المقدمة: إذا كان الإنسان، بطبعه، خاضعاً للتطور باعتباره سنة الطبيعة، فإن نظرته للفن والجمال تتغير أيضا، بل يجب عليها أن تتغير. ومن مظاهر هذا التغير في المجال الأدبي تطور الإبداعات في مجال السرد مثلا. وهو تطور صاحبته ثورة في طرائق نقده ودراسته وتحليله... وهكذا ظهرت عدة مناهج تتبنى مبادئ معينة في مقاربة العمل الأدبي السردي منها، على سبيل التمثيل لا الحصر، المنهج الاجتماعي والمنهج النفسي وغيرهما. وسنحاول في هذا العرض الموجز التعريف بمنهج بات يصطلح عليه بـ "المنهج البنيوي" 1.

ليست البنيوية فلسفة، لكنها طريقة في الرؤية ومنهج في معاينة الوجود، ولأنها كذلك فهي تثوير جذري للفكر وعلاقته بالعالم وموقعه منه وبإزائه .(2)

لقد بات معروفا أن البنيوية نهضت على أساس لغوي، مستعينة بالنماذج اللغوية، وخاصة النموذج السويسري، الذي ميز بين الكلام واللغة بوصفها نظاما، وهي بالتالي تقدم نموذجا لتحليل الأعمال الفنية نشأ في مناهج علم اللغة المعاصر .

و من هنا قامت البنيوية على التصور القائل بأن علم اللغة يمكن أن يكون مفيدا في دراسة الظواهر الإنسانية، وهو التصور الذي يقوم على فكرتين أساسيتين هما:

- أن الظواهر الاجتماعية والثقافية ليست مجرد موضوعات وأحداث مادية، بل هي موضوعات وأحداث ذات معنى ومن ثم فهي علامات.

- هذه الظواهر يمكن تحديدها عبر شبكة علاقات داخلية، مما يجعل من إنتاج المعنى شيئا ممكنا .

مفهوم البنيوية

نستهل بحثنا هذا بتسليط الضوء على مفهوم البنيوية منطلقين من الدلالة اللغوية لها، بحيث أتت من(بنى، يبني بناء، أي الشكل والصورة والكيفية التي شيد عليها بناء ما) (3) . وهي أيضا كيفية البناء والتركيب . أما في مقامنا هذا، فنحن لا نعني بالبنية عملية البناء نفسها أو المواد التي تتكون منها، وإنما نعني بذلك كيفية تجميع وتركيب وتأليف هذه المواد لتكوين الشيء، وخلقه لوظائف وأغراض معينة . أي أنها التصميم الداخلي للأعمال الأدبية بما يشمله من عناصر رئيسة متضمنة الكثير من الرموز، والدلالات بحيث يتبع كل عنصر عنصرا آخر. (4)

ويرى دي سوسير أن البنيوية مد مباشر من الألسنية وذلك منذ أن أخذ بتعريف اللغة على أنها: (نظام من الاشارات ولا تكون ذات قيمة الا اذا كان صدورها للتعبير عن فكرة أو لتوصيلها) . (5)

وتنبثق البنيوية من خلال هذه الأفكار اللسانية لتتصدر دراسة الأدب في فرنسا وأمريكا (وكذلك الانثروبولوجيا حيث درس ليفى شتراوس الأساطير بناء على مفهومات البنيوية_وكذلك علم النفس على يدي بياجيه) وتربط البنيوية النص في رباط ممتد من العلاقات المتداخلة حتى لكأنها تطبيق لمقولة مالارميه: إن (الكتاب امتداد كامل للحرف) . (6)

ولعل هذا التداخل المعقد هو ما جعل تعريف (البنيوية) أمرا صعب التحديد حتى بدت وكأنها تصور ذهني يستحيل تبيانه . ولكن (بياجيه) يطرح لها تعريفا يكاد يشفي غليل كل متطلع الى نعريف محدد وذلك حين قال: (أن البنية تنشأ من خلال وحدات تتقمص أساسيات ثلاث) وتتمثل البنيوية في ووحداتها الثلاث وفقا لبياجيه:

1- الشمولية: تعني التماسك الداخلي للوحدة، بحيث تصبح كاملة في ذاتها، وليست تشكيلا لعناصر متفرقة.

2- التحول: البنية غير ثابتة وتظل توّلد من داخلها بنى دائمة التوثب ولجملة الواحدة يتمخض عنها آلاف الجمل التي تبدو جديدة.

3- التحكم الذاتي: أن تعتمد البنية على نفسها لا على شيء خارج عنها .

(وهذه النظرة التكاملية في تصور الوحدة تخدم في تقديم العمل الادبي لا على أنه ناقلة للمعنى ولكن على أنه قيمة جوهرية ذاتية التولد وذاتية التحول وبشكل مطلق على ـنه ذاتي الاعتبار ولا حاجه له الى ما هو خارج حدوده ليقرر طبيعته وهذه هي البنية في مصطلحات بياجيه) . (7)

نستنتج مما سبق أن مفهوم البنيوية عند:

- دي سوسير هو الوصول الى أربعة كشوف هامة تتضمن: مبدأ ثنائية العلاقات اللفظية أي (التفرقة بين الدال والمدلول)، ومبدأ اولوية النسق او النظام على العناصر، ومبدأ التفريق بين اللغة والكلام، ومبدأ التفرقة بين التزامن والتعاقب .

- جاكبسون من المدرسة الروسية الشكلية التي من أهم آرائها "تحرير الكلمة الشعرية من الاتجاهات الفلسفية والدينية والانطلاق من " دراسة العمل الأدبي في ذاته "، فهي تؤكد "أن العمل الأدبي يتجاوز نفسية مبدعه، ويكتسب خلال عملية الموضعة الفنية وجوده الخاص المستقل

- تعني البنيوية عند جورج لوكاش: استخدام اللغة بطريقة جديدة بحيث يثير لدينا وعياً باللغة من حيث هي لغة، ومن خلال هذا الوعي يتجدد الوعي بدلالات اللغة، هذا الوعي الذي تطمسه العادة والرتابة .

- لقد حدد لوسيان جولدمان (1913-1970) وهو فرنسي من أصل روماني البنيوية التوليدية على أنها المنهج الذي يحلل النص الأدبي بوصفه بنية إبداعية تخبئ تحتها بنية اجتماعية . وقد أصدر جولدمان عدداً من الكتب المتصلة بقناعاته البنيوية منها: الإله الخفي وعلم اجتماع الإبداع الأدبي ومن أجل علم اجتماع الرواية (8) .

-  يرى جميل حمداوي أن البنيوية طريقة وصفية في قراءة النص الأدبي تستند إلى خطوتين أساسيتين وهما: التفكيك والتركيب، كما أنها لا تهتم بالمضمون المباشر، بل تركز على شكل المضمون وعناصره وبناه التي تشكل نسقية النص في اختلافاته وتآلفاته . ويعني هذا أن النص عبارة عن لعبة الاختلافات ونسق من العناصر البنيوية التي تتفاعل فيما بينها وظيفيا داخل نظام ثابت من العلاقات والظواهر التي تتطلب الرصد المحايث والتحليل السانكروني الواصف من خلال الهدم والبناء أو تفكيك النص الأدبي إلى تمفصلاته الشكلية وإعادة تركيبها من أجل معرفة ميكانيزمات النص ومولداته البنيوية العميقة قصد فهم طريقة بناء النص الأدبي. ومن هنا، يمكن القول: إن البنيوية منهجية ونشاط وقراءة وتصور فلسفي يقصي الخارج والتاريخ والإنسان وكل ماهو مرجعي وواقعي، ويركز فقط على ما هو لغوي ويستقرىء الدوال الداخلية للنص دون الانفتاح على الظروف السياقية الخارجية التي قد تكون قد أفرزت هذا النص من قريب أو من بعيد. ويعني هذا أن المنهجية البنيوية تتعارض مع المناهج الخارجية كالمنهج النفسي والمنهج الاجتماعي والمنهج التاريخي والمنهج البنيوي التكويني الذي ينفتح على المرجع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتاريخي من خلال ثنائية الفهم والتفسير قصد تحديد البنية الدالة والرؤية للعالم (9)

و تقوم البنيوية على فكرة إعادة انتاج الواقع من خلال إقامة الأنموذج الذي يحدده المحلل نفسه، وهذا الأنموذج سيكون قابلاً للمقارنة مع الشيء الخاضع للدراسة، وإذا مضينا أكثر لتفهم البنائية فعلينا أن نلجأ إلى واحدة من الآليات التي تستخدمها وهي المقابلات الضدية.

مفاهيم بنيوية

سنعرض في هذا الفصل أهم المبادئ أو المفاهيم التي أشاعتها البنيوية، وكان لها حضورها على المستوى النقدي التطبيقي، ومن أبرزها:

1- اللغة والكلام

كما تحدثنا سابقا أن المشروع البنيوي نهض على أسس لغوية، ومنطلقا من تمييز دي سوسير بين اللغة والكلام، فاللغة نظام ومجموعة من القواعد والمعايير التواصلية، بينما الكلام يشتمل على التجليات الفعلية للنظام في فعلي النظام والكلام ومن اليسير الخلط بين النظام وتجلياته .

2- نظام العلاقات

أما المبدأ الثاني لعلم اللغة الذي يستند عليه البنيويون هو أن اللغة نظام من العلاقات والتعارضات التي يجب أن تتحدد عناصرها على أساس شكلي وتخالفي ، لذلك فإن اللغة عبارة عن نظام من الوحدات المتداخلة العلاقات، وقيمة هذه الوحدات تتحدد طبقا لموضعها في النظام .

3- التزامن والتعاقب

ومن الثنائيات الأخرى التي طرحها دي سوسير وطورها البنيويون ثنائية (التزامن والتعاقب)، فالتزامن هو زمن حركة العناصر فيما بينها في زمن واحد هو زمن نظامها داخل البنية، أما التعاقب فيمثل زمن تخلخل البنية أو زمن تهدم العنصر الذي يعبر عنه بانفتاح البنية على الزمن .

4- الحضور والغياب

 إذا كان الدال هو الصورة الصوتية للمدلول أو التصور الذهني، فإن المدلول هو الجانب الذهني للدال، إن العلاقة بينهما علاقة اعتباطية إلا أن اتحادهما يؤلف بنية الدلالة .

أهداف البنيوية ومبادئها

مبدأ البنيوية العام هو توسيع فكرة مجموعة الأجزاء الأساسية التي يمكنك أن تشكل منها بنى معينة الى أقصى حد ممكن بحيث تطال ما هوخارج حدود العوالم وصولاً الى محتويات العقل ذاته.

لقد وضع البنيويون نصب أعينهم غاية كبرى تتمثل في دراسة أبنية العمل الأدبي وعلاقاتها ببعضها البعض، وكيفية أدائها لوظائفها الجمالية واختبار لغة الكتابة الأدبية عن طريق رصد مدى تماسكها وتنظيمها المنطقي والرمزي ومدى قوتها وضعفها بصرف النظر عن الحقيقة التي تعكسها. وقد رفعوا شعار عريضا ألا وهو: النص ولا شيء غير النص أي البحث في داخل النص فقط عما يشكل أدبيته أي طابعه الأدبي . وقد حاولوا من خلال ذلك علمنة الأدب أي إضفاء الطابع العلمي الموضوعي على عملية الاشتغال عليه قصد تجاوز الأحكام المغرضة والإيديولوجية التي قد تشوه هذه الممارسة النقدية .

يقوم النقد البنيوي على تحليل النصوص، وذلك ليحلل هذه الأعمال وهو بذلك يحاول تفسير النص نفسه، دون أن يلجأ إلى ما يدور حول النص من تاريخية أو اجتماعية أو سياسية أو نفسية

وليس هذا التفسير يُعبِّر عن قصور الأدب في التعبير عن نفسهِ، ولكن هو اكتشاف لغة ثانية تختلف عن اللغة الأولى، أي اشتقاق أو توليد معنى معين اشتقاقًا من الشكل الذي هو الأثر الأدبي نفسه .

فأول شروط النقد هو اعتبار العمل كله دالاً، إذ إن أية قواعد نحوية لا تشرح جميع الجمل فهي ناقصة ولا يُكمِّلُ أيُّ نظامٍ للمعنى ووظيفته أن لم تعثر كل الكلمات فيه على وضعها ومكانها المفهوم، وإذا كان الكاتب عالمًا فإن الناقد يجرب أمامه ما سبق أن جربه الكاتب أمام العالم، أي أنه ينبغي أن يرى نفس الاتجاه دون أن يتحول عمله إلى تجربة شخصية نظرًا؛ لأنه محكوم بقواعد الرمز ومنطق العمل نفسه، كما أن معيار العمل النقدي هو الدقة

وهكذا فإن الناقد كي يقول الحقيقة لا بد أن يكون دقيقًا في محاولته لوصف الشروط الرمزية للعمل الأدبي

وأما على الصعيد النقدي فتهدف البنيوية إلى اكتشاف نظام النص، أي بنيته الأساسية ومن ثَّم ترفض أن يتجه النقد إلى الكشف عن الوظيفة الاجتماعية للنص أو ما يتصل بالجوانب الإبداعية للغة والكاتب

ولهذا فإن وظيفة النقد البنيوي تنحصر في قضية التذوق والفَهم، والسبب في ذلك؛ لأنها تدعو إلى نقد النص نفسه دون اللجوء إلى سياقه الخارجي، فهي تدعو بذلك إلى تذوق النص وفَهم العلاقات الداخلية التي يتكون منها النسق أو النظام .

كما أن النقد البنيوي يدفع بالناقد إلى ضرب من الوضعية الأمر الذي جعله يتخلى عن النظر إلى الأثر الأدبي نظرة مرتبطة بتاريخهِ الاجتماعي أو النفسي، وهذا يدل على وجود رغبة قوية لدى الناقد على اعتبار الأثر الأدبي مقال أو خطاب، أو حديث يخضع لمعايير التحليل البنيوية

وأن النقد ولغويته منطقية يقوم عليها ويعتمدان على علاقة لغة الناقد بلغة المؤلف الذب يحلله، وعلاقة لغة هذا المؤلف المفقود بالعالم نفسه، واحتكاك هاتين اللغتين هو الذي يولد شرارة النقد ويكشف عن شبهه الشديد بنوع آخر من النشاط الذهني، الذي يعتمد على التمييز بين هذين النوعين من اللغة وهو المنطق، ويترتب على هذا أن النقد ليس سوى ما وراء اللغة وأن مهمته لا تصبح حينئذٍ اكتشاف الحقائق بل تبحث عن الصلاحيات

فالتحليل البنائي لا يقوم بوصف الأعمال الأدبية بالجودة والرداءة وإنما يحاول إبراز كيفية تركيبه، والمعاني التي تكتسبها عناصره تتألف على هذا النحو فالشكل عند البنائية تجربة تبدأ بالنص وتنتهي معه، وكلما مضينا في القراءة التحليلية تكشف لنا أبنية العمل الأدبي

ونلحظ مما سبق بأن النقد البنيوي قد أخذ طابع التحليل وليس التقييم، وهذا يُعني بأن يحلل البنى والعناصر الداخلية ويفككها إلى عناصر بسيطة وينظر في العلاقات العلائقية القائمة بينها .

وهذا يقودنا إلى القول بأن جوهر العمل الأدبي هو التحليل وليس التقويم، إذ ليس من أهداف هذا النقد أن يصف عملاً بالجودة وآخر بالرداءة، وإنما هدفه الأساسي هو كيفية تركيب العمل الأدبي .

إذن فإن النقد البنيوي يتمركز حول النص ويعزله عن كل شيء، من مثل المؤلف والمجتمع والظروف التي نشأ فيها، ويرى أن الواقع الذي يقوم عليه الأدب لا يخرج عن الخطاب أو اللغة، فالعمل الأدبي كله دال

وهذا يعني أن النقد البنيوي يعد العمل الأدبي كلاً واحدًا مكونًا من عناصر مختلفة متكاملة فيما بينها على أساس مستويات متعددة تمضي في كلا اتجاهين الأفقي والرأسي في نظام متعدد الجوانب .

وكما ذكرنا في المبحث الأول بأن المنهج البنيوي هو منهج وصفي، وهذا يعني أنه لا يعتمد على الناقد بقدر ما يعتمد على الوصف ولا يخلص لنتائج معينة، فإذن فهو لا يؤول إنما يعتمد على وصف الأبنية الداخلية للنص وعلاقاتها فيما بينها كما ويصف لنا الروية، فكل نص له رؤية فإذا استطاع الناقد رصد تلك الروية فعندئذٍ يستطيع تحليل جزيئات البنية .

إن النص الأدبي يُمكن أن يُدرس على وفق مناهج كثيرة، قد تتفق كلها، أو بعضها في نتائجها، وأحكامِها على النص الأدبي الواحد، ويمكن القول بأن الوظيفة الأولى والأسمى للنقد الأدبي هي إنتاج معرفة بالنص الأدبي نفسه، وهذا يعني أن النقد الأدبي هو نص ثانٍ، لكنه يختلف عن النص الأدبي المدروس في كونهِ يحاول أو يؤسس لعناصر المعرفة في هذا النص

وهذا يُعني أن النقد الأدبي الصحيح يمثل خطابًا أدبيًا مُؤسِسًا معرفة مستندة إلى ما في النص الأدبي المدروس من تجليات مضمونة، أو بنائية، أو لُغوية أو ...، وهذا في رأيي الباحث ما يُنادي به أصحاب المنهج البنيوي فهم ينادون إلى تأسيس معرفة من ذلك النص بعزلهِ عن الخارج، وهذه المعرفة لا تأتي دفعة واحده بل تتشكل من خلال الوصف والتحليل لذلك النص، والدخول في جزئياته وعلاقاته دون النظر إلى ما حوله .

ومن هنا يتم تأسيس معرفة نقدية حقيقية بالنص، وتكون تلك المعرفة خالصة وحقيقية؛ لأنها تنظر في النص من الداخل وليس من الخارج، وعلى ما اعتقد هذا هو ما تصبوا إليه البنيوية في نقدها

مستويات النقد البنيوي

لم تُبتدع البنائية هذه النظرية، بل كانت لها إرهاصات قوية منذ ما يقرب من نصف قرن، ويبدو أن سيادة الروح العالمي في منهاج الدراسات الإنسانية كان لها أثر بالغ في حدس بعض النقاد ببعض العناصر الأساسية في التحليل البنائي بشكل مبكر .

ولعل من أهمهم (رومان انجاردن)، الذي نشر كتابه (العمل الفني الأدبي) عام 19311 م بمدينة هيل، ثم دعمه بعدة كتب تالية آخرها نُشر في طوبنجن عام 1968م، وقدم رومان نظرية كاملة عن المستويات الأدبية وإن كانت لا تعد نموذجًا بنائيًا؛ لخلطها ببعض المقولات النفسية والأفكار المثالية بالجسم اللغوي للعمل الأدبي .

 فمثلاً المستوى الأدنى أو الأول عنده كان هو المستوى الصوتي الحسي اللغوي، وهو يحمل قيمًا أدبية محددة تقوم بدور حاسم في تشكيل المستوى التالي له وهو الخاص بالدلالة اللغوية، ويعد هذا المستوى الثاني أساس العمل الأدبي؛ لأنه يكّون موضوعاته وما يتمثل فيه من أشخاص وأحداث وأشياء؛ لأن دلالة الجمل في العمل الأدبي قد تبعث حالات صورية لأشياء متخيلة مقصودة هي التي تكون الموضوع

 ونتجاوز تلك المستويات السابقة، إلى أن نصل إلى تقسيمات النقاد للمستويات على النحو التالي: (10)

 أولاً: المستوى الصوتي

حيث تدرس فيه الحروف ورمزيتها وتكويناتها الموسيقية من نبر وتنغيم وإيقاع، ويتم معرفته من خلال الصوتيات .

 ثانيًا: المستوى الصرفي

 وتُدرس فيه الوحدات الصرفية ووظيفتها في التكوين اللغوي والأدبي خاصة، وهذا المستوى يحتاج إلى كل ما يُبنى عليه علم الصرف .

 ثالثًا: المستوى المُعجمي

وتُدرس فيه الكلمات لمعرفة خصائصها الحسية والتجريدية والحيوية والمستوى الأسلوبي لها، بمعنى أنه يبحث في دلالة الكلمات اللغوية .

 رابعًا: المستوى النَحوي

 وتُدرس فيه تأليف وتركيب الجمل وطُرق تكوينها وخصائصها الدلالية والجمالية، بمعنى أنه يبحث في بناء الجملة سواء أكانت فعلية أو أسمية أو شبة جملة

خامسًا: مستوى القول

وذلك لتحليل تراكيب الجمل الكبرى ؛ لمعرفة خصائصها الأساسية والثانوية .

 سادسًا: المستوى الدلالي

وذلك يشغل بتحليل المعاني المباشرة وغير المباشرة والصورة المتصلة بالأنظمة الخارجية عن حدود اللغة والتي ترتبط بعلوم النفس والاجتماع وتمارس وظيفتها على درجات في الأدب والشعر

 سابعًا: المستوى الرمزي

وتقوم فيه المستويات السابقة بدور الدال الجديد الذي ينتج مدلولاً أدبيًا جديدًا يقود بدوره إلى المعنى الثاني أو ما يُسمى باللغة (داخل اللغة (

 إن الناظر إلى هذه المستويات يجدها كلها تتصل باللغة، فهي تنطلق من اللغة وتُطبق عليها، واللغة كما نعرف لا تحتمل الاتساع والتحدد كما في مناهج النقد الأخرى ومن هنا تنبع عملية هذا المنهج وتعامله الدقيق مع النصوص الأدبية

 فالمحلل البنيوي يقوم بدراسة جميع هذه المستويات في نفسها أولاً، وعلاقتها المتبادلة وتوافقاتها والتداعي الحر فيما بينها والأنشطة المتمثلة فيها، وثانيًا هو ما يحدد في نهاية الأمر البنية الأدبية المتكاملة.

منطلقات التحليل البنيوي

لا بد من رسم بعض الخطوط الأساسية والعريضة التي يطرحها التحليل البنيوي على الصعيد الأدبي والنقدي والفكري، وهي كالتالي: (11 )

أولاً: يهاجم البنيويون بعنف المناهج التي تُعنَي بدراسة إطار الأدب ومحيطه وأسبابه الخارجية، ويتهمونها بأنها تقع في شرك الشرح التعليلي، في سعيها إلى تفسير النصوص الأدبية في ضوء سياقها الاجتماعي والتاريخي؛ لأنها لا تصف الأثر الأدبي بالذات حين تلح على وصف العوامل الخارجية.

 ونفهم من ذلك أن البنيويين ينطلقون من ضرورة التركيز على الجوهر الداخلي للنص الأدبي، وضرورة التعامل معه دون أية افتراضات سابقة من أي نوع من مثل علاقته بالواقع الاجتماعي أو التاريخي أو بالأديب وأحواله النفسية، ويرى الباحث أن سبب هذا المنطلق ؛ لأنهم يرون في أن العمل الأدبي له وجود خاص وله منطقه ونظامه وله بنية مستقلة سواء أكانت عميقة أو تحتية أو خفية، فهو مجموعة من العلاقات الدقيقة .

 إن هذا المنهج لا يحارب ولا يهاجم المناهج الأخرى بل هذا كان ظاهرٌ للقرّاء، ودليل ذلك مثلاً السيميولوجية فهو منهج لدراسة الوقائع الاجتماعية باعتبارها رموزًا لنظم عقلية مجردة، فهنالك إذن علاقة بين البنيوية والسيمولوجية فهما كلمتين في الحقيقة مترادفتان، فتعريف السيمولوجية السابق يصلح تعريفًا للبنيوية، كما أن النقد البنيوي أو علم الأدب البنيوي بتعبير أدق فهو ليس إلا فرعًا مـن السيمولوجيا .

كما أن دي سوسير لم يكن منكرًا للقيمة التاريخية بل كان يرى أن الدراسة التاريخية للظواهر اللغوية يجب أن تأتي تابعة لدراسة اللغة كنظام متكامل محدد بفترة زمنية معينة، فمعرفة النظام يجب أن تسبق معرفة التغيرات التي تطرأ عليه .

وربما أن المنهج البنيوي يحاكم التاريخ ؛ لأنه يغفل العلاقات بين أجزاء النظام الواحد، مع أن هذه العلاقات هي جوهر النظام ونحن نحاكم البنيوية باسم التاريخ وباسم البنيوية معًا؛ لأنها هي نفسها جزء من نظام كبير تجمعه وحدة فكرية ومادية ولحظة تاريخية .

 ثانيًا: هذه البنية العميقة أو هذه الشبكة من العلاقات المعقدة هي التي تجعل من العمل الأدبي عملاً أدبيًا، وهنا تكمن أدبية الأدب، وهم يرون بأن هذه البنية العميقة يمكن الكشف عنها من خلال التحليل المنهجي المنظم . ويمكن القول بأن هدف التحليل البنيوي هو التعرف عليها؛ لأن ذلك يُعني التعرف على قوانين التعبير الأدبي، وهذا مما يجعل التحليل البنيوي مميزًا عن سائر المناهج؛ لأنه هو الوحيد القادر على البحث عن أدبية الأدب أي عن خصائص الأثر الأدبي .

 ثالثًا: يقف التحليل البنيوي عند حدود اكتشاف هذه البنية في النص الأدبي، فهو جوهرها، فبعضهم يسمي تلك البنية (نظام النص) أو (شبكة العلاقات) أو (بنية النص)، وحين التعرف عليها لا يهتم التحليل بدلالتها أو معناها، بقدر ما يهتم بالعلاقات القائمة بينها .

 ولهذا يرى بارت وتودوروف، وهما من أبرز روّاد المنهج البنيوي أن هذا التعرف على بنية النص مقصود لذاته؛ لأن عقلانية النظام الذي يتحكم في عناصر النص، غدت بديلاً عن عقلانية الشرح والتحليل . رابعًا: ينطلق البنيويون من مسلمة تقول بأن الأدب مستقل تمامًا عن أي شيء، إذ لا علاقة له بالحياة أو المجتمع أو الأفكار أو نفسية الأديب ...الخ؛ لأن الأدب لا يقول شيئًا عن المجتمع أما موضوع الأدب فيكون هو الأدب نفسه .

خامسًا: للتوصل إلى بنية الأثر الأدبي ينبغي تخليص النص من الموضوع والأفكار والمعاني والبعدين الذاتي والاجتماعي، وبعد عملية التخليص أو الاختزال يتم التحليل البنيوي أو تحليل النص بنيويًا من خلال دراسة المستويات السابقة الذكر .

 سادسًا: ويتم التركيز لاكتشاف بنية النص على إظهار التشابه والتناظر والتعارض والتضاد والتوازي والتجاور والتقابل بين المستويات، فمثلاً يتم التحليل الصوتي من خلال إظهار الوقف، والنبر، والمقطع، أما تحليل التركيب فتتم دراسة طول الجملة وقصرها وهكذا مع كل مستوى أو تحليل .

 سابعًا: إذا كانت البنيوية تختزل النص إلى هذا الحد ولا تهتم بالمعنى أو الموضوع أو الإطار الزماني أو المكاني أو البعدين الذاتي والاجتماعي، فما هو دور القارئ؟ فيجيب البنيويون أن النص يحاور نفسه، والقارئ هو الكاتب الفعلي للنص .

 بمعنى أن البنيويين يرون بأن القارئ ليس ذاتًا، إنه مجموعة من المواصفات التي تشكلت من خلال قراءته السابقة وبالتالي فإن قراءته للنص ورد فعله إزاء النص تتحدد بتلك القراءات، وبما أن هناك قرّاءً عديدين فإن هناك قراءات متعددة للنص الواحد .

ومعنى هذا بأن هؤلاء القرّاء يقومون (بترجمة) النص وهذا كما يرى بارت، لكن النص يبقى هو النص ولهذا فإنه يحاور نفسه .

البنيوية في النقد الأدبي الحديث

 في مجال النقد الأدبي، فإن النقد البنيوي له اتجاه خاص في دراسة الأثر الأدبي يتخلص: في أن الانفعال والأحكام الوجدانية عاجزة تماماً عن تحقيق ما تنجزه دراسة العناصر الأساسية المكونة لهذا الأثر، لذا يجب أن تفحصه في ذاته، من أجل مضمونه، وسياقه، وترابطه العضوي، فهذا أمرٌ ضروري لا بد منه لاكتشاف ما فيه من ملامح فنية مستقلة في وجودها عن كل ما يحيط بها من عوامل خارجية .

 إن البنيوية لم تلتزم حدودها، وآنست في نفسها القدرة على حل جميع المعضلات وتحليل كل الظواهر، حسب منهجها، وكان يخيل إلى البنيويين أن النص لا يحتاج إلا إلى تحليل بنيوي كي تنفتح للناقد كل أبنية معانيه المبهمة أو المتوارية خلف نقاب السطح .

 في حين أن التحليل البنيوي ليس إلا تحليلاً لمستوى واحد من مستويات تحليل أي بنية رمزية، نصيّة كانت أم غير نصيّة. والأسس الفكرية والعقائدية التي قامت عليها، كلها تعد علوماً مساعدة في تحليل البنية أو الظاهرة .

الخاتمة

ونخلص مما سبق إلى أن البنيوية منهج ينظر إلى الأعمال الأدبية باعتبارها نظمًا رمزية دلالية تقوم فى الدرجة الأولى على مجموعة من العلاقات المتبادلة بين البنى الجزئية، " وترى أن قيمة العمل الأدبى تتمثل فى النص ذاته وما ينبثق عنه من جماليات لغوية ومستوى أدبى رفيع، وليس فى علاقته بغيره من المستويات الخارجية سواء كانت نفسية، أو اجتماعية أو تاريخية أو غير ذلك من المستويات". ويرى الباحث أن قصور دور الفن على إبراز النواحى الجمالية الداخلية يقلل من فرص خلوده، إذ أن الجمال ليس مطلق فكما يتغير مقياس الحياة بتغيير ظروفها يختلف الإحساس بالجمال من عصر إلى عصر وكذلك من طبقة إلى طبقة، ويتفق مع " جلبرت ميرى " في قوله: بأن إبداع أي عمل فنى لابد وأن يقوم على قصد المنفعة والاستخدام، فليس ثمة صورة ترسم لأناس عمى، ولا يبنى قارب في غير وجود ماء " .

ونستذكر أهم ما فعلته البنيوية هو الانطلاق من مبدأ العلاقة فيما بين الاشياء وهومبدأ مكنها من الرؤية المفتوحة على وظائف الظاهرات وفتح لها أبوابا أشرعت بين يديها لخدمة علوم العصر الحديث كعلم النفس والرياضيات مع بياجيه والانثروبولوجيا والأساطير مع ليفي شتراوس وأخذ بارت بمفاهيمها لتحليل مسالك المجتمع في الملابس والطعام اضافة الى تجلياتها في الادب وفنونه .

ان البنيوية هي أكبر تحول أدبي مس كل وجوه الفكر الانساني،وربط الانسانيات بمناهج العلوم التجريبية، مما جعل شتراوس يقول كلمته المشهورة (روضت العلوم الانسانية نفسها منذ قرون على النظر الى علوم الطبيعة على أنها نوع من الفردوس الذي لن يتاح لها دخوله أبداً) .


د. شادي مجلي سكر

..................

1 - حسناء الإدريسي الكيري، طالبة من المغرب بقسم الدراسات العربية/ كلية الآداب/ عين الشق/ الدار البيضاء.

2 - كمال أبو ديب، جدلية الخفاء والتجلي، ص 7

3 - معجم لسان العرب

4 - يمنى العيد قنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، ص 318

5 -

6 - Todorov: intruducation to poetics

7 - جان بياجيه، البنيوية ، ص 45

8 - عبدالإله الصائغ - النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير .

9 - جميل حمداوي – البنيوية اللسانية والنقد الأدبي .

10 - عبدالله خضر محمد، مناهج النقد الأدبي السياقية والنسقية، ص 150

11 - شكري الماضي، في نظرية الأدب، ص 182



المراجع

almothaqaf.com

التصانيف

الآداب  أدب  مجتمع   العلوم الاجتماعية