من
يقرأ محمد الماغوط ابتداء بمجموعته "حزن في ضوء القمر" في اواخر خمسينات القرن
المنصرم وصولا الى كتابه الاخير "شرق عدن غرب الله" الذي وصف بانه "نصوص جديدة"
تفيض نفسه وتكاد تغص بفوران مزدوج.. متعة جمالية فائقة وألم جارح كسكين.
المتعة الجمالية المشبعة بالحزن الرائع تنتج عن قراءة قصائد هذا الشاعر الكبير الذي
لا يشبه احدا في عالمنا العربي على الاقل لكنه كان ذا تأثير كبير ملا اجيالا من
القلوب والنفوس بمزيج من اللذة والثورة واسهم في تطوير الذوق الجمالي واخراجه من
نمطية منومة كما جعل كثيرين من اجيال مختلفة يشبهونه او يسعون الى ان يشبهوه. اما
الالم وان كان توأم السخرية الكاسحة في الشعر الماغوطي عامة فهو اكثر حدة ومأسوية
هذه المرة لا لانه يحمل كثيرا من الاحزان الخاصة فحسب بل لانه يعبر عن "الاحزان
الخاصة" عند الجميع ويصور واقعا ساحقا يختصر في ان كل ما تغير في عالمنا العربي منذ
المجموعة الاولى يتمثل بتعاظم الخيبات والقضاء على الاحلام سحقا ونزفا وجفافا
وازدياد الشعور بالغربة وانعدام القيمة وتنامي الشعور بالخجل على الصعيدين الانساني
والقومي عند من هم "قادرون" على هذا الشعور.
وفي
قراءة الماغوط الان قد يتذكره بعض من عرفوه في بيروت ايام
"حزن
في ضوء القمر" وهو بين تذمر وشكوى يطلق شتيمة قائلا "يا رفيقي ما فيش حقيقة."
والارجح ان قول الشاعر هذا لم يكن صادرا عن مجرد موقف فلسفي او "سوفسطائي" بل عن
نقمة على سيطرة النفاق والصغر حتى في ايام الاحلام فكيف هي الحال الان بعد ان ندر
ضوء القمر وكادت الذاكرة وملاعب الاحلام تقفر فلا يسكنها سوى الحزن؟
وربما يتذكر قارىء الكتاب الجديد ايضا قولا شهيرا للماغوط في تلك الحقبة الماضية
اختصر فيه بعض مأساة العالم العربي في رمزين اذ قال "ايها العرب.. يا جبالا من
الطحين واللذة". وقد يكتشف كذلك ان الجروح القديمة لا تندمل بسهولة كما ان الاحلام
القديمة لا تموت ايضا حتى وان كتبنا عن موتها ورثيناها. انها رفيقة العمر تتوارى
هربا من الخيبة لتختبىء في نفوسنا فنتوهم غيابها النهائي.
ومن
هنا حديث اليوم عن خيبات الامس واليوم وعن الاصدقاء وشركاء الاحلام وورثة الخيبات.
ومن
ناحية اخرى يبدو الشاعر كانه يقول اليوم ما قاله بالامس لا لانه يكرر نفسه بل لان
هذا العالم العربي لا يتغير بسهولة وان تغير فتغيره في نظر الشاعر انحدار لا
ارتقاء. الا ان الماغوط لا يكرر نفسه فاذا عبر عن المشهد العربي الثابت رغم مر
السنين فتعبيره دائما متفرد ملون خلاب. فهو لا ينشد لحنا واحدا مرتين وان تشابه
لحنان او تطابقت "معانيهما".
وهو
الان لا يزال ثائرا هادرا ساخرا تفيض كتاباته بالصور الغريبة المتلاحقة كأنها مناظر
متسارعة مشبعة بالدهشة ومشاعر الخوف والغربة والرحيل تسجلها عينا طفل من خلال نافذة
قطار سريع. هناك دائما الطفل الذي شاخ وقطار العمر. الا ان قصائد الكتاب تحفل بأسى
لا يطل منه ضوء قمر او نور شمس الا ما تمثل في الذرية والاحفاد وفي عدد من الاصدقاء.
فالصداقة كما وصفها احد المفكرين هي "عزاء الحياة".
مجموعة الماغوط الاخيرة التي صدرت عن "دار المدى" فى دمشق اشتملت على 112 قصيدة
توزعت على نحو 690 صفحة متوسطة القطع. في مقدمة بعنوان "محمد الماغوط ..حلم الاجيال"
بقلم فاطمة النظامي قالت الكاتبة "يقرع الماغوط ناقوس الشعر على طريقة راهب حزين
يفرغ على صنجاته كل اشتهاءاته ثم يترك حباله تسترخي بانتظار حزن جديد.. حزن جديد..
وهل هناك انقطاع في احزان الماغوط.. الا اذا كان هناك انقطاع في عشقه للحرية...
الماغوط ظاهرة حقيقية متفردة وهي على جدتها اصيلة لم تقم على الانقاض ولم تبن على
الركام فهو لم يزعزع اي بنيان بل بنى بنيانا جديدا."
وفي
كلمة شعرية وجدانية عن الماغوط الذي اعتبره كثيرون ظاهرة شعرية فريدة قال الشاعر
والصحافي الياس مسوح احد اصدقاء عمر الماغوط "ماذا اكتب ودم العراق يسيل وحبر محمد
الماغوط يسيل بل احزانه... وترتفع اعمدة الطوفان فألمح الماغوط. على وجه القمر.
كأنه ايوب السومري ما بين المتوسط والرافدين يخترق الحجب وصراخه.. الرياح الغريبة
تطعن جلجامش.. يملا الاودية والبطاح... وانا احمل عالم الماغوط تحت ابطي واذا عدت
من عالمه.. وانا لا ابرحه.. رأيتني معلقا بين غمامتين الاولى قصيدة والثانية بحر في
الاهوار وهي تفيض من كل جانب دما ودموعا وحبرا."
في
قسم من قصيدة "ارق الغيوم" يقول الشاعر "كنت مزارعا ولا حقول لي/ عاملا ولا مصانع
لي/ رياضيا ولا فريق لي/ مطربا ولا جمهور لي/ فعرفت بعد كثير من الدراسات والارقام
والاحصائيات والاستشارات والانطباعات انني عبد وعلي تحطيم سلاسلي/ وبعد خمسين سنة
من الارقام والاحصائيات والشروح والمطولات والمناقشات والمراجعات والمداولات
والتوصيات والهتافات/ صرت اتباهى بها".
ويختم القصيدة بقوله "تلك الغيوم كانت بلادي/ وتلك الطيور في سمائي.../ وكل ذلك
التصميم في ملامحي.../ وكل تلك الافاق امامي/ وكل تلك البطولات في ذاكرتي.../ وكل
ذلك الحداء في حنجرتي/ وكل تلك الملاحم في دفاتري/ كل ذلك رأيته/ وانا ابيع ما تبقى
من اصابعي/ لاحد السياح/ من تجار الاثار والعاديات".
في
"مدرجات رومانية" يقول "لم يبق من اجراس الثورة سوى الصدى/ ولا من جواد الشعر سوى
اللجام/ ولا من طريق الحرية سوى الحواجز الطيارة والثابتة.../ نعم لقد دخلنا القرن
الحادي والعشرين/ ولكن كما تدخل الذبابة غرفة الملك."
في
"تداعيات فرعونية" كشف مؤلم عن داخل نفس الشاعر ذلك العالم الحساس السريع العطب
الذي لا يراه الاخرون "والكل يرى في قلعة صامدة/ وطودا شامخا في وجه الزمن/ ولا يرى
الكوخ المتداعي في اعماقي/ والكل يسمع الصهيل وصيحات الوغى/ يرى نقوش السرج/ وغبار
الحوافر السابحة في الهواء/ ولا يرى قدمي العالقة في الركاب."
وتبقى كلمة الماغوط دائما كلمة ذات شخصية مميزة لا تشبه غيرها.
في
"الهوية الالكترونية" مثلا التي تتناول حقوق الانسان العربي وعذابه وسجونه تتجلى
السخرية الماغوطية في اقصى مرارتها وصدقها.
وعلى رغم تناولها "يوميات" من الحياة العربية يمكن ان تنأى بها قليلا عن لهب
"الوجداني" فانها لا تفقد شحنتها الشعورية ونفاذها وايحاءاتها فكأنها وليدة موهبة
كتلك التي يقال فيها انها تخلق جمالا حتى من المصيبة.
يقول "الاسم.. محمد او عيسى او موسى حسب الظروف في المنطقة او العالم/ الطول.. حسب
الجهة التي أوقف امامها في تلك اللحظة.../ الهوية.. التثاؤب.../ التابعية.. جمهورية
افلاطون الشعبية الديمقراطية العربية الافريقية العلمانية المحافظة المتحدة العظمى
او جمهورية فرحات ليوسف ادريس/ مكان الاقامة.. اي رصيف او حاوية عليه/السن.. محير/
البلاد التي زرتها.. سجن المزة. القلعة.
الشيخ حسن. تدمر.الرمل. المية ومية. نزمامارت. ابو زعبل.
ابوغريب/ عدد العيون والاذان والاسنان.. حسب مراكز التحقيق.
وللدولة واحد وخمسون بالمئة من عددها كأسهم الشركات الرسمية/ الطعام المفضل..
الاحلام/ العنوان الالكتروني.. شرق عدن غرب الله.