كتاب رجاء بن سلامة، "الكتابة والعشق"، الصادر لدى "منشورات الجمل"، ينتمي إلى
فئتين من الكتب النقدية: الأولى، فئة أطاريح الدكتوراه المنشورة،
والثانية، فئة
الكتب التي تنظر في التراث من وجهة نظر مغايرة للطرق التقليدية، طامحةً
إلى
كشف
جديد يناسب - إلى هذا القدر أو ذاك - نظرتنا إلى ما مضى وإلى ما ورثناه من
كتابات السلف.
الفائدة من كتاب مماثل، مزدوجة هي الأخرى: فمن جهة نفيد منه بمعرفة ما
يصدر من
بحوث وأطاريح أكاديمية عن الجامعات العربية، التي غالباً ما يتم الاكتفاء
بإيداعها في ضوء عدم وجود خطط لنشرها، وتالياً، يُحرم النقد من رافد مهم
يساعد
في
انتشاله من ركوده الذي نكتفي بالإشارة إليه دائماً وأبداً. من دون أن
نغفل
أن
نشر الأطاريح والبحوث الأكاديمية يخضع بدوره لمتطلبات خاصة، أهمها ربما
إعادة العمل على الأطروحة نفسها من أجل التخفف من متطلبات الصرامة
الأكاديمية،
وبلورتها بطريقة مختلفة كيما تستطيع فعلاً التحول إلى كتاب نقدي حقيقي له
قوة
الجذب والاستقطاب، وهما قوتان لازمتان كي يستطيع أي كتاب نقدي دخول السياق
الراهن للنقد.
وتكمن الفائدة الثانية في كون الكتاب يقارب التراث العربي بطريقة
"حداثية"،
إن
جاز
القول. بمعنى آخر فإن معضلة التراث/الحداثة، التي وسمت بدايات الثقافة
العربية المعاصرة لا تزال حاضرة بيننا، وتبين على نحو لا فكاك منه كم كان
محمد
لطفي اليوسفي في كتابه "فتنة المتخيل" صائباً في تكراره مقولة أن التراث
لا
يقطن الماضي بل "يقيم على الأرض معنا متستراً على نفسه في نصوصنا
وإبداعاتنا
وسلوكنا" (ص 246).
إيراد ذكر اليوسفي التونسي، يوسع من زاوية النظر كي نرى كيف أن كتاباته
وكتابات
رجاء بن سلامة وعبد الفتاح كيلطيو وعبد الكبير الخطيبي وجمال الدين بن شيخ
وغيرهم، ترسم قوساً نقدية ترفد المكتبة العربية بكتب نقدية أصيلة ومبتكرة
تأتينا من المغرب العربي وتشكل مجموعة فريدة عبر مقارباتها للتراث العربي
بطريقة "حداثية".
اختارت بن سلامة قراءة التراث ضمن برنامج حددته "هو برنامج توضيح الأبنية
الأسطورية واللاهوتية والمعرفية الخفية التي تحكم هذا الموروث وبرنامج
فتحه على
ممكناته المختلفة من خلال مظهر من مظاهره هو خطاب العشق والكتابة التي
يخترقها"، مثلما حددت الغاية، "فغايتنا من دراسة العشق هي التحرر من
النظرة
الأخلاقية التي تنظر إلى الغزل بمعزل عن العشق أو تدرس الحب بمعزل عن
الشوق
والجماع والمتعة مغيِّبة في نوع من الرياء والنفاق الأخلاقوي قضايا أساسية
لا
يمكن أن نتناول نصوص العشق بدونها: قضايا الجسد العاشق، والافتقار البشري
المستمر، والمتعة باعتبارها من أهم ما يجري إليه الإنسان وعلاقتها المعقدة
بالقانون... وغايتنا من دراسة الكتابة هي الاهتمام بما يغيب في هذه النصوص
عادة
وهي
الدوال باعتبارها مهيكلة للتجربة، والصور التي تختزل عادة في الفكرة
أو
المعنى، والراسب اللامعقول الذي يعقلن ويسطح والمختلف الذي يختزل في
المشترك".
الفكرة الرئيسة هي دراسة المفردات الموجودة في تلك النصوص التراثية شعراً
ونثراً، جامعها ومشتركها الأوحد العشق وأحواله. إذ أن الكاتبة استندت إلى
التحليل النفسي - بشكل جزئي -، وانتقت مقاربة لغوية "تفكيكية" لتلك النصوص
الخلاقة. وقد نظرت في المفردات في اعتبارها دوالاً تدل على مدلولات غابت
عنا
وبقي منها "الأثر" الذي شغف به دريدا. وفي الجملة، تنتظم تلك الدوال وفقاً
لنسق
معين، وتشكل بنية حددتها بن سلامة بـ "بنية السّدم". وبررت اختيارها
لمفردة
السّدم وفقاً للطرق الأكاديمية قائلة "وقد اعترضتنا في دراستنا نصوص العشق
الشعرية والنثرية وفي تحليلنا لأسمائه المختلفة صورة حيوانية وبشرية في
الوقت
نفسه، بدت لنا مختزلة لمصير العاشق كما تصوره النصوص في أغلب لحظاتها:
إنها
صورة البعير السّدِم، وقد ولدت اسماً من أسماء العشق هو السّدم"(ص43
). ووفقاً للطرق الأكاديمية أيضاً عمدت بن سلامة إلى البحث في "لسان
العرب" عن كلمة السّدم فوجدت ما افترضت من "صورة حيوانية وبشرية في الوقت
نفسه". فالمفردة تحيل على البعير وشهوته آن يمنع عنها: والسّدم: الذي يرغب
عن
فحلته، فيحال بينه وبين ألافه"، والإنسان السّدم "تُنسب إليه شدة العشق
واللهج
واضطراب الحركة والحزن والغضب".
أما
بنية السّدم فقصدت بها "هو عموماً تحول الذات المشتاقة إلى ذات معتلة
تطلب
الموت وتحول العاشقية والمعشوقية إلى علاقة تسلطية شبيهة بالمس: ما يسود
في
هذه
البنية هو التغيير" (ص 127). ووفقاً للطرق الأكاديمية تبرر اختيار التغيير
في
اعتباره "المفهوم المناسب... لتسمية سائر أحوال الاعتلال والفساد والموت
المرتبطة بالعشق/ السّدم" (ص )127. وبالمثل تنتقي الكاتبة مفردة العشق
بدلاً من
الحب لأن العشق يرجعنا إلى صور المتعة الأنثوية الباعثة على الخوف، وتكتب:
"وإحالة
(ع ش ق) على شهوة الناقة تبدو لنا أساسية في الاستعمال وليست مجرد
فرضية اشتقاقية متأخرة".
ويمكننا اختزال مسار الكتاب على النحو الآتي: أفكار الكاتبة، النصوص
التراثية
-
من
شعر ونثر - المنتقاة بعناية، المفردات المنتقاة كيما تستوي بنية
السّدم،
النظر في المفردات في "لسان العرب"، وانتقاء المعاني التي تناسب بنية
السّدم.
بالإضافة إلى وضع جداول بكل ما للعشق من دوال: دوال شهوة الأنثى، دوال
الاعتلال، الدوال التشريحية، دوال الموت، دوال الصحراء، دوال العلوق أو
النشوب،
دوال القتل والفتنة، دوال تحيل على الجن والشياطين.
للوهلة الأولى يوحي
هذا
الكتاب أن تعدد دوال العشق وتنوعها اكتشاف كبير، وخصوصاً أن منهج التفكيك
استوى
وفقاً لدريدا بطريقة صحيحة. فلكل كلمة "أثر" مخفي ما، يحيل معناها الظاهر
على
معنىً آخر كامن غائب أو أكثر. لكن التدقيق في محتواه يبين أن تطبيق منهج
التفكيك جاء مفتعلاً ومركباً، ولا يعود السبب في ذلك إلى منهج التفكيك
نفسه،
قدر
ما يعود إلى خطأ منهجي في الاعتماد على "لسان العرب" وحده من أجل
التدليل
على
المعنى الكامن أو "الأثر" للمفردات المنتقاة. فـ "لسان" ابن منظور هو
معجم
لغوي متأخر قياساً إلى المعاجم أو الكتب التي جمعت اللغة العربية، وهو
معجم
لغوي من القرن الثامن الهجري، وينتسب إلى المرحلة الثالثة من مراحل جمع
اللغة
العربية. والناظر في المراحل التي سبقت "لسان العرب"، لن تفوته على
الأرجح،
رؤية غزارة تلك المعاجم والكتب بالمفردات التي تحيل على استعمالاتها
الحسيّة
المأخوذة حُكماً من البيئة التي نشأت فيها. وفي كلام آخر تزخر تلك الكتب
بما
يعرف بانتقال استعمال المفردة من المستوى الحسي إلى المستوى المجازي، مما
يفسر
لنا
لم تحيل تلك المفردات على الناقة والبعير. فهي ليست قطعاً افتراضات
اللغويين ولا اشتقاقاتهم كما تذهب الكاتبة، وتؤكد أكثر من مرة. وفي كلام
آخر
ظهر
"لسان العرب" كأداة مطواعة في خدمة منهج التفكيك، في حين كان حرياً
بالكاتبة أن تنظر إليه في اعتباره معجماً لغوياً جامعاً لخمسة مراجع
كبيرة، مما
يفسر كيف تحيل غالبية مفردات اللغة العربية على أكثر من معنى: هناك كثير
من
المفردات انتقلت من المستوى الحسي إلى المستوى المجازي، وأخرى لها أكثر من
معنى
(المشترك
اللفظي) وقد يكون من الأضداد. كما يمكن أن يكون للمعنى الواحد
أكثر من
لفظ
(الترادف). وهناك مفردات تعددت معانيها من طريق الاستعمال. وهذه
الفكرة
الجوهرية تبين إلى حد كبير خصوصية اللغة العربية: فالكلمة يفهم معناها من
السياق والاستعمال، عدا أن اللفظ/ المفردة ليس جامداً ولا يمكن أن نحدده
بمعنى
واحد على مر العصور. وهذه النتيجة الأخيرة ليست اجتهاداً، بل نتيجة
"موضوعية"
لمذاهب اللغويين المختلفة بين إنكار الترادف والمشترك والأضداد وإثباتها.
ويعود
أمر
الاختلاف بين اللغويين أصلاً إلى نظرتهم إلى اللغة: اصطلاحية أم
توقيفية.
إن
إحالة مفردة السّدم على البعير ليست عملاً استثنائياً يمكن الكاتبة من
خلاله
إنشاء "بنية السّدم"، وذلك لسببين، أولاً: المفردة قليلة التدوال في متن
النصوص
التي اعتمدتها الكاتبة، بمعنى أن الاستقراء الذي قامت به لا يمكن الاعتماد
عليه
والوثوق بنتيجته العلمية منهجياً. وثانياً: تلك "النصوص" هي أبيات شعرية،
وقد
وردت مفردة "السّدم" فيها على سبيل الاستعارة أصلاً.
في
مواضع أخرى من الكتاب تعمد الكاتبة إلى إضفاء معنى تختاره بنفسها على
مفردة
الاستجواء، فتكتب: "نستعمل لفظة الاستجواء لوصف العمليات الخيالية الشعرية
التي
يدخل بها العاشق المعشوق داخله". وتبين وفقاً لمتطلبات التسويغ الأكاديمي
عملها
على
اعتبار المفردة من مشتقات "جوى"، وعندما تجد في "لسان العرب" معنىً
يخالف
رغبتها، لا تجد حرجاً في أن تكتب: "فاستعمال العرب القدامى الاستجواء
للإحالة
على
الكره ليس مانعاً يحول دون استعمال هذا الدال بالمعنى المحدد سلفاً".
المشكلة في هذا الكتاب أن بن سلامة تبيح لنفسها انتقاء المفردات معزولةً
من
سياقها والنظر في "لسان العرب" في اعتباره مستودعاً يتيح لها انتقاء
المعاني
التي تنتظم وفقاً لنظرتها الخاصة لكتابات العشق، مما منعها من النظر في
النصوص
أولاً وفي سياقاتها ثانياً، وهذا هو الأهم. فالمفردات ذات الاستعمال
المتكرر
شعراً ونثراً ليست قطعاً معزولة عن نصها، والنص نفسه قد يكون ذا طابع
جمالي أو
ذا
طابع وعظي ديني، وتالياً تتلون المفردة بحسب استعمالها بمعانٍ تحيل على
"أثر"
مختلف.
ومن
ناحية ثانية نجد خطأً منهجياً آخر في استعمال الكاتبة الشواهد الشعرية
وفقاً لطريقتين، تستخدم في الأولى الشواهد الشعرية بحسب الطريقة التقليدية
البحتة: يحضر البيت الشعري ليشهد لصواب فكرتها فقط، ولا يتم تحليله كي
يفصح عن
معانٍ خافية أو "أثر" غائب، بل غالباً ما يتم الاكتفاء بوجود الدوال
المطلوبة
(دوال
الموت، دوال الفتنة، دوال الشهوة... الخ). أما في الثانية فتستخدم
بن
سلامة الشواهد الشعرية بطريقة غير صائبة حين تنقل من "لسان العرب" المفردة
وتبين جذرها وتعدد بعضاً من معانيها، وفي الآن نفسه تنقل الشاهد الشعري
الوارد
في
"لسان العرب" في اعتباره شاهداً للتفكيك الذي قامت به، لا في اعتباره
شاهداً
للمجاز الشعري. فمن المعروف أن "لسان العرب" عمد إلى التدليل على وفرة
المعاني
من
طريق الشواهد الشعرية، أي أن "اللسان" اهتم بالمجاز - كما غيره من
المعاجم
-في
اعتباره من أهم عوامل نماء اللغة وثرائها. ويظهر استخدامها هذا للشواهد
الشعرية التفكيك مقلوباً إن جاز القول - فالشاهد الشعري في "اللسان" يدل
على
مجاز معين، بينما ترى بن سلامة في المجاز معنىً/ أثراً من شأنه أن يدعم
بحثها.
"الكلام
نفسه قد يكون مصدر متعة، والحديث عن المتعة يولد المتعة، والنظر
في
موضوع المتعة يولد المتعة".
تنطبق كلمات بن سلامة هذه على كتابات العشق بامتياز، وتنطبق في شكل خاص
على
الشعر العذري، الذي تأخرت الكاتبة في النظر إليه في كتابها، فجاء في الفصل
الثالث من الباب الثاني. والحب العذري كنتاج فريد متفرد في الأدب العربي
هو
متن
الكتاب المخفي وحامله. فبنية السّدم لا تستوي من دون ذكر أحوال مجنون ليلى
وجميل بثينة وكلّ العذريين، بل إن هذه البنية التي مسارها التغيير من
اعتلالٍ
وجنونٍ وموت، قد تحولت إلى "قيم خلقية في آداب العشق". هذه الملاحظة
الذكية
للكاتبة تبرر قصة "بنية السّدم" كلها، وتكشف أن ما قدح زناد بحثها هو كتاب
"في
الحب والحب العذري" لصادق جلال العظم. رغم أن الكاتبة تعمد في بداية
كتابها إلى
الإشارة إليه في اعتباره دراسة عربية غير تقليدية، وتنتقد انبناءه على
"شيء
من
الإسراف والتسرع". إلا أن الناظر في مسار "الكتابة والعشق" المتشعب
والمعقد، لن
يفوته في الغالب رؤية أثر هذا الكتاب في فتح شعر العذريين على ممكناته
المختلفة، مما مكن رجاء بن سلامة من التركيز على أحوال التغيير من اعتلالٍ
وجنونٍ وموت، وتالياً تحديد مسار هذا النوع من العشق القابض دائماً على
"أول
الحب" أو "بنية السّدم" كما ارتأت. ربما كانت مفردة الافتقار التي
تستعملها بن
سلامة، المفردة الأكثر تعبيراً عن حال الحب: "يبدو لنا افتقار العاشق إلى
المعشوق وطلبه إياه، وحركته المحمومة نحوه، أساس العشق في التصورات
القديمة".
ونضيف أنه لا يزال أساس العشق إلى اليوم وسيبقى كذلك. إذ يعلم العشاق من
طريق
التجربة أن دوال العشق تحيل على الشهوة والاعتلال والفتنة والموت. وهم
سواء
أكانوا شعراء أم لا، واعين أم غير واعين للمعنى و"أثر" المعنى في
مفرداتهم،
يدركون "افتقارهم".
في
كتاب جمع أكثر من مئة اسم للحب وبحث في معانيه سواء أكانت خافيةً أم
ظاهرة،
تبقى المتعة المتوالدة من طريق الشواهد الشعرية التي يزخر بها الكتاب
كنزاً لا
يستهان به. فالأبيات التي انتقتها بن سلامة بعناية فائقة تشكل كنزاً
مضاعفاً:
الأول لجمالها وللمتعة المتوالدة من قراءتها، والثاني لأننا ربما لم نكن
لنقرأها لولا جهد بن سلامة وشغفها بتلك المتعة.