الشيماء هي أخت النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم من الرضاعة.. إنها بنت حليمة السعدية، مرضعة الرسول الكريم، وهي الشخصية المحورية لهذه المسرحية التي تتألف من خمسة فصول وثمانين مشهداً 

قصيراً شغلت مئة واثنتين وثمانين صفحة من القطع المتوسط، قدّم فيها باكثير أحداث السيرة النبوية في ذكاء، ومن خلال حوار آسر، امتزج فيه الشعر بالنثر، وكان لا بدّ من الشعر من أجل الغناء، فالشيماء ذات صوت عذب، ومن خلال هذا الصوت الجميل الذي كان يتغنّى بشعر هادف لا عبث فيه ولا ميوعة، كانت تدعو إلى الإسلام، وإلى نصرة أخيها نبيّ الإسلام، وتواجه الطواغيت الذين كانوا يكيدون للنبي الكريم، بدءاً من زوجها بجاد، وأحد زعماء المشركين في مكة (عكرمة بن أبي جهل) وسواهما، وكان يعضدها ويعينها في مهمتها أخوها عبد الله، وأبوها الحارث بن عبد العزى، وأمها حليمة السعدية.

كان أخوها عبد الله بن الحارث مسلماً مؤمناً يكتم إيمانه وإسلامه، باتفاق مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، واستطاع بكتمانه هذا خدمة الإسلام، والتخذيل عن المسلمين، وكيد المشركين لصالح هذا الدين الوليد، في حنكة ودهاء.

تحدثت هذه المسرحية عن ولادة النبي الكريم، وإرضاعه في بني سعد، وشقّ صدره، وحنوّ جدّه عبد المطلب عليه، وتوصية ابنه أبي طالب به من بعده، فقد توسّم أن يكون لهذا الطفل اليتيم شأن في قابل الأيام..

وتحدثت المسرحية عن وفاة أمه، وكفالة عمه له، وعن أم أيمن، ورعي الغنم، والسفر به إلى الشام، ووصية الراهب بحيرى به، وتخويف عمه من غدر اليهود به، إلى الاتجار بمال السيدة خديجة بنت خويلد، وزواجه منها، ثم البعثة، والدعوة إلى الله، وكيد كفار قريش.

وتحدثت عن بعض غزوات الرسول، وعن دور المرأة في الدعوة، كالدور الرئيس الذي أدّته الشيماء، وكدور أمها مرضعة الرسول، وأم سليم، وبركة الحبشية (أم أيمن). وأم حكيم -زوجة عكرمة التي ما زالت بزوجها عكرمة حتى أقنعته بالإسلام، وبالاعتذار إلى الرسول الكريم، كما أخذت العفو والأمان لزوجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي فرح أيما فرح بإسلام عكرمة الذي غدا بطلاً من أبطال الإسلام، وقضى شهيداً في معركة اليرموك الفاصلة.

وكما ازدحمت هذه المسرحية بالحوادث التي امتدت في الزمان (منذ ولادة الرسول إلى ما قبل وفاته عليه الصلاة والسلام.. أي أكثر من ستين سنة) وفي المكان (بلاد الجزيرة العربية: مكة، والطائف، والمدينة المنورة، وما بينها وما حولها)، ازدحمت بالشخصيات الثانوية التي كانت تقف رديفة للشخصية المحورية (الشيماء) والشخصيات المعارضة التي كانت تشكل جبهة الشرك، كشخصية زوجها بجاد، وشخصيات: عكرمة وأبي جهل وأبي سفيان وسراقة بن مالك، وشخصيات يهودية مثل حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، وشاس بن قيس - وهو الذي حاول الإيقاع بين الأنصار من الأوس والخزرج، وكادت تكون فتنة لولا أن تداركها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكمته، وشاس هذا صار رمزاً يهودياً للفساد والإفساد والعداء للمسلمين، حتى تشكل حزب فيما يسمّى بالكيان الصهيوني باسمه، فدعي حزب شاس.

والحق أن باكثير استطاع أن يقدم لنا السيرة النبوية، بما فيها من آمال وآلام ودماء وأشلاء وانتصارات، من خلال نقل خبر الواقعة إلى الشيماء والتعليق عليها، إنشاداً وغناء وصراعاً مع الشخصيات التي نما أكثرها نمواً طبيعياً حيناً، وقسرياً حيناً آخر، كشخصيات بعض المشركين الذين ثابوا إلى عقولهم، وآمنوا بالله ورسوله، وانضووا تحت راية الإسلام مجاهدين أبطالاً، كعكرمة وأبي سفيان وسواهما.

وهناك شخصيات أخرى كانت ثابته لم تتطور، كأبي جهل الذي بقي على الكفر إلى أن سقط صريعاً في بدر، وهناك شخصيات هامشية جداً، اقتضى وجودها السياق التاريخي لحوادث شديدة التشابك والغليان، صبَّها المؤلف في صفحات هذه المسرحية.

ولعل أجمل ما في هذه المسرحية التاريخية، ذلك الحوار الجميل الذي احتوى الحدث التاريخي في حدب، ولنقرأ معاً هذه الحادثة التاريخية المزلزلة التي استوعبها هذا الحوار الذي قصر حيناً وطال حيناً آخر، حسب مقتضى الحال:

"زيد: هذا أسامة قد جاء.

أم أيمن: إني لأراه ينهج.. ترى.. ماذا دهاه؟

زيد: ما خطبك يا أسامة؟

أسامة: ألم يبلغك يا أبي ما فعل اليهود؟

زيد: ماذا فعلوا؟

أسامة: دسوا شاباً منهم، جلس إلى جماعة من الأنصار، فأخذ يذكر لهم (يوم بُعاث) الذي اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وينشد لهم الأشعار التي قالوها في ذلك، فما لبث القوم أن تنازعوا وتنافروا ثم تواثبوا، وقال بعضهم لبعض: إن شئتم رددناها الآن جزعة، وتنادوا: السلاح السلاح، موعدنا الحرّة.

أم أيمن: لا حول ولا قوة إلا بالله! عادوا إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام.

أسامة: نعم. ولكن الله سلّم.

زيد: كيف؟

أسامة: ما راعنا إلا النبي صلى الله عليه وسلم قد أقبل ومعه جماعة من المهاجرين، فقال: يا معشر المسلمين. الله الله. أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم من الكفر، وألّف بينكم؟

وما هم إلا أن سمعوا ذلك من رسول الله، حتى بكوا، وعانق بعضهم بعضاً.

عبد الله: هذا من عمل شاس بن قيس لا ريب، فقد سمعته يتعهّد لأبي جهل بأن يفرّق بين الأوس والخزرج، ويعيد العداوة القديمة التي كانت بين هذين الحيين."

في هذا الحوار قدّم لنا باكثير أبرع معلومات في إيجاز وتركيز:

المعلومة الأولى: نشوب فتنة بين المسلمين الأنصار من الأوس والخزرج.

المعلومة الثانية: اليهودي شاس بن قيس هو الذي أغرى أبناء هاتين القبيلتين بالعداوة، بعد أن ذكّرهم بيوم بعاث الذي اقتتلوا فيه أيام جاهليتهم، كما ذكّرهم بما قيل في ذلك اليوم من أشعار وتهاج.

المعلومة الثالثة: هي أن الرسول الكريم استطاع بحكمته إطفاء نيران الفتنة التي أوقدها اليهودي في أعصاب الأوسيين والخزرجيين.

المعلومة الرابعة: هي معرفة عبد الله بن الحارث -أخي رسول الله من الرضاعة- بهذا الأمر، لأنه سمع اليهودي شاس بن قيس يعد أباجهل بذلك.. إنه عين النبيّ..

ولنقرأ معاً هذا المشهد القصير الذي كان والمسلمون مع رسول الله على مشارف حنين، بين أبي طلحة وزوجته أم سليم، لنرى أيّ إيجاز وأيّ تركيز وأيّ تخلّص من أيّ محذور شرعي في ظهور الرسول الكريم أو حتى سماع صوته الشريف:

أبو طلحة: أم سليم.

أم سليم: نعم يا أبا طلحة.

أبو طلحة: أين بُرْدي الذي عندك؟

أم سليم: هو ذا حول وسطي، قد تحزّمتُ به.

أبو طلحة: لماذا تحزّمتِ به؟

أم سليم: ويحك! ألا تعلم أني حامل؟

أبو طلحة: ما كان ينبغي أن تخرجي للقتال وأنت حامل.

أم سليم: لا والله، لا يفوتني مشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً.

أبو طلحة: وما هذا الذي بيدك؟

أم سليم: خنجر أخذته، إن دنا مني أحد من المشركين بعجتُه به.

أبو طلحة (يرفع صوته): أسمعت يا رسول الله ما تقول أم سليم العميصاء؟

أم سليم: ويحك يا أبا طلحة، لقد أضحكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه.

أبو طلحة: دعيه يضحك يا أم سليم، فعسى أن تلقانا اليوم خطوب ومكاره.

أم سليم: فيم يا أبا طلحة، وما خرج المسلمون يوماً قط في مثل هذه الكثرة.

أبو طلحة: من هذه الكثرة أخاف يا أم سليم، فقد سمعتهم يقولون: لن نغلب اليوم من قلة، فأخشى أن يكلهم الله إلى أنفسهم.

أم سليم: دع عنك هذه الوساوس يا رجل، اذهب فعد إلى مكانك حول رسول الله تحرسه.

في هذا المشهد القصير، ومن خلال هذا الحوار الجميل عرفنا:

1 - أن رسول الله والمسلمين، كانوا في غزوة حنين.

2 - وأن المسلمين كانوا كثرة، كما لم يكونوا في يوم مضى.

3 - وأن المسلمين الأوائل، كأبي طلحة كانوا يخشون من تلك الكثرة، بينما الذين أسلموا من بعد، كالطلقاء، وضعاف الإيمان قد استناموا لتلك الكثرة.

4 - وأن للمرأة المسلمة دورها في الحروب والمعارك، فهذه أم سليم لا تريد أن تغيب عن مشهد أو عن غزوة يغزوها الرسول القائد، حتى لو كانت حبلى.

5 - وأن أبا طلحة، كخاصة الرسول القائد، من حرس الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولعله قد ظهر لنا المستوى الرفيع لأسلوب الكاتب، وألفاظه المختارة من فصيح اللغة، أما المقطوعات الشعرية التي كانت تتغنى بها الشيماء، فهي مما يتناسب مع المقام الغنائي الدعائي الذي كانت تنهض به الشيماء، داعية إلى الإيمان بالرسول الكريم، مرة، ومنافحة عنه مرات، ومخذّلة في مرات أخرى.


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   العلوم الاجتماعية