الفصل الاول :
مداخل لقراءة تجربة السرد
في السودان:
ارتبط السرد فى السودان،
سواء فى جنس القصة القصيرة أو الرواية، بالعلاقة الجدلية بين الإنسان , والتاريخ
الذى شكله، بوقائعه وأحداثه.. ولأن السودان - إلى حد كبير - جزء من المجال الثقافى
العربى، أخذ عن العرب، الاحتفاء بالتاريخ «إن توحد التاريخ والحضارة فى المخزون
الثقافى للوعى الاجتماعى العربى، أنتج وعيا مبدداً، بالتاريخ والحضارة معا(1)..»
وهو ما نلاحظ انعكاساته، فى العلاقات الإشكالية، التى تربط إحداثيات النصوص
السردية، خاصة فى المقولات التى تنطلق منها (وهى مقولات إجمالا تتعلق بمتناقضات
البنى الاجتماعية = الرؤى المختلفة = الدين، العادات، التقاليد، الأساطير، إلخ.. =
سؤال الهوية وعلاقة الذات بالآخر..)، وهى مقومات تنهض فى التاريخى، بالمعنى
اللوكاتشى.. «التاريخى بالنسبة للوكاتش، هو اشتقاق الشخصية الفردية للشخوص، من
خصوصية عصرهم التاريخية.. فالهيمنة الفنية على التاريخ، تعنى إمكانية المبدع فى
تقييم خصوصية الحاضر المباشر، بإيلاء الأهمية الملموسة للزمان والمكان والظروف
الاجتماعية، والنظرة إلى الإنسان بوصفه نتاج نفسه، ونتاج نشاطه فى التاريخ، مما
يؤدى بالضرورة إلى اعتبار فكرة التقدم الإنسانى قانوناً تاريخياً وفلسفياً محسوسا(2)"..
وفى هذا الإطار ظلت تجربة
السرد في السودان، مسرحا لتداول الرؤى المتباية، التى يتقاطع عندها التاريخ,
والمجتمع والإنسان، بهاجسه اليومى، وأسئلته الوجودية، والكونية، المحيرة والحارقة..
وتمزقاته فى واقع مبنى على الاختلاف (التنوع) والخلاف (إقصاء التنوع) =
(القطيعة)... لتمثل حركة السرد فى السودان خلال مسيرة تطورها منذ طبقات ود. ضيف
الله (فى شأن الأولياء والصالحين) مرورا بملكة الدار محمد عبد الله وإبراهيم إسحق
إبراهيم والطيب صالح ومحمود محمد مدنى وكل الأجيال المتعاقبة منذ الأربعينيات، حتى
اللحظة الراهنة، اتصالا لهذا التوتر والقلق الإنسانى الجمالى، المصنف سردا..ً.
كما أثر غياب مفهوم الوسط
الثقافي، عن المشهد الثقافى فى السودان، سلبا على تجربة السرد فى السودان (عائقا
أمام حوار نصوص الأجيال المتعاقبة، بحيث يخلق هذا الحوار تجربة سردية متصلة، يمكن
قياس تطور تجربة السرد من خلالها) إذ إن عدم وجود مؤسسات، لتداول المنتوج السردى
على نحو واسع، وتقييم العمل السردى، وتحديد قيمته، أسهم فى خلق حالة من الإبهام
والارتباك, إزاء تطور التجربة السردية، وهنا أيضا تبرز علاقة التاريخ بالغياب
الفاجع لمفهوم الوسط الثقافى! إذ ارتبط هذا الغياب, بقمع أجهزة الدولة الأيديولوجية
منذ 1956 حتى الآن..
ما دفع المبدعين للبحث عن
متكآت أخرى، مثلت انفتاحا للسرد فى السودان. على السرد فى أمريكا اللاتينية والغرب(
سواء باللغة الانجليزية او لغة الترجمة الى العربية )، ومما لا شك فيه أن السرد فى
السودان، قبل انفتاحه على السرد فى الغرب وأمريكا اللاتينية، كانت له تجربة حوار
عميقة ومتصلة مع السرد فى مصر، والمشرق العربى بصورة عامة..
وما يبرز كعلامة واضحة أن
السرد فى السودان، - إلى حد كبير - مثل إعادة إنتاج للسرد العربى، بحيث غاب أثر
السرد فى أفريقيا عنه، إلا قليلا.. وهنا يبرز سؤال الهوية مرة أخرى، ليطل برأسه
كأحد الأسئلة الأشد حرقا....
ومنذ خواتيم القرن الماضي،
أخذت تتبلور رؤية جديدة حول اتصال التجربة السردية، وإيجاد مؤسسة تعبر عن هذا
الاتصال، تمظهرت هذه الرؤية فى تجربة نادى القصة السودانى الذى تأسس فى العام 2000
وأصدار ابتداءً من العام 2001م مجموعة ضمت ثلاثين قصة لعشرة كتاب ينتمون لأجيال
مختلفة، تتراوح بين الثمانينيات والتسعينيات، وحملت هذه المجموعة اسم (دروب جديدة -
أفق أول) ، كما كرر النادى ذات التجربة في العام 2002، بإصداره لأفق ثان لعشرة كتاب
آخرين.. وما يميز هذه التجربة ملمحان أساسيان::
اعتماد مفهوم العمل الجماعى..
الاهتمام
بالصوت السردى الجنوبى..
وهكذا نجح نادى القصة الوليد
فى التأسيس لتجربة, فشل الآباء والأجيال الذين أعقبتهم- باستثناء رائد القصة عثمان
علي نور _ منذ الأربعينيات فى بنائها..
هجست القصة القصيرة فى
السودان، بصورة أساسية، بطرح السؤال : كيف يكون الإنسان، أكثر إنسانية، ليرى كل شىء،
فيشيد من هذه الآلام العظيمة، حياة أفضل، وهو نفس ما عبرت عنه نظرة تشيخوف للحياة
التافهة فى روسيا.. ومثل هذا السؤال الخلاصة، التى تتقاطع عندها كل الأسئلة
الحارقة، ابتداءً من الأسئلة، الخاصة بقضايا المرأة، مروراً بسؤال الهوية ومتناقضات
اليومى المعاش....
جنس القصة القصيرة:
انطلقت القصة القصيرة فى
السودان من خلال مجلتى الفجر والنهضة، منذ أربعينيات القرن الماضى، وولدت وقد هيمن
عليها الاتجاه الواقعى الرومانسى والوجودى، وقد عبرت عن هذه الهيمنة، الكتابات
السردية القصيرة، لرائد القصة القصيرة فى السودان (الأستاذ عثمان على نور)، الذى
نشر أول مجموعة قصصية قصيرة (غادة القرية)(3)، وقد اتسمت قصصه وقصص الجيل الذى
جايله وتلاه مباشرة، باعتماد الحبكة على التعمية والمفاجآت ما جعلها تبدو مفتعلة،
وتقريرية أحياناً.. ومنذ عثمان على نور(4) وحتى اللحظة الراهنة مرت القصة القصيرة
فى السودان بمسيرة طويلة ومعقدة من التلاقح والتطوير والاستلهام، برزت خلالها أسماء
عديدة مثل صلاح أحمد إبراهيم فى مجموعته «البرجوازية الصغيرة»، وعلى المك فى «حمى
الدريس» و«هل أبصر أعمى المعرة» , وعيسى الحلو فى «ريش الببغاء» و«وردة حمراء لأجل
مريم» وبشرى الفاضل فى «حكاية البنت التى طارت عصافيرها» و«أزرق اليمامة» وصديق
الحلو فى «الفصول» و«غصة في الحلق» وسلمى الشيخ سلامةفي ( مطر على جسد الرحيل )،
وعادل القصاص في ( لهذا الصمت صليل غيابك ) ومبارك الصادق، وأحمد ضحية، وزهاء
الطاهر، واستيلا قاتيانو , ومنال حمد النيل، وبثينة خضر مكى.. وغيرهم تقلبوا بين
مختلف الاتجاهات والتيارات والمدارس، خلال أكثر من نصف قرن من الزمان، تعبيراً عن
سيرورة إنسان يمضى فى اللانهاية، بحثا عن قيم الخير والحرية والجمال...
إن ما أنجز من قصة قصيرة فى
السودان، لهو كثير مقارنة بحداثة تجربة كتابة القصة _ في شكلها الحديث _، كجنس غربى
وافد إلى السودان، وتعتبر ملكة الدار محمد عبد الله، من الرواد الأوائل فى هذا
المجال.. إذ إن أول مسابقة للقصة القصيرة أجرتها إذاعة أم درمان 1947، فازت فيها
هذه الأديبة بالمرتبة الأولى عن قصتها «حكيم القرية»(5)، ومنذ الأربعينيات حتى
الآن. تطورت القصة القصيرة فى السودان. تطوراً كبيراً فى ظل مناخ التنوع الثقافى
الخصيب بإيحاءاته، الغنى فى دلالاته وبيئاته الغامضة..
وإذا كان لكل نص بنيتان،
واحدة ظاهرية هى بنية المتعة_ متعة الحكى_ والثانية بنية خفية تحمل رؤيا العالم.
نجد أن القص السودانى غنى فى بنيتيه : الظاهرية والخفية، بغنى مناخاته وفضاءاته,
المتنوعة. فالقصة القصيرة منذ موباسان وتشيخوف, حدثت لها تحولات وتبدلات كثيرة ،
واستطاع القاص السودانى، استيعاب كل هذه التحولات والتبدلات، فجاءت قصته دينامية
الشكل والمضمون، خالية من المواقف السكونية..
جنس الرواية:
تعتبر ملكة الدار محمد عبد
الله من أوائل الروائيين فى السودان، إذ كتبت روايتها الفراغ العريض فى العام 1952،
وصدرت هذه الرواية فى العام 1970م، عن المجلس القومى للآداب والفنون، والمعروف أن
أول رواية سودانية هى رواية «تاجوج» لعثمان محمد هاشم فى 1947، تليها رواية «إنهم
بشر» لخليل عبد الله الحاج فى 1962م. واتسمت الروايات فى هذه الفترة، برصانة اللغة،
إلا أن تقنيات الكتابة يُلاحظ فيها ضعف واضح، وقد مرت الرواية السودانية منذ
الخمسينيات حتى هذه اللحظة الراهنة بمحطات عديدة، تقلبت فيها بين الواقعية، كما عند
ملكة الدار والواقعية السحرية كما عند الطيب صالح ومحمود محمد مدنى وعيسى الحلو.
وإذا كان جيل الستينيات، أرسى دعائم تقنيات حديثة, وشق السبيل إلى تطبيقاتها
العملية, فى سردياته الروائية من خلال: «موسم الهجرة وبندر شاه وعرس الزين» للطيب
صالح ودومة ود حامد "، أو «جابر الطوربيد والدم فى نخاع الوردة» لمحمود محمد مدنى
أو أعمال الليل والبلدة وحدث فى القرية، وأخبار البنت مايا كايا ومهرجان المدرسة
القديمة»، لإبراهيم إسحق إبراهيم، فان ثمرات تقنيات هذا الجيل تتجلى في اعمال
الاجيال اللاحقة مثل : «الجنخانة» لعمرو عباس و«مسرة» لبشرى هبانى و«الزندية»
لإبراهيم بشير ابراهيم و«مارتجلو ذاكرة الحراز / ولانجور مناخات التحفز» لأحمد
ضحية.. ..
وهنا تجدر الإشارة إلى أن
كثير من الروايات في تسعينيات القرن الماضي, هجست بالاحداث الكبرى, سواء كانت
سياسية او طبيعية, و بالتاريخ والحاضر السياسي الممأزق, بفعل تجربة الديكتاتورية
المستمرة ..، فهى تاريخية - رواية التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة _ بالمعنى
العام للرواية بوصفها فنا يتعذر على بنيته التكوينية أن تعادل الراهن وتزامنه, دون
أن تخترقه تعاقبيا، وتاريخيتها تتصل برؤيتها, أكثر مما تتصل بأحداثها وتقنيتها
القادرة على تفريد العام، أى اشتقاق الشخصية الفردية من خصوصية عصرها التاريخى, وما
يتولد عن ذلك, من طابع ملحمى, قادر على استحضار صورة صراع المصائر الفردية،
بالتقاطع مع المصائر الوطنية(6)...
وقد مثلت كل هذه الروايات
(بما فى ذلك صباح الخير أيها الوجه اللامرئى الجميل لعيسى الحلو، المتهمة بأنها
إعادة إنتاج لموسم الهجرة) حضورا إنسانيا عاليا، قاسمه المشترك، التاريخ الذى
تتمحور فيه التجربة, بحضورها الحى ونكهتها المميزة، لكأنها تجربة طازجة، راهنة..
فالذاكرة المشتركة للنص / القاريء , تلتقط كل ما هو جوهرى في المقولة والشكل
والمضمون وتكثف كل ذلك, فى إبداع روائي فذ منذ الستينيات «الوظيفة المعرفية للنص
ثمرة تحقق الوعى فى الممارسة بغض النظر عن درجة قدرة الوعى على تحقيق التطابق أو
التغاير كدال يطمح إلى احتواء مدلوله, والسير عليه فنيا ومعرفياً ودلالياً»(7)، من
هنا كانت للتجربة الروائية فى السودان أهميتها الخاصة، إذ تقاطعت فيها أحدث
التقنيات، كما انشغلت بتوطين قيم الحداثة والتنوير، إذ نهض القول الروائى من مواقع
عدة : التحديث والردة.. قضية المرأة والسلطة الذكورية القابضة ومشكل الهوية وسؤال
المركز، الهامش.
المهاجرون
والسرد :
إذا كانت الكتابة مقاومة
للموت، فالسرد وطن الكاتب، ومن الأمور اللافتة للنظر فى السودان، ظاهرة الكتاب
المهاجرين و المغتربين، فكثيرون وجدوا أنفسهم مضطرين لترك البلاد الكبيرة و
الاغتراب اوالهجرة ,إلى منافٍ بعيدة، أو وجدوا أنفسهم بهذه المنافى : فى أمريكا
وأوروبا والعالم العربى. وكتبوا كثيراً من الأعمال الرائعة فى مجال القصة والرواية،
بحاجة لإفراد دراسات وأبحاث بكاملها، لاكتشاف القوانين التى تتحرك فيها.. بعض هذه
الكتابات كتب باللغة العربية وبعضها الآخر بالإنجليزية، وبعضها وصل السودان وأغلبها
لم يصل ومن أشهر هؤلاء المهاجرين والمغتربين لدى القارئ السودانى ليلى أبو العلا
وإبراهيم بشير وأمير تاج السر وأحمد محمد الأمين وعبد الفتاح عبد السلام وطارق
الطيب - لكن هذا الاخير يعتبر حالة خاصة سنتعرض لها في حينها -، وقد مثل هؤلاء
سفراء للسرد السودانى فى البلدان التى نشروا فيها أعمالهم الرائعة، التى ينقصها
النقد فى السودان، لإحيائها كجزء من نسيج التجربة السردية فى المشهد السردى
السودانى ...
السرد فى جنوب السودان:
أحد أهم الأسئلة التى طرحها
السرد فى الجنوب : سؤال الهوية، ويواجه السرد فى جنوب السودان مفارقة كونه مكتوبا
باللغة الإنجليزية، لقارئ إن لم يكن أميا (ويكاد يكون أميا فى الجنوب) فعلاقته
ضعيفة باللغة الإنجليزية- باستثناء المتعلمين بالطبع وهم قلة مقارنة بغير المتعلمين
_، إذ إن القارئ فى السودان بصورة عامة لغته الرسمية سواء التى يتحدث بها أو يمارس
بها حياته اليومية - بل ويفكر ويحلم بها -، هى اللغة العربية..
وأبرز ما اعتمدت عليه البنى
الحكائية، فى السرد الجنوبى كتيمات أساسية : الهوية، قضية المرأة، الطقوس،
الأساطير، الحكايا الشعبية وعلاقة الإنسان بالمكان، واتسم السرد الجنوبى بتوظيفه
للتقنيات الحديثة أسوة بالسرد فى الشمال، كالأسلبة الاجتماعية وانعكاس المرايا لبث
التاريخ الذاتى، إلى آخره من تقنيات مثل الفلاش باك والفلاش فور وول كما وسم
العديد منها الأسلوب الأرسطى الموباسانى كما عند جوناثان ميان وألينو رول دينق -
(8)، ونجد أن السرد فى الجنوب والشمال يسير فى خطين يتقاطعان عند نقطة واحدة تمثل
مشتركا إنسانيا كونيا فى جوهره : سؤال العلاقة بين الذات والآخر!.. ومن أبرز الكتاب
الجنوبيين: :
تعبان
لينفق «الكلمة الأخيرة» 1968، و«مات زنجى آخر» 1968
جاكوب
جل أكول : «عودة العاصفة» مجلة الخرطوم 1995
أغنيس
لوكودو : «الربيبة» مجلة سوداناو 1995
ألينورول
دينق : «نهاية القحط» صحيفة الصحافة 1978، «حفيد كاهن المطر» مجلة الإذاعة
والتليفزيون 1976، «الشجرة العرجاء» سوداناو 1976
فرانسيس
فيليب : «من أجل محبةاياي» 1976
أيتم آياك : «حياتان» 1976
فرانسيس
دينق : «بذرة الخلاص وطائر الشؤم» 1994، وقد صدرت الروايتان فى مركز الدراسات
السودانية القاهرة.
ويُلاحظ عند تناولنا
لفرانسيس دينق، أنه منذ أخذت الرواية فى السودان توظف التاريخ فى إطار تحليلها
للظاهرة الاجتماعية التى تشكل المحتوى السردى بأحداثه ودلالاته.. أصبح التاريخ
بُعداً أساسياً فى الفضاءات التى تحيل الرواية إلى ملابساتها وبهذا المعنى كونت
ملابسات التاريخ فى موسم الهجرة للطيب صالح (شخصية مصطفى السعيد) كشخصية منبتة،
ووسمت هذه الملابسات مستر سعيد بآثار عميقة كما لم يكن التاريخ بعيداً عن الغرباء
الذين حفلت بهم رواية أحمد حمد المك «عصافير آخر أيام الخريف» المحتشدة بحكايا
الذاكرة الشعبية، الناهضة فى الشفاهى والأسطورى والفانتازى، وهى تبحث بين كل هذه
العلاقات التى تربط الغرباء وتحكم علاقاتهم فى الجغرافيا....
وفى بذرة الخلاص لفرانسيس
دينق نجد الالتباس بين مستوى الحكاية ومستوى القول، يربك المتلقى فى تحديد الجنس
الذى تنتمى إليه هذه الرواية التى تعالج التاريخ. إذ يتداخل ما هو حكاية / تاريخ /
سياسى. مع ما هو روائى بالمعنى الروائى!(9)..
هناك أيضا القاصة
استيلاقاتيانو، التى يأتى تميزها من كونها الصوت النسوى الذى يكتب باللغة العربية_
الى جانب ارثر غابريال وآخرين _، بين الأصوات الجنوبية، وهنا يدخل مفهوم شمال /
جنوب فى مأزق لدى التعامل مع استيلا قاتيانو وارثر غابريال ، فالكتابة إنسانية
وكونية، لا تنهض فى الانتماء الاثنى، ولكن تأخذ حيويتها وخصوبتها من هذا الاثنى
الذى تنهض فيه ثقافة مغايرة لثقافة الشمال..
إذن فاستيلا وارثر واغنيس
بقدر ما ينتمون للجنوب اثنيا، كذلك هم من الشمال، الذى منحهم ذاكرة أخرى، ووجدانا
ثقافيا آخر، إلى جانب ذاكراتهم ووجدانهم الذى شكله الجنوب. فاللغة العربية التى
تكتب بها استيلا واخرين غيرها ، ليست أداة تواصل وتفكير فحسب، بل هى الأسلوب الذى
تحلم به وتحيا به وتمارس به الحياة اليومية أيضاً.. وهو ما يسهم أيضا فى معالجة
مشكل الهوية, بالإجابات اللازمة عن طريق هذه اللغة باتجاه تصحيح علاقة الذات بالآخر
(الشمال/ الجنوب) وصولاً لكونهما ذات واحدة تشظت إلى ذات وآخر بتأثير عوامل
متباينة...
المرأة والسرد:
باكتمال حلقات الوعى
الاجتماعى والوطنى فى الأربعينيات والخمسينيات. ارتفع الصوت النسائى من خلال كتابات
الأديبة: فاطمة عبد الرحمن فى مجلة الفجر، فى ظل مناخ صراعى حاد. بين قوى التقدم,
التى تناصر قضايا المرأة, وقوى التخلف المناهضة لحقوق المرأة، وبرزت القاصة: آمال
عباس العجب، فى مجلة صوت المرأة، وآمنة أحمد يونس، واستمرت المرأة القاصة فى
السودان, تعبر عن همومها وقضاياها, فيما تبدع من سرد قصصى وتطور من أسئلتها، ليفضى
السؤال فى رحلة الإجابة، إلى أسئلة أخرى، شائكة ومعقدة، قد تفضى لأسئلة الوجود
الكبرى : الموت، الحياة، وعلاقة الإنسان بالوجود، كما عند زينب عبد السلام المحبوب
وسلمى أحمد البشير، وزينب بليل التى نشرت أعمالها فى مجلة المنار 1957م...
وقد اتسمت الكتابة النسوية
فى هذه الفترة «الخمسينيات» بالتقليدية. فالبناء السردى محكم وفقا للمنظور
الأرسطوطاليسى، ولكن اللغة تقريرية يغلب عليها الوصف وتحاول عكس الواقع والوقائع
كما هى مكرسة لخدمة أغراض أيديولوجية وتربوية...
ومنذ السبعينيات أصبحت
الكتابة النسوية فى السودان, ذات سمت يميزها، ككتابة مهمومة بالدرجة الأولى,
بالخطاب التحرري الحداثى، انطلاقا من مفهوم: أن المرأة تعيش نفيا وجوديا، وبرزت هنا
سلمى الشيخ سلامة، وسعاد عبد التام، وآمال حسين، وفاطمة السنوسى.. وهكذا أشرع
الطريق. بعد أن أرسى قواعده الرائدات منذ ملكة الدار محمد عبد الله، وزينب بليل،
مروراً بسلمى الشيخ سلامة وصولا إلى منال حمد النيل، واستيلاقاتيانو، وأميمة عبد
الله...
ويُلاحظ هنا أن الكتابة
النسوية منذ السبعينيات حتى الآن، استفادت من تقنيات الكتابة القصصية الحديثة، كما
برزت اللغة القصصية فى النصوص، كلغة تقترب كثيرا من تخوم الشعر. حيث تجد المفردة
ملأى بالإيحاء, ومكثفة ومتعددة الدلالات، كما برزت تلك الوشائج الحميمة, التى تنطلق
منها المرأة الكاتبة, فى تأسيس إبداعها. انطلاقا من تجاربها الذاتية. ومن وعيها
باختلافها. واستقلاليتها, وتصديها لآليات القهر المختلفة، التى تريد إحكام السيطرة
على جسدها وعقلها "ومنذ هذه الفترة يمكن الحديث عن كتابة مختلفة للمرأة فى السودان
عن كتابة الرجل، وكذلك يمكن الحديث عن أن لكل قاصة صوتها الخاص(10)"..
خاتمة :
ظلت بنية السرد فى القصة
القصيرة، والرواية فى السودان، منذ استقر هذان الجنسان, بين أجناس الكتابة فى
السودان.. ظلا يكشفان عن المفارقة التاريخية للذات المتشظية إلى آخر, وهى تتحسس
مركزية القمع الذى يطال كينونتها.. حيث لا تملك إزاءه سوى انكسارها الروحى
والاجتماعى وجرح هويتها المشكوك فيها، وأسئلة المهام التاريخية للتحرر الوطنى التى
ظلت حبيسة الأضابير ولم تنجز..
وقد تجلت هذه المفارقة,
بدرجات متفاوتة. على مستوى القصة أو الرواية, منذ الميلاد في مجلتى الفجر والنهضة.
فى ثلاثينيات القرن الماضى، مروراً بمجلة القصة التى أسسها: عثمان على نور, أبو
القصة القصيرة فى السودان..
وأخذت الأسئلة الحارقة,
تتطور وتنضج إثر كل جيل.. تبلغ ذروة نضوجها، فيما اعترى البنى الاجتماعية فى
السودان. من تمزقات وتشظ باعتلاء النظام الكولونيالى الإسلاموعربى منذ 1989 لدست
الحكم ووقوع البلاد في حقبة من حقب الانحطاط التي لم يسبق لها مثيل ....
وبين كل هذا الركام من
التمزق والتشظى نهض السرد الجنوبى, وسرد المرأة. كعلامتين بارزتين فى هاجس الكتابة.
وهى تسعى لتأكيد ذاتها، من موقع الحوار بين الذات والآخر..
وإذا كانت فترة السبعينيات, هى فترة سيادة الشعر بلا
منازع، فإن فترة التسعينيات من القرن الماضى, وأوائل القرن الجديد. هى فترة سيادة
الرواية كجنس ينهض فى تحليل التاريخ وإعادة إنتاجه، فى سبيل خلق واقع أفضل, من واقع
افتراضى متخيل.. هذه الرحلة الطويلة منذ ثلاثينيات القرن الماضى حتى الآن (بالنسبة
للقصة القصيرة والرواية)، لهى رحلة شاقة. استلهمت فيها الكتابة من التراث تيمتها.
ومن الواقع خصبه. ومن الأشكال الحداثية الغربية تقنياتها, المبدعة.. وتحاورت النصوص
فى السودان مع النصوص الأخرى فى مصر, والعالم العربى مشرقه و مغربه ؛ وأفريقيا،
وأمريكا، وأمريكا اللاتينية وأوروبا.. تحاورت حواراً بناءً. أنتج تجربة ناضجة فى
خاتمة المطاف: شكلا ومضمونا، عبرت عن خصوصية السودان كمفترق طرق، تلتقى وتتقاطع
عنده حضارات أفريقيا العريقة, وحضارة العرب. وثقافة الغرب الكولونيالى....
الهوامش:
(1) محمد جمال باروت والدكتور عبد الرازق عيد : الرواية والتاريخ، طبعة أولى 1991م
دار الحوار للنشر والتوزيع ، اللاذقية ص5
نفسه
ص93 2) )
(3) مجلة الثقافة الجديدة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، فبراير مارس 2004 ص93
(4) ثقافات سودانية، إصدارة المركز السودانى للثقافة والإعلام القاهرة، العدد
الخامس 1999م ص76
(5)
نماذج من القصة القصيرة النسائية فى السودان، المركز السودانى، طبعة أولى 2002 ص21
(6)
دراسات لأحمد ضحية حول محمود مدنى
نشرت
بصحيفة الصحافى الدولى 2002، وأعيد نشرها فى مجلة كتابات سودانية (جابر الطوربيد +
الدم فى نخاع الوردة) 2003م.. أهمية هاتين الروايتين تأتى من كون مسكوت الحديث
الروائى يأخذ مشروعيته من استمرار شروط هموم ومشروع التحديث وبناء الدولة الوطنية
الحديثة والقوانين التى لا تزال تسوق المجتمع إلى الخلف : الضرورات التى أنتجت قوى
التحديث.. فهما روايتا وقت راهن، مثلما عبرتا عن مناخ حركات التحرر فى العالم
الثالث إبان الأربعينيات والستينيات...
(7)
محمد جمال باروت : عبد الرازق عيد، الرواية والتاريخ : ط1/ 1991م دار الحوار
اللاذقية، ص11
(8)
كتابة الجنوب وجنوب الكتابة، المركز السودانى للثقافة والإعلام، القاهرة ط1/2002
ص18
(9)
احمد ضحية : دراسات السابق
كتابات سودانية ، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، مارس 2003 ص102 (10 )