تقترح هذه الورقة إثارة الانتباه إلى مفهوم الصورة الروائية باعتباره أحد المفاهيم
التي أصبح النقد الأدبي ينشغل بها داخل الساحة النقدية بصفة عامة و الساحة النقدية
المغربية على وجه الخصوص.
و
هذه الورقة لا تدعي القيام بمسح شامل للدراسات التي اهتمت بهذا المفهوم بل أقصى ما
تستطيع هو الوقوف عند أهمها قصد إثارة النقاش من جهة و فتح المجال للتفكير في
الأدوات و المنهجية الملائمة التي يمكن أن تسعف الدارس في تناول هذا الموضوع
تطبيقيا.
سنحاول إبراز كيف تم التعاطي مع مفهوم الصورة داخل المجالين النقديين المقارن و
الروائي قصد تبيان نوعية الأسئلة المطروحة و المنهجية المسعتمد عليها.
إن
الحديث عن الصورة في المجال الأدبي اقترن لمدة طويلة بالخطاب الشعري، حيث نجد
دراسات عديدة تنشغل بمقاربة الصورة داخل مجال الشعر، ومن بين العناوين الدالة على
ذلك يكفي أن نقرأ أحد العناوين المشهورة (الصورة الفنية )حتى نفهم أن الأمر يتعلق
بمقاربة نقدية تتخذ النص الشعري حقلا للبحث، ومن هنا نفهم ذلك المصطلح الشائع
للصورة الشعرية التي تهتم بالتشبيه، المجاز، الاستعارة، والكناية.
لكن، السؤال الذي يطرح نفسه هو على الشكل التالي:هل الصورة بصفتها مصطلحا نقديا
مرتبطة فقط بنقد الشعر؟ و هل صحيح أن مجال توظيفها لم يتجاوز النصوص الشعرية؟
يمكن لنا القول بكل اطمئنان أن دراسة الصورة في المجال الأدبي لم ينحصر فقط بالشعر،
بل امتد أيضا إلى النصوص النثرية الروائية على وجه الخصوص، و قد تجسد ذلك في مجموعة
من الأبحاث التي تنتمي إلى مجال النقد المقارن من جهة و مجال النقد الروائي من جهة
أخرى.
1
الصورة في النقد المقارن.
1-1
صورة في النقد المقارن الغربي
تم
الاهتمام بالصورة في النقد المقارن ضمن إطار مبحث الصوراتية (imagologie’.(L
و قد عرفه جون مارك مورا وهو أحد المختصين بهذا المجال جون مارك مورا على الشكل
التالي:" مجموعة من الأعمال في الأدب المقارن مختصة بتمثلات الأجنبي". و يرى الباحث
أن الموضوعات المفضلة للصوراتية تنحصر في اثنتين:" محكيات الأسفار و الأعمال
التخييلية التي تعمل على مسرحت الأجنبي."
لقد
تم ابتداع كلمة الصوراتية في القرن العشرين، حيث استعملت من قبل دارسي علم النفس
الاجتماعي في سياق دراستهم لنفسية الشعوب، ثم " تناولت النظرية الأدبية هذا المفهوم
عند نهاية سنوات الستينات[من القرن العشرين] للدلالة على الدراسات المقارنة على
الدراسات المقارنة حول صُوَر الأجنبي"
إن
الصوراتية تهتم بالعلاقة التي تتم بين الكاتب من جهة و البلد الأجنبي من جهة أخرى،
و هي تترصد هذه العلاقة من خلال الأعمال الأدبية. و قد عمقت مفهوم الصورة في ثلاثة
اتجاهات:
أولا، تم إعطاء الأولوية للصورة من خلال الاهتمام بمنطقها الداخلي، و من هذا
المنطلق أصبح المرجع الذي تحيل عليه ثانويا.
ثانيا، تم التعامل مع الصورة في بعدها المرآوي، بحيث أصبحت تكشف الفضاء
الإيديولوجي و الثقافي الذين يتموضع الكاتب و جمهوره بداخلهما و تعمل على
ترجمته.
ثالثا، دراسة الصورة في بعديها الجمالي و الاجتماعي لأنها تنتمي إلى متخيل مجتمع
ما.
و
في نفس الإطار، لاحظ الباحث دانييل هنري باجو في مقال له بعنوان ( من المتصورة
الثقافية إلى المتخيل) أنه إذا كانت فرنسا سباقة في الاهتمام بالصوراتية فإن هذه
الأخيرة عرفت في ما بعد اهتماما متزايدا في كل من إنجلترا و ألمانيا.
إنها تشكل المجال الذي تتقاطع بداخله مجموعة من الأبحاث المنجزة من قبل باحثين
أنثربولوجيين، وإتنولوجيين، و سوسيولوجيين، و مؤرخي العقليات الذين يطرحون قضايا و
أسئلة تتعلق بالتثاقف، و الاستلاب الثقافي إلى غير ذلك من القضايا. إن هذا التقاطع
يرجع إلى كون أحد مهام الدارس المقارن تكمن في إعادة طرح نفس اهتمامات الباحثين
المشار إليهم أعلاه على الحقل الأدبي لأن الأمر بالنسبة لهذا الدارس هو " إدراج
التفكير الأدبي داخل تحليل عام يخص ثقافة مجتمع واحد أو أكثر"
أما
الطابع الأدبي للصوراتية فيكمن في ما يسميه باجو بالصورة (الأدبية)
L'Image
littéraireا
حيث يعرفها على أنها " مجموعة من الأفكار المتعلقة بالأجنبي الممسك بها في إطار
سيرورة ما هو أدبي و اجتماعي"
يعمل باجو على صياغة مفهوم للصورة باعتباره فرضية عمل أكثر منه تعريفا على الشكل
التالي: " كل صورة تنبثق عن وعي، مهما كان ضئيلا، لأنا في علاقتها بالآخر، و لهنا
في علاقتها بمكان آخر. فالصورة إذن تعبير، أدبي أو غير أدبي، عن انزياح دلالي ما
بين مستويين للواقع الثقافي".
إن
الصورة يمكن أن تشكل أيضا تعبيرا أدبيا عن فارق واضح بين نظامين ثقافيين، من هنا
يمكن اعتبارها تمثلا لواقع ثقافي من خلاله يترجم الفرد أو الجماعة التي تنتجها
فضاءهما الاجتماعي، الثقافي، الإيديولوجي و التخييلي.
و
باعتبارها تمثلا، فإن عناصر الصورة الحاضرة في الفكر تقوم مقام خليط من العواطف
والأفكار التي من الأهمية بمكان أن يتم القبض على أصدائها العاطفية والإيديولوجية.
إن الصورة المقارنة في نظر الدارس ليست استنساخا للواقع، بل تتشكل انطلاقا من
خطاطات وإجراءات موجودة بشكل مسبق داخل الثقافة الناظرة. إنها حدث ثقافي، و مكانها
لا ينفصل عن العالم الرمزي المسمى بالمتخيل، هذا الأخير لا يمكن فصله عن التنظيم
الاجتماعي لثقافة ما، ومن هنا تسميته بالمتخيل الاجتماعي.
يقدم الباحث بعض الآليات لتحليل الصورة داخل مجال الأدب المقارن، وهي آليات تتناول
العناصر التي انطلاقا منها تتشكـل هذه الصـورة، وهـذه العناصـر هـي: الكلـمة (أو
المعجم) ، العلاقات المقدمة بشكل هرمي ما بين الأنا والآخر، ثم السيناريو. إن النص
الأدبي هنا يتخذ على أنه وثيقة أنثروبولوجية، ينكشف من خلال تحليله نظام قيم الآخر
وتعبيرات ثقافته بالمعنى الأنثروبولوجي.
بهذا المعنى تبدو الصوراتية تنويعا على الموضوعاتية، فهي تسائل قضايا مهمة مثل
الهوية والعلاقات الممكنة بين الذات والآخر. والمكسب الأساسي الذي افتتحته داخل
مجال الأدب المقارن هو الاعتراف بشكل واضح بمشروعية تناول الصورة داخل مجال النثر
وخصوصا الرواية، وتقديم بعض الآليات المنهجية التي تمنح الإمكانية للتحليل الأدبي
من مقاربة الصورة داخل النصوص الروائية.
2-1الصورة في النقد المقارن العربي
إن
الانشغال بالصوراتية لم ينحصر فقط في الأدب المقارن الغربي، بل كان له صدى كبير في
الأدب المقارن العربي و المغربي أيضا، بحيث اهتمت دراسات عربية عديدة بالعلاقة
القائمة بين الثقافة العربية من جهة، و الثقافة الغربية من جهة أخرى و كيف تنظر كل
ثقافة إلى أخرى. سنقدم على سبيل المثال دراستين: الأولى لعبد المجيد حنون، و
الثانية للدكتور محمد أنقار.
في
دراسة لعبد المجيد حنون تحت عنوان: (صورة الفرنسي في الرواية المغربية) حاول الباحث
دراسة صورة الفرنسي كما رسمها الروائي المغربي. و الملاحظ أن الباحث يعي منطلقاته
من خلال تقسيمه لصور الشعوب إلى نوعين: "صورة شعب في أدبه: مثل صورة الفرنسيين في
أدبهم أو صورة المرأة الألمانية لدى أديب ألماني[...] وهناك صورة أخرى هي صورة شعب
في أدب شعب آخر"
و
في نظر الباحث أن الموضوعات التي تتعامل مع الصورة تتكون من شقين:"الشق الأول صورة
بلد أو شعب أو شخص يمثل شعبه أو بلده، و الشق الثاني يتكون من انعكاس صورة البلد أو
الشعب أو الشخص في أدب شعب آخر أو أدب أديب من ذلك الشعب."
و
يدرك الدارس جيدا أن مبحثه يندرج ضمن الأدب المقارن الذي يرى أن الاهتمام به آخذ
بالتزايد داخل الآداب الغربية في مقابل ندرته في الأدب العربي.
هناك مسألة أخرى يعيها الكاتب جيدا تتعلق كونه يشغل مفهوم الصورة. و يعمل على
تحديده على الشكل التالي:" فكلمة (صورة) في مفهومها العادي تعني تمثيلا معقولا أو
أمينا، لكن الذين تحدثوا عن (صورة الشعوب) يحددون بأنهم يقصدون (بصورة الشعب) (كل
ما في الذهن حول ذلك الشعب)"
ثم
يستخلص الدارس تعريفا للصورة يقول فيه:" الصورة إذن تمثيل يعتمد على معلومات شبه
ثابتة ذات طابع عام و معقول، و لها شيء من الواقع الملموس"
و
لتحديد صورة الفرنسي في الرواية المغربية فإن الباحث يقوم بدراسة الشخصيات
الفرنسية و رصد كيفية رسمها داخل الأعمال الروائية المغربية. و تقوم منهجيته في
ذلك على " استخلاص الصفات المادية و المعنوية المبثوثة في كل رواية، و تجميعها
لتتخذ كل شخصية سماتها و ملامحها العامة".
إن
الهم الأساسي لهذه الدراسة هو استخلاص صورة معينة للفرنسي من خلال فرز الشخصيات و
تصنيفها و ترتيبها جسميا و فعليا و معنويا، للوصول في الأخير إلى نموذج واحد يعبر
عن تمثل للشخصيات الفرنسية جمعاء.
من
بين الدراسات الأخرى المقارنة التي انشغلت بمفهوم الصورة يمكن أن نسوق دراسة لمحمد
أنقار في كتابه" بناء الصورة في الرواية الاستعمارية ".
إن
الدارس بقدرما يعي كون عمله التحليلي يندرج ضمن إطار الصوراتية التي هي دراسة صورة
الآخر في الأدب المقارن، فإنه من جهة أخرى يستخدم مفهوم الصورة الروائية للدلالة
على محاولة غرس مبحثه داخل إطار الجنس الأدبي الروائي.
إننا نجد أنقار يستخدم أيضا مفهوم الصورة السردية و ذلك لتمييزها عن نوع آخر من
الصور كالصورة الشعرية مثلا.
بعد
أن يقوم الدارس بتعريف الصورة عربيا على أنها الهيئة والشكل، النوع والصفة، ينتقل
لتحديد الصورة الروائية باعتبارها " نقلا فنيا، و محاولة لتجسيم معطيات الواقع
الخارجي بواسطة اللغة". إن الصورة الروائية في نظر أنقار لا تكتسب بلاغتها فقط من
داخل الإطار المتعلق بالتشبيه والمجاز والاستعارة، إن هذا الإطار ليس سوى إمكانية
تصويرية واحدة من بين إمكانات هائلة تتيحها اللغة.
ويخلص الكاتب إلى إعطاء تحديد أكثر شمولية للصورة الروائية، حيث يعتبرها: "نقلا
لغويا لمعطيات الواقع، وهي تقليد وتشكيل وتركيب وتنظيم في وحدة، وهي هيئة وشكل ونوع
وصفة، وهي ذات مظهر عقلي ووظيفة تمثيلية، ثرية في قوالبها ثراء فنون الرسم والحفر
والتصوير الشمسي، موغلة في امتداداتها إيغال الرموز والصور النفسية والاجتماعية
والأنثروبولوجية و الإثنية، جمالية في وظائفها مثلما هي سائر صور البلاغة
ومحسناتها، ثم هي حسية، وقبل كل شيء، هي إفراز خيالي".
و
بإمكاننا أن نستخلص مجموعة من التحديدات الإضافية المتعلقة بالصورة الروائية كما
يقدمها محمد أنقار
و
هي على الشكل التالي:
أول
تحديد يمكن لنا الإشارة إليه هو أن الصورة الروائية تتشكل من خلال التصوير اللغوي،
و بفعل الوظائف التي تقوم بها داخل إطار السرد. إن التصوير اللغوي يتم بناؤه
انطلاقا من السياق النصي، المستوى الذهني، قواعد الجنس، الطاقة اللغوية والطاقة
البلاغية. وللتدليل على هذا يأخذ الباحث مقطعا من رواية "اللص والكلاب" لنجيب
محفوظ، ويعلق عليه بالقول بأن "اللغة في تلك الصورة تصف، وتستثير تراكيبها جملة من
التصورات الذهنية"
ويعمل الدارس على استخراج كلمات يتصل حقلها المعجمي بالفضاء، ليدلل على أنها تبني
الصورة.
يرفض الباحث اعتبار الصورة حكرا على الشعر وحده، مشيرا إلى أن قوانينها ليست هي
نفسها في الشعر، معترفا بأن "النقد الأدبي يفتقر راهنا إلى تصور نظري عن الصورة
الروائية التي لم ترق بعد إلى مستوى الإشكال، لذلك لن يكون هناك كشف عن ماهيتها
بعيدا عن معاينة المنطق المتحكم في تكوين الصورة الشعرية واستثمار الموروث النقدي
الثري الذي واكبها" .
ثاني تحديد يمكن لنا الإشارة إليه في معرض استخلاص كيفية تصور أنقار للصورة
الروائية ننفتح عليه من خلال السؤال الذي يطرحه الباحث وهو :
"كيف تتشكل الصـورة الروائيـة ؟ ومتى تتحول من مجموعة من الكلمات في نص سردي إلى
صـورة روائيـة ؟."
إن
الصورة الروائية لا تتحقق إلا داخل النص. وبما أننا أمام نص سردي، فإن مكونات هذا
النص السردي من فقرة، ومشهد، ومقطوعة، وحوار، وأحداث، وفضاء وشخصية، وموضوع،
وانطباع ذهني ونفسي اللذين يثيرهما ذلك المجموع في المتلقي يساهم في ذلك التحقق.
و
في نظر أنقار أن صورة الشخصية الإنسانية المتمظهرة في السرد الروائي يتم بناؤها من
خلال علاقة الشخصية بالزمان والمكان، و الأفعال التي تقوم بها، والأدوار التي
تؤديها هذه الشخصية.
يميز الباحث بين الصورة الجزئية والصورة الكلية، حيث يرى أن" الصورة الجزئية تتسم
بالحضور الفعلي داخل النص" ، أما الصورة الكلية فهي لا يمكن أن تكتمل إلا بعد
الانتهاء من الإطلاع الكلي على المتن، إن كيان الصورة لا يتحقق إلا في إطار الكلية.
وبما أن الصورة تتعرض للتقييم، فإن أنقار يميز بين نوعين من الصور : صورة مختلة
وأخرى متوازنة.
وبعد أن يرصد طبيعة الصورة و علاقاتها بجملة من المكونات الروائية، يصل إلى افتراض
مفاده أن الصورة الروائية "هي أيضا نسق من المجاز، خاصة في بعده التماثلي،من هنا
تصبح الإمكانات البلاغية وسائل إجرائية مسعفة في تقنين الجانب التشبيهي من تلك
الصورة وتأطيره".
و
يستفيد الدارس من مجموعة من الدراسات و الأبحاث كتلك التي يقدمها ستيفان أولمان من
جهة، و نظرية التلقي من جهة أخرى في شخص إيزر. و هذا يرجع إلى كون تحقق الصورة في
نظر الدارس يتم بالارتكاز على بعدين أساسيين هما: البعد الأسلوبي و البعد الذهني.
إن
أنقار يعترف بأن الصورة الروائية لم تتخذ لنفسها التحديد النهائي، فهي ما تزال في
إطار التبلور والاجتهاد، و ما قام به يدخل فقط في إطار محاولة إغناء الدرس النقدي
بخصوص الصورة الروائية من منظور الإنشائية المقارنة التي يقصد بها :"النهج التحليلي
الذي يواجه الظاهرة الأدبية في نص ما مواجهة قائمة على استنطاق القدرات التعبيرية
لمجموع سماته ومكوناته المتشكلة في صور لغوية، مع مراعاة مقتضيات الجنس الأدبي و
البنيات، وقوانين الصفة ومستلزمات التلقي".
بعد
هذا التوقف عند بعض النماذج المشتغلة على مفهوم الصورة في النقد المقارن سواء في
الساحة الغربية أو الساحة العربية، سنحاول الانتقال إلى مجال النقد الروائي لنرى
كيف طرح هذا المفهوم و ما هي نوع الغضافات التي تم تقديمها.
2الصورة في النقد الروائي
1-2الصورة في النقد الروائي الغربي.
1-1-2 الصورة تعبير تماثلي.