تتسم العلاقة بين النقد الثقافي والنقد الأدبي بالعموم والخصوص ، من حيث ارتكاز
النقد الأدبي على حصيلة موغلة في معطيات النتاج الإنساني عبر قرون خلت ، وقد مرّ
هذا النتاج في سلسلة متعرجة كان الهدف منها محاولة الاكتشاف الدائم لجماليات النصوص
، وإدراك الدلالات والمعاني وعندما أعلن الناقد تحرره من قيود النقد الأدبي وخروجه
من أطره الضيقة اتجه نحو التعدد ، وانتقل من الصوت الواحد إلى الصوت المتعدد ، من
الرؤية التي لا تجد إلا نفسها إلى الأفق الذي يشمل جميع الرؤى .
وقد كانت لإفرازات الساحة السياسية الدولية أثرها في صياغة مشاريع المعرفة وتوجهات
الثقافة المعاصرة ، فقد تحولت المعرفة من نتاج حضاري مخصوص ومحدد في بيئة معينة ،
إلى نتاج مهيمن وآخر غير مهيمن ، واصطبغت توجهات الثقافة بنموذج واحد يتم تسويقه
وتصديره إلى ثقافات العالم المتنوعة ، وفي خضم ذلك ولدت العولمة لتعلن براءتها من
كلّ محليّ وإقليميّ ، ولتشيع دمج الهويات الوطنية ومسخها ، فضلاً عن دعوتها إشاعة
النتاجات العلمية والمعرفية والثقافية ، وكسر الحدود المصطنعة بين أجناسها .
وانطلاقاً من الدعوات السابقة حاول الناقد الخروج من دائرة النقد الأدبي الضيقة ،
والدخول في ميادين الساحة الثقافية الممتدة والواسعة ، فنشأ النقد الثقافي المتسم
بالشمولية والموسوعية ، متجاوزاً المدركات غير المسؤولة في تأويل النصوص وتحليلها .
إنّ النقد الثقافي لا يستمد مسيرته من تجاوز الممارسات النقدية بل يحتضنها ، ويعمل
على بلورتها ، وتهيئتها لاستقبال معطيات الممارسات الاجتماعية والاقتصادية
والسياسية والإثنية وحتى النفسية ، وعماده في ذلك ما قدمته الممارسات النقدية من
جهد معرفي على صعيد الناص والنص والمتلقي حسب اختلاف تشكلات مناهجها النقدية ،
وتنوع آليات التحليل ، وأساليب كشف الجماليات .
وإذا كان للنقد الثقافي فاعلية وانتشار فهذا لا يعني في المقابل انحسار النقد
الأدبي وقوقعته -على العكس -ويرجع ذلك لأسباب عدة منها : كون النقد الثقافي متأثراً
بموجة العولمة وما يتبعها على الصعيد المعرفـي والثقافـي ، وقـد تكون هذه الموجـة
محددة بفترة زمنيـة قد لا تطول ، لأنّ بعض المفكرين الآن يتحدثون عن مرحلة ما بعد
العولمة ، مما يعطينا شرعية معرفية في الحديث عن مستقبل النقد الثقافي ما بعـد
انهيـار العولمة ، أو الحديـث عن مرحلة ما بعد النقد الثقافي ، ومن جهة أخرى فإنّ
للنقد الأدبي إرثاً تاريخياً ممتداً ، ومرجعاً علمياً معرفياً ابتدأ مع الذوق
الأدبي الفرديّ وتطور مع التحليل العلمي ، أما النقد الثقافي فقد بدأ فتياً مع
إفرازات التوجهات المعاصرة الداعية إلى محو الثقافات الوطنية والتوجه إلى ثقافة
عالمية متمركزة حول نتاج واحد ، ولا اعتقد أنّ هناك انحسارا للنقد الأدبي على حساب
تطور النقد الثقافي وانتشاره ، لأنّ هذا الأخير لا يشكل سوى ( موضة ) نقدية أملتها
مقتضيات العصر ، سرعان ما يتم الابتعاد عنها أو تجاوزها أو عدم الاهتمام بها ، بسبب
عدم امتلاكها لمدركات التحليل أولاً ، وانحسار النقاد الذين يتسمون بالشمولية
والموسوعية والفكر الواسع المتقد ثانياً ، ولعلنا نتفق على أنّ الساحة العربية
-التي ورثت عصوراً من النقد الأدبي الأصيل -لم تتحدث عن النقد الثقافي إلاّ بعد
الحديث عنه في الدوائر الثقافية الغربية التي لم تدخر جهداً في توليد المصطلحات تلو
المصطلحات في حركة علمية لا تعرف التريث ، وهذه السمة أرهقت الجهد العلمي العربي
المتذبذب حيناً والمتريث حيناً آخر ، فمن الحداثة والتجديد إلى ما بعد الحداثة ،
ومن البنيوية إلى ما بعد البنيوية والتفكيكية ، ومن الدراسات التاريخية إلى
التاريخانية ، ومن الثقافة إلى الدراسات الثقافية والنقد الثقافي ، وبين هذا وذاك
مساحة عريضة ومتسعة من المفاهيم والمدركات والآراء والتوجهات .
وإذا كان العديد من النقاد الغربيين من ذهب إلى توحيد مصطلح النقد الثقافي مع
مصطلحات أخرى مثل نقد ما بعد البنيوية ونقد وما بعد الحداثة ، فإنّ الساحة العربية
لم تمتلك زمام النقد الثقافي بعد ، لا لأسباب تتعلق بإمكانية النقد العربي على
المتابعة والمواصلة ، بل المسألة تتعلق بإجراءات وحيثيات النقد الثقافي وشموليته ،
وتأثره بطروحات ما بعد الحداثة ، والتفكيكية والدراسات الاجتماعية والثقافية
والنسوية والكولونيالية والعولمة ونحو ذلك ، والنماذج العربية التي حاولت الحديث عن
النقد الثقافي لم تستطع الخروج عن التوصيف والعرض وبيان الآراء ثم تحديد الرهانات
والمزالق وصيغ الاختلاف والتطابق مرة
-
كما في نموذج عبد الله إبراهيم-،
أو محاولة التبني والتأثر المبالغ فيه ، ودعوة الإندماج ومسايرة ركب الحضارة
والدخول في مشاريع عولمة الخطاب وتمرير قيم الانبهار -كما في نموذج عبد الله
الغذامي -.
إنّ النقد الثقافي الآن لا يتجه نحو الإستقلالية عن النقد الأدبي بل على العكس ،
لأنّه يحتويه ويدعو إلى تطوير آلياته من خلال تفعيل أدواته النقدية ، والدعوة إلى
كسر الحواجز المصطنعة بين العلوم الإنسانية ، ولذلك لم يرق النقد الثقافي بعد إلى
أن يتحول من مرحلة العطاء الفتيّ إلى مرحلة الإستقرار المنهجيّ ، لأنّ المنهج طريقة
في التفكير العلمي ، يستند إلى مجموعة من آليات التحليل والكشف ، ويلجأ إلى صيغ
معرفية اصطلاحية تؤسس لمسيرته ، وعليه يمكن عدّ النقد الثقافي طرقاً إجرائية -تقترب
من العلمية -لقراءة النصوص على اختلاف توجهاتها ، وكشف جمالياتها ، ومعرفة
مرجعياتها .
ولا يمكن عدّ النقد الثقافي نظرية في تحليل النص ، لأنّه لم يلجأ إلى الصيغ
المختبرية الافتراضية التي تؤسس له ميدانه النظريّ ، لأنّ النظرية تتكامل بتوفر
شروط ثلاثة : ( صياغة افتراضات ، وصناعة مفاهيم ، وإنشاء مصطلحات ) ، وهذه الشروط
لم تعلن ولاءها بعد لإنتاج أبعاد نظرية في تحليل النصوص واختبارها ، ويقودنا ذلك
للحديث عن فجوات اختبار هذه النظرية للنصوص ، وعدم إحاطتها بالكفاءة العلمية التي
يمكن أن تشهدها نظريات أخرى في ميادين قريبة أو بعيدة من النقد الثقافي .
وفي هذه الإطار أرجو تحطيم صنمية : ( البداية والنهاية ) فلا بداية ولا نهاية في
الأسهم الأدبية والنقدية ، وذلك لأنّ النتاج الأدبي والنقدي هو حياة ، وهذه الحياة
لا تتوقف ، والحديث عن نهايتها هو حديث عن موتها ، والحديث عن موتها هو حديث
فنتازيّ لا يمتلك أسباب بقائه ، لأنّ خصائص النتاجات الأدبية والنقدية : أنّ أحدها
يكمل الآخر ، ويأتي انتاج اللاحق بوصفه ركناً مكملاً أو مغذياً أو ناقداً أو شارحاً
للنتاج السابق ، ويمكن القول أنّ خصوصية النقد الأدبي تكمن في قراءته ( النص
) ، في حين تكمن خصوصية النقد الثقافي في قراءته ( النسق ) ، والدعوة
الحاصلة في الإنتقال من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي هي دعوة للانتقال من تحليل
النص إلى تحليل نسقه ثم بيان وظيفته .
وإذا كانت الإبستومولوجيا قد خيمت على معطيات الدرس المعرفي والاجتماعي والسياسي
تنظيراً وشرحاً وتحليلاً ، فإنها لن تستطيع إخفاء خصوصية الساحة النقدية والأدبية
وإن امتزجت بها ، وسيبقى ميدان النقد الأدبي ممتلكاً أسباب بقائه بوصفه ميداناً
للإبداع ، وساحة للتوالد مع تجدد المفهوم،وتطور المصطلح،وتشظي الدلالة.
إنّ ميزة الفكر الإنساني هو فكر إبداع الظواهر وتحويلها إلى إمكانيات دينامية تعمل
بشكل مطرد على نبذ (السكون) والتفاعل الدائب مع (المتحرك)،ولذلك فإنّ النقد الثقافي
ظاهرة تمّ الحديث عنها من خلال إفرازات الفكر العالمي الذي يشع هيمنة وسطوة في
الدوائر المعاصرة ، وتتسم هذه الظاهرة الهجينة بمحدودية الزمان والمكان قياساً
للجهد غير المحدود للدراسات النقدية والأدبية الأصيلة ، إنّ القضايا التي يعالجها
خطاب النقد الثقافي ستكون عرضة -يوماً ما -للمساءلة المعرفية نظراً للتواطؤ المهيمن
على أنشطته ، وتحيزه المسجل لصالح بعض الدوائر الثقافية التي تمتلك أسباب بقائه.