السبت, 28 جمادى الأولى 1446هـ الموافق السبت, 30 تشرين الثاني 2024
تسجيل الدخول
سجّل الآن
يوجد الآن 1196881 مقالة بالعربية
محتوى عربي مدقق وموثق، شامل ومتكامل
الموسوعة الرقمية العربية (تاجيبيديا)
الموسوعة الرقمية العربية
الرؤية والرسالة
المعجم الوسيط
أخبار حول العالم
أخبار اللغة العربية
مواقع صديقة
خدماتنا
الكتيب
البروشور
الانفوغرافيك
مع طلال أبوغزاله كل صباح
الموسوعة الرقمية العربية (تاجيبيديا)
الموسوعة الرقمية العربية
الرؤية والرسالة
المعجم الوسيط
أخبار حول العالم
أخبار اللغة العربية
مواقع صديقة
خدماتنا
الكتيب
البروشور
الانفوغرافيك
مع طلال أبوغزاله كل صباح
select
البحث
البحث بالعنوان
البحث بالمحتوى
البحث بالتصانيف
الصفحة الرئيسية
ابن الأزرق تطور الفكر الخلدوني
ابن الأزرق تطور الفكر الخلدوني
النشأة والسيرة :
هو محمد بن علي بن مسعود أبو عبد الله الأصبحي الغرناطي الأصل ويعرف بأبن الأزرق، عربي من أسرة أندلسية قديمة، ولد في ملقة سنة 832 هج/ 1427 م أي بعد وفاة أبن خلدون بعشرين سنة. وتوفي في مدينة القدس 896هج/ 1491 م ، أي قبل سقوط غرناطة بعام واحد. ويكتب الدكتور سامي علي النشار وهو من علماء الاجتماع السياسي العرب المعاصرون البارزون، محقق كتاب أبن الأزرق الشهير " بدائع السلك في طبائع الملك " أنه " أعظم كتاب في علم الاجتماع السياسي لدى المسلمين " وإذا كانت هناك ثمة مبالغة أو أعجاب كبير يبديه الأستاذ النشار في تقيمه لهذا الأثر المهم، إلا أننا يمكن أن نقرر بجلاء، أنه ومن المؤكد من الأعمال الفريدة لأسباب عديدة :
1 / أنه استمرار للمدرسة الأشعرية في علم الاجتماع السياسي وفي تطبيق المنهج الاستقرائي التجريبي على الظواهر الاجتماعية والسياسية والأخلاقية.
2 / إنه يحاول أن يجاري أين خلدون في شمولية مباحثه، وإن كان أقل أصالة منه، إلا أن القارئ يلاحظ تأثره الشديد بالمنهاج الخلدونية في استقراء الأحداث التاريخية وأن يحاول أن يضيف على بعضها أو يعدل البعض الآخر.
3 / أنه وعلى نحو فريد/ يشير في كل ما يذهب إليه بصورة ملحوظة، بما هو أقرب إلى أساليب البحث العلمي الحديثة إلى مصادره التي يعتمد عليه، ويستعرض أراء الفلاسفة والعلماء من عرب وغيرهم، ثم يدلي برأيه الشخصي ويحمل القارئ على إحاطة جيدة بالبحث.
وقد درس أبن الأزرق في غرناطة على يد علمائها، اللغة والمنطق والفلسفة، وحضر مجالس الأدباء والقضاة والأساتذة، ثم أرتحل إلى فاس وتلمسان وتونس، واستفاض في دراساته وتعلمه على علماء تلك الأمصار. وقد درس وأطلع بصفة وثيقة على آثار العلماء والمفكرين من قبله، لا سيما آثار أبن خلدون والماوردي والطرطوشي وأبن تيمية وعشرات من الأسماء اللامعة أو غير المعروفة من علماء مشارقة ومغاربة على حد السواء.
وعندما عاد إلى وطنه، تولى القضاء في ملقة ثم في غرناطة، وعندما اشتدت الهجمة الإفرنجية على الأندلس أرتحل إلى بلاد العرب، يحاول أن يجد العون بإنقاذ الأندلس، ونجدتها. وفي تلك المهمة تعمقت مقدرته وأفكاره السياسية وإدراكه لمفردات دبلوماسية. ولكن جهوده باءت بالفشل أسباب موضوعية أكثر مما هي ذاتية، بسبب توالي الأحداث على نحو مأساوي في الأندلس، وكان أبن الأزرق قد حل بمصر، ثم مضى إلى الحج وعاد إلى مصر حيث عينه حاكمها قاضياً على القدس فتولى عمله بنزاهة وكفاءة، ولكن مرضاً ألم به، فتوفي يوم الجمعة 17 / ذي الحجة / 1896 هج.
ترك أبن الأزرق للمكتبة العربية ثلاث أعمال وهي :
1 / كتاب روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام. وهو مجلد ضخم فيه حكايات وتجارب وأمثلة وأخبار بلاد وأقطار المغرب العربي.
2 / شفاء العليل في شرح مختصر خليل. وهو كتاب في الفقه المالكي.
3 / كتاب بدائع السلك في طبائع الملك. وهو الكتاب الوحيد له في علم السياسة، ويقع في حوالي 450 صفحة في النسخ الأصلية، أما في طبعته الحديثة (تحقيق د. سامي النشار)، فقد وضعه في جزئين: الأول ويقع في 559 صفحة، والثاني في 537 صفحة. ويشتمل على ملاحق وقوائم بالمراجع التي أعتمدها أبن الأزرق أو تلك التي أعتمدها المحقق النشار، مع شروح وهوامش مفيدة تيسر للقارئ مطالعة ودراسة هذا الأثر الفريد الذي قامت وزارة الإعلام العراقية بطبعه ونشره سنة 1978.
والتفصيل الشديد الطويل في كتاب ابن الأزرق لا يبدو مملاً، فهو يضع عمله في أبواب وفصول ومباحث محكمة شيقة، تضم أخبار ومعلومات سياسية / اجتماعية مهمة، نستدل منها كباحثين على معاني ومغازي كثيرة سواء عن شخصية السياسي العربي في تلك العصور، وطبيعة التناقضات والصراعات والتنافسات التي كانت تدور، وعلى جوهرها. ويفتتح أبن الأزرق مباحثه بحقيقة علمية هامة تضعه في مصاف علماء الاجتماع البارزين بقوله :" إن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم ضروري" و " الإنسان مدني بالطبع، أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية عندهم ليحفظ وجودهم".(1)
فكر أبن الأزرق :
يبدو لكل باحث أن المنهج الخلدوني كان مؤثراً في فكر أبن الأزرق الذي يبدو أكثر أتساعاً، ولكنه اقل أصالة كما ذكرنا. فهو يتناول في مباحث مفصلة حقيقة الملك وسائر أنواع الرئاسات وسبب وجود ذلك، وشروط الملك والحروب ومذاهب الأمم وكذالك أركان الملك. ثم يتطرق بالضرورة إلى أبرز مؤسسات الدولة في مباحث شيقة، ويضع الوزير في مقدمة أهم المناصب وله فيها أراء مهمة، وكذلك في سائر المناصب الأخرى وفي الشريعة والتصرف حيال الأموال، وهو في ذلك يجاري أعمال معظم المفكرين والعلماء العرب الذين اهتموا بهذه المسألة كثيراً (الأموال) جباية وأنفاقاً، زفي إقامة العدل والأحكام الشرعية حيال الرعية والحاشية.
ولا يغفل أبن الأزرق أن يضم مؤلفه موضوعات علم الأخلاق، ويبدو أنه مطلع بصورة دقيقة على أعمال أفلاطون وأرسطو، ويتطرق إلى الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان سواء كان سياسياً قائداً، أو شخصاً طبيعياً من العفة والشجاعة والرفق واللين والحكمة وكتم السر والحزم والترفع عن أحكام الهوى.
وإذا كان من المستحيل التنويه عن أبن الأزرق بصفحات قليلة، فإننا سنعمد كما يتطلب سياق بحثنا هذا، ألقاء الضوء على أبرز ما ذهب إليه أبن الأزرق متفقاً أو مختلفاً مع غيره من العلماء والفلاسفة العرب، علماً بأنه كان في معظم مباحثه متفقاً مع المذهب التجريبي الجديد في بحث التاريخ، متأثراً بأبن خلدون من جهة، ولكنه يستشهد أيضاً بأعمال مؤرخين وعلماء آخرين من جهة أخرى.
الفكر الخلدوني عند أبن الأزرق :
وقد أختلف وأتفق أبن الأزرق مع ابن خلدون، ولكنه كان باد التأثر به وبمنهجه، وقد أختلف معه في مسالة واحدة مهمة على الأقل، وهي مسالة أطوار وعمر الدولة، فيرى أبن الأزرق أن حياة الدول يمكن أن تدوم إذا دام العدل. وفساد المجتمع عند ابن الأزرق هو فساد مادي وانحلال خلقي واقتصادي وانعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم والتمزق السياسي وذلك يمكن تجاوزه " إذا ما تخلص الحاكم من أطماعه وتخلص المحكوم من أطماره" (أسماله)، ولسنا هنا بصدد أي الفكرتان أصوب، بل نحن نرى أن كل الاتجاهين يزيدان من ثراء الفكر السياسي العربي الإسلامي ويشكلان تراكماً نوعياً فيه.
ينطلق أبن الأزرق من ضرورة السلطة وضرورة قيامها بقوله " إن الضرورة في الاجتماع الطبيعي لنوع الإنسان كما تقدم، تدعو إلى المعاملات واقتضاء قيامها بقوله:" إن الضرورة في الاجتماع الطبيعي لنوع الإنسان كما تقدم، تدعو إلى المعاملات واقتضاء ضرورات المعاش وحاجة حياته". ثم يقرر بذات الوقت " إن مصلحة نصب السلطان الوازع لا تعارضها المفاسد اللازمة عن قهره وغلبته " ثم يستند على مقولة لمفكر عربي هو أبن عرفة بقوله:" لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر اليسير هو شر كبير" (2)
ثم لاحظ، أن أبن الأزرق الذي يقبل أن تكون الأمارة جزء من الشريعة بقوله " إن حقيقة هذا الوجوب الشرعي راجعة إلى النيابة عن الشارع في حفظ الدين وسياسية الدنيا ويسمى باعتبار هذه النيابة خلافة وإمامة" ولكنه بعد قليل يوافق على تطور الظروف والحاجات الموضوعية بقوله:" إن انقلاب الخلافة إلى ملك، إنما واقعه بحسب طبيعة الوجود".(3)
وأبن الأزرق هو أبن عصره وزمانه، ولا بد أن التفاعلات السياسية وضغوطها تؤثر عليه بهذا القدر أو ذال، وبهذه الاتجاهات أو تلك. وأبن الأزرق الذي عرفنا أنه عاش محنة الأندلس وانهيارات دول الطوائف يقرر:" أن جور الحاكم لا يسقط وجوب الطاعة له شرعاً " مع أنه يعتبر البيعة (ضمناً) نوعاً من أنواع العقود، عهد من الحاكم على السير بقواعد الشريعة والعدل وعهد بالطاعة من الرعية، ويرى ضرورة البيعة ويقول، أن الرسول(ص) نفسه قد نال البيعة ثلاث مرات(مرتان في العقبة وبيعة الشجرة) وبذلك يدلل على ضرورة البيعة ومعناها الشرعي القانوني.(4)
ويقبل أبن الأزرق كأمر واقع مفروض نظرية القوة والغلبة كأمر واقع لا علاقة له بالشريعة بقوله " أما لعدم التدين بالأصل(في مجتمعات غير متدينة) أو القيام من حيث الحاجة إليها طلباً من غير الألتفات إلى موافقة الشارع لها أو مخالفته".(5)
ويتفق ابن الأزرق مع أبن خلدون في مسألة رئيسية أخرى في الفكر الخلدوني بخاصة السياسي / الاجتماعي، ألا وهي مسألة العصبية بقوله " إن الملك والدول العامة إنما تحصل بالعصبية والشوكة " ثم يستطرد " إن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك " ص 11 ـ 112) ثم يتفق معه مرة أخرى بقوله " إن الدعوة الدينية تزيد الدولة على قوتها، قوة عصبيتها في الأصل"، ثم يلقي بهذا التصريح المهم للغاية، والذي يستحق التأمل حقاً ! " إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية ".(6)
ثم يضيف ابن الأزرق موسعاً نظرية أبن خلدون قائلاً " القائمون بتغير المنكر على أمراء الجور من الفقهاء المتعبدين اغتراراً عن تبعهم من الغوغاء والدهماء فيهلكون في سبيل ذلك مأزورين غير مأجورين، لأن الأمر به مشروط بالقدرة عليه، والملك الراسخ البناء لا يهديه إلا المطالب بالعصبية الغالبة كما سلف".(7)
وتجربة الحكم العربي في الأندلس والمغرب، أنطوى بصفة خاصة على أهمية لمنصب الوزير، ويعبر عن ذلك أبن الأزرق بمنطق سياسي " إن السلطان لما كانت قواه البشرية لا تستقل بجمل ما، فلا جرم أضطر لمشاركة معين يتم به استقلاله وهو الوزير". ويوضح مقصده على نحو أكثر حزماً بقوله " إن من لوازم هذا الاضطرار استحالة تصور الاستغناء عن مطلق المشاركة المنوطة به في المراتب السلطانية لامتناع تخلف ما هو طبيعي، ومن ثم قيل " لا تعتقد أن رياسة القوم تقوم بغير وزير".(8)
ويدرك أبن الأزرق أن الجيش يمثل القوة، وهو ركن الدولة، وهو الذي قرأ وشاهد تجارب عديدة ليقول بنكهة ميكافيلية، وذلك أمر يستحق الملاحظة " تمكين الرهبة في قلوبهم ليتم ما يراد منهم " ويمضي في النبرة البراغماتية قائلاً " واتخاذهم من أجناس مختلفة بحيث لا يتهيأ لهم الاتفاق على رأي واحد في الخلاف والعداوة ".(9)
وقد مثلت الأموال الشرعية، جبايتها وصرفها، أهمية كبرى في المباحث السياسية العربية والإسلامية، لم يخلو منها مؤلف أبن الأزرق، فهو ابتداء يقرر " إنه من أعظم مباني الملك وأصوله " ثم يقول " المال بالخراج والخراج بالعمارة، والعمارة بالعدل ".(10) فهو إذن يربط السياسة المالية بالعدل، والعدل ليس سوى العدل الاجتماعي بطبيعة الحال في هذا المجال.
ثم يطرح أبن الأزرق في مداخلة مهمة أفكاره عن اقتصاد السوق والدولة والعلاقة بينهما " أن الدولة هنا السوق الأعظم للعالم، والمادة المتصلة لعمرانه فإذا أحتجن السلطان المال أو فقده، قل ما بيد الحامية وأنقطع مأمنهم لأتباعهم فقلت نفقاتهم (الأنفاق الحكومي) التي هي أكبر مادة للأسواق، إذ هم معظم السواد وذلك بموجب الكساد وضعف الأرباح المتجر فتقل الجباية لضعف مادتها ويرجع وبال ذلك على الدولة من حيث قصد حسن النظر إليها".(11)
ويتفق أبن الأزرق مرة أخرى مع ابن خلدون في موضوع العمران ولكنه يحاول أن يستزيد وأن يطرح أفكار جديدة وقارنة بعلماء آخرين فينقل عن أبن حزم قوله:" يأخذ السلطان الناس بالعمارة وكثرة الغراس ويقطعهم الإقطاعات من الأرض الموات(الغير مستصلحة) ويجعل لكل أحد ملك ما عمره وتعينه على ذلك منه، فترخص السعار ويعيش الناس والحيوان ويعظم الأجر ويكثر الأغنياء وما تجب فيه الزكاة".(12) ويعبر عن موافقته بمباحث أبن خلدون في العمران(التطور الحضري) ويربط ذلك بالتطور السياسي والاجتماعي وبالعدل وبمجمل فعاليات الدولة والنظام.
وفي موضوعة تقليدية من موضوعات الحكم يستند أبن الأزرق على نص لأبن رشد، ونحن نرى في ذلك دلالة على مرونة أبن الأزرق حيال ابن رشد، يقول أبن رشد عن العدالة وسبل تحقيقها " هي صناعة جليلة شريفة، وبضاعة عالية منيفة تحتوي على ضبط أمور الناس على القوانين الشرعية وحفظ دماء المسلمين وأموالهم والإطلاع على أسرارهم وأحوالهم ومجالسة الملوك والإطلاع على عيالهم وأمورهم، وبغير هذه الصناعة لا ينال أحد ذلك ولا يسلك هذه المسالك " ويزيد ابن الأزرق على ذلك قولاً مفيداً يطور ذلك المعنى ويضيف إليه بعداً فكرياً بقوله " ولا بد من فقه في الوثيقة يضع كل شيء في موضعه وترسيل يحسن به مساحتها ونحو يتجنب فيه اللحن (الخطأ).(13)
ويؤكد أبن الأزرق في فصل من فصول كتابه على الوظائف السلطانية ومهامها وشروط القائمين بها على نحو يعبر عن دراية وعمق رؤية وإدراك لمفردات الحكم وضرورات المجتمع، ومن تلك الوظائف خمسة رئيسية هي: ديوان العمل والجباية والشرطة، إلى جانب أركان الدولة: وهي الوزارة والقضاء والجيش.(14)
وفي واقعية تستحق الإشارة إليها بعناية، يعبر ابن الأزرق وهو يستند في ذلك إلى اقتباسات من أبن خلدون عن غاية الرئاسة، ومختصرها أنها تأمين مصالح المجتمع وتنفيذ قوانين الدولة. وهو يعتقد أن الحديث عن المدن الفاضلة إنما هو حديث خيالي غير واقعي إذ يقول " وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة وبعيدة الوقوع والكلام عليها على جهة الفرض والتقدير".(15)
والشورى، وهي مسألة مهمة في الفكر السياسي الإسلامي، والتطور الفكري لها يعني إقامة دولة الديمقراطية التي تعني قبل كل شيء عدم استبداد أي فرد أي كانت صفته، وفئة أي كانت درجة ثرائها أو قوتها. إن الشورى تعني إدانة الاستبداد والديكتاتورية. وعن ذلك يقول أبن الأزرق، نقلاً عن المفكر أبن العربي " أي لا يستبدون بأمر ويتهمون رأيهم حتى يستعينوا بغيرهم فمن يظن به أن عنده مدركاً لفرضه، وهذه سيرة أولية وسنة بينة " ويستطرد " إذا كان قد أمر بها الرسول(ص) بنص واضح جلي مع أنه أكمل الخلق فما الظن بغيره ".(16)
ويتحدث أبن الأزرق عن العلم والهوى فيقول: " فضل العقل على الهوى، أن العقل يملك الزمان، والهوى يستعيدك له " وعن العلم يقرر أن العلم اشرف فضائل الإنسان، ثم يلاحظ وظيفة العلم عنده بقوله " عطية العلم موهبة من الله تعالى لأنها لا تنفذ عند الجود بها، ولكنها تكون بكماله عند معيده"(17) فأي منهم ديمقراطي وتقدمي أكثر من ذلك في النظر إلى العلم وإتاحته للناس أجمعين.
ويرى د. سامي علي النشار محقق كتاب أبن الأزرق(ولا بد من الإشارة إلى كفاءته في التحقيق وأحاطته بالموضوعات إحاطة تامة يستحق الشكر عليه)، يرى أبن الأزرق في تواصل(الجزء الثاني من مؤلفه)، منهج الواقعية الحسية التي كانت سمة الأبحاث الاجتماعية السياسية في المدرسة السياسية الإسلامية والتي عبرت عن روح الإسلام الحقيقي، وهي مدرسة المتكلمين والأصوليين. ومن ناحية ثانية يضفي أبن الأزرق على هذه الواقعية الحسية أتجاهاً أخلاقيا(أرى شخصياً أنه أتجاه عام عند المفكرين العرب والمسلمين) وبهذا مزج من علم واقعي حسي، وهو علم الظواهر الذاتية، علم الاجتماع السياسي، وبين علم أخلاقي قريب من المثالية الإسلامية، لا المثالية المطلقة(نعتقد أن علم السياسة العربي الإسلامي ينطوي على شحنة واقعية غير بسيطة مر ذكرها في فصل خصائص الفكر السياسي العربي الإسلامي) وهو علم الأخلاق السياسي.
العمل الدبلوماسي :
ويتقدم أبن الأزرق في مباحثه ويطرح قضية العمل الدبلوماسي ويتحدث عن شخصية السفير ويستشهد بأرسطو ويقول " أختر رسولك في الحرب والمسالمة، فإن الرسول(ص) يلين القلوب ويخشنها، ويبعد الأمور ويقربها، ويصلح الود ويفسده".(18)
وفي مسألة نشوء الدول واندثارها :
يجاري ابن الأزرق أبن خلدون ويعدل بعضاً من آراؤه، فهو يذكر، وكأنه يقر بحقيقة أن حصول الترف والنعيم للقبيلة تضعف العصبية وتزيد النعم وتؤدي بهم إلى الفناء. ولكن ذلك يمكن وقفه بحسن الطاعة لله تعالى ولولاة الأمر. وهو أيضاً كأبن خلدون يتحدث عن العصبية الكبرى (تحالف العصبيات أجمعها وصولاً على العصبية القومية، فالدولة القومية. ولكنه مثله مثل أبن خلدون لا يبلغ هذه النقطة، يحوم حولها ويقترب منها ولكنه لا يحط عليها، فيقول :" إن العصبية الكبرى، التي لها جمع العصائب واستتباعها ولا تكون عصبيتهم مثل ذلك في شدة الشكيمة لفقدان الرحم منها، فيتفرد عن العشيرة".(19) فما زالت عنده العصبية تمثل صلة الرحم القبلية الأقوى عنده والدولة القومية سوف لن يبزغ فجرها حتى في أوربا إلا بعد قرون طويلة.
وتستمر قضية العصبية ودورها في تأسيس الدول تأخذ الحيز الأهم في مباحث أبن الأزرق، فيرى انتقال الدولة من البدو إلى الحضارة طوران طبيعيان للدول. وطور البداوة يتقدم على طور الحضارة لأن الغلب الذي به الملك إنما هو بالعصبية.(20)
ويرى أبن الأزرق أن تشتت الدول الكبرى، والفرس كمثال، لم يحصل إلا عندما تحولوا إلى الظلم. فملكة الإسلام صارت بالعدل والإحساس بدفع الظلم يدفع الناس إلى التقاعس عن الدفاع عن الوطن، ولا يلبث أن يعبر أدعاء أبن خلدون غريباً بقوله، إن أعمار الدول لا تتعدى الثلاثة أجيال، و يوجه نقده إلى هذا الرأي ويعرض أمثلة تدعم وجهة نظره.(21)
وفي مبحث شيق، يحملنا على الاعتقاد أن أبن الأزرق قد أمعن في دراسة مؤلف أرسطو"السياسة" فتراه يهتم بتشييد العواصم واختيار مواقعها، قربها وبعدها عن البحر، على موقع جبلي أو سهلي، أو على الأنهر. ولكنه يزيد على أرسطو بعمق في الرؤية الاجتماعية/ الاقتصادية / الحضارية، فيرى مثلاً كثرة المرافق العامة والحمامات والمدارس وطبيعة حركة الرياح والأبنية الفاخرة وغيرها.(22)
آراء أبن الأزرق في الاقتصاد :
ثم يدلي أبن الأزرق بآراء مهمة في الاقتصاد، تعد مبكرة في الفكر الاقتصادي، يتجاوز فيها على من سبقه(وحتى على الذين من بعده بقليل) بقوله، ولاحظ العمق المستتر وراء كلمات قد تبدو بسيطة في القاموس السياسي المعاصر " إن الكسب هو قيمة الأعمال الإنسانية أما في الصنائع(الصناعة) فظاهر، وأما ما ينضم لبعضها كالخشب مع النجارة والغزل مع الحياكة، فالعمل فيه أكثر وقيمته أكثر، أما بغيرها فلا بد قيمته من قيمة العمل الذي به حصـوله". (23)
ثم أنظر إلى رأيه في البروليتاريا الرثة (Lumpenproletariat) بقوله:" إن خدمة الناس ليست من المعيش الطبيعي " ثم بقوله عن الاقتصاد المنجمي " إن ابتغاء الرزق من الدفائن والكنوز، ليس بمعاش طبيعي، لأن العثور عليها اتفاقي ونادر" ولو قابلة أنها موارد قابل للنضوب، أو أنها قد تكون اقتصاديات أحادية الجانب، لكان في ذلك يماثل أراء علماء اقتصاد القرن العشرين، ثم يقول بين الجد والهزل عن حالة العلماء والمفكرين " أنهم لما هم فيه من الشغل بهذه الصنائع الشريفة المشتملة على الفكر والبدن لا يفرغ أوقاتهم للمساعي العائدة بإدرار الأرزاق لذلك لا تعظم ثروتهم غالباً" .(24)
ونسجل لأبن الأزرق انه يقف موقف الشجب من الاحتكار والإثراء على حساب الناس وحياتهم. ويستشهد بحديث للرسول " لا يحتكر إلا خاطئ " حديث) ويقول " إن خلق التجار نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة عن المروءة وذلك لأن التاجر لا بد له في محاولة التجارة من عوارض حرفتها الناقصة عن المروءة والمكايسة، أو المضايقة وممارسة الخصومات ".
وعن شرف مهنة العامل يقول " رسوخ الصنائع في الأمصار برسوخ الحضارة على الدول الطويلة الأمد. وقبل بيان ذلك دورة رأس المال البسيط بقوله " وما يزيد عليه بصرف ذلك للزائد إلى الكمالات في المعاش بالضروري وما يزيد عليه ومنها الصنائع، وإذا تقرر هذا، فتلك الصنائع هي العوائد التي لا رسوخ لها إلا بتكرار طويل الأمد".(25)
ثم يعبر أبن الأزرق بوعي مبكر جداً عن أهمية الصناعة وضرورتها ودورها في تقدم الحياة الإنسانية بقوله " إن الصنائع تكسب صاحبها عقلاً وخصوصاً الكتابة والحساب وذلك لأن خروج النفس الناطقة للإنسان عن القوة إلى الفعل، إنما هو بتحديد العلوم والإدراكات والمحسوسات أولاً ثم تكتسب القوة النظرية إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلاً محضاً، وهو كمال وجودها وجسدها فيجد لذلك، أن كل نوع من العلم وللنظر يفيدها عقلاً فريداً. والصنائع بلا شك يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة فيزيد عقلاً لا محالة".(26)
ورؤى أبن الأزرق شاملة في عملية التشكل الحضاري، ويضع العلم في مقدمة ذلك فيقرر " إن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري" وكذلك " إن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، ذلك لأن تعلم العلم من جملة الصنائع".(27)
ثم لاحظ هنا عمق الرؤية العلمية البحثية، وقد علمنا أن الجامعات والمعاهد الألمانية المعاصرة، تصف الأعمال العلمية الأكاديمية إلى صنفين، يقال عنها :
Fleissigarbeit * ، أي العمل المجتهد، الذي بذل فيه جهد غير اعتيادي.
* Genialarbeit ، أي العمل العبقري، الذي توصل إلى نتائج غير مسبوقة.
ويصوغ أبن الأزرق حول الأعمال وكما يلي :
ـ الأول : " أحدهما من له في القلم ملكة تامة، ورؤية كافية وتجارب وثيقة وحدس صائب واستخبارهم قريب، وتصانيفهم عن قوة بتبصر ونفاذ مكر وسداد رأي يجمع إلى تحرير المعاني بتهذيب الألفاظ".(28)
ـ الثاني : من له ذهن ثاقب وعبارة طلقة، ووقعت له كتب جيدة(مصادر) جمة الفوائد ولكنها غير أنيقة التأليف والتنظيم، فأستخرج دررها وأحسن نظمها وهذه ينتفع بها المبتدأون والمتوسطون ".(29)
ويستطرد في نظريات رائعة عن التعليم ونظم التدريس تنم عن خبرة ومعرفة وعمق رؤية وإتقان صنعة.
وفي ختام مبحثنا هذا عن أبن الأزرق، سنعدد المصادر التي أعتمدها ليأخذ القارئ والباحث فكرة عن متانة وعلمية مؤلفه الهام. فقد استخدم أبن الأزرق 33 مصدراً سياسياً (لحوالي 30 عالم ومفكر سياسي، استخدم أكثر من مصدر للبعض منهم) و6 كتب فلسفية و11 مصدر من كتب التاريخ و10 من مصادر التاريخ الحديث والفقه، و5 من كتب الرحلات، ليصبح المجموع الإجمالي 65 مصدراً.
---------------------
هوامش البحث
1. أبن الأزرق، أبي عبد الله : بدائع السلك في طبائع الملك ، ج 1 / ص46
2. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص67 / 68
3. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص71
4. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص91 / 92
5. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص104
6. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص117 / 118
7. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص120
8. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص175 / 136
9. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص198 / ج1
10. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص205
11. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص213
12. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص219
13. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص255
14. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص265
15. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص293
16. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص302
17. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص425 / 427
18. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص50 / ج2
19. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص201 / 216
20. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص257
21. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص269 / 273
22. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص272
23. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص298
24. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص300 / 301 / 313
25. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص323
26. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص333
27. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص335 / 345
28.أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص356
29. أبن الأزرق : نفس المصدر ، ص346
المراجع
myportail.com
التصانيف
أدب
مجتمع
الآداب
قصة
العلوم الاجتماعية
مقالات قد تهمك
مصمودة
البداية والنهاية 924
بريستلي، جون بوينتون
علاقة الأبناء بالوالدين في سن المراهقة 42
الخوف محرك وليس محفزاً
فوربس ..
شرح جمل الزجاجي من الأول حتى نهاية باب المخاطبة 497
الحكـمـه فـي دعـوة ابـراهـيم علـيـه السـلام - 46
لا تغادر...
العزة في القرآن الكريم 215
{1}
##LOC[OK]##
{1}
##LOC[OK]##
##LOC[Cancel]##
{1}
##LOC[OK]##
##LOC[Cancel]##
تصفح الموسوعة
الآداب
فـهـرس الحـــروف
المرأة العربية في القيادة
تاجيبيديا في الأدب العربي
التصانيف
فهرس الحروف
العلوم التطبيقية
العلوم البحتة
العلوم الاجتماعية
التربية والفنون
المقالات الأكثر قراءة
رسالة للأجيال القادمة
معنى أمم في معجم المعاني الجامع
معنى آبى في معجم المعاني الجامع
أغراض الشعر في عصر صدر الإسلام
تعريف الشعر لغة واصطلاحاً وأهميته وخصائصه
جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين
ايجابيات وسلبيات الطاقة الجوفية وتأثيرها على البيئة
الغرب الجزائري
أنواع الشخصيات في الرواية
جامعة طلال أبوغزاله الدولية تعلن عن برنامج الطلاقة في اللغة العربية