* الديوان الرابع:
سبق لدار” النورس ” أن نشرت ديواني شعر، كان الأول بعنوان : ” ليل المقابر” للشاعر: ” حسين القهواجي” و كان الثّاني بعنوان ” قلق ” للشاعر : ” حافظ محفوظ”. ويمثّل ديوان: ” صديد الرّوح” ( 1989 ) للشّاعر: ” سوف عبيد” ثالث ديوان شعر تصدره هذه الدّار الفتيّة، إلى حدود هذه السنة (1990 )، كما يمثّل، حاليا، رابع ديوان للشّاعر بعد دواوينه ” الأرض عطشى” ( 1980 )، ” نوّارة الملح” ( 1984) و” امرأة الفسيفساء” ( 1985).
الدّيوان يتضمّن 150 صفحة، تتوزّع عليها 118 قصيدة، منها 25 قصيدة تنضوي تحت فصل: ” آخر أحفاد البدو” و 40 قصيدة تحت فصل ” بسمة على فم ميّت «، وتنضوي 53 قصيدة تحت فصل ” السّماء التي تحتنا”. الملاحظ أنّ الشاعر ضمّن الدّيوان قصيدة “الأرض ” التي كتبها سنة 1974 دون أن يدخل عليها أدنى تنقيح، أمّا القصائد الأخرى المنقّحة، فلقد ذكر مع التّاريخ القديم لكلّ قصيدة منها تاريخ التنقيح:
” زهرة اللّوز” ص 30 ( 1974 – 1987 )
” زمن الأزمنة” ص 39 ( 1974 – 1986 )
” وردة الرّمل ” ص 92 ( 1974 – 1987 )
الملاحظ أيضا أنّ بعض القصائد الأخرى كتبت في نفس يوم: 10/02/1989 مثل ” لقاء ” ص 117 – ” عبور ” ص 119، ” إطلاق سراح” ص 117، ” الباب” و ” الفجر” ص 118، ” احتراق” ص 119. هذا إلى جانب قصائد أخرى كثيرة قد كتبت في نفس الشهر من هذا التّاريخ.
* مقدّمات أوّلية:
1- غلاف الدّيوان:
أحيانا، يحتاج غلاف كتاب ما إلى قراءة، خصوصا إذا صمّم بطريقة مقصودة ، ترمي إلى استفزاز العين ، والدّعوة إلى التحليل والتأويل، شأن هذا الغلاف الذي يحتلّ أكثر من نصف مساحته مستطيلان متقايسان، الأوّل شديد السّواد، تتوزّع على مساحته مفاتيح بيضاء ( 38 مفتاحا) عتيقة وعصرية، متداخلة، مختلفة الأشكال والأحجام، ومتجهة كلّها إلى اليمين، تبدو في السّواد كما النّجوم تضيء أحشاء الليل الداكنة. المستطيل الثّاني، تتوزّع على مساحته البيضاء وبنفس العدد والتنظيم المتّبع في المستطيل الأوّل، مفاتيح سوداء داكنة. المفاتيح عموما قد تعدّ للمتفائلين طالع خير، فهي التي تفتح الأبواب الموصدة، وهي أمل العودة إلى الديار لآلاف من العرب الفلسطينيين المهجّرين منذ النكبة، وهي التي تخرج المريض من حالة صرعه بمجرّد أن نديرها داخل قبضته المتشنّجة. وقد تعد للمتشائمين طالع نحس، إشارة إلى الطّرقات والسّبل والمنافذ المغلقة، وإلى الحصار والسّجن والنّفي والتغييب والتحجّر والتصلّب.
2 – عنوان الدّيوان:
العنوان الجيّد يجذب النّفوس ، ويغريها بمعاشرة المكتوب، ويفتح للقارئ شهيّة العبور من خارج النصّ إلى داخله، خصوصا إذا تلائم المعنى والمغنى فيه… والعنوان الذي بين يدينا، من هذا الصّنف الذي يولّد في النّفس رغبة لا نملك إلاّ أن نلبّي داعيها بالإطّلاع ولو على جزء صغير من هذا الدّيوان. إنّ عبارة ” صديد” مصدر وتعني القيح المختلط بالدّم، وصدّد الجرح أي قيّح وسال صديده، وصديد على وزن فعيل، مثل: ضريح، نعيق، ضجيج، صريخ، فحيح، صليل، وأكثر المصادر التي تتّفق مع فعيل وزنا تدلّ على الفزع والرّعب. أمّا كلمة ” الرّوح” فتعني ما به حياة الأنفس. نحن إذن أمام معنى واضح ومثير وهو قيح الرّوح المختلط بالدّم، وهذا فيه وصف مذهل لمدى تألم وتوجّع الرّوح التي لا تملك إلاّ أن تحسّ وتتأوّه وتقاوم. إنّ مجرّد الرّبط بين مفاتيح المستطيلين وبين معنى العنوان، يعطينا فكرة مبدئية عن الطّقس المهيمن على قصائد الدّيوان… إنّه طقس صراع مع الظّلام، مع الحصار، إنّه طقس مقاومة وحلم بالعودة والانتصار، وفتح الأبواب الموصدة، وتبشير بحسن الختام، وخاصّة وأنّ المفاتيح في صورة الغلاف متجهة كلّها إلى اليمين وفق مرجعية دينية إسلامية تقرن حسن المآل والثّواب يوم القيامة بإتيان ” الكتاب ” باليمين. قال تعالى: ” فأمّا من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا” ” الانشقاق” ( 7 و 8 ).
* تطعيم الواقع بروح التّراث:
يصنّف الدّارسون الفن إلى فن بنّاء مستوح من الإيمان بقضية ما وفن عبثي مستوح من الشك والقلق والحالات المرضية التي تغمر العالم.
الديوان لا أثر فيه للفنّ العبثي، فلقد عمل الشاعر بما قال ” أدونيس” يوما: ” الشعر لا يستقصي الأشياء ولا الأوهام والذاتيات المفرطة، إنّما يستقصي حركية العالم في اتجاهه نحو المستقبل”.
إنّ امتداد ” سوف عبيد” يشعره نحو المستقبل كان متوازنا بفضل تنسقيه المحكم بين الأصالة والمعاصرة، بين التّراث والواقع.
1 – المنابع الأصلية:
أ – القرآن:
لقد ضمّن الشّاعر قصائده بعض الكلمات التي وردت في سور من القرآن الكريم، فوظّفها لخدمة نصوصه الشعرية مبنى ومعنى ولتعميق تواصله مع القارئ العربي المسلم:
والعاديات ضبحا
بلا ظفر تعود
( الجرح ص 10 )
فكلمتا ” العاديات ضبحا” وردتا في أوّل سورة العاديات ( مكيّة وآياتها 11 نزلت بعد العصر) و ” العاديات ” هي الخيل تعدو في الغزو وتضبح، ” ضبحا” هو صوت أجوافها إذا عدت :
والأرض من حوله
جنّات
تجري
من تحتها الأنهار ( حديث الفتى ص 20 )
وجلّ كلمات البيت واردة بسورة البروج ( مكية وآياتها 22 نزلت بعد الشمس): ” إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير”. ( الآية 11 ) :
إنّه زمن
طيوره من أبابل
ترمي الأطفال
بالقنابل ( زمن الأزمنة ص 42).
فالطيور والأبابيل مذكورتان في سورة الفيل ( مكيّة وآياتها 5 نزلت بعد ” الكافرون”) ” وأرسل عليهم طيرا أبابيل” ( الآية 2 ) و الأبابيل هي الجماعات الجماعات :
كلاّ
سأزلزل الأرض زلزالها
حتّى يندك الكون
عليك
وفي البيت ما يقابل ( الآية 1 ) من سورة الزلزلة ( مدنية وآياتها 8 نزلت بعد النّساء): ” إذا زلزلت الأرض زلزالها ” حرّكت لقيام السّاعة، و “زلزالها” تحريكها الشديد المناسب لعظمتها:
واخلع عنك لباس الحديد
لتجلس قارئا على الزوّار
كتابك الذي في الجيب
وإذا الأوراق تطايرت
بأي ذنب
تلك المدرسة
هدّمت؟ ( التمثال والخليج ص 66 – 67 )
وفي هذه الأبيات ما هو منسوج على منوالي الآيتين 8 و 9 من سورة التكوير ( مكيّة وآياتها 29 نزلت بعد المسد): ” وإذا الموؤودة سئلت بأيّ ذنب قتلت” وقرئ بكسر التّاء حكاية لما تخاطب به وجوابها أن تقول: قتلت بلا ذنب :
ذات العصا البيضاء
ليتني كنت الشمس
وضحاها
والقمر إذا تلاها
في عينيها ! ( عيون ص 78 )
وجلّ المقطع هو الآيتان 1 و2 من سورة الشمس ( مكيّة وآياتها 15 نزلت بعد القدر): “والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها”. ” والشمس وضحاها ” ضوؤها، ” والقمر إذا تلاها” تبعها طالعا عند غروبها :
يحيا التين والزيتون
طول سنين
بلى
جنّات عدن ذاكرة الصّحراء !
( القصور ص 128 – 129 )
وفي المقطع ما ورد جلّه في سورة التّين ( مكيّة وآياتها 8 نزلت بعد البروج): ” والتّين والزيتون، وطور سينين” ( الآيتان 1 و 2 ).
” والتّين والزيتون” أي المأكولين أو جبلين بالشّام ينبّتان المأكولين ” وطور سينين ” الجبل الذي كلّم الله تعالى عليه موسى ومعنى سينين المبارك أو الحسن بالأشجار المثمرة.
ب – السيـــــــــــــــر:
أخذ ” سوف عبيد” عن رواة أحاديث الرّسول صلّى الله عليه وسلم ( أبو هريرة، أبو جبل، الترمذي، الطبري، البخاري، مسلم وغيرهم…) العنعنة ( عن فلان، عن فلان، عن فلان، أنّ النبي قال) ليجعل لأبطاله سيرة وأخبارا يتناقلها النّاس كما يتناقلون سير الصّحابا والصالحين، وهو ما يجعل القارئ يتعاطف مع هذه الشّخوص ويحسّ بالانجذاب والانتماء التاريخي إليها، فيتلهّف إلى سماع المزيد من أخبارها:
حدّثت أمّه قالت:
هو كإخوته.. غير أنّه
قليل الطّعام
كثير السّؤال
كان قد سألني مرّة :
لماذا النخلة
أطول منّي ( حديث الفتى ص 18 )
الفتى منذ صغره يشبه المتصوّفين الزّاهدين في الدّنيا الذين يلهيهم الابتهال والتأمل عن الأكل واللّباس:
عن بعض أترابه انّه :
أليف… سريع العدو
ويلاعب العقرب والحيّة
وعندما سئل أبوه
بعد طول الغياب
لم يقل شيئا
إنّما أطرق ومكر به الدّمع ( حديث الفتى ص 19 )
الفتى ، إذن ، إلى جانب صوفيته ، يألفه النّاس والحيوانات ; الحشرات والزواحف أيضا تستأنس به فلا تلدغه لا الحيّة ولا العقرب ولاغيرهما..
* الرّمــــــــــــــوز :
يعرّف “جبور عبد النّور ” الرّمز بقوله: ” كلّ إشارة أو علامة محسوسة تذكّر بشيء غير حاضر” ( المعجم العربي ص 124، دار العلم للملايين بيروت).
والرّموز يستعملها كلّ من يريد الإيماء والإيحاء، وهي طريقة لتجنّب المباشرتية والوضوح الصّارخ ، وكذلك لحقن بعض المفاهيم للمتقبّل بذكاء. وتختلف مصادر هذه الرّموز عند هذا أو ذاك باختلاف العقائد والثّقافات. الشّاعر ” سوف عبيد” حافظ على الــ ” نحن الثّقافية”. فلم تأت الأسماء و الرّموز في قصائده من الأساطير الإغريقية ولا من طقوس خارجية، بل جاءت من قاموس ديني إسلامي.
ففي قصيدة ( منطق الطّير ص 35) يخصّص الشّاعر بعض الأبيات لطائر ” الهدهد ” الذي ورد ذكره في سورة النّمل ( آية 20): قال تعالى متحدّثا عن سيّدنا سليمان: ” وتفقّد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين” فالهدهد إذن كان من جيش سيّدنا سليمان، وهو رسوله إلى ” بلقيس” صاحبة عرش سبأ العظيم ليعرض عليها الإيمان باللّه، وكذلك خصّص بعض الأبيات للطاووس الذي يرمز إلى نعيم الجنّة.
القصائد أيضا تتوفّر فيها الأجواء الصوفية والخشوع:
وشجي صوت الشّيخ
عبد الباسط
عبد الصمد
( زمن الأزمنة ص 40)
ونراه في الأبيات الموالية يحترم آداب المساجد التّي هي بيوت الله، فكرا وممارسة.يتجلّى ذلك حين تراجع عن دخول المسجد لمانع ما :
فبمن ألوذ هذا المساء؟
بسارية المسجد ؟
لست على وضوء ( زمن الأزمنة ص 40 )
وكان قبلها أراد أن يلوذ بسارية المسجد من حالات السّأم التي استبدّت به، كما يلوذ المؤمنون ببيوت الله من الأعداء أوقات الحروب والأزمات طلبا للأمان، علّها تدعه وحاله احتراما لحرمة المساجد، لكنّه تراجع بمجرّد أن تذكّر أنه ليس على وضوء..
* تداخل ضروب الخطاب :
1 – الحكايــــــــــة
إلى جانب المنابع الأصلية المقدّسة من قرآن وسنّة التي جذّرت نصوصه في بيئتها العربية الإسلامية ،لم يغفل الشاعر عن توظيف القاموس الحكائي في بعض قصائده ليضفي عليها سحر الحكايات الشرقيّة. والمعروف عن الحكايا أنّها من أقدم الأجناس السرديّة ، ومن أمتع المصادر التي يمكن للكاتب أن ينهل منها لإثراء نصوصه ، وترقيّة فعله الإبداعي متى أتقن فنّ تطعيمها بالواقع ، مثلما تحقّق للكاتب الأرجنتيني ” جورج لويس بور خس” و” كافكا” وغيرهما ممّن كانت الحكايا وراء جودة نصوصهم وشهرتهم ، ويتجلّى توظيف الشاعر ” سوف عبيد ” لجوانب من القاموس الحكائي في فواتح بعض القصائد مدخلا من مداخل جلب انتباه المتقبّل وتحفيزه إلى التواصل مع القصيد، مثل : ” كان يا مكان”، يحكى أنّ، ” وما يتعلّق بالرّبط واختزال الزّمن الذي يتطلّبه نموّ الحدث مثل ” مرّت الأعوام تسوق الأيام”:
كان يا مكان
في قديم الزمان
ولد ليس له أحد
إلاّ القصبة يراوح أصابعه عليها
ينفث فيها… فيستريح
**
يحكى أن الولد قدم يوما
السّوق
لم ينصت إليه أحد
حاول مرّة أخرى ومرّة
فنهروه ( البهلوان ص 23 )
هذا الولد أصبح بعدها بهلوانا يخطف العيون.
2- المسرح :
الخطاب المسرحي كان له هو الآخر حضوره في بعض قصائد المجموعة الشعريّة:
منذ أعوام لم نلتق
الدّنيا أضاعتنا
السيّد س صحيح قال
ثمّ قال السيّد ع
بل تجاهلتني مرّة
ومرّة أخرى ناديتك
فلم تلتفت
( مقابلة ص 21 )
الأدوار كما نلاحظ قصيرة جدّا ولكنّها معبّرة كثيرا تدل على التوتّر والسّرعة، تأثيث الرّكح مناسب للجوّ النفسي ولطقس القصيدة: قهوة سيجارة ولاّعة، نار، دخان…
حركات السيّد ” س ” والسيّد ” ع ” محسوبة مفضوحة، وبصفة عامّة مثل هذا الخطاب يخدم التداعي والتعرّي والاعتراف.
* المحليّة
1 – القاموس الصحراوي:
الشّاعر كما نعلم ابن الجنوب ( غمرا سن )، فليس من العجب ألاّ تخلو جلّ قصائد الدّيوان من مفردات تتعلّق بالصّحراء وبكلّ ماله صلة بحياة البدو:
+ الرّمضاء: القافلة – الجمل – التّمور – الهودج – الواحات ( الجمل ص 7 ).
+ الرّمل – النّخل – أمّنا الصّحراء ( الرّيح ص8 )
+ جريدة النخل ( طفل ص 10 )
+ نخيل – الحبوب – زحف الرّمال ( ابتهال ص14 ).
+ البدو – الجدب – العقرب – الحيّة ( حديث الفتى ص 19 ).
+ البرنس – نجع الخيام – الإبل – الأغنام ( البرنس ص 60)
+ الرّحى – غربال ( الرّحى ص 97)
+ الفارس – الحصير ( الفارس ص 99 )
ولقد خصّ كما نلاحظ: الجمل، الرّيح، البرنس – الرّحى – الفارس، بقصائد احتفالا بالمحلّية ووفاء للأجداد: البدو.
2 – العلاقة الحميمة بين الصحراء والبحر:
بدأ تعلّقه بالبحر عندما قصد الشّمال… كانت ضيافة ممتعة:
إنّها عروس البحر
تقلي سمكا
للقادم
من الصّحراء ( ضيف ص 9 )
عروس البحر دخلت قلبه فدخل معها البحر فالتقى هناك بالصّحراء بالرّمال، بالنّخل، بالتّمور، وبين عشيّة وضحاها أصبح يتمنّى لو تلتقي حقّا الصّحراء بالبحر، فيتعانقا، ويصبح بإمكان الغزال العيش في البحر، والسّمكة بين الكثبان… إنّه حلم صعب، غير موجود إلاّ في عقل الشّاعر الذي أحبّ الصّحراء الجذور، الذكريات، الطفولة، كما أحبّ البحر الجديد المتجدّد. الثائر المثير الذي عادة ما نلقاه عراة بلا أقنعة ولا زيف:
لا ماء
ولا رمل
لمّا سبح في اليمّ
غزال
وانسابت بين الكثبان
سمكة ! ( لقاء ص 12 )
3 – البدو… والأجداد:
لقد خصّ الشّاعر البدو بفصل ” آخر أحفاد البدو” الذي يشمل 25 قصيدة لها وزنها من حيث أنّها تعدّ شواهد حيّة وصورا لعدسة تعرف ماذا تختار، وهو فصل يشهد بامتياز على أنّ أهل قرية الشّاعر أوفياء كلّ الوفاء للأجداد الرّاحلين من البدو… فهم أحياء رغم أنّهم لم يغادروا شاهدة القبر… أحيوهم بالاسم. فكلّ شبابهم بأسماء الأجداد: عمر بن عمر بن عمر بن عمر… إنّه نوع فريد من التّواصل بين الماضي والحاضر بعيدا عن الجحود:
النّاس في قريتي
يسمّون الولد
عن الجدّ
….. اسمه
عن جدّ الجد
( أسماء ص 15 )
” سوف عبيد ” إذن لا ينيء يذكر جذوره ويتعّهدها ، فنرى فيه شاعر القبيلة الذي يشحذ لسانه للذود ،عنها والتغنّي بمجدها وبصدق الأجداد إذا وعدوا، فالكلمة في منظور الأجداد هي الرّجل إن سقطت سقط:
كانوا إذا وعدوا… صدقوا
فالكلمة تخرج من الحلق
مرّة واحـــدة … قالوا
كالرّوح تماما . ( البدو ص 16 )
فالكلمة لدى البدو الأجداد كانت عزيزة وخطيرة كالرّوح تماما.
وكانوا إلى جانب ذلك معتدّين بأنفسهم يكتفون بالقليل ومن يكتفي بالقليل لا ينحني أبدا، أبدا:
يأكلون ما حضرْ
يلبسون ما سترْ
ينزلون ويرحلون
ولا ينحبون لأحد
من البشرْ ! ( البدو ص 17 )
الطّمع وحده الذي يجبر الإنسان على أن يتخلّى عن كبريائه وكرامته، والبدو ما كانوا طمّاعين، كانوا إذا لم يطب لهم عيش بمكان تركوه ورحلوا، و كانوا حريصين على حفظ ماء الوجه أكثر من حرصهم على حياتهم. إنّها الأنفة، أنفة النخلة التي لا تنحني، وإن ماتت تموت واقفة سامقة :
وسابع السّماوات
لم تكن مرّة
أطول من انف
أقصرهم ! ( البدو ص 17 )
* الأحفاد والانتكاسة:
إلى جانب ظهوره بمظهر شاعر القبيلة، ظهر” سوف عبيد” أيضا بمظهر الشاهد على العصر العربي الرّاهن الذي يعوّل فيه الجيل السابق على جيل الأحفاد، هذا الجيل الذي أصبح يرضى بالعيش في صناديق والصّناديق في عمارة:
لكنّما نحن الأحفاد
نقضّي أعمرانا في صناديق
والصّناديق
في العمارة
ثمّ نقول أهلا وسهلا
بالحضارة ! ( البدو ص 17 )
منذ أن رضي الأحفاد بالصناديق التي ترمز إلى الحصار والظّلام والانهزام والاستسلام والخنوع باسم الحضارة، بدأت الأحوال تتغيّر من أحسن إلى أسوأ، لم تعد هناك أنفة، قصرت الأنوف، فقدت الكلمة مصداقيتها فأصبحت نفخا في الهواء، صحيح أنّ الأحفاد يحملون أسماء الأجداد جدّا عن جدّ، لكنّها تبقى أسماء فقط، من هنا بدأت الانتكاسة، فمنذ أن صارت الأعصاب أسلاكا لا دماء فيها تغلي وتنفجر بالغضب، منذ أن أصبحت المشاعر خشبا باردا لا يبالي، غاب دفء العلاقات والتّكاتف، غاب الحبّ، غاب ” انصر أخاك ” يا عربي:
زمن
لا هدوء
لا دفء
لا حبّ
فالأعصاب أسلاك
والمشاعر
خشب ! ( زمن الأزمنة ص 43)
العرب الآن يحسنون فقط الاستنكار والجلوس حول الموائد يلقون خطبا جوفاء يرغم فصاحتهم، ولأنّ المشاعر صارت خشبا فإنّهم لا يثورون على العدوّ، ولا يتحدّون ضدّه:
عجبا للفصاحة
عجبا للخطابة
تصرّفان فعلا ثار
في المضارع المجزوم ( زمن الأزمنة ص 42)
الفعل أصبح ” لم يثر ” مجزوما، رغم حروف التأكيد، العرب يملكون البترول وبالتالي لا يصعب عليهم الدولار، ويملكون الجماهير، فلماذا الخطب والنفخ في الهواء، ألم يكن الأجداد يقولون ما يفعلون، ويفعلون ما يقولون ؟ :
أ ـ إسرائيل
ب – بترول
ج – جماهير
د – دولار
هـ – هبْ في الخطبْ
و – وا حرّ قلباهْ
على
فصاحة العربْ ! ( القاموس ص 89 )
الشّاعر قال كلمة ولا يملك الأدب إلاّ أنّ يحلم بالرّبيع، ولكن الانتظار طال:
للعام الثاني
على التوالي
ربيع
بلا
ربيع ! ( الفصول ص 53 )
إنّها الغصّة وخيبة الأمل، لكن الشاعر يبقى مؤمنا رغم كلّ شيء بانّ يوما سيأتي فتتغيّر أشياء آسرة للأحفاد لكن بأشياء غالية كالدّم:
وثمّة أشياء
لابدّ لها من أشياء
كالدّم
للحرّية ! ( الأشياء ص 71)
لقد حرص الشاعر، إذن ،على صياغة شخصيات ثابتة الجذور واضحة الأصل على اتّصال بالذّاكرة الشعبية وبالهموم العربية، ممّا يدفع المتقبّل العربيّ إلى الإحساس بأنّه يعرفها من قبل وأن علاقة حميمة تربطه بها أحبّ أم كره، ، وهذا ما يدلّ على أنّ الشّاعر ليس من الذين يكتبون في إطار نقلي بحت من التراث ،وليس من الذين يكتبون في إطار نقلي بحت من الثقافة الغربية ، وإنّما هو ذاك الذي سعى إلى التنسيق بين الأصالة والمعاصرة، وطعّم الواقع بروح التّراث، إذ أنّ الشّعر دوره التجذير لا الانبتات،و التواصل والانفتاح ، لا الانغلاق والتقوقع ..
* الطّفولة :
اتّخذ الشاعر أيضا من المنابع الأصلية ومن المحلّية قلاعا ورموزا يحتمي بها من الخوف المتأصّل في كيان كلّ شاعر بأكثر حدّة ممّا هو متأصّل في كيان الواحد من عامّة النّاس.
الطفولة أيضا بوسعها أن تحمي من الخوف، لأنّها تعني المطر، الينوعة، الاخضرار، الحلم، التفاؤل، الحياة ، البعث، لذلك سعى الشاعر إلى إحيائها.
إنّ إحياء الطفولة فيه نوع من التحسّر على ما كان يملكه الطفل ” سيّد الكون” من شمس وأشياء صغيرة وكبيرة لا يستطيع الشاعر أن يستعيدها:
الصبيّ سيّد الكون الآن
عنده الشمس
يضعها في جيبه
أو يركلها أنّى شاء ( الصبيّ ص 28 )
كلّ ما في الكون هو للطفّل، يأخذ منه ما شاء ويهمل الباقي بلا مبالاة، الطفل سعادته في لعبه و أحلامه و سذاجته، في براءته و قلبه الأبيض ، في إضفائه للحياة على الجوامد ، إنّه يمتطي جريدة نخل ، فيصهل الحصان في مسمعه ، و ترتفع أصوات سنابك الخيل وهي تقرع الأرض، لا أحد يستطيع إقناعه بأنّه يحلم، لا أحد يجرؤ :
في صباي
يا ما ركضت حافيا
في البراري
على جريدة أمتطيها
حصانا
والعاديات ضبحا
بلا ظفر تعود
أو بالشوكة حتّى العظم ( الجرح ص 10)
الشاعر أحيانا يطلب المستحيل :
هببيني سيّارة الطّين
وحصان الجريد ( ابتهال ص 14 )
إنّه يرجو من امرأة أن تعيد له التاريخ، فيرجع طفلا كما كان يلعب بسيّارة الطّين وحصان الجريد، لكن كل لعبه مسخت وتشوّهت ولم تعد تعني شيئا: ” حصان الطّين صار بحوافر المطّاط وروائح المازوت” و ” الفراخ صارت عصافير فولاذية” ( مختار الخلفاوي ): “أي مستقبل للشعر ؟ هل تتخلّى عنّا القصيدة؟ ” جريدة الصحافة 20 أوت 1989 ). كيف سيعيش الطفولة ثانية وإطارها من مسكن ولعب قد أفسدته الحضارة؟ ” أيّ مستقبل لذلك الغار؟ الغار الذي ولدتُ ونشأتُ فيه منتصف هذا القرن على تخوم الجبال الصحراوية ؟ غار منقور في الصّخر، بارد في الصيف، دافئ في الشّتاء، النّائم فيه كالحالم في أمن الأحضان، والخارج منه كالمبعوث من رحم الأرض، هو الآن بعد زحف الحضارة ونزوح العشيرة إلى الشمال مأوى للورل وللأفعى والمهربين” ( نفس المصدر السابق والكلام للشاعر من ورقته ” المضارع المجزوم” ألقاه بمناسبة الملتقى الثالث للترجمة وحوار الثّقافات المركز الثقافي الدّولي بالحمّامات حول ” مستقبل الشعر”).
وحتّى إن وجد الشاعر لعبه كما كانت فلن يتجاوب معها الآن كلّ ذلك التجاوب:
لكنّما الصبيّ
ما عادت تسلّيه
لعبته القديمة ( ثلاثية ص 64)
فالصبيّ قد نما فنما معه ( بلغة حافظ محفوظ ) قلقه على جسده وعلى بلده، نما معه الغضب، نمت معه الأسئلة الكونية الكبرى ورغبة مغازلة الوجود، ومثل هذا يقصى نهائيا من عالم الطفولة الذي أمتع ما فيه أن الطفل لا يبحث عمّا وراء الأشياء، فمن شروط هذه الجنّة أن يكون سكّانها لا يعرفون حقيقة الوجود، فسعادتهم تكمن في أنّهم لا يعرفون عنه شيئا. فكيف للصبيّ الآن أن تسلّيه لعب الطّين وجريد النخل وقد وعى ؟
* المرأة :
ككلّ شاعر، دخل ” سوف عبيد” إلى الكون الشعري من بين يدي المراة،فهي الوسيلة السحرية لاختراق العالم وتنظيمه شعريا، لأنّها كما يقال مفتاح العالم الشعري، فبدونها يفقد الكون نكهته لدى الشاعر، وتتحول القصور إلى خراب مقيت برغم القباب وستائر الحرير والدّيباج والأبواب الذهبية:
سكتت شهرزاد
فأصبح القصر
خراب ْ ( شهرزاد ص 25 )
شهرزاد امرأة حكايات ألف ليلة وليلة، شهرزاد الأنثى الذكيّة التي فتحت قلب شهريار الجبّار فأصبح يتّسع للحبّ وحده بعد أن كان ينغلق على البغضاء والأحقاد، هي المرأة التي بدونها يصبح العالم قاحلا جدبا، هي التي تؤثّث حياتنا، هي الأرض، هي الوطن، هي الاستقرار والاستمرار والتّمادي:
أيّها الرجل
لماذا الملك
عن القصر يرحل ؟ !
فأجابتني حمامة
حمامة مرتبكة
طارت
وناحت :
ماتت الملكة
ماتت الملكة ( القصور ص 130)
فبدونها لا يكفّ الرّجل عن الترحال ولا يهدأ له غبار، المرأة أيضا الامتداد والتطلع إلى المستقبل، والشمس والفجر والنجمة والصّباح، ومادامت ذلك العالم الغريب الذي نسكن إليه ويسكن إلينا، نؤتيه ويؤتينا، نعطيه ويعطينا، مادامت الصولجان وتاج الفرح وعرش الجمال ففي سقوطها سقوطنا وفي قهرها قهرنا:
لا صوت…ولا حركهْ
فالأصابع تمتد
نحو
الملكه ْ! ( الشطرنج)
المراة أيضا بإمكانها أن تعطي للحياة طعما غير طعمها وان تحيي في الشاعر الطفّل الكامن داخله، لكن طعم الطفولة الخاص بها والذي كان قد وجده الشاعر وهو طفل في الخبز المصخود بالجمر، لا يمكن أن يجده الآن ولو في نفس ذلك الخبز، فلكلّ طور من العمر درجة من طعم الحلاوة أو المرارة:
هيبيني شهيّة قصعة
الخشب
وطعم الخبز الفوّاح
بعجين الجمر ( ابتهال ص 14 )
المرأة دفء، المرأة نسيم، هي كالبحر من حيث أنها تحافظ على اعتدال طقس الحياة:
ثمّة امرأة في عينيها
دفء
في يوم البرد
ثمّة امرأة في عينيها
نسيم
في يوم القيظ
كما يعتبرها الشاعر الشمس التي تبزغ إذا ما النّور انطفأ:
عندما انطفأ النور
فجأة
تسلّلت أصابعه إلى يدها
فبزغت الشمس ( فجر ص 118)
وإذا ما بلغ به الهيام مبلغه، صار عنيفا يشتهي السيف فيشبّه المرأة به:
ذات جلال كالسيّف
بها رقّة مثل حدّ السيف
بسمتها صفاء نصل السيف
ناعمة كأنّها قبضة السيف (السيف ص 29)
هكذا الجمال إذا تجاوز حدوده صار عنيفا صارخا، صحيح أن السيف يطيح بالرّقاب ويسفك الدّماء ويبتر الأطراف لكنّه يبقى رمزا للشرف والدفاع والحبّ العنيف، عنترة العبسي ذات يوم وهو في ساحة الوغى تذكّر عبلى… كيف ؟ لأنّ للسيف لمعانا يشبه إلى حدّ بعيد لمعان ثغر عبلى حين تبتسم، لذلك قال فيها أيامها قوله الشهير:
ولقد وددت تقبيل السيّوف لأنّها
لمعت كبارق ثغرك المتبسّم !
ولا أحد يسخر من رغبته في ثقبيل السيّوف اللامعة لمعان ثغر الحبيبة رغم الموت المرابط في حدودها، فمادام لها شبه بها فلن يخشاها ، بل سيزداد اقترابا منها ، ويصبح الموت شيئا لا يخيف مادام له علاقة بالحبيبة بشكل من الأشكال:
أيا شيخ المدينة
اسمح للنسوة
يخرجن في جنازتي
فما أبهى حبيبتي
ترفل
في السّواد ! ( بياض ص 93)
فليس المهمّ عند الشاعر أن يموت، المهمّ أن يكون الموت فرصة لرؤية حبيبته تلبس ثياب الحداد الأسود من أجله ولأجله وتسير في جنازته.
إنّ ما يمكن أن يقال في هذا المجال إنّ الشاعر قد أعاد إحياء شخصية المرأة التي تداولتها الأشعار العذرية والحكايات الشعبية، فهي شهرزاد الذكيّة الرّقيقة، وهي الملكة الظريفة، وهي السيّف رقّة وجلالا ونعومة، وهي الشّمس، وهي التي يتمنّى الموت من أجل أن ترفل في السوّاد فتزداد بهاء على بهاء، وهي أخيرا اعتدال طقس الحياة والوسيط بينه وبين طفولته.
* بين المعنى والمغنى :
جاء في دراسة لتوفيق بكّار: ( الشعر بين المعنى والمغنى ص 6 الحياة الثقافية عدد 51 1989 ) ” أنّ الشعر هو نظام لموسيقى الكلام وحداته الحروف أوزانا وألحانا” بحجّة أن العرب قديما سمّوا إلقاء الشعر وتلاوته إنشادا وفعلها في النّفوس طربا. فالقصيدة الناجحة إذن هي التي تتحقّق فيها ثنائية المعنى والمغنى، هي التي لها معنى وصوت فتقول أشياء وتطرب النّفس نغما في الوقت نفسه، ونظرا لصعوبة تحقيق هذه الثنائية، فإنّ الكثيرين من الشعراء قد جذبهم القطب الأوّل على حساب القطب الثاني من التعادلية، ويبدو أن شاعرنا لم يشذ عن هؤلاء، حيث توخى كثيرا تبليغ أفكار وعجائب ومفارقات على حساب المغنى (البنية النغمية) ولولا الجمل النثرية القصيرة التي يتميّز بها شعر ” سوف عبيد”، لأفسدت الفكرة والعجائبية الصّور الشعرية:
ــ سجين مدى الحياة
رسم بابا على الجدار
فتح الباب
وخرج ! ( إطلاق سراح ص 117)
ـــــ لا بأس على الفارس
إن تمدّد الآن على الحصير
وطرح برنسه
ثمّ نام بعافية
وسلام ! ( الفارس ص 99 )
أضف إلى ذلك القصائد التّي أهداها الشاعر إلى جملة من الفنّانين والتي حاول أن يحمّلها أفكارا جاءت بها أعمالهم من شعر أو قصّة أو رسم، وهذا حسب رأيي ما قيّد الشاعر وابتعد به عن مغنى النص الشعري. ولا انفي هنا أنّ قصائد كثيرة أخرى تتوفّر فيها الموسيقى بشكل يطرب الأذن ويهزّ الجوانح:
أجدادنا البدو
يأكلون ما حضرْ
يلبسون ما سترْ
ينزلون ويرحلون
ولا ينحنون لأحد
من البشرْ ! ( البدو ص 17 )
ولأنّ المجال لا يسمح بإعادة كتابة القصائد المشار إليها فسأكتفي بذكر بعض العناوين التي تتوفّر فيها ثنائية المعنى والمغنى:
( البدو ص 16 – التمثال والخليج ص36 – زمن الأزمنة ص 39 – بعض المقاطع من : القصور ص 128 – غاسل الموتى ص 114 – وقصائد أخرى متفرّقة ) .
كما أن من إيجابيات قصائد الشاعر التآلف واللحمة بين أجزائها، وقد عمل على الاهتمام بفواتح القصائد وخواتمها باعتبار أن المطلع الجيّد حسب ” ابن رشيق” تشدّ القارئ وتشحذ لديه الإنصات والانتباه وأن ” قاعدة القصيدة آخر ما يبقى منها في الأسماع”.
* الخوف:
الخوف عادة ما يكون من الحروب والأمراض والأوبئة والموت والكوارث الطبيعية، وهذا النّوع من الخوف سريعا، ما يزول بزوال الدّاعي إليه، ولكنّ الذي ينقلب إلى رقيب صارم في لا وعي الشاعر يقمعه ويثنيه هو ذلك النّاتج عن القهر المستمر المتعدّد الجوانب، عندها يصبح الشّاعر يخشى الرّقيب في كلّ ما يقوله أو ينوي التفكير فيه، أي بلغة أخرى يصبح يخشى على نفسه من نفسه، يقول ” أحمد مطر” في هذا الصدد: ” لا تدع نفسك تدري بنواياك الدفينة وعلى نفسك من نفسك حاذر”. كما يقول في قصيدة له بعنوان ” دوائر الخوف” من ديوانه ( لافتات):
” أصابعي تخاف من أظافري
دفاتري تخاف من أشعاري
ومقلتي تخاف من أبصاري”
ذلك فعل رقابة النّفس على النّفس.
الشعراء إذن خوفهم متعدّد الجوانب، إنّهم خلافا لعامّة الناس، الإسفنجة التي ليس بوسعها إلاّ أن تمتصّ كلّ ما وجد في العالم من خوف أو لا خوف، إنّه خوف من الآتي المجهول، من الفرح نفسه، من الأيّام، من الزّمن الذي انقلبت فيه الموازين وامتلكته المتناقضات واكتنفه العجب:
إنّه زمن
طيوره من أبابل
ترمي الأطفال
بالقنابل ( زمن الأزمنة ص 42 )
حتّى الأطفال الذين يرمزون إلى السّلم والبراءة لم يسلموا من هذا المارد… إنّه زمن صار فيه ” حاتم الطائي” الجبّار، فكيف لا يخافه الشاعر وقد فقد مصداقيته وأصبح الشرّ هو الخير والخير هو الشرّ… في اليقظة خوف وفي المنام خوف: خوفان في خوف:
مذعورا أفقت
وجدت الإبرة والخيط
بين الشفة
واللّسان ( كابوس ص 84 )
إنّ ما يمكن أن يقال في هذا المجال إن الشاعر قد بدا وخاصّة في قصيدة ( زمن الأزمنة ص 42 ) ممّن يتذمّرون كثيرا من الدّهر وتقلّباته وينسبون كلّ المصائب إليه بشكل يغلي دور الإنسان وإرادته في صنع الأحداث وتغييرها:
ذا زمان
تحطّمت فيه
حدود المكان !
ذا زمان
تداخلت فيه حدود الزّمان
ذا زمان
قضبان داخل قضبان ( زمن الأزمنة ص 41)
الشّاعر متشائم نوعا ما ( لنقل نصف متشائم) وتشاؤمه هذا يتوزّع عبر كلمات لها صلة بالمعنى التشاؤمي الظّاهري ( أقول الظّاهري ) للعنوان ” صديد الرّوح”:
” الجو خانق”، ” الحرّ لا يطاق”: ( مقابلة ص 21 )
” صديد الصّباح”: ( الإبرة ص 26 )
” ينوشك الصّديد”: ( التمثال والخليج ص 36 )
” فقأ المفتاح عينيه”: ( المفتاح ص 138 )
” حصدنا قيحا” ” عطش”، ” تخثّر الدّم” ” الصّديد”: ( زمن الأزمنة ص 40،41،42،43 )
” حتّى يترشّح من جيوبي الدّم “: (الوحش ص 83 )
وهذه الكلمات تتماشى ضمنيا مع الغلاف من حيث اسوداد المستطيل والمفاتيح التي كما أسلفنا قد ترمز إلى الأبواب والمسالك الموصودة.
* الصّراع… الأمل…
بقدر ما كان الشاعر خائفا متشائما كان متفائلا، يؤمن بشرف الصّراع حتّى النهاية، فليس المهمّ عنده أن يربح الإنسان كل الجولات التي يخوضها، بل المهمّ ألاّ ييأس ويرمي المنديل الأبيض علامة الانهزام، ولقد حاول أن يبلّغ هذا المفهوم الإيجابي لصراع الإنسان في الحياة إلى أصدقائه الفنّانين من شعراء وقصّاصين ورسّامين، ففي قصيدة ( لزوم ما يلزم ص 32 )، يضرب للشاعر ” عبد الله مالك القاسمي” مثل الكائنات الحيّة في المقاومة في أبسط مظاهرها، فالوردة لا تملك إلاّ أن تصبح أجمل قبل قطفها، والفراشة رغم ضعفها ترفرف وترفرف قبل أن تقع في يد الصيّاد، أو في خيوط نسيج العنكبوت، أمّا العصفور، ولأنّ له صوتا، فلا بدّ أن يغنّي ، قبل الموت ، للحريّة:
لكنّما العصفور
في القفص ْ
قبل أن يموت
عليه أن يزقزق
وأن يغنّي
للحريّة ( لزم ما يلزم ص32)
وفي قصيدة ( التمثال والخليج ص 36 )، يخاطب تمثال الشاعر العراقي ” بدر شاكر السيّاب” المشيّد بالبصرة ( شطّ العرب)، فيشبّهه بالنّخلة في شموخها وإصرارها على الحياة، ويرجو منه أن يخرج من الحديد ويقرأ الكتاب الذي في الجيب على الزوّار، ربما الكتاب ديوان ” شناشيل ابنة الجلبي” أو ” أزهار ذابلة” أو ” المعبد الغريق” أو ” منزل الأقنان” أو ” أنشودة المطر”. ويبدو زرع الشاعر للأمل في القلوب في قوله يصف وقفة التمثال:
واقف
يداه برغم الصّديد يدان
تجنيان ملحا
يداه في الحديد يدان
تسابحان طيرا ( التمثال والخليج ص 36)
فبرغم الحديد والصّديد تمتدّ يد التمثال تجنيان ثمرة النّخلة، وترتفعان تحيّة للطيّر رمز السّلام والحريّة والأمل والانطلاق، وفي قصيدة ( صالح القرمادي ص 104)، يتغلّب الدفء على البرد ، وينسحب الظّلام تاركا مكانه لنور الكهرباء:
لأنّه الشّتاء
تركت الموقد يشتعل على مهل
لأنّه الظلام
ظلّ الكهرباء في غرفتك حتّى الصّباح
وفي قصيدة ( إطلاق سراح ص 117 ) يبدع الشاعر في وصف مدى قدرة الحلم على اختراق الحواجز ومدى حاجتنا إلى الحلم والأمل، فحتّى المحكوم عليه بالسّجن مدى الحياة، والذي عادة ما يحذف اليأس من قاموسه عبارات كالمستقبل والحريّة و… و… نراه يحلم بالخروج من السّجن، بل يخرج فعلا بروحه غصبا عن الجدران والأقفال والأبواب الحديدية:
سجين مدى الحياة
رسم بابا على الجدار
فتح الباب
وخـــــــرج !
إن المجتمع لا فنّان، لذلك لا يعترف بالمبدع كرسول ونذير، الفنّان وحده الذي يعترف بنفسه، وحده الذي يدرك قيمة نفسه وغيره من الفنّانين، لذلك خصّ الشاعر بعض الفنّانين بقصائد ( حتّى الموتى منهم) ويبدو أن ” سوف عبيد” بقي وفيّا لجدّ الطلائعيين ” صالح القرمادي” ( 1933 – 1982 )، ( و التسمية لـ : جان فونتان).
إذ إلى جانب القصيدة التي خصّه بها، ترجم له إلى العربية قصيدة ( الشيء ونقيضه ص 105 ) والتي أبدع فيها المرحوم في وصف لعبة المتناقضات في الحياة ودورها في الصيرورة:
بالضّمير أو بلا تأنيب نحيا
بجواز سفر بلا سفر نحيا
على خطإ أو بلا غلط نحيا
والمرء يستنشق شذى الفطائر
عائدا من دفن الأحبّة
في المقابر
إنّ بذور الأمل قد زرعها الشاعر في جلّ ممرّات قصائد الدّيوان، بعد أن أعدّ لها تربة خصبة هي مزيج من التراث ومسمّدات الانطلاق والامتداد، وقد جعل لكلّ باب مفتاحا يتطلّب الحصول عليه مجهودا ذا بال ومقاومة وصراعا.
* المتشائل :
يبدو الشاعر في النّهاية شخصا ذا كيان نصفه متفائل ونصفه الآخر متشائم، وهي حسب رأيي حالة صحّية لا تبعث على القلق أبدا، إذ الإنسان كالطبيعة تماما مبنيّ على المتناقضات: غضب، هدوء، حبّ، كره، حزن، فرح، فلولا الحزن ، مثلا ، لما عرفنا أنّ هناك حالة أحبّ إلينا من حالة الحزن تسمّى فرحا، ولما تذوّقنا طعم حلاوتها، إذ الحلاوة تدرك باللّسان أكثر، بعد المرارة، كلّنا إذن متشائمون متفائلون، وبعبارة الروائي العربي الفلسطيني : ” أميل حبيبي ” في روايته : ” المتشائل ” يمكن القول كلّنا متشائلون..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** قدّمت هذه الدّراسة مع عمل آخر للدكتور : مصطفى الكيلاني بمقر اتحاد الكتاب التونسيين ( 20 شارع باريس ، تونس ) سنة 1990 ، ضمن نادي الشعر ، تقديما للشاعر : ” سوف عبيد ” بمناسبة صدور ديوانه : ” صديد الرّوح ” وكانت وقتها تحت عنوان : ” صديد الروح وتطعيم الواقع بروح التراث..”
معجب بهذه:
إعجاب تحميل...