كانت تجلس على مقعد خفيض ليس له ظهر في زاوية تلك الغرفة الواسعة، رأيتُ العبرات تسقط على وجنتيها بهدوء بالغ، كحبات ندى تسقط على وردة مخملية، في فجر ندي.
راقبتُ صمتها الموجع بصمت وألم، فبيتُها الواسع الجميل المليء بالمرح، أصبح الآن حزيناً كئيباً لفقدان زوجها صباح أمس، وازدحم هذا البيت بالنساء والصغار، والدموع غزيرة من أعينهن جميعهن.
لفتَ نظر الحضور كما لفتَ نظري صياح طفلة كانت تجلس بين الصغار كأنها في السادسة من عمرها أو أقلّ بقليل، تصيح بفرح غامر، وانصبت عليها عيون النسوة جميعا في دهشة واضحة، ولكن دون أن تتفوه إحداهن بكلمة واحدة، قالت الطفلة: سأرفع صور الشهداء التي على الحائط جميعها لأفسح المجال لصورة والدي الشهيد، وصفقتْ بيديها الصغيرتان بتتابع مرات عدة، وغادرت المكان من فورها، وعيون النساء تلاحقنها في تعجب ومنهن من تضغط على شفتها السفلى لتخنق صوت بكاءها، ودخلت الطفلة الغرفة المجاورة ذات الباب الزجاجيّ الكبير وأزاحت الصور الملصقة على الحائط- بطريقة عفوية- وأمسكت عدة صور متشابهة لأبيها، ووقفت على مقعدٍ صغيرٍ تلصقها صورة بعد صورة،
واجتهدت قدر ما تستطيع أن تكون مرتبة، ساعدها في ذلك أخوها الأصغر سناً بقليل، وكانت تقول كلمات بصوتٍ رقيقٍ لم أسمعه جيداً، إلا أنّ أخوها كان يوافق على كلامها، فيومئ برأسه الصغير إلى الأمام كلمّا تكلمت، والتفتُ بدوري إلى النسّاء فرأيتهن ما زلن يجهشن في البكاء، ما عدا تلك التي كانت العبرات تنساب على وجنتيها بهدوء بالغ.
بعد برهة بسيطة من صمتها، تبسّمت في مرارة وحركت شفتيها فقط لتقول: هذا ما كان يتمناه أحمد، وسكتت، وأعقب سكوتها انسكاب العبرات سكباً.
في غضون ذلك عرفتُ أنها زوجة الشهيد، إذ لم أكن أعرف من قبل. ذلك لأنني منذ اللحظة التي دخلتُ إلى هذا البيت لم أسال سؤالا واحداً ولم أمارس مهنتي كصحفية في هذا البيت بالذات. ولم أعرف منذ صباح أمس لأي أمر كان الجمع المتجمهر، ينادوا بأصواتٍ عالية أكثر من اسم في البداية، أحمد ،مسعود، زيد، وأسماء أخرى، فتمهّلتُ قليلاً، بما أني أريد أن أنقل حدثاً اعتادت عليه هذه البلدة الصغيرة في غزّة الصامدة، غّزة ،البحر القوي الهائج، وأنقل قصة أسرة في حيّ من أحياء هذه البلدة سمعت أنها عانت من الإحتلال ما عانت منذ أكثر من عشرين سنة على إثر إستشهاد الجد صاحب هذه الدار، التي أجلس ألآن على احد مقاعدها.
وهئنذا أتفحّص وجوه من في البيت، ألأم والأخت والزوجة أيضاً بعض المقربين والأحبة، كانوا يواسون بعضهم بعضاً كأنهم عين واحدة في البكاء وفم واحد في الدعاء، وأمّا الأسماء الأخرى التي سمعتها فقد سقطوا جرحى عقب انفجار السيارة التي كان قد استقلها أحمد ورفاقه غداة أمس، بعد خروجهم من المسجد الجامع. والحقيقة أنه كان دأب أحمد ورفاقه من أبناء جيرانهم الصلاة في المسجد جماعةً منذ الصغر. وصلاة الفجر والعشاء غالباً، وباقي الصلوات كان كلٌ يذهب من جانبه.
هذا ما تأكدتُ من صحته منذ ضحى أمس إلى الآن، وأنا أجلس بين النساء والآن رأيتهن قد صلين المغرب وبدأن بوداع أهل البيت والدعاء للجميع من أهل البيت بالصبر والسلوان، في غضون ذلك تساءلت في نفسي، يا ترى ما المفرح بالأمر الذي جعل الطفلة التي صفقت منذ ساعات في أن تحمل بين يديها علبةً فيها حلوى وسكريات متنوعة. توزّعها على الناس ولم تغادر أيّا من النساء إلا وبيدها بعضاً منه.
يا لفرح تلك الطفلة ذات الستة أعوام، أراها تقف على بوابة البيت مفتّرة عن ابتسامة بريئة لم تغادر شفتاها طوال الوقت، ولم تغادر عينيها البريئتين دمعة رطبة تأبى النزول على الخدين، وسبحان الله كانت تُغدق على الصغار وتُكرمهم بأكثر من حبة من السكريات بكل تفاخر وابتهاج.
كان أصيل هذا النهار قاتم بعض الشيء فقد تكاثفت الغيوم في سماء البلدة ولم يعد أحد في الطرقات خاصة بعد أن ساد الظلام شيئا فشيئا فلا أثر للكهرباء في هذه المنطقة، فقد قطعها الإحتلال منذ أيام، فقلت في ذات نفسي وأنا أبتعد عن النافذة المطلة على الشارع العام، لعلّ زوجة الشهيد أحمد، تقول لي شيئا عن حالها ما بين الأمس واليوم، وأجزت لنفسي أن أقطع صمتها لبضع دقائق ممسكة بيدها الدافئة في يدي قائلة لها: أدعو الله أن يرحمه رحمة واسعة وأن يتقبّله شهيداً حتى يشفع لجميع أهل بيته.
فقالت لي مبتسمة مفعمة بالثقة نعم، لقد تقبله الله شهيداً يا أختي صدّقيني، وفتحتُ عينيّ عن آخرهما وقبل أن أتفوّه بكلمة قالت: لقد رأيته في ليلة أمس وقبل بزوغ الفجر بين جمع من الناس لم أعرفهم لكنني عرفته من بينهم يمشي رافع الرأس مبتسماً، والناس تمشي إلى جانبيه كأنها زفة عرس بهيج، فذهبت إليه وأخذتُ أناديه ورفعت صوتي حتى رآني وقلت له: أين أنت لماذا لم تأت إلى البيت؟ فقال لي: بعدما صليتُ الفجر في المسجد- وسمى إسم المسجد الذي صلى فيه فعلا- لا أدر ما حصل، ووجدتُ نفسي بين هذا الجمع من الناس وهذه الزفة لي من الأمس إلى اليوم وسكتْ، وذهب معهم وتركني واقفة. صحوتُ من نومي قبل الفجر كأنني رأيته أمامي فعلا ولن أنساه أبدا.
سطّرتُ حلم الزوجة على ورقة كانت معي، وتنهدّتُ بعمق سائلة الله العليّ القدير أن يكون كذلك.
وجال نظري في البيت فلم أجد أحداً غيري، ووقع نظري على الطفلة فإذا بها تحتضن صور أبيها بين يدها غارقة في نوم عميق، من يدري لعلّها تراه في منامها أيضا.
وسلمتُ على أهل هذا البيت وخرجتُ على عجل، قبل أن يبللني المطر وتسد العتمة طريقي بالكامل.
المراجع
رابطة أدباء الشام
التصانيف
ادب قصص