يقول الحديثي: ".. كثير من شباب فلسطين المجاهدين يحفظون قصائد (وليد الأعظمي)، واتخذوا أبياته شعارات جهادية، وكتبوها على الجدران واللافتات، وكذلك في سوريا واليمن والجزائر والمغرب وباكستان وأندونيسيا.. ص 406 المصدر السابق.
وقد شكلت القضية الفلسطينية جزءاً من الهم الإسلامي العام الذي عاشه وليد الأعظمي طيلة حياته وعبر عنه في دواوينه ومنها ديوان (الزوابع) الذي نظم قصائده بين عامي 1950 و 1960م، كما يقول الأستاذ نعمان عبد الرزاق في تقديمه للديوان، أي أنه كان في العشرينات من عمره، مما يجعلنا نقف أمام قمة شعرية شابة مثله في ذلك مثل الشاعر هاشم الرفاعي. وتأتي قضية فلسطين في ثنايا قصائده، حيث يصور أبعاد القضية والمأساة في الواقع وامتدادها التاريخي، كما يشخص الداء ويصف الدواء.
دورة التاريخ
يرى وليد الأعظمي أن عودة اليهود إلى فلسطين وإقامة دولة لهم دورة تاريخية تقوم على جريان سنة الله في الكون ونتائجها في حياة الشعوب، فالغفلة ضعف، واليقظة قوة، فيقول:
إيـه فلسطين، للتاريخ دورته
ولـلـحـوادث إيراد وإصدار
نمنا زماناً، وكان الخصم منتبهاً
مـن نام خاب ولم تسعفه أقدار
سرى إليك رسول الله من قدَم
ولـم يكن ثَمَّ صاروخ وأقمار
وهذه الحكمة كما هي قراءة للتاريخ، هي إشارة إلى الآية القرآنية [ وتلك الأيام نداولها بين الناس ]، ولكنها دورة ودولة مرتبطة بأسبابها (من نام خاب ولم تسعفه أقدار).
وهو إذ يشير إلى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ينقلنا إلى أجواء سورة الإسراء، وما فيها من إشارات إلى دورة التاريخ مع بني إسرائيل خاصة قبل الإسراء وبعدها مما ذكرتها الآيات القرآنية في السورة من إفساد بني إسرائيل في الأرض مرتين وعلوهم علواً كبيراً، وإيقاع العقوبة عليهم من الله سبحانه بوساطة عباد لله أولي بأس شديد في الأولى، ثم في الدورة الثانية (وإن عدتم عدنا).
ومن هذا الوعد القرآني ينطق الشاعر مرة أخرى مؤكداً أن دورة التاريخ لن تتوقف، فيقول:
إيـه فـلسطين! للتاريخ دورته
ولـلـحـوادث إيـراد وإصدار
إنـا على موعد يا قدس فانتظري
يـأتـيك عند طلوع الفجر جرار
جـيـش تـدرع بالإيمان يدفعه
لـنـصـرة الحق تأكيد وإصرار
آلـى عـلى نفسه ألا يبل صدى
حـتـى تعود إلى أصحابها الدار
لا عذر للعرب عند الله إن سكتوا
وبات في القدس من صهيون ديار
وهنا نجد إشارة عجيبة في قوله (آلى على نفسه ألا يبل صدى) إلى قصة جيش طالوت المؤمن في القرآن في قوله تعالى [ إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده..] ومع أن طالوت وجيشه من بني إسرائيل، وربما كان الذين قاتلوهم (جالوت وجنوده) من العرب الكنعانيين حسب الروايات التاريخية !! إلا أن الشاعر هنا ينظر إلى المسيرة الإيمانية التي تشكل قافلة واحدة !! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيام يوم عاشوراء " نحن أولى بموسى منهم "!!
وهكذا ينذر وليد الأعظمي دولة صهيون في فلسطين بجيش مؤمن صفته معروفة لديهم وهو القلة المؤمنة التي نجحت في اختبار تحمل العطش مع أنهم يخوضون مياه النهر المتدفقة العذبة، وهؤلاء اليهود هم أصحاب السبت الذين سقطوا في الاختبار فقال لهم الله سبحانه وتعالى [ كونوا قردة خاسئين].
من صور المأساة
وقد خلقت المآسي في فلسطين جراء الاستيطان اليهودي الغاصب أوضاعاً محزنة يصفها الشاعر في أكثر من قصيدة، بما يثير في النفس الحزن والشفقة والغضب في آن واحد، يقول في صفحة 58 من قصيدة يا أمة القرآن:
أمـا فـلسطين فسيل دمائها
لـم ينقطع وعيونها لم ترقد
الـلاجـئون وهذه أكواخهم
كالعار عن أنظارنا لم يبعد
فـي كل كوخ لوعة ومناحة
من طفلة تبكي وشيخ مقعد
ويـتيمة تلوي إليك بجيدها
تشكو الهوان بحسرة وتنهد
وكريمة لعب اليهود بطهرها
وبـها تمتع رائح أو مغتدي
ويوضح أثر هذه الصور في نفس الرائي في قصيدة أخرى ص 113 فيقول:
كاد الفؤاد يذوب عند لقائهم ألماً ومقلة ناظري لم ترفع
ومثل هذه الصور جديدة قديمة، فهي موجودة في شعرنا العربي القديم منه و المعاصر ، فقد تناول
الشعراء مأساة الأندلس بقصائد كثيرة امتلأت بهذه المعاني والصور الواقعية الأليمة، ومثلها في شعر ابن الرومي في مأساة البصرة، ثم فيما سجله الشعراء في المآسي التي تركتها هجمات المغول والصليبيين على السواء، أما في العصر الحديث فقد أغنى العيان عن الخبر، ولكن الأمر في الخمسينات كان مختلفاً إذ لم تكن وسائل الإعلام المرئية منتشرة، وكان للكلمة المصورة دورها وأثرها.
أسباب المأساة
وإذ سجل الشاعر أن السبب الأول للمأساة (نمنا زماناً وكان الخصم منتبهاً) فقد أسهمت أسباب أخرى في تعميق المأساة وترسيخها في أرض الواقع ومنها تخلي المسلمين عن دينهم وهذا السبب بمثابة شرح للنوم الذي استغرقت فيه الأمة، فيقول الشاعر في قصيدته " حقيقة الرقي " ص 148:
يا للمصيبة قد تركنا ديننا
حتى استخف بديننا شاؤول
ويوجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول:
لـو أن ديـنك نفذت أحكامه
لرست لنا فوق الجبال أصول
ولـما تخطفت الطغاة حقوقنا
ولـنـا بـذلـك حجة ودليل
غير أن الشاعر يخصص السبب، ويحمل الأحزاب المتناحرة والمتصارعة بحسب الأهواء والمصالح الشخصية مسؤولية كبيرة في ضياع فلسطين وتردي أوضاع بلادنا عامة فيقول في قصيدته (قالوا زيارة شيخ) ص 120 ـ 121 :
وأنتم يا معشر الأحزاب كيف بكم
وجـودكـم فـيه للأوطان بلواء
مـاذا فـعلتم أجيبونا قد انكشفت
أعـمالكم، ليس بعد اليوم إخفاء
خـدعـتـمـونـا بألقاب منمقة
قـد تـخدع القلب ألقاب وأسماء
والبعض يشتم بعضاً دونما سبب
يـدعـو إلـيه كأن القوم أعداء
مناهج القوم في الإصلاح خاطئة
ونـظـرة القوم للإصلاح رعناء
هـذي فلسطين تدعوهم لنصرتها
ويصرخ المسجد الأقصى وسيناء
لا خير فيهم لقد ركنت عزائمهم
وفـي فـلـسـطين أعداء ألداء
فالفرقة والاختلاف وخطأ المناهج الإصلاحية المستوردة هي الأسباب الرئيسية التي عملت في إضعاف الصف العربي في مواجهة العدو اللدود في أرض فلسطين.
ومن هذا الضعف يبشر الشاعر أملاً في أن تخرج قوة مؤمنة من بغداد الرشيد والمعتصم تسترد من الروم الجدد حق المسلمين السليب فيقول في القصيدة نفسها:
مـهلاً فلسطين في بغداد كوكبة
مـن الـشـبيبة أبطال أشداء
ركـب الأخـوة عين الله تكلؤه
ركـب الجهاد له الإيمان حداء
يا قدس حسبك صيد لا يؤخرهم
عن نصرة الحق ترهيب وإيذاء
نحن المغاوير من أحفاد حيدرة
لا زعزعتنا من الأحداث أهواء
لا بـد من ثورة يا قدس عاتية
مـنها تحل على الأعداء بأساء
حـتـى يفر بنو صهيون ثانية
كـمـا تفر من الرئبال جرباء
ويـرجـعـون إلى آفاقهم بدداً
كـما إلينا من الآفاق قد جاؤوا
نعم أيها الشاعر الأعظمي (للتاريخ دورته) وإنك إذا رحلت ودورة التاريخ ما زالت علينا، وما زالت رحى التاريخ تطحننا طحناً أليماً تدور بشدة على إخواننا في فلسطين.. في الأرض المباركة.. في القدس وأكنافها، وهم صامدون صابرون عطشى.. يأبون أن يرتووا من ماء النهر.. ها قد رحلت عنا بعد خمسين عاماً من قصائدك " الزوابع " والزوابع تلفنا فتكاد تقتلع قلوبنا من صدورنا.. ها قد رحلت عنا وقد دخل أحفاد السبي البابلي إلى بغداد تحت رايات الصليب من كل حدب وصوب تداعت على قصعة المسلمين ينهشونها دون رحمة.. ها قد رحلت والمغاوير من أحفاد حيدرة يقاومون الغزاة في بغداد وليس في القدس فقط..
فرحلت عنا بصمت بعد أن كانت قصائدك تملأ المواكب والمهرجانات والاحتفالات.. رحلت عنا بصمت مع رحيل العام الهجري 1424 هـ . فلك منا الدعاء ومن الله الرحمة والرضوان.