عثمان علي نور : رائد القصة القصيرة في السودان
مقدمة:
منذ
تاسيسه ، ظل نادي القصة السوداني, مهموماً بتكريم كبار الكتاب السودانيين, الذين
أسهموا في تشكيل, الكتابة الإبداعية في السودان. بأجناسها المختلفة..
.
وفي هذا الإطار قام النادي بتكريم الأستاذ /إبراهيم إسحق
، بإعلانه عن مسابقة حملت إسم هذا الروائي الفذ في العام ( 2001 م – 2002 م ) وأعلن
في حفل توزيع جوائز هذه المسابقة باليونسكو / الخرطوم عن مسابقة أخرى حملت إسم
الروائية ( ملكة الدار محمد عبد الله ) في محاولة منه لإرساء ( أدب ) التكريم
للأسماء التي شكلت بإسهاماتها وإضافاتها, كتاباتنا الإبدعية الحديثة في السودان ..
وتجيء هذه الورقة إتصالاً لما سبق من مجهودات في هذا الإطار. وإسهاماً في إحتفالات
مركز الدراسات السودانية بالأستاذ / عثمان علي نور ( أب القصة القصيرة في السودان )
في سبيل تكريمه على ما قدم من إسهامات فعالة ومؤثرة ،في جنس القصة القصيرة..
هذه
الورقة هي محاولة عابرة, للكشف عن شيء من مسيرة الرجل المبدع الإنسان الرمز : عثمان
علي نور . فالمرحلة التي كتب فيها الأستاذ عثمان علي نور أبرز مجموعاته, تمتد من
الأربعينيات حتى الستينيات ، وهي مرحلة بعيدة.. لكنها خصبة: بثوراتها التي لا تزال
تلقي بظلالها
على الراهن.. وبتحولاتها التي لم تكتمل حتى الآن..
وبتشظياتها وتمزقاتها, التي تسم واقعنا الممتد من غور ماضٍ / راهن في راهن / ماضٍ
نزامنه الان!!..
ربما ذاك هو ما جعل قصة
عثمان علي نور يتداخل فيها الرومانسي بعزلته الشاعرية, مع الواقعي بتعقيداته
الإجتماعية ... ففي تلك المرحلة كانت الكتابة الإبداعية في السودان.. تمشي بإتجاه
النضج في ظروف غليان ثوري ، ومهام لم تنجز ، وتصورات منطقية, يحول دون تطبيقها شوك
القتاد ! ... ومن هنا تعثرت خطى النضج إسوة بكل شيء آخر ، فاليومي الإجتماعي,
يتداخل مع الوطني العام ، وخلال هذا الركام, والسقط من الأفكار تنهض القصة القصيرة,
مشبّعة بمجتمع يتكون في التشظي والتمزق.. تستلهمه وتعبر عنه رؤيا لواقع ما -
والقصة القصيرة بوقوفها بعيدة عن قلب المجتمع تمضي للقفز والتواثب على الطريق
الطرفية وغير المركزية ، وتسجل في صورة آنية الأصداء المتلاشية من نشاطه الذي لا
ينقطع ، وتكشف عن رؤية هذا القلب الإجتماعي ، إنها تخمنه فقط ، والقاريء هو الذي
عليه أن يعيد تكوينه ، ومن هنا النزعة الرمزية, الإلزامية لدى كل أقصوصة وتعبيراتها
الموجزة ، وحالات صمتها وتلميحاتها الآيديولوجية ( 1 ) - فهي تطمح لتشكيل وعي ما
، لإنجاز تصور ما.. والوعي الذي هيمن على جيل عثمان علي نور, يتعلق بهموم التحديث
والبناء وشروط الانتقال الى المدينية ، اللذين أساسهما التنوير .
وتجلت
هذه الهموم في إتجاهات مختلفة ، وسمت قصة كاتبنا في التوتر والقلق, بين الرومانسية
والواقعية والوجودية ، كإتجاهات بارزة شكلت ملامح القصة القصيرة في السودان ، وهي
تمضي في مسيرتها السيزيفية الطويلة, حتى الآن ! ... إلى جانب التأثير الواقعي
الإشتراكي النافذ الذي عبر – عنه – عن مناخ التحولات والثورة والتحرر والتمرد
والمقاومة للمستعمر, والنظم الإستبدادية والطائفية التي تلت الإستعمار ، ومع ذلك -
لكأن هذه الأيديولوجيات التقدمية ( ..... ) قد أخفقت في توجيه الوعي الإجتماعي ....
إذ لم ترث مشروع ( المنوّر ) الغربي بقدر ما إنقلبت عليه ( 2 ) - ، إذ لا زالت
الخطى في أجناس الكتابة المختلفة متعثرة ، ولا زالت مهام ما بعد الإستقلال لم تنجز
، ولا تزال الكتابة غير قادرة على الإسهام في تحولات إجتماعية أساسها الحداثة
والتنوير ، فمساحات الشفاهي * لم تتقلص بالقدر الكافي ، والإنقطاعات القسرية وغير
القسرية, في حلقات التواصل بين الأجيال تعمل بفعالية ، سواء نتاج لعوامل ترتبط
بالسلطة والعسف ، أو لنزعات إدعائية وإستعلائية من بعض " الكتبة النقدة -
الديناصورات " الذين نصبوا انفسهم بليل كالانقلابيين , اوصياء على الثقافة
والابداع وحراسا لقصعة فارغة , حري ّ بهم الاسهام مع الآخرين بملؤها . وهنا يحضرني
حوار ابراهيم اسحق الذي اشرت اليه فيما سبق ! .. ومع ذلك يظل مشروع القصة القصيرة
في السودان مفتوحاً على مشهد غني ينتظر الإلهام والإستلهام لبعث وإغناء وتكريس قيم
الحرية والحق والجمال.....
عثمان علي نور.. التجربة والزمن:
ولد عثمان علي نور في العام
1923 م بأم درمان ، وأصدر أوّل مجلة للقصة في العام 1960م ، إستمرت لعامين فقط ،
توقفت بعدها عن الصدور . لم يكن عثمان علي نور مهموماً بالنشر لنفسه ، بقدرما كان
مهموماً بجنس القصة القصيرة ومستقبلها في السودان ، وإتاحة أكبر قدر ممكن من فرص
النشر للممبدعين الآخرين في جنس القصة القصيرة . يقول عنه د / مختار عجوبة : (إذا
كان ( موبسان ) يعد أباً للقصة القصيرة الفرنسية ، و( جوجول ) أباً للقصة القصيرة
الروسية ، و ( محمود تيمور ) أباً للقصة القصيرة المصرية أو العربية ، فإن ( عثمان
علي نور ) يعتبر وبحق اباً للقصة القصيرة السودانية ، لا في مجال الإبداع الفني ،
ولكن في مجال النشاط العملي ، أما بإصدار مجموعات من قصصه, وأما بإتاحة الفرصة
لغيره. ليجدو مجالاً لنشر أعمالهم (3)..
ومن
المجوعات القصصية لعثمان علي نور : ( غادة القرية ) ، ( البيت المسكون ) ، ( الوجه
الآخر للمدينة ) أصدرها في الفترة من 1953 م – 1961 م . ويقول بروفيسور علي المك
أن لعثمان علي نور الفضل في كتابة القصة القصيرة في السودان, بصورة جادة وتفرغ
تامين ، إذ لم يجرب قلمه فناً آخر من فنون الأدب. وهو أوّل من نشر مجموعة قصصية
قصيرة هي ( غادة القرية ) ( 4 ) ويضع د/ مختار عجوبة عثمان علي نور بين رواد
الرومانسية والذين تغلب الإتجاه الواقعي على كتاباتهم منذ أوائل الخمسينات ( وكتاب
الرومانسية في هذه المرحلة كانوا أقرب إلى وجدان الشعب ، وكانوا أساساً من الطبقات
الشعبية ( ..... ) لذلك جاء وصفهم للحب للتنفير منه, وأوصافهم لا تنبع من واقع
البيئة السودانية ، وهذا جانب من الشكل الذي تأثروا به وأخذوه عن القصة في المرحلة
السابقة ، أو أخذوه عن طريق ( دار الخيالة ) وما كانت تعرضه من أفلام ( .... ) وما
كانوا يقرأونه من كتب(5)
عثمان علي نور بين الرومانسية والواقعية :
أسهم
الأستاذ عثمان علي نور بصورة كبيرة في تشكيل الإتجاه الرومانسي للقصة القصيرة في
السودان ، ولم يكن الرومانسيين السودانيين كرصفائهم العرب ، ميالين للعزلة ومناجاة
الطبيعة ، هرباً من واقع عجزوا عن تغييره ، فبقدرما عبرت القصة القصيرة حينها عن
الرومانسية إلا أنها حملت من الواقعية من أدوات تعبير فني ما حملت ، للتعبير عن
الشعب وآماله وتطلعاته . تستلهمه وتعبر عنه ، فكان في ( إتجاهه الرومانسي يجهد نفسه
في إحكام الحبكة القصصية, القائمة على التعمية والمفاجاءات. حتى يبدو الإفتعال
ظاهراً في أعماله القصصية ، وخاصة في مجموعتيه ( البيت المسكون ) و ( الحب الكبير
) وعندما تخلص من هذا الأسلوب, أصبحت قصصه مجرد حكايات سردية طويلة ، كما أنه يختار
موضوعات طرقت من قبل, ولا يضيف إليها جديداً من ناحية المعالجة ( كما في ) القصص
التي نشرها على صفحات مجلة القصة, التي كان يصدرها ويرأس تحريرها : ( الحقيبة ) ، (
حكاية ضائعة ) ، ( كسوة العيد ) ، ( النار المقدسة ) ، ( أخي أحمد ) ، ( الدنيا
بخير ) ( 6 ) ويتسم أسلوبها بعاطفية فضفاضة ، كما أن الوعظ شكل سمة أساسية من سمات
قصص الرومانسيين ، فلم تعبر قصصهم عن تجارب حب صادقة، بل أتت غامضة ومبهمة ، ويلاحظ
ذلك على ( غادة القرية ) ، ويتساءل د / مختار عجوبة هنا بأنه لا يدري ( لماذا كان
الكتاب في هذه الفترة يطالبون المومسات بالوفاء وعدم الخيانة ، وإذا خانت الواحدة
منهن بطل القصة إنقلبوا عليها يلومونها ( ..... ) ومن هنا يعممون أحكامهم على
المرأة بصورة عامة, سواء كانت شريفة أم مومساً ، ليس هناك سوى تعليل واحد هو أن
حرمان هؤلاء الكتاب من أي علاقة بالمرأة, خارج هذا النطاق. هو الذي جعلهم يرفعون من
مستوى المومسات الأخلاقي ( 7 ) ..
فالمدن السودانية كانت إلى وقت قريب ( مجتمعات مغلقة ولا سبيل للإختلاط فيها بين
الجنسين, إلا في دور البغاء.
والقاريء
العالم بقصص عثمان علي نور, يتفق معي أن عثمان علي نور إكتشف منذ وقت مبكر. تقنية
متقدمة على زمنه ( في السودان ) : القطع المشهدي ، وتوظيف المفارقة ، وهذه
الإستنتاجات لدكتور عجوبة ، شيدت أساساً على مماثلة القصة للواقع ، بينما القصة
تعبر عن واقع إفتراضي ينهض في الخيال, بالتالي ليس ثمة جدوى من مقارنتها بالواقع
لإكتشاف مدى مطابقتها له- فعثمان على نور هنا لا يساءل الا على مدى الصدق الفني في
قصصه وفقا للقدر الذي تتركه في القاريء من أثر - ، لأنه لا يتعين عليها بالضرورة
مطابقة الواقع ( إن قيمة النص الأدبي تقوم في علاقة هذا النص بمراجعه التي يحيل
عليها . وهذه العلاقة بين النص وما يحيل عليه تنهض عند القاريء, على مستوى المتخيل
، أو الذاكرة ، ويظهر معادلها الجمالي بواسطة قاريء يقيم علاقة / علاقات بين النص
وما يحيل عليه ( العالم ، الحياة في وسعها وتعقدها ) ، على أن العلاقة التي يقيمها
القاريء ليست هي تماماً ، أو بالضرورة ، العلاقة نفسها التي تبني النص من قبل
الكاتب , بهذا يبدو النص الأدبي نصّاً متغيّر الدلالات وفق علاقة النص بموقع
القراءة / القراءات(8)..
ومن
الجانب الآخر للمجتمع في السودان فهو لا يزال شفاهياً * وعلى مستوى الغناء لا تزال
الحقيبة ( الكهف السري ) تشد وجدان المغنّي إلى زمن سحيق , لا علاقة لها بتوظيف
التراث ، في حركة عكس إتجاه الزمن, وبالتغاضي عن الإشارات السابقة يمضي د / عجوبة
في تحليل قصص عثمان علي نور . إنه يقسو على البغي ولا يتنبأ لها بالخلاص ولا يذكر
لنا أسباب سقوطها ، وكأن المرأة فطرت على الخيانة ، أو أنها تمارس الخيانة, بدافع
غريزي فقط والرجل ضحيتها دائماً ، وفي قصته ( المخدوع ) : ( تزوج ( خ ) أفندي مومس
كان يتردد عليها هو وصديقه ( ف . ع ) وبعد الزواج وثق فيها تماما,ً وأخلص لها ولكنه
في يوم من الأيام تقع في يده مجلة قصصية. ويقرأ فيها قصة عن رجل خدع في مومس
وتزوجها. وتظاهرت له بالوفاء. ولكنها في الحقيقة لم تف. فيعقد بطل القصة مقارنة بين
الموقفين. ويراوده الشك في زوجته. وعندما يعود إلى المنزل. ولا يجدها. يقرر البحث
عنها فيذهب إلى منزل صديقه, فإذا به يجدها بين أحضانه فيطلقها .. ويمضي عجوبة في
الحديث عن هذه القصة ( شأنها شأن قصص عثمان علي نور سردية بالرغم من أن تعدد
الأحداث وكثرة المفاجاءات تلعب دوراً أساسياً إلا أن الكاتب يحاول أن ينهيها نهاية
سليمة فيختار الزواج حلا للموقف أو الطلاق حلاً له ، ولا يلجأ أبطاله للقتل ولكن
هناك قصص تتسم بالعنف والنهاية الميلودراماتيكية ، فدموية الأحداث تشكل عاملاًهاماً
في بناء القصة(9).. وما يلفت الانتباه هنا عبارة نهاية سليمة ) اذ ليس هناك
معيار لقياس نهايات النصوص , من حيث مدى سلامة هذه النهاية او تلك , التي تبناها
الكاتب ؟!..
ولا
يؤخذ على عثمان علي نور أن قصصه سردية ، فالذي يميز جنس القصة أنها عبارة عن بنية
سردية ، كما أن إستخدام أدوات التعبير الفني وتوظيفها نصياً رهين بعوامل عدة منها
ما يتعلق بالقاص نفسه والشروط التي أنتجته وعاش فيها ، ومنها ما هو ذو صلة مباشرة
بمدى التبيئة التي حدثت للقصة القصيرة وهي ( بشكلها الحديث فن غربي وافد ) ، في
هذا المناخ - السودان – بالتالي مدى إبداع القاص في توظيف هذه الأدوات التعبيرية .
أيضاً يركز د / عجوبة على أن الموضوع الذي تم تناوله في قصص الإتجاه الرومانسي ،
إشتركت فيه القصة الرومانسية شرقاً وغرباً وهو ( أن يحب الشاب فتاة حباً شريفاً
ولكن تحول ظروفه المادية بينه وبين الزواج منها ، فتكون النتيجة إنتحار أحدهما أو
هيامه بالطبيعة وجنونه وإبتعاده عن الناس ( ..... ) كما في ( غادة القرية ) (10) )
، وبالطبع ليس في ذلك غضاضة ، فالمخزون الإنساني مشترك و ينهل منه الجميع ، فقط
يختلفون في التعبير عنه عبر أدوات التعبير الفني وهم يوظفونه من واقع لآخر عبر
التاريخ
ومع ذلك,
يظل
عثمان علي نور دون شك ، أحد رواد القصة الرومانسية والواقعية ، وأباً للقصة القصيرة
السودانية بلا منازع..
العالم القصصي لعثمان علي نور بعد اسبوع - نموذجا :
توطئة :
ما
جعلني أختار هذه القصة ( بعد أسبوع ) هو أنها من القصص التي إختارها القاص الراحل
بروفيسور علي المك_ وذلك لتميزها على العديد من قصص عثمان علي نور _، ونشرها في
مختاراته ، يقول علي المك ( بدأت القصة السودانية القصيرة في مجلتي النهضة والفجر
ولم تكن لتماثل المقالة أو الشعر, وفي الخمسينيات جعل شأن القصة يعلو حين خصصت
جريدة الصراحة, عدداً أدبياً شهرياً فتحت فيه صدرها لكتاب القصة, وشجعتهم ، وتطورت
تطوراً ملموساً في زمان وجيز . وإستطاع الطيب صالح بجموعة ( دومة ود حامد )
وروايتيه ( موسم الهجرة إلى الشمال ) و ( عرس الزين ) أن يخرج بالأدب السوداني إلى
الآفاق العالمية . وغير عثمان علي نور والطيب صالح باقة منتقاة لكتاب القصة
السودانية ، تظهر فيما تظهر ، أصالة محببة ، وتشير إلى مذاهب فنية شتى (11) ... وإذ
أختار ( بعد أسبوع ) كنموذج يمثل العالم القصصي لعثمان علي نور ، أيضاً يمثل هذا
الإختيار إطلالة على عالم جيل كامل يمثله ( أب القصة القصيرة في السودان)...
الحكاية في بعد اسبوع :
حكاية
شاب ريفي ظل يحلم لوقت طويل بالزواج من واحدة من بنات الخرطوم ( آه بنات العاصمة ،
الفساتين القصيرة ، الكعوب العالية ، الباروكات التي تجعلهن كالملكات ، الحديث
الناعم ، الظرف ، الرقة، لقد وجد نفسه مفتوناً بكل هذا ، بل مجنوناًَ به (12) ،
ووجد ضالته في زواج أحد زملائه فذهب إلى والدها وتمت الخطبة ، ولم يمر سوى إسبوع
على هذه الخطبة ، حتى ساقته ( الصدفة المحضة ) إلى حديقة الريفيرا ، ليفاجأ بصوت
خطيبته يتناهى إليه من أحد الموائد مع أحد الشبان ( كان يتجول بين الموائد عندما
سمع صوتها .. صوتها الذي يعرفه جيداً ومع ذلك كذب أذنيه ، تسمر في مكانه .... (13)
.... فثار وصفعها وإنتزع خاتم الخطبة وأرغى وأزبد وهو ينطلق كالمجنون لمقابلة
والدها ( جيت أفسخ الخطبة .... لقيت بتك في الريفيرا مع راجل غريب (14) .......
وتتكون هذه الحكاية من ثلاث مستويات من التأليف:
المستوى الأوّل:
إستباقي يبدأ من ذروة الأحداث ( كان يبدو كالمجنون ... بل أن سائق التاكسي ظنه
مجنوناً فعلاً عندما رآه يخرج من باب حديقة الريفيرا وهو يأتي بحركات هستيرية (
.......) بعد أسبوع .... بعد أسبوع واحد يا مجرمة (15)..
المستوى الثاني:
أسترجاعي Flashback،
يستعيد فيه بطل القصة الأحداث التي مرت به قبل قليل ، قبل أن يركب هذا التاكسي الذي
إنطلق به لمقابلة والد الفتاة . فمن خلال قطع مشهدي يبدأ المستوى الثاني في التأليف
في حديقة الريفيرا ( حول مائدة عليها زجاجات الليمونادة وأكواب الشاي كانت تجلس
فتاة فاتنة وهي تتبادل نظرات الذهول مع شاب يجلس معها حول المائدة، كان كل منهما لا
يدري ماذا يفعل أو ماذا يقول وأخيراً كان الشاب هو الباديء بالحديث وسألها : أهذا
هو ؟! ...(16) ثم يبدأ..
المستوى الثالث والأخير:
وهو
يمثل اللحظة الحاضرة وبطل القصة في التاكسي بطريقه إلى بيت خطيبته ، ليتخلل هذا
المستوى ( الحاضر ) إسترجاع لحياة بطل القصة ( هو من أبناء الشمالية ، أتم دراسته
الثانوية بمدرسة دنقلا ، وكانت شهادته تؤهله لدخول الجامعة ، ولكنه لم يكن راغباً
في الدراسة ، كان يستعجل الوظيفة ( ...... ) وعاش حياة مستقيمة ( ........ ) كان
حلم والدته أن تراه عريساً ، وما من مرة ذهب فيها للبلد إلا وحدثته في أمر الزواج
(....... ) تذكر كان يراوغها ( ...... ) وفاجأه صوت السائق وهو يقول له إنهما قد
وصلا ميدان الحارة الرابعة (17) ويستمر هذا المستوى الإسترجاعي حتى يصل إلى أحلامه
وخطبته من الفتاة التي رآها قبل قليل مع شاب في الريفيراوإخباره لوالدها بذلك (
وأحس الرجل بالضربة تقع على رأسه وتقصم ظهره ، أراد أن يقول شيئاً ولكنه لم يجد
صوته أما الشاب فقد إنتزع من إصبعه الخاتم الثاني ، ووضع الخاتمين فوق السرير،
وأسرع يغادر المنزل ، وجاءت أم الفتاة ، فوجدت الأب يضع يديه على رأسه ، ويرددلا
حول ولا قوة إلا بالله ( ..... ) إنفجر الأب غاضباً : الله ينعل أبو الشغل ، وأبو
اليوم الدخلت فيه الشغل ...... أنا لو ما الحاجة بخليها تمشي المكاتب(18)..
تأويل الحكاية:
تبدأ
الحكاية بمشهد الشاب وهو في حالة متفجرة توحي بالجنون ، ما يحيل لأسباب تكافئ هذا
الجنون( تصوره أن ما حدث من خطيبته خيانة لا تغتفر ! ) ، ويكشف ذلك عن قوانين بنى
إجتماعية ضاغطة بمعاييرها الأخلاقية ، تجسيداً في هذا الشاب المغرم بفتيات الخرطوم
بفساتينهن القصيرة وكعوبهن العالية وحديثهن الناعم ، ما يوحي بإشارات حسية مع أساس
رغبته في زوجة خرطومية ( كاسية/ عارية ... مسفرة ) ليست ك ( مقنعات الريف ) الذي
أتى منه ، والتناقض هنا في هذا الوعي ، بما يرفضه من إختلاط فتاته مع شخص آخر ليس (
هو ) ... هذا الوعي بمجمله يكشف عن مدى ( التناسلي / الحسي ) المتجذر في القوانيين
التي تحكم علاقة الذكر بالأنثى ، إذ تتبدى العلاقة عن محض وظيفية ، تنأى عن شرط
الحب والتشارك ... ويؤكد وعي الشاب جزع والد الفتاة ( بتك فضحتنا فضيحة ) معرباً عن
غضبه على الظروف التي سمحت للمرأة بالخروج إلى العمل والإختلاط..
..
إن جوهر هذه الحكاية يتمثل في قضايا الحريات الشخصية ،
والإختيار في مجتمع ذكوري متخلف ، بما تتمثل به هذه القضايا في ( أن تتزوج الفتاة
ممن تحب ) ، ( وأن لا يتم النظر إلى خروجها إلى العمل كوصمة عار أو عورة ) إلى جانب
الإنفصام الذي يعاني منه الرجل ، إذ يمنح نفسه حق الإختلاط بأخريات ويرفض منح هذا
الحق لحبيبته أو شقيقاته ، إلخ..
....
الراوي:
تحدد (
يُمنى العيد ) نمطين للراوي في القص العربي .. النمط الأوّل :
ويتميّز بهيمنة موقع الراوي البطل الذي يحكم منطق بنية القص : إن أصوات الشخصيات ،
على تنوّعها وإختلافها ، ورغم الحوار والصراع تبقى في هذا النمط محكومة بموقع هذا
الراوي البطل , القابع خلف شخصية أو خلف قضية .. بالموقع المهيمن ينمو فعل القص وبه
يصل السياق إلى غايته . الراوي هنا منحاز إلى بطله : الشخص أو الرمز (......) تتسم
بنية هذا النمط بطابع التماسك والإنسجام تترابط وعلى مستوى الحكاية في النص ، حلقات
القص (19)..
والراوي هنا في ( بعد أسبوع ) ينطلق من موقع قيمي منحاز ، يحدد هويته (آيدولوجيته
تجاه قضايا المرأة ) وينهض هذا الموقع الإنحيازي بصورة واضحة في ( عاش حياة
مستقيمة، لا يدخن ، لا يسكر ، ولا يعرف النساء ، وكان والده ميسور الحال ( .......
) بنات العاصمة وبرغم إفتتانه بهن كان يخشاهن ويحذرهن ، إلى أن وقع الفاس في الرأس
( .......) كان مقدراً لحلمه أن ينتهي هذه النهاية المحزنة المؤلمة( ..... ) ( الله
ينعل أبو الشغل وأبو اليوم الدخلت فيو الشغل أنا لو ما الحاجة بخليها تمرق وتمشي
المكاتب ( 20 ) ) هذا الراوي المختبئ خلف الضمير الغائب ،ومكتفياً بسرد الوقائع
التي تجري ، عبر تقنيات الإسترجاع والإستباق والحاضر مكثفاً الزمن ( زمن النص ) في
فترة قصيرة بين لحظة هرولة بطل القصة لركوب التاكسي, وتوقف التاكسي أمام بيت
خطيبته. ففي هذه الفترة الزمنية القصيرة. تجري كل أحداث النص ، في مواقع ( أماكن )
مختلفة. في فترات مختلفة بين: الماضي والحاضر المستمر . لينهض الراوي في هذه
الأحداث منحازاً للجهاز القيمي ، بتمظهراته في بطل القصة ووالد خطيبته وزوجته ( لقد
عرف قصنا المعاصر أدباء بارزين إستطاعوا في أعمالهم أن يبدعوا شخصيات قادرة على
الرؤية والنطق ، وعلى أن تبدو متحررة من هيمنة الراوي البطل ، ومن تسلطه ، ومن
مصادرته لنطق الشخصيات الأخرى . لم يعد البطل هو فقط هذا الذي ينبني العمل في سبيل
نصرته ، بل تنوع في مأساويته ووقف أحياناً يصغي لأصوات الشخصيات الأخرى وهي تصارع
ضد موقعه المهيمن (21)..
خاتمة:
منذ
وقت مبكر إكتشف أب القصة القصيرة السودانية عثمان علي نور ضرورة البدء من حيث إنتهى
الآخرون ، إذ نستشف من هذه القصة ( بعد أسبوع ) إعتنائه الفائق بالتقنيات الحديثة
للقص ( القطع المشهدي ) والتوظيف الجاد للوحدات النصية وأدوات التعبير الفنّي ،
وإختزال المكان وتكثيف الزمن للإفساح لبنية الحكاية كي تصعد من أحداثها ، وتشكل
من تماهيها في إحداثيات النص بناءاً كلياً ومتماسكاً ، لخدمة إستراتيجية محددة
تتمثل في فترة حرجة من مسيرة التحولات الإجتماعية في السودان ( خروج المرأة للعمل )
وما تبع ذلك من تشظي في مفاهيم ظلت راسخة لآماد سحيقة ، وتغييرات في الحياة
السودانية ... ينهض هذا النص إذن شاهداً / معاصراً على قضايا لا تزال ماثلة : (
جوهرها ) الحريات والحقوق ، لبنتي مشروع التحديث الذي تبنّاه الروّاد
.
المصادر:
(1)
مجلة الرافد / دائرة الثقافة والإعلام الشارقة / العدد 48/ أغسطس 2001 م صفحة 73
(2) مجلة الحياة الثقافية /وزارة
الثقافة التونسية /العدد 12/فيفري 2001م صفحة 141
(3) مختار عجوبة / القصة الحديثة في السودان/ مركز الدراسات
السودانية /ط2/2000م / ص: 138
(4) علي المك / مختارت من الأدب
السوداني / دار الخرطوم للطباعة والنشر / ط 3 / 1997 م / ص: 15
(5) مختار عجوبة / القصة الحديثة في
السودان / مركز الدراسات السودانية /ط 2 / ص : 51
(6) السابق / ص :138
(7) السابق / ص : 53
(8) يمنى العيد / الراوي : الموقع والشكل / مؤسسة الأبحاث
العربية / ط 1 / 1986 / ص : 15
(9) مختار عجوبة / مصدر سابق / ص :55
(10) السابق / ص : 56/57
(11) علي المك / مختارات من الأدب السوداني / ص: 15
(12) السابق / ص : 197
ا(13) السابق / ص : 198
ا(14) السابق / ص : 199
(15) السابق / ص : 196
ا(16) السابق / ص : 198
(17) السابق / ص : 199
(18) السابق / ص : 199
(19) يمنى العيد / الراوي : المو قع
والشكل / ط 1 / 1986 / مؤسسة الأبحاث العربية / بيروت / ص : 83
(20)
علي المك / مصدر سابق / ص : 196 – 199
(21) يمنى العيد / مصدر سابق / 82