وقد اختار ابن شهيد لرسالته اسم ̎̎ التوابع والزوابع̎ ؛ لأنه جعل مسرحها عالم الجن، واتخذ كل أبطالها -فيما عداه- من الشياطين. فالتوابع: جمع تابع أو تابعة، وهو الجن أو الجنية، يكونان مع الإنسان يتبعانه حيث ما ذهب. والزوابع: جمع زوبعة، وهو اسم شيطان أو رئيس الجن.
وقد وجه ابن شهيد رسالته إلى شخص كناه بأبي بكر، وقدم في أول رسالته بما يشبه المدخل إلى القصة. فذكر عن نفسه كيف تعلم ونبغ، وكيف تعجب صاحبه أبو بكر من عبقريته، وأقسم أن تابعة تنجده، وزابعة تؤيده؛ لأن ما يأتي به من أدب ليس من قدرة الإنس. ثم أقر ابن شهيد أبا بكر على تفسيره، فبين أنه كان يرثي حبيبا له قد مات، فأرتج عليه أثناء النظم. وعجز عن تكميل ما هو بسبيله من شعر، وإذا بجني اسمه زهير بن نمير يتصور له على هيئة فارس، ويلقي إليه بتتمة الشعر، حبا في اصطفائه ورغبة في مصاحبته كما صاحب التوابع الشعراء. ثم ذكر هذا الجني أبياتا يستحضره بإنشادها متى أراد، وأوثب بعد ذلك فرسه جدار الحائط وغاب. ويذكر ابن شهيد لأبي بكر أنه كان كلما أرتج عليه، أنشد الأبيات، فيتمثل له صاحبه الجني زهير بن نمير، فيعين قريحته، وينطق لسانه، حتى تأكدت الصحبة بينهما.
بعد ذلك التمهيد ينتقل ابن شهيد إلى صلب القصة، فيذكر أنه تذاكر يوما مع تابعه هذا، فتناولا أخبار الشعراء والخطباء وأصحابهم من التوابع والزوابع، وسأل ابن شهيد صاحبه قائلا: هلى من حيلة إلى لقاء من اتفق منهم؟ فقال له زهير: حتى أستأذن شيخنا، فطار ثم عاد وقد أذن له. فقال لابن شهيد حل على متن الجواد، فصار ابن شهيد مع تابعة عليه. ثم سار بهما كالطائر، يجتاب الجو فالجو، ويقطع الدو فالدو؛ حتى أتى أرض الجن. وهناك طاف به تابعه على صاحب امرئ القيس، وصاحب طرفة، وصاحب قيس بن الخطيب من الجاهلين، ثم على صاحب أبي تمام، وصاحب البحتري، وصاحب أبي نواس، وصاحب أبي الطيب من الإسلاميين. وابن شهيد في كل لقاء يصور الجو الذي لقى فيه تابعة الشاعر، ويرسم التابعة نفسه بكثير من الملامح التي عرف بها الشاعر في الحياة. ثم يسمع من هذا التابعة وينشده، وينال آخر الأمر إعجابه.
ثم يذكر ابن شهيد أنه طلب من تابعه زهير بن نمير أن يلقى به توابع الكتاب – وهو يسميهم الخطباء – ويحكي أن زهيرا سار به إلى هؤلاء التوابع، وقد اجتمعوا للمذاكرة ببعض المروج، وفيهم تابعة الجاحظ وتابعة عبد الحميد. وقدم زهير بن شهيد إلى صاحب الجاحظ، الذي شهد له، ولكنه أخذ عليه كلفة بالسجع. وقد دافع ابن شهيد عن نفسه، بما حمل صاحب عبد الحميد على التدخل في النقاش، وكان يتهم ابن شهيد أيضا، ولكن ابن شهيد ناظره وصمد له، حتى رضى عنه الصاحبان، وسألاه أن يقرأ لهما بعض رسائله؛ فلما قرأ استحسنا كتابته وتبسطا معه. وهنا شكا لهما حساده من الأندلسيين؛ حتى وصل إلى أبي القاسم الإفليلي – وكان لغويا يكثر من نقد ابن شهيد – فناديا تابعته، فتصدى لابن شهيد بالنقد والتجريح، ولكن ابن شهيد أخرسه وأبطل كل أقواله. ثم تدخل صاحب بديع الزمان، فعارضه ابن شهيد بقطعة له في وصف الماء، فأفحمه وأخجله. وحينئذ أجازه صاحبا الجاحظ وعبد الحميد، أقراراً بتفوقه.
وبعد ذلك يحكى أبو عامر حضوره مجلس أدب من مجالس الجن يدور الحديث فيه الحديث حول الموازنة، وتعبير شعراء مختلفين عن معنى واحد كل بطريقته، ثم ينتقل الحديث في المجلس إلى السرقات الأدبية، وكيف يمكن أن تحدث السرقة دون أن يفتضح صاحبها. وابن شهيد يقدم في كل موقف رأيا معجبا وشعرا مطربا.
وأخيرا ينتقل ابن شهيد وتابعته إلى أرض بها حيوان الجن من بغال وحمير؛ فيذكر بأنه شاهدهم وقد اختلفوا في قطعتين شعريتين غزليتين إحداهما لبغل محب، والأخرى لحمار عاشق، وأنهم دعوا ابن شهيد لتقويم النصين والحكم بين الشاعرين الغزلين. فسمع ابن شهيد القطعتين، ثم سأل بعض الأسئلة وقضى بما رأى من حكم.
ثم ينتقل إلى أوزة كانت في بركة ماء، وهي تابعة لبعض شيوخ اللغة؛ وقد تعرضت له الأوزة، وأرادت مناظرته في النحو والغريب؛ ولكن ابن شهيد زجرها وذكرها بسخفها وحماقتها. وهنا انهى ما بقي لنا من رسالة التوابع والزوابع.
الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة، الدكتور أحمد هيكل، منشورات دار المعارف الطبعة الرابعة، القاهرة 1968.