لم أعنَ بتاتاً بما فعله الأسد الأب برفاق الدرب والسلاح من أمثال محمد عمران وصلاح جديد ونور الدين الأتاسي و.. " أبو عبدو الجحش " وغيرهم وغيرهم .
تلك لعبة الكبار , وما جرى بينهم يعنيهم هم وورثتهم أولاً بالمقدار نفسه الذي يعني تجار الأستراتيجية والتنظير والتاريخ المعلوك والفلاسفة المأنتكين , و أزعم في حياتي قط أنني أحدهم .
لقد كنت – وما أزال – أحد الذين ينظرون بحسد مشوب بالأزدراء في رمضان للذين يفطرون صحن مسبحة مع فحلين بصل ورغيف خبز مشروح في مطعم " أبو رشيد " للفول والحمص والفتة من وراء ستارة هزيلة خضراء لا تواري الخارئ , فكيف لها أن تغطي موائد أولئك الأبطال المفطرين في رمضان من شتى الملل والنحل .
هذا كان أقصى ما يرنو إليه أفقي المحدود العاشق للتاريخ الشفوي والذاكرة الجماعية , أما السياسة والرياسة فقد تركتهما منذ نعومة أظافري لسيدنا ومولانا أبي نظير ربي يسّر وحافظ الأسد وأمثالهما من العمالقة .
وربما من هنا جاء اهتمامي بمطاعم الطبخ الشعبي التي عجت بها البلدة القديمة و أضفت نكهة خاصة على الطبيعة الاثنوغرافية للمدينة .
صقر الشامي ونوفل حسون واسماعيل الإدناوي " قره حسن " وحمدي المصور هي المطاعم الأشهر في تاريخ جبلة .. وهي التي تقدم الطبخ الشرقي السابح بالمرق على أصوله .
كانت كتل الدهن الطافية على سطح جميع الطبخات تجعلها متشابهة , فالفاصولياء والبامية واليخني والمحاشي جميعاً مجرد مسميات متعددة لطبخة واحدة .
المرحوم " أبو أحمد م " هو الممول الوحيد للحوم تلك المطاعم , وقبيل موته باح بالسر .
كان يجوب البحر من المسلخ إلى الفيض كل يوم مع سكينه وساطوره لاصطياد حمار أجرب تركه النَوَر أو البدو الرحل أو فقده أصحابه , ليذبحه من الوريد جاعلاً من جلده السميك طبولاً يبيعها للقرباط , أما لحمه الأحمر فقد كان يلغمه بجميع الأليّة والدهن الفائض عن مسلخ جبلة , جاعلاً منهم أحلى خلطة عربية لكافة أشكال اللحم المفروم والكفته والراس عصفور .
زبائنه من أصحاب المطاعم الذين أدمنوا هذا النوع من اللحم, وأدمن زبائنهم التهام الحمير الطازجة سرعان ما يشتكون عندما يمر يوم ليس فيه حمار أجرب يجوب الشاطئ .
الجميل في الموضوع أن حافظ الأسد كان أبرز رواد تلك المطاعم " والله العظيم ثلاثاً ما عم أمزح " ..
كان الأسد الأب طالباً مستجداً في الكلية الجوية بحلب , وعندما يتوجه إلى هناك عبر الكراج الوحيد في جبلة الذي يقدم خدمات نقل جبلة – حلب إبان الخمسينات , يدع شنطته الهزيلة برعاية " ابو فؤاد جمعة " صاحب الكراج ليقطع الشارع نحو مطعم نوفل حسون ملتهماً فيه أشهى أنواع الفاصولية والبامية الجحشية إضافة للحم الحمار الشهي بالصينية , ذلك الطبق الذي كان المرحوم نوفل حسون يجيده أكثر من أي شيء آخر كما يبدو .
أدمن الأسد لحم الحمار لدرجة أنه كان أثناء عودة من إجازاته القليلة يستدين من أبي فؤاد ثمن الطبق الزكي .
كان أبو فؤاد جمعة رجلاً نزيهاً صارماً , لم يكن قط حاتم الطائي لكنه أحب الأسد بشكل ما بحيث أنه يلعب معه دور الدائن بكل سرور كلما احتاج ذاك لبعض الليرات القليلة .
ويبدو أن الأسد لم يكن سيء الذمة في تلك الفترة مما جعل القروض الحَسَنة تدوم بين الرجلين حتى بعد أن أنهى الأسد كليته الجوية بنجاح والتحق بمطار الضمير كملازم طيار على الميغ 15
وفي يوم شتائي قاس من عام 1956جاء الأسد إلى جبلة وبصحبته فتاة دميمة مسترجلة عرفها أبو فؤاد على الفور , فهي ابنة أحمد مخلوف من بستان الباشا .
طلب الأسد من أبي فؤاد الذهاب معه إلى فندق سكينة ليزكيه هناك فيقضي ليلته .
فهم أبو فؤاد القصة على الفور .. حافظ الأسد المغمور ابن الأسرة السوقية المغمورة قام بتشريد أنيسة مخلوف , وسرعان ما ستأتي كل قرية بستان الباشا للتفتيش عنه .
أفهمه أبو فؤاد أن فندق سكينة ليس مكاناً مأموناً للعاشقين عارضاً إحضار الشيخ عز الدين لكتب كتاب براني سرعان ما يمكن تثبيته بالمحكمة , ويمكن له حينها أن يبقى مع محبوبته في بيت أبي فؤاد ريثما تنصلح الأمور طالما أنهما قد أصبحا زوجين شرعاً .
انكب الأسد على يدي أبي فؤاد يقبلهما , وهو ما فعلته أنيسة أيضاً .
أرسل أبو فؤاد ابنه فؤاد إلى منزل الشيخ عز الدين في الدريبة للحاق بهما إلى بيته في حارة التنابل لكتب كتاب براني للعروسين .
جاء الشيخ عز الدين برفقة الشاب حوري آذن المحكمة الشرعية المعين حديثاً .
ولتعذر وجود الولي الشرعي الجبري عن أنيسة , وعملاً بالقاعدة الفقهية " من لا ولي لها فوليها القاضي " عقد الشيخ عز الدين قران حافظ علي سليمان الأسد على الحرة البالغة الراشدة العاقلة البكر أنيسة أحمد محمد مخلوف وفقاً للمذهب الحنفي السني وكان شاهدا النكاح هما : أبو فؤاد نفسه وآذن المحكمة الشرعية حوري .
..
مضت سنين على القصة , وفي عام 1982 أرسل نعمان مصطفى جمعة " الابن الأصغر لأبي فؤاد " رسالة إلى صديق له في أوربا يطلب منه فيزا لأن الحياة في سورية أصبحت لا تطاق .
أمن الدولة المسئولة عن مراقبة البريد السوري كله قرأت الرسالة واستضافت نعمان ابن أبي فؤاد ع دولاب ياخده ودولاب يجيبه .
أبو فؤاد الذي حاول مراراً لقاء الأسد للإفراج عن ابنه ورفض ذاك في كل مرة لقائه , مما دفعه لتوسيط أم أنور أرملة أبي أنور " الأخ الأكبر غير الشقيق للأسد " التي وعدته خيراً .
وفي الأسبوع التالي عاد أبو فؤاد إلى القرداحة ليسمع رسالة الأسد الشفوية المنقولة عبر أم أنور " جدة الشبيح هارون الأسد " والتي تقول : ابنك مجرم يا مصطفى جمعه وعليه أن ينال جزاءه , فلا عاد تحكي فيه أحسن ما تنسحب معه .
كفكف أبو فؤاد بقايا دمعتين وعاد منكسراً إلى جبلة .
..
بعد سنتين ونيف أفرج عن نعمان مع منيّة من رئيس الفرع المجرم عبد السلام القعقاع : بس لولا كان أبوك صديق سيادة الرئيس لكنت ما شفت الشمس بعمرك .
..
هل نسينا شيئاً ؟؟
بلى .. نسينا حوري , الشاهد الثاني على عقد زواج أنيسة وحافظ .
بتاريخ 25 / 4 / 2011 اقتحمت قوات الأمن جبلة , وحدثت مجزرة حقيقية كان أول ضحاياها ابن حوري المجند القادم بإجازة تزامنت مع لحظة الاقتحام فأردته القناصة أول ما أردوه.
..
بقى أن نقول : توفي أبو فؤاد منذ أعوام , وألقى ورثته بأوراقه ودفاتره غير المهمة .. أخذ الأولاد بالحارة يلعبون بها ويتصفحونها ..
كان في أحدها : حافظ الأسد / سبعة عشر ليرة وخمسة عشر قرشاً .
من الواضح أن سيادته قد نسي تسديدها بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية وزادت مشاغله , أو أنه كان طفران ومات وما معو .
المراجع
odabasham.net
التصانيف
قصص الآداب