِّرُ في لُعابِ الْأَسَدِ ، أَهُوَ طاهِرٌ أَمْ   نَجِسٌ " .

إنها عبارة شديدة السخرية من الخصيم ، تظل عالقة بأسماع المتلقين ، لتملأ الدنيا فيما بعد .

عبارة الرافعي جملتان اسميتان منسوختان بأداتين فعليتين ( مضارعية محولة إلى الماضوية وماضوية صريحة ) ، ثانية الجملتين الاسميتين فيها أسلوب الإجمال والتفصيل الواضح عند الرافعي كما سبق - وعبارة شاكر خمس جمل : فعلية ماضوية ، وفعلية مضارعية موجزة ، وثلاث اسميات ، خبر ثالثتها جملة فعلية مضارعية ، معطوف عليها ثلاث مثلها ، لا يخفى ما بين الأربع كلها من تفصيل وترتيب وتأنق .

لقد تحرى الرافعي في عبارة بطله التي كَثَّفَ فيها فكرة الفقرة ، أن تدل بقصرها على سخرية البطل الشديدة من خصيمه ، التي لا تخلو من كمد عليه ، فأما شاكر فقد كان في بحبوحة من المشاعر التي يريد أن ينقلها للمتلقي ولا سيما غير المسلم ؛ فهو يزيد ويرتب ويتأنق !

تَرتيبُ الْفِقَرِ

[24] كما اتفقت بين الكاتبين فقر هذا الفصل ، اتفقت مواضعها ، حتى لَنَسْتَطيعُ أن نميز منها قسمين واضحين :

1   فقر التمهيد لمعمعة الحدثان : كانت عند الرافعي اثنتين ( صفة الأسد ، وهجمة الأسد ) ، وكانت عند شاكر ثلاثًا ( صفة الطبيب ، ويقين البطل ، ومجلس القطع ) .

2   فقر معمعة الحدثان : كانت عند الرافعي ثلاثًا ( ذهول الأسد ، ويقين  البطل ، ودهشة الشهود ) ، وكانت عند شاكر اثنتين ( عمل القطع ، ودهشة الشهود ) .

لا يخفى أَنه لولا موضع فقرة ( يقين البطل ) ، لتطابقت الفقر في مواضعها كما تطابقت في أنفسها .

ولا ريب في أن شرح ذلك اليقين بعد سطوع أثره على ما فعل الرافعي ، أقوى وضوحا وأنجع أثرا ، مثلما يعمل الرجل العمل الصالح ، ثم يدل الناس فيما بعد على إيمانه الذي حفزه إليه ؛ عسى أن يأتسوا به ، على مثل ما قص الحق - سبحانه ، وتعالى ! - من خبر سيدنا يوسف - عليه السلام ! - وصاحبي السجن ؛ إذ لم يدعهما إلى دينه إلا بعدما وُفِّقَ إلى تأويل رُؤْيَيَيْهما .

ولكن أين خصيم البطل عند شاكر ( الطبيب النصراني ) ، من خصيمه عند الرافعي ( الحيوان الأعجم ) !

لقد هجم الحيوان الأعجم على البطل لا يلوي على شيء ، ولا يماري ولا يباري ، فأما الطبيب النصراني فدعا البطل إلى الخَمْر مرة وإلى المُرْقِد ثانية وإلى المُمْسِكين ثالثة ؛ فاحتاج الكاتب إلى أن يبادر إلى تبيان يقين البطل ؛ ففي أعمال اليقين المتوالية ، علاج أعمال الخصومة متوالية .

خاتِمَةٌ

[25] إن حياة ثقافتنا العربية الإسلامية ، مستديرة مثل حَيَواتِ غيرها من الثقافات الكبيرة ، تتوالى فيها من قديم إلى حديث ، أحوالُ الوصال والهجران ، والاستيعاب والجهل ، والقوة والضعف .

وإن مصطفى صادق الرافعي وتلميذه محمود محمد شاكر ، مدرسة واحدة من استيعاب الثقافة العربية الإسلامية والإيمان بها والحرص عليها ، ثم التأتي إلى تعليمها والإغراء بمراجعتها - استحدثت أساليب أدبية متعددة مختلفة ، أثرت في المتلقين تأثيرا شديدا .

وإن في جلال الغاية التي أَمَّها الكاتبان ، وفي صدق معنى المدرسة الثقافية الواحدة بينهما ، وفي نجاح أحد أساليبها - ما يستغرق تأمل النحوي ، حتى يوازن بينهما موازنة نصية نحوية ؛ فيشرح من معالم الغاية والمدرسة والأسلوب ، ما يتقدم بدراسته النحوية في سبيل وعي علمي جديد .

ولقد تأملت نصوص الرافعي وشاكر من ذلك الأسلوب الناجح ، طويلا ، حتى عثرت لأحد نصوص شاكر القليلة على نص يلائمه مقدارا ورسالة ، من نصوص الرافعي الكثيرة . ثم تأملت هذين النصين طويلا ، حتى ظهرت لي بينهما الأربع عشرة مسألة ، التالية :

جَوامِعُ النَّصَّيْنِ ، وحُضورُ الْأَعْلامِ ، وصَوْتا الْكاتِبَيْنِ ، وتَفْصيلُ الْفُصولِ ، وتَرْتيبُ الْفُصولِ ، ونَسْجُ النَّصَّيْنِ ، وتَوْصيلُ الْفُصولِ ، ورَبْطُ الْأَقْوالِ ، وعَطْفُ الْمُتَشابِهاتِ ، وتَرْكيبُ الْمُفاجَأَةِ ، والإجمال ثم التفصيل ، جَوامِعُ الذِّرْوَتَيْنِ ، وتَفْقيرُ الْفِقَرِ ، وتَرتيبُها .

خَصَصْتُ النَّظَرَ في كُلِّ مَسْأَلَةٍ منها بمبحث ، حتى أَكَّدَ لي ما ذكرته بين الرافعي وشاكر ، من معنى المدرسة الثقافية الواحدة ( المذهب الثقافي الواحد ) ، ولكنه دلني كذلك على منهجين تنازعاهما بدقائق لوازمهما :

3   الِاسْتِبْطانُ الْمِثاليُّ الصّوفيُّ : منهج من الإمعان في تتبع دقائق الصفات الكامنة في العناصر القصصية ، يتحرك حركة عمودية من أعلاها إلى  أسفلها ، ومن أسفلها إلى أعلاها ، دَوالَيْك .

4   الِاسْتِبْطانُ الْواقِعيُّ الْفَنّيُّ : منهج من الإمعان في تتبع دقائق الصفات الظاهرة على العناصر القصصية ، يتحرك حركة أفقية من ورائها إلى أمامها ، ومن أمامها إلى ورائها ، دَوالَيْك .

انتهج هذا الأخيرَ شاكرٌ ، بعد ما انتهج ذلك الأولَ أستاذُه ، من دون أن يأتي اختلاف المنهجين الاثنين بينهما ، على معنى المدرسة الثقافية الواحدة .

حَواشي الْبَحْثِ

1        الشكعة : 50 .

2    السابق : 50 ، 51 . والعجب للدكتور الشكعة الذي عاصر الرافعي وشاكرا كليهما ، وعرف علاقة ما بينهما ، يضع كتابه هذا في سنة 1970م ، التي ملأت الدنيا فيها مقالات شاكر الشهيرة " أباطيل وأسمار " ، ويقول فيه : " هل يوجد بيننا الآن رافعي آخر - وقد بدأت الفرعونية والشعوبية والتطاول على القيم تطل بوجهها الكريه من جديد - لا يتهاون في عقيدته ولا يترخص في دينه ولا يتكاسل في الدفاع عن حمى لغته ولا يغضي أو يتغاضى إذا ما هوجمت علنا وعلى رؤوس الأشهاد - والشأن هذه الأيام أن يعتدى عليها - فيعلنها معركة فكرية مقدسة لإظهار سطحية وضحالة هؤلاء الذين يغمزون العربية وآدابها وهم منها في جهل مطبق وفراغ في كل شيء إلا من نفوس ملأها الحقد وأكلتها الكراهية " !

3    السابق : 96 . احتفى شاكر في مقدمته لكتاب " حياة الرافعي " للأستاذ محمد سعيد العريان ، بأن يَتَيَسَّرَ للأستاذ الكبير من تلامذته من يبره في تراثه ، كما بر محمد سعيد العريان أستاذه الرافعي ؛ فَيَسَّرَ له المِقْدارُ تلميذه الدكتور عادل سليمان جمال الذي بره في تراثه ، كفاء ما أثنى على السنة الحسنة ، وشارك فيها !

4        شاكر : 1/40 .

5        السابق : 1/111 .

6        السابق : 1/234 .

7        السابق : 1/251 .

8        السابق : 1/265 .

9        السابق : 1/272 .

10    السابق : 1/347 .

11    الرافعي : 1/103 .

12    السابق : 1/113 .

13    السابق : 1/124 .

14    السابق : 1/133 .

15    السابق : 1/143 .

16    السابق : 1/151 .

17    السابق : 1/221 .

18    السابق : 1/ 229 .

19    السابق : 1/237 .

20    السابق : 2/74 .

21    السابق : 2/82 .

22    السابق : 2/89 .

23    السابق : 2/96 .

24    السابق : 2/102 .

25    السابق : 2/110 .

26    السابق : 2/135 .

27    السابق : 2/143 .

28    السابق : 2/149 .

29    السابق : 2/154 .

30    السابق : 2/166 .

31    السابق : 3/45 .

32    السابق : 3/52 .

33    السابق : 3/45-51 .

34  هي في النص " إِذْ " ، ولا ريب - إن شاء الله - في صواب ما أثبت ؛ فلا أصالة لاستعمال " إِذْ " في المستقبل .

35    شاكر : 1/111-117 .

36  في النص زيادات توضيحية كثيرة من عمل الدكتور عادل سليمان جمال ، بين أقواس ، كزيادته " ( هو الوليد بن عبد الملك ) " ، بعد " أمير المؤمنين " هنا ، لم أر لها مكانا في مادة هذه الموازنة .

37    بين التَّرْجيعَتَيْنِ في النص واوٌ ، ولا موضع لها بين طرفي التوكيد .

38  الكلمة الكتابية كل عنصر كتابي من عناصر تركيب الفقرة الكتابي ، محوط من جانبيه بمسافتي بياض ، يعده الحاسوب كلمة واحدة ، مفردا لغويا كان في نفسه أو مركبا ، ولا بأس بهذا المنطلق هنا ما دام مُعَمَّمًا ، بل فائدة واضحة .

39  لا يفوتني أن أنبه على أن الكاتبين شاعران تركا الشعر للنثر . ومن علم شاكر أنه كان يعرف مكانته من الشعر ، مثلما كان يعرف مكانة الشعر منه ؛ فقد كشفت لنا   " جمهرة مقالاته " ، أنه كان يرى بمصر ثلاثة شعراء كبارا يستحقون التقدير ، ذكر اسمي اثنين منهما " علي محمود طه ، ومحمود حسن إسماعيل " ، وكتم ذكر الثالث ؛ فعرفت أنه يريد نفسه . وربما كان شاكر أشعر الثلاثة عند بعض الأدباء ! ولقد عاش شاكر حياته - ولا سيما في زمان شبابه الصعب - شاعرا عربيا مسلما متمسكا بثقافته ، مَكْروبًا بما انتهجه بعض الشعراء من منهج الكفر والفسوق والعصيان ، وكأنه منهج الشعر !

40  استقريت أعلام نص الرافعي في نصه وفيما أفهم من الثقافة العربية الإسلامية جميعا معا ؛ فكان تصنيفها على النحو المجدول التالي :

أعلام الرافعي

معانيها

حالاتها الإعرابية

المجموع

الرفع

النصب

الجر

1

الله

العقيدة

7

2

7

16 (25%)

2

أحمد بن طولون

السلطان

4

1

6

11

16

(25%)

خمارويه بن أحمد

2

 

1

3

المأمون

 

 

1

1

نوح بن أسد

1

 

 

1

3

أحمد بن محمد

الزهد

5

 

 

5

15

(24%)

بنان

1

1

3

5

بكار بن قتيبة

 

 

2

2

الجنيد

 

 

2

2

يوسف بن الحسن

 

 

1

1

4

مصر

العز

 

 

5

5

14

(22%)

بغداد

 

 

3

3

الري والجبال

 

 

2

2

طرسوس

 

 

2

2

أنطاكية

 

1

 

1

بخارى

 

 

1

1

5

أحمد بن عبد الله

العلم

 

1

 

1 (2%)

6

طولون

الذل

1

 

 

1 (2%)

المجموع

21

6

36

63

 

41    كذلك فعلت بأعلام نص شاكر ؛ فكان تصنيفها على النحو المجدول التالي :

أعلام شاكر

معانيها

حالاتها الإعرابية

المجموع

الرفع

النصب

الجر

1

الله

العقيدة

30

4

36

70

81

(42%)

رسول الله

2

5

 

7

أبو بكر

 

2

 

2

أسماء بنت أبي بكر

1

 

 

1

الزبير بن العوام

1

 

 

1

2

عروة بن الزبير

الزهد

10

15

10

35

37

(19%)

أبو صعصعة

 

2

 

2

3

أمير المؤمنين

السلطان

11

11

3

25

26

(13%)

سليمان بن عبد الملك

1

 

 

1

4

أبو الحكم

الحرية

12

4

 

16 (8%)

5

عمر بن أبي ربيعة

الغزل

4

10

 

14 (7%)

6

محمد بن عروة

الفتوة

7

2

1

10

14

(7%)

هشام بن عروة

2

1

 

3

عبد الله بن عبد الله

1

 

 

1

7

عمر بن عبد العزيز

العدل

3

 

 

3 (2%)

8

القاسم بن محمد

الهمة

1

 

 

1 (1%)

9

المدينة

العز

 

 

1

1 (1%)

المجموع

86

56

51

193

 

42    الرضي : 2/131-132 .

43    ابن منظور : علم .

44    يستفاد ذلك من مقدمة الأستاذ محمد سعيد العريان ، لـ" وحي القلم " .

45    يستفاد ذلك من تأريخ الدكتور عادل سليمان جمال ، للمقالات التي جمعها .

46    ابن مالك : 117 .

47    الجرجاني : 243 ؛ فقد شرح القانون المتصرف في وجوه عطف الجمل واستئنافها .

48    العلوي : 3/38 ، وإن لم يستوعب أنواع الموازنة التي أجملتها كلها ، ونبه على ذلك .

49  قد أحصيت من الموازنة للرافعي تسعا وعشرين عبارة ، ولشاكر عشرين ، من مثل ما نبهت عليه ، وهي لا تنحصر بين المعطوف والمعطوف عليه ، بل تكون بين المنعوت والنعت ، والمشبه والمشبه به على وجوه مختلفة من التركيب ، وبين الجمل المتجاورة غير المتعاطفة .

50    ابن مالك : 3/351 ، 357 .

51    ابن جني : 2/370-371 ، وهو عنده من شجاعة العربية .

52  العلوي : 2/407 ؛ فقد ذكر " الإجمال والتفصيل " و" اللف والنشر " ، ذكرا واحدا ، من بعد أن جعل " اللف والنشر " ، هو الصنف السادس من صنوف " الفصاحة   اللفظية " ، التي جعلها النمط الأول من البديع - ثم جعل " الإجمال والتفصيل = اللف والنشر " ، " يُطْلَقُ اتِّكالًا عَلى قَريحَةِ السّامِعِ في رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ إِلى ما يَليقُ بِه " . وإنما  " اللف والنشر " على ما شرح العلوي ومَثَّلَ ، وَجْهٌ من " الإجمال والتفصيل " .

53    ابن مالك : 3/351 ؛ فقد نبه على اختصاص الفاء بعطف المفصل على المجمل .

كُتُبُ الْبَحْثِ

-         ابن جني ( أبو الفتح عثمان ) : " الخصائص " ، تحقيق محمد علي النجار ، وطبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الثالثة في 1987م .

-    ابن مالك ( جمال الدين محمد بن عبد الله الطائي الأندلسي ) : " شرح التسهيل " ، تحقيق الدكتور عبد الرحمن السيد والدكتور محمد بدوي المختون ، وطبعة دار هجر بالقاهرة ، الأولى في 1410هـ= 1990م .

-    الجرجاني ( أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن النحوي ) : " دلائل الإعجاز " ، قراءة أبي فهر محمود محمد شاكر ، وطبعة المدني ، ونشرة الخانجي بالقاهرة .

-         الرضي ( محمد بن الحسن الإستراباذي ) : " شرح الكافية في النحو " ، نشرة المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية ، دون بيان آخر .

-         الرافعي ( مصطفى صادق ) : " وحي القلم " ، طبعة دار المعارف بمصر ، الثانية .

-         شاكر ( محمود محمد ) : " جمهرة مقالاته " ، طبعة الأولى الخانجي بالقاهرة ، الأولى في 2003م.

-    الشكعة ( الدكتور مصطفى ) : " مصطفى صادق الرافعي كاتبا عربيا ومفكرا    إسلاميا " ، طبعة 1978م الثانية ، ونشرة عالم الكتب ببيروت ومكتبة المتنبي بالقاهرة .

-    العلوي ( يحيى بن حمزة بن علي ) : " كتاب الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز " ، طبعة 1400هـ = 1980م ، ونشرة دار الكتب العلمية ببيروت .

              

* ربما كان غريبا ألا يكون في كتب بحث نصي نحوي كهذا ، كتاب واحد من كتب علم النص أو علم نحوه ! ولكنني على رغم انتفاعي المستمر بها ، لم أستفد من أي منها في هذا البحث استفادة مباشرة تفسح له فيه مكانا.


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة   العلوم الاجتماعية