كثيرة هي الكتب التي صدرت تبارك الحداثة وتصفق لها ،وكثيرة هي المحاولات التي جعلت من روادها أعلاما لا يشق لهم غبار في التأليف والإبداع ,كتاب "الدكتور عدنان النحوي "جديد في بابه ،حيث رصد الحداثة التي آن الأوان للتصدي لها بأقلام مستنيرة لكشف أهدافها وتتبع مراحلها ونشأتها وكشف ما لها وما عليها ،وكيف ساهمت في تشويه الشعر وبلاغة العربية ،ومن ثم رصد أعلام هذه الحركة ومنطلقاتهم ودعواهم ،وعلاقة ذلك بالمادية الجدلية وغيرها من الأفكار المستوردة.
تحت عنوان"كلمة الحداثة بين القديم الحديث"درس المؤلف الكلمة ،مبينا مضمونها ومحتواها اللغوي ،كما أبان عن دلالة مفهوم الحداثة وما تعنيه لغة ،مؤكدا أن اللفظة اكتسبت مجموعة مفاهيم واستحوذت على مجموعة تعريفات ،وان صبت جميعا في بوتقة واحدة.
القلق الأوروبي واضطراب أفكاره وفلسفاته ،وما انبثق عنها من أشكال أدبية ،تدل على مذهب فكري جديد،يحمل أصوله من الغرب ويبتعد عن مناخاتنا وطريقة عيشنا ،والمؤلف لذلك يتوقف مع مجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تبين خطأ الذين يهربون إلى الاختلاف والركض وراء كل جديد.
يتعرض المؤلف لبحث جذور وآفاق الحداثة مستعرضا أبرز المذاهب والفلسفات الفكرية التي وجدت لها تربة صالحة في الغرب ،كالوجودية ومذهب الفن للفن ،ليصل إلى الحداثة التي يعتبرها انفجارا معرفيا ،لم يتوصل الإنسان حتى الآن من السيطرة عليه لأن الحداثة ليست غير تعبير عن اليأس والقنوط والكفر بكل القيم ،المؤلف هنا يبحث في الأسباب التي تقف وراء وراء القلق واليأس والاضطراب المسيطرة على أوروبا ،ويناقش تعريفات الأوروبيين أنفسهم للحداثة التي يدعي البعض أنها تعود للشاعر"بودلير"-ذلك الذي ترعرع في بؤر المخدرات حسب ما يظهر في ديوانه"أزهار الشر".
يتتبع المؤلف أيضا،المراحل التي قطعتها الحداثة في تسللها للعالم العربي ،مؤكدا أن ذلك لم يأت وليد صدفة مفاجئة ،بل على دفعات ومراحل،ليخلص إلى أن الحداثة ابتداء لبست رداء الوطنية والحرية والعدالة على يد"أدونيس" –كاهن الحداثة حسب تعريف المؤلف وغيره،ممن ساهموا بإدخالها إلى الأدب العربي باعتبارها أداة لتطوير الأدب و أسلوبا للتجديد فيه.
درس الباحث نماذج من فكر الحداثة فتطرق إلى كتاب"مقدمة في الشعر"متوقفا مع ابرز الأخطاء فيه موضحا الدعوات التي تضمنها ومنها أن "أدونيس"تحدث عن الشاعر الجاهلي فوقع في تناقضات وأفكار غامضة غير محدودة فأدعى أن الشاعر الجاهلي كان ينظر للأشياء دونما اعتماد على أفكار مسبقة وفي هذا الرأي ما فيه ،إذ لا يمكن عقلا للمرء أن ينشى تصورات دون معلومات مسبقة ،كما يمجّد من كتابة "أبي نواس" ويعلي من مجونه ويرى في سلوكه تجديدا ،إضافة لنظرته ل"ديك الجن"التي لا تغادر رأيه السابق،ناهيك عن تناوله لشعراء ك"المتنبي والمعري" ،واصفا إياهم بما يجانب الصواب ويطلق عليهم أحكاما فيها خلط في الموازين ،مقللا من أهمية دور "الخليل بن أحمد"معتبرا أن هدم الوزن والقافية ،مقدمة لا بد منها للارتقاء بالبلاغة والبيان ،إلى أن يخلص الباحث إلى أن محاولات "أدونيس"ما هي إلا تخريب للغة وهدم للذائقة الشعرية التي تقوّض أساس الوضوح ،في وسيلة التعبير والفكرة وبشكل خاص عندما يرصد المؤلف تركيز "أدونيس"على ضرورة تجريد الشاعر من العقل والمنطق وتغطية أفكار الماركسية بغطاء صوفي ومفردات غائمة من أجل تجاوز الماضي بكل مقاييسه كما يزعم.
من هنا تأتي دعوة المؤلف لضرورة التسلح بالإيمان والاستقرار الفكري ،لأن في ذلك أهمية ضرورية لبناء شخصية الأديب التي تحميه من دعوات "أدونيس"وتلاميذه.
لكتاب الدكتور"كمال أبو ديب" "جدلية الخفاء والتجلي"وقفة يقفها "النحوي"راصدا ما جاء فيه من دعوة للتثوير الجذري ،بناء على مفاهيم البنيوية باعتبارها طريقة خاصة في الرؤية ،والمنهج الأساس في معاينة الوجود ،ويتوقف مع بعض النصوص التي حللها "أبو ديب"ليفرغ الشعر من دهشته،مبينا انحياز الرجل للنصوص التي تمثّل خروجا عن القيم ،كما يقف مع دعوة"أبو ديب" لإيجاد الإيقاع الموسيقي البديل عن القافية ،وهذا فيه تشويش على المتلقي وهز لثقته بلغته وتاريخه وأدبه.
يناقش "النحوي"كذلك كتاب "الخطيئة والتفكير""لعبد الله الغذامي"قائلا "إنه محاولة لتطبيق نظريات أدبية ولغوية يضعها الغرب ضمن أجواءه الفكرية المضطربة ،وهي محاولة تحتاج لتأمل دون أن يبهرنا بريقها وانتشارها والتصفيق المفتعل لها ،ويرى "النحوي"أن تحليلات الغذامي لشعر "حمزة شحاتة"بناء على نظريات "رولان بارت"،لا يجوز مطلقا ،إذ أننا بذلك نخضع أجواء الشعر لأحكام نقدية وآراء نظرية خرجت من مناخات ثقافية مغايرة ,والغذامي كمن سبقوه ،يستخدم أسلوب التعمية ،مما يصطدم مع عقيدة التوحيد،هذا زيادة على أن بحث الغذامي في العلاقة بين الرجل والمرأة ،بعيدا عن العلاقة التي حدد القرآن إطارها ،متخذا من قضية التفاحة بين آدم وحواء قضية مسلمة يبني عليها أحكاما دون أن يتذكر أن التفاحة لم ترد في القرآن الكريم مطلقا ،والدكتور النحوي هنا يؤكد ثانية على ضرورة حمل التصوير الإيماني لإظهار التناسق والإشراق الإلهي ،حتى تكون أحكامنا منسجمة مع واقع الحال حتى لا يقع المرء صريع غوايات شططه .
في تناوله للحداثة بين الشعر والنثر ،حدد المؤلف الملامح الفاصلة بينهما ،مثيرا مجموعة نقاط أهمها تميز اللغة العربية عن سائر اللغات ،الأمر الذي يقودنا إلى تميز الشعر في اللغة العربية عن غيره في اللغات الأخرى التي تبتعد عن أصول التوحيد.
انطلق المؤلف معرفا الفن الشعري حسب وجهة نظره،مثبتا نماذج يدلل بها على صحة تعريفه مستشهدا بشعر "النابغة الجعدي"و"عمير بن حمام"و"ابن زريق"وغيرهم ،مستحضرا لنماذج من أشعار المحدثين ك"أمل دنقل وممدوح عدوان وعلي الجندي"ويدرسهم ليؤكد براءة هذه المحاولات من الشعر ،مستنتجا أن إبداعهم لا يعتمد سلامة المعنى وبيانه ونصاعة تعبيره ،في حين أن قضية الوزن والقافية والنحو والصرف والبلاغة ،تظل الأساس لكل جمال فني جديد أمام الشعر الحديث الذي يرى المؤلف فيه نبتا غريبا عن روح الأمة وتاريخها ولغتها ،يرد بذلك على الادعاء القائل أن الموشحات مثّلت نوعا من التجديد في الشعر بقوله إنها ظهرت في الأندلس فقط ،وكانت ولادتها ممدودة الزمان والمكان ،ناهيك أن ظهورها تم في فترة انحطاط ،إضافة لتضافر مجموعة عوامل ساعدت على ظهورها،كالانحلال الخلقي وانتشار الغناء وما رافق ذلك من ظهور المخمسات والمسمطات ي العصر العباسي والتي لم تحتل مكانة في الأدب العربي إلا محطة تاريخية مر بها الدارسون ،هذا والموشحات لم تخل من وزن وقافية ،بل عرفت قيودا أقسى من قيود الشعر العمودي.
عن الشعر بين البنيوية والشاعرية ،تحدث المؤلف فصنف الشعراء فريقين:مؤمن وكافر،أما الشعر فيمثل إما ضلالة أو وعيا ويقينا وإيمانا.
لا يرى الإسلام في الشعر غير كلمة طيبة واعية عاقلة ،تنبع من العمل الصالح ،أساس النظرية الشعرية ،بعيدا عن نظريات البنيوية والاغتراب ،ليشير المؤلف وهو يتحدث عن الحداثة وامتدادها بين الشرق والغرب ،خاصة الحداثة بالمفاهيم الكافرة وعلاقتها بالفكر الشيوعي والمادية الجدلية ،حيث ينقل أقوالا لأدونيس وميشيل عفلق وكمال أبو ديب ورولان بارت وليفي شتراوس مما يدعم رأيه محددا بعد ذلك الركائز الأساسية في الفكر الحداثي البنيوي،مبينا أنها لا تنحصر في الأدب وحده بل تلغي القديم وترفض أخلاقيات التراث.
هذه الركائز تقوم على قاعدة من التناقضات والثنائيات،والحداثة في دراستها للأشياء ،تقوم على مبدأ العلاقات بين الأشياء ،مع إهمال الشيء ذاته في مجاله الوظيفي.
ومن ملاحظات المؤلف على الحداثة أيضا ،أن روادها يقتربون من الدين باستخدام خاطىء لبعض معانيه وبطريقة مغلوطة.
حتى لايبقى الغبار على الحداثة - نضال نجار
المراجع
nashiri.net
التصانيف
أدب مجتمع الآداب قصة