(كان مجهود المرشد العام موزعاً على عدة نواح أهمها: مهنته التي يكتسب منها عيشه، وإدارة شؤونه الخاصة من رعاية منزل وأسرة وأولاد ثم الدعوة ..

أما مهنته؛ حيث كان مدرساً بمدرسة عباس الابتدائية بالسبتية، فكان لها وقت محدد كطبيعة العمل، لم يكن ينتقص منه لحظة بل كان يؤديه كله بأمانة.. ولم يؤثر عنه أنه تأخر يوماً عن ميعاد أو أهمل في أداء عمل أو قصر عن المثل الأعلى للمدرس، بل إنه كان يرى في عمله لذة ويحس فيه سعادة لأنه كان يعتقد أنه إنما خلقه الله ليكون مربياً، وقد أهله لذلك تأهيلاً كاملاً؛ فكان يرى في المدرسة حقل تجارب لنظريات التربية القديمة والحديثة، ولنظريات تربية وصل إليها بفكره الخاص؛ حيث تضم المدرسة التلاميذ والمعلمين والفراشين وهم من مختلف البيئات والمشارب والعقليات والظروف والأعمار.

وكان مما حدثني به فيما يتصل بذلك؛ أنه كان عليه في فترة من الفترات أن يراقب التلاميذ في أثناء (الفسحة) وكان الأستاذ (تقلا بك) أول مراقب مسيحي في هذا المنصب في وزارة المعارف، قد حضر إلى المدرسة في ذلك اليوم.. وكان رجال الوزارة يحرصون على التعرف بالأستاذ المرشد حين يحضرون إلى المدرسة.. وكان الأستاذ المرشد يعلم أن التعليمات المبنية على نظريات التربية الحديثة تمنع الضرب في المدارس، لكنه أمسك بمسطرة باعتبارها عصا في يده وتعمد إبرازها أمام المراقب حتى يسأله في ذلك؛ وكان أن سأله فعلاً فشرح له شرحاً أثبت خطأ هذه التعليمات، وأن تربية التلاميذ في هذا السن لابد أن يكون الضرب غير المبرح من وسائلها، على أن يكون بقيود معينة حيث هناك من الطباع ما لا يقوم بغير العصا.

وحسبك دليلاً على نجاح سياسته في هذه المدرسة، أن تعلم أنه كان موضع حب جميع التلاميذ والمدرسين والناظر والفراشين واحترامهم، وأنهم جميعاً أحبوا دعوته لحبهم لشخصه، وكان الجميع يتمنون أن يكونوا في خدمته ليوفروا له الوقت للقيام بأعباء الدعوة، لكنه كان حريصاً على أن يقوم هو بنفسه بعمله المدرسي كاملاً، وأن لا يكلف أحداً بحمل أي عبء عنه.

ولقد كنا نحتاج إليه في أمر هام يخص الدعوة في وقت يكون هو فيه في المدرسة، فنتصل بالمدرسة تليفونياً أو نذهب إلى المدرسة لمقابلته، وفي كلتا الحالتين إذا كان طلبنا إياه قد صادف وجوده في حصة من الحصص، كان يقول لمن ذهب ليبلغه بوجودنا لمقابلته، أو يبلغه أننا نطلبه على التليفون:

قل لهم أنه في الحصة ولا يستطيع مغادرة الفصل حتى تنتهي الحصة، فنضطر إلى الانتظار حتى تنتهي لنقابله أو نتحدث إليه في التليفون في فترة الاستراحة بين الحصتين.

وأما شؤونه الخاصة فكان يرعاها حق الرعاية، فلم نسمع بشقاق عائلي في أسرته، كما أن أولاده كانوا يحظون منه بما يحظى به الأبناء من والد مثالي، نعم كان الوقت الذي يقضيه في بيته ضئيلاً إلا أن زوجته كانت معواناً له على الدعوة.

أما الدعوة فكانت هي محور حياته، بل هي حياته كلها، لم يكن يشغله عنها شاغل في ليل ولا نهار، كانت ملء عقله وقلبه لا مكان فيها لشيء آخر.

.. لم أقدر النبوة حق قدرها إلا لما رأيت هذا الرجل، وجلست إليه، ولازمته وعاشرته.. حينئذٍ بدأت أحس بقدر النبي ومكانته، فرجل كحسن البنا هو دون الأنبياء، ومع ذلك فإن الدعوة شغلته بل صهرته حتى أخرجت منه صورة مجسمة لها؛ فإذا تكلم بالدعوة وللدعوة، وإذا سكت كان سكوته أسلوباً آخر للدعوة، وإذا تحرك فلها، وإذا سكن فلها، وإذا أحب فلها، وإذا أبغض فلها، وإذا ضحك فلها، وإذا بكى فلها ... فكيف بالنبي الذي صنعه الله على عينه؟!

.. لذا كان مقام النبوة جديراً بقول الله عز وجل (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) (الأحزاب: 21).

.. وهؤلاء من أمثال (حسن البنا) هم ورثة الأنبياء، لا أولئك الذين وإن تمرسوا بعلوم القرآن والسنة فإنهم لم ينفعلوا بها انفعالاً أنساهم ما سواها، ولن ينفعلوا بالفكرة الإسلامية إلا من اختلطت بدمه فصارت أساس تفكيره، وميزان حياته، وانحصرت في أفقها كل آماله، وصار كل مر من أجلها حلواً في حلقه.

إن أصحاب الدعوات لا ينبغي أن نسوي بهم العباقرة؛ فالعبقرية لاشك إحدى صفاتهم، لكنهم صنف من الناس أوتوا بصيرة نافذة، وقلوباً حية واسعة، وألسنة تنطق بالحكمة البالغة، فهم يرون ما يعجز الناس عن رؤيته.. ومع ذلك فهم قادرون على إقناع الناس بما يرونه مما لا يراه الناس.. والناس يقتنعون بكمال خلقهم قبل أن يقتنعوا بقوة حجتهم، وطلاقة ألسنتهم..

تجلس إليهم وأنت غير مكترث إلا بنفسك، بل قد تكون لاهياً هازلاً، فتحس بعد قليل أن تياراً دافئاً أخذ ينساب في داخلك فيشيع الدفء في جانبك، ثم لا يلبث هذا الدفء أن تشتد حرارته حتى إن حرارته لتذيب جمود نفسك، وتشعل في أعماق قلبك آمالاً كانت خابية تحت أطباق من الثلوج.. وترى عقلك الذي كان زمامه بيد اللهو قد استدار دورة ألقى فيها بسالف أفكارك في زوايا النسيان، وانفتح لأفكار جديدة تستجيب لصدى ما تحرك في قلبك من جمود نفسك.. وتقوم من مجلسك شخصاً آخر غير الذي كنت، ويتغير مجرى حياتك بهذه الجلسة، فتقوم وهموم المجتمع الذي أنت فيه هي شغلك الشاغل وهمك القاعد المقيم، بعد أن كنت لا تكترث إلا بنفسك...

وذلك بأن هؤلاء الناس طراز خلقهم الله وفي قلوبهم مراجل تغلي لا يهدأ غليانها، فهي تشيع الحرارة حيث كانت، وتذيب الجمود، وتبعث الحياة فيما حولها وفيمن حولها.. ومهما سكبت على هذه المراجل من ثلوج الدنيا فإنها تذوب والمراجل لا يهدأ لها أوار..

هي قوة دافعة خلقت لتدفع ولا تندفع، ولتؤثر ولا تتأثر.. قلوبهم مستودع الحياة تسكبه على من حولها من الموتى فيحيون، ويحس كل واحد منهم بلذة الحياة بعد الموت.. هؤلاء الناس يعطون دائماً ولا يأخذون، ويمنحون ولا يستمنحون.

هذا في أصحاب الدعوات أياً ما كانت الدعوات؛ أما إذا كانت في ذاتها تحمل كل معاني الحق والصدق، فإن شخصية الداعية تكتسب من صدق دعوته قوة على قوة، ولا يستطيع أحد في هذه الحالة أن يقاوم صاحب هذه الدعوة بالحجة والبرهان، ولا يجد أمامه من وسائل المقاومة إلا الجحود والكذب والنكران، ثم وسائل العنف والعسف والجهل والاضطهاد.

هكذا كان (حسن البنا) صاحب دعوة وهبه الله قوة أصحاب الدعوات، وزاده قوة أن دعوته في ذاتها حق لا مرية فيه (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) (فصلت:42).

ولذا كان إيمان (حسن البنا) بدعوته إيماناً تزول الجبال ولا يزول.. كنت إذا رأيته لم تر إلا دعوته، وإذا تحدثت إليه لم تسمع إلا دعوته.. حتى فكاهته، وما كان أجمل فكاهته، وما كان أسرع بديهته.. حتى الفكاهة؛ لم تكن إلا في صميم دعوته، تخرج من سماعها وقد أضفت جديداً إلى عقلك وقلبك وإيمانك.

نعم إن آمال هؤلاء من الدعاة تبدأ حيث تنتهي آمال جيلهم.. لقد تعرفنا على (حسن البنا) في أواسط الثلاثينيات، فسمعنا منه كلاماً عن المستقبل المأمول طالما قوبل من أكثر الناس حينذاك بالاستخفاف والاستهزاء والسخرية.. وإني لألتمس لهؤلاء الناس العذر؛ فقد ظهر (حسن البنا) في وقت خيم فيه الظلام الحالك، فلا يستطيع أنفذ الناس بصيرة أن يرى أبعد من أنفه، كانت مصر لا أقول تئن تحت الاحتلال البريطاني، كلا بل إنها كانت مستكينة لهذا الاحتلال وادعة مسترخية.. كان الحكام يسبحون بحمد الاحتلال.. وكان الشعب يسبح بحمد هؤلاء الحكام، وكان المثل السائد على ألسنة الناس هو الذي يقول: ليس في الإمكان أبدع مما كان، وكنت تسمع من المثقفين ومن شباب الأحزاب إذا أنت حاولت انتقاد الحكام قولهم:

 لا تعاند من إذا قال فعل.

لم تكن مهمة الأحزاب تتعدى التطاحن فيما بينهم على المناصب، فكانوا في ذلك أشبه بسواد الشعب الفقير حين يتهافتون على ما تلقيه معسكرات الإنجليز من بقايا الطعام، فيعتبر من يحظى بقسط من هذه (الزبالة) نفسه فائزاً قد نال قصب السبق..

كذلك كان الذي يحظى من الحكام بكلمة رضا من رجال السفارة الانجليزية يعتبر نفسه قد حقق أمنيته وبلغ الجبال طولاً، ويقبل عليه زملاؤه بالتهاني يغبطونه على هذا الفوز العظيم، ولم تكن السراي أحسن من هذه الأحزاب.

أما الأزهر، وهو المصدر الوحيد الذي يتلقى الناس منه تعاليم دينهم، فإنه كان أداة طيعة في يد المستعمر عن طريق الحكام.. نشر في الناس صورة باهتة مشوهة للإسلام، فكان معنى الإسلام في نظر الناس بفضل الأزهر لا يتعدى طقوساً تؤدى داخل المساجد أو في البيوت، وكادت الاستكانة أن تكون مرادفة للإسلام في نظر الناس.

ويمكن إجمال وصف الوقت الذي ظهر والأمة ميتة تماماً لا حراك بها، فإذا خرجت عن دائرة مصر لترى ما حولها من دول عربية وإسلامية، وجدت كل شعب من هذه الشعوب يغط في نوم عميق، والاستعمار أخذ بخناقهم جميعاً، وقد فقد الجميع كل شيء حتى الإحساس بالظلم؛ كما أن شعب كل دولة من هذه الدول يجهل كل شيء عن شعوب الدول العربية والإسلامية الأخرى؛ بل كان المصري على سبيل المثال يعرف الكثير عن البلاد الغربية ويزورها، ولا يعرف شيئاً عن بلاد شقيقة متاخمة لبلاده، ولا يخطر بباله أن يزورها، وكذلك كان شعور سكان البلاد العربية والإسلامية الأخرى نحو مصر ونحو بعضها بعضاً.

ولذا فإنها كانت مفاجأة مذهلة أن سمع الذين استقروا في أجداثهم - وارتضوها مساكن لهم - صوتاً كالرعد يناديهم أن قوموا من أجداثكم، ومزقوا أكفانكم، وانفضوا التراب عن أجسامكم، فإن أماكنكم التي أرادها الله لكم هي فوق السحاب لا تحت التراب؛ ألستم ذرية الذين قال فيهم "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"؟!

.. سيروا ورائي لنحطم الأغلال، ونبدد سحب الظلام، لننشر النور في الآفاق.. قوموا لننسف بروح الإخوة التي سجلها الله لكم في كتابه ما اصطنع المستعمر من حواجز وهمية بينكم وبين إخوانكم المسلمين في بقاع الأرض، فالمسلمون أمة واحدة (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء:92).

أكثر الذين اخترق آذانهم هذا النداء استقبلوه استقبالهم لحلم كاذب لا يستحق إلا الامتعاض والإعراض، وحمله آخرون على أنه هذيان مخبول من حقه عليهم أن يدعوا الله له بالشفاء؛ ولم يقع في موقعه إلا من قلة هي التي كان عندها علم من الكتاب، وهذه القلة الواعية دائماً هي فريق من المطحونين المستضعفين.

               


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة   العلوم الاجتماعية