الحداثة كما يعتقد الكثير من خلال اسمها البراق على انها آخر الصيحات في عالم التطورالثقافي والأبداع الأدبي بعيدا عن الأفرازات الأجتماعية بكل ما تحمله من هموم على مستوى الفرد والمجتمع ، في الجوانب الانسانية والمادية ، وهذا خطأ شائع للأسف الشديد ، وللدلالة على ذلك لو عدنا الى الكثير من الحضارات التي تعرضت الى فوضى فكرية بعد ان تآكلت او انتكست بفعل عامل خارجي او داخلي اقوى منها ، وهكذا هي الحياة " الأم " حدثتنا بعد الحروب الطاحنة التي تعرضت لها الحضارات والشعوب منذ القدم ، وخاصة الحربان الكونيتان الأولى والثانية ، وحين انتهتا اطلق ايضا ً على العالم الجديد بـ "الحداثة " نسبة الى تجدد العالم نتيجة لتطاحن خصمان لدودان فيطيح احدهما بالآخر او الأثنان معاً وهو انعكاس لمرآة العالم قبل وبعد " الطحان

" وهذا ما ذهب اليه الكثير من المفكرين الذين اكدوا على ان العقل والعلم والأفرازات المادية والديمقراطية كلها احضان دافئة لتفقيس هذه الأفكار بعد ان تمرد مفكروها على الأسس التقليدية السائدة بكل ما له صلة بالدين والأخلاق والأجتماع والأقتصاد وفي مقدمة هؤلاء المفكرين كل من ماركس ، نيتشه ، وفرويد ، ولعل هناك من يتساءل لماذا ولدت الحداثة في رقعة جغرافية بعيدة عن عالمنا العربي والأسلامي تمتد بين اوربا وامريكا رغم التراث الهائل الزماني والمكاني الذي يتمتع به عالمنا العربي والأسلامي؟ ولماذا تهب رياح التغير دائماً من الغرب حتى في الآداب رغم الباع الطويل الذي سبقنا فيه الغرب في هذا المجال على وجه الخصوص ، ناهيك عن العلوم الأخرى؟ ولماذا دائماً تكون الولادة بين احضان الأمم الأخرى ابتدائاً من نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، وهل انها بالضرورة كانت ولادة تلاقح تيارات فكرية ام انها تعيش مخاضاً طويلاً تتعرض فيه للأضطهاد والتعسف حتى تصل الذروة وتتربع على العرش ومن ثم تتهاوى من السفح المقابل ....

ولهذا فأن " الحداثة " ليست مصطلحاً خاضعاً للتفسير على خصوصيتها بالأدب والنقد وانما هي صور جديدة دالة على المفهوم الحضاري تقفز بأنماط مختلفة زمانياً ومكانياً على اكتاف المفاهيم السائدة في حقبة تاريخية خاضعة لصيغ تقليدية وتتمرد عليها ، وكما يقول المفكرون انها لا زمانية وليست احادية المنشئ واللغة والأصول ، ويصفها آخرون صبيانية المضمون وتميل الى نزعة الشر والعداء للماضي والقديم ، بل انها ايضاً تشكل افرازاً طبيعياً وفنياً للغزل الحضاري بين مفاهيم الدين وتطور مؤسسات الدولة العلمانية لما تمنحه من حرية للفرد في ممارسة حقوقه الشخصية من رغبات وميول ، بل وجعلها آخرون ثورة على كل ما هو قديم بوصفه متخلف عن دورة الحياة المتجددة فكرياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ، ولهذا يتأكد لنا بأن الحداثة لا يختص مفهومها بعلوم الثقافة والآداب وحسب كما يظن البعض .

وتعتبر باريس من المدن الأوربية العريقة والوجه الحضاري لانطلاق حركة الحداثة في بداية القرن التاسع عشر بعد ان دبت الفوضى الحضارية وانعكست آثارها على الحياة الثقافية حتى امتدت لتشمل اوربا كلها لتتفاعل مع التقلبات السياسية والأقتصادية والأجتماعية ثم واصلت ذروتها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ، لتبقى باريس مركز الأشعاع الحداثوي ، ومن ابرز مؤسسيها من ادباء الرمزية والماركسية والعبثية ، الفرنسي شارل بودلير وغوستاف فلوبير وشاعر الثورة البلشفية الروسي مايكوفسكي .

اما من العرب فأبرز الأسماء التي ابدعت في هذا المجال ادونيس، محمود درويش، يوسف الخال، عبد العزيز المقالح، سعدي يوسف، محمد عابد الجابري، عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور واسماء كثيرة اخرى ، وكان لهذه الأسماء الأثر الكبير في تأجيج الثورة فكراً وادباً وممارسة في الواقع المؤلم سياسياً واجتماعياً وسلطوياً للهرم الحاكم في البلاد العربية ، ولكن يعاب عليها في نفس الوقت عدم تأثيرها على المدّ البعثي المتستر بالقومية كما يجب ان يكون .... ، وقد يكون السبب في ذلك ارتداء البعث لمعطف القضية الفلسطينية وطرح نفسه المنقذ والبديل الأوحد لأنقاذ الشعب الفلسطيني ...!

مما سحب البساط من تحت اقدام المنادين للتحرر من طغيان البعث العنصري القومي والشوفيني فكراً وممارسة على مدى اكثر من نصف قرن . وكان الاتجاه السائد آنذاك اكثر شمولية من الواقع الجغرافي ليتبنى نظريات داروين " اصل الأنواع " ونظريات فرويد الأنسانية وفلسفات نيتشه ومن ثم نظرية ماركس المادية التي كان لها النفس الأطول في تبني افكار ما زال رنين صداها قادحاً حتى الآن ، وكان لكل هذا الكم المتنوع من النظريات التأثير الواضح في الأجتماع والأقتصاد والسياسة والأدب بكل اشكاله ، كلها روافد تصب في نهر الحداثة الساري الجريان ، وتؤثر ايضاً في تغيير النظرة الى التقاليد السائدة في الأجتماع والقيم والاخلاق واصبحت لغة الحداثة ثورة النقيض لكل ما هو قديم ، حيث ظهرت الدادائية وما لبثت حتى طغت عليها السريالية واحلام فرويد ثم الرمزية وما تضمنته من ثورة في التحرر من الأوزان الشعرية ، ومن هنا بدأ الأشعاع الحداثوي تظهر آثاره بجلاء في الأدب من خلال ترجمات شعراء الأدب الأوربي الحديث امثال بودلير ورامبو ومالاراميه وبرزت الى الوجود بعض المجلات في بداية الخمسينات في لبنان تتبنى الحداثة على انها حركة فكرية قد حررت الأدب العربي وخاصة الشعر من قيود الأوزان التقليدية وحرية الخيال في التعبير عن العواطف والأشجان بإيقاع شعري وموسيقي مبني على التتابع المنطقي والتسلسل العقلي على وحدة القصيدة وجوها العام.

إن الحداثة هو التطور المنطقي للكون والانسانية والحياة ، حركة لوحدة متكاملة من الأفكار الدالة على النفس المتجددة في كل شئ ضمن الظوابط الانسانية التي لا تقبل الا محاكات العقل بأن يبقى الانسان هو السيد الأوحد على هذه الأرض ، واما في الأدب فهو الرئة التي يتنفس بها الشاعر والقاص والمسرحي والموسيقي والتشكيلي والروائي ، انها تجربة غير خاضعة للكيمياء او الفيزياء ، ليست معادلة تستند على استهلاك مادي بل هي انفلات من سبات الموروث القديم ومؤسسات الموروث البالي تتمرد عليها ولكن سرعان ما تشيخ .

-------------------------------------------------------------
*شاعر ومسرحي,واعلامي عراقي مقيم في ديترويت


المراجع

arab48.com

التصانيف

مجتمع   العلوم الاجتماعية