مشكلة الدولار
الاحداث الاقتصادية : عرض وتحليل
كتب هذا العرض والتحليل معلق الرائد الاقتصادي ونشر في كانون الثاني / يناير 1961، العدد الثالث، الرائد العربي
كثر التساؤل في المدة الاخيرة حول مركز الدولار ، واسترعى مستقبله انتباه العالم بشكل غير مألوف . ووصل التساؤل والانتباه ذروتهما عندما ارتفع سعر الذهب في أسواق لندن الى 41 دولاراً للأونصة ، أي بزيادة مقدارها 6 دولارات عن السعر الذي تبيع به الخزينة الاميركية الذهب الى البنوك المركزية لاستعماله في ” الأغراض النقدية المشروعة ” . ولم يسبق للذهب ان ارتفع سعره فوق ” مستوى التعادل ” في أسواق لندن او زوريخ في السنين العشر الاخيرة بمقدار محسوس إلا خلال الحرب الكورية عندما وصل الى 45 دولاراً للاونصة الواحدة .
الآن هدأت الفورة الاخيرة الى حد كبير وعاد الذهب الى مستوى قريب من ” مستوى التعادل ” ، وذلك بعد ان سمحت الخزينة الاميركية لبنك انكلترا بالتدخل بيعاً في سوق الذهب في لندن . إلا أن التساؤل حول مركز الدولار لم ينته بعد وتطالعنا الاخبار كل يوم بإجراءات إتخذت او تدرس لتدعيم مركزه .
لقد أصبح من المألوف بعد الحرب العالمية الثانية النظر الى الدولار وكأنه الدواء الناجع للعملات العليلة ، إذ كان له أثر فعال في انتعاش إقتصاد بلدان كثيرة وتثبيت عملاتها . ولم تبخل الولايات المتحدة على حلفائها واصدقائها في توزيع هذا الدواء عليهم هباتاً او قروضاً ، فبلغ مجموع ما أقرضته وقدمته من مساعدات منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حوالى 36 بليون دولار . واليوم تجد الولايات المتحدة الاميركية ميزان مدفوعاتها بحالة عجز ، إذ بلغ هذا العجز حوالى 4 بلايين دولار في السنة . كما انها تجد عملتها في موضع شك وتساؤل . وقد نتج هذا العجز في السنة الاولى عن هبوط كبير في التصدير ، وفي السنة الثانية عن زيادة كبيرة في الاستيراد ، وفي السنة الاخيرة عن إنتقال رؤوس الاموال الى الخارج بمقادير كبيرة . فما الذي أدى الى هذا الوضع ؟ .
إن السبب الاساس لهذا الحدث هو التغيير النسبي لمركز الولايات المتحدة ، خصوصاً في حقل الاقتصاد الدولي . ولم يرافق هذا التغيير التكيف اللازم السريع في السياسة الاقتصادية من جانب أميركا وحلفائها . ومن أهم مظاهر هذا التغيير إنتعاش الاقتصاد الاوروبي وتمكنه من استعادة مقدرته الانتاجية ورفعها ، بعد ان خرجت الدول الاوروبة من الحرب العالمية الثانية مدمرة ومنهكة القوى ، وأصبحت حينذاك الولايات المتحدة الاميركية المصدر الرئيس للبضائع وأصبحت عملتها نادرة مما حمل الدول الاخرى على فرض قيود شديدة على الاستيراد منها وعلى اتخاذ كل التدابير والاجراءات التي تمكنها من الحصول على أكبر مخزون من الدولارات لشراء ما تحتاج اليه من البضائع الاميركية الصنع والمنشأ .
عرف ميزان المدفوعات الاميركي وفراً كبيراً خلال تلك الفترة . أما الآن ، وقد تغير الوضع ولم تعد الدول ، وبنوع خاص الدول الاوروبية ، بالحاجة نفسها لاستيراد البضائع الاميركية ، فقد بدأت هذه الدول بالاحتفاظ بقسم كبير من الدولارات التي تحصل عليها ودائع في مصارفها او ثمناً لما تصدره . كما انها أخذت تشتري بقسم من مخزونها من العملة الاميركية ذهباً بدلاً من ان تستعمل دولاراتها جميعها في شراء البضائع ، كما كانت تفعل سابقاً . وينطبق هذا الواقع ، بصورة خاصة ، على المانيا الغربية التي شهد اقتصادها ازدهاراً كبيراً بعد سنين قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية ، وأظهر ميزان مدفوعاتها وفراً كبيراً ومستمراً . وهكذا ، هبط إحتياطي الولايات المتحدة من الذهب بين عامي 1948 و 1960 من 24.4 بليون دولار الى 18 بليون دولار . وارتفع ، خلال المدة نفسها ، إحتياطي اوروبا الغربية من 5.6 بليون دولار الى 15 بليون بليون دولار ، وبلغت حصت المانيا الغربية وحدها حوالى نصف هذا الاحتياطي . وكذلك ارتفع احتياطي الكتلة السوفياتية من 4 بلايين دولار الى 9.5 بليون دولار .
مكَن هذا الانتعاش الاقتصادي دول اوروبا من تدعيم نقدها والغاء الكثير من القيود التي كانت تكبله . فاستعادت أسواقها المالية نشاطها السابق وبدأت تنافس الاسواق الاميركية في الحصول على الاموال بقصد تثميرها .
ومن مظاهر التغيير ايضاً في المركز النسبي للولايات المتحدة ، التغيير الذي طرأ على الاستراتجية العالمية الذي نتج عن اختراع الصواريخ العابرة للقارات ، والتي قلبت مفهوم السلامة رأساً على عقب . فحتى ظهور هذه الصواريخ ، كانت الولايات المتحدة الملجأ الأمين للاموال التي تبغي السلامة ، فكانت تتدفق عليها من جميع أنحاء العالم . أما الآن وقد أصبحت الولايات المتحدة الاميركية لا تزيد أماناً وسلامة عن اوروبا ، فان عنصر الامان لم يعد مقياساً ذو اولوية وأهمية في تنقل الاموال ، واصبحت اوروبا تزاحم اميركا في استقطاب الاموال المفتشة عن ملجأ آمن . وأصبحت هذه الاموال تتنقل بين هاتين المنطقتين سعياً وراء نسبة فائدة أعلى . وكان الاقبال على ايداع الاموال في اوروبا منقطع النظير حيث نسبة الفائدة أعلى مما هي عليه في الولايات المتحدة . ثم ان ازدهار الاقتصاد الاوروبي شجع المودعين والمستثمرين الكبار على ايداع اموالهم او استثمارها في الدول الاوروبية . كما ساعد الغاء القيود على تنقل الاموال على هجرة مبالغ كبيرة الى البنوك الاوروبية . ومن المفارقات ايضاً ان انتقال رؤوس الاموال من اوروبا الى اميركا أصبح العنصر الاساس في العجز الذي يشكو منه ميزان مدفوعات الولايات المتحدة .
هناك ثلاثة إجراءات رئيسة يمكن للولايات المتحدة الاميركية ان تلجأ اليها لمعالجة مشكلة الدولار . أولها العزلة بحيث تقطع مساعداتها الاقتصادية الخارجية ، والتوقف عن انفاقها العسكري خارج بلادها ، و رفع الحواجز الجمركية بوجه البضائع الاجنبية . إن مثل هذه الاجراءات غير معقولة بالنسبة للصراع العالمي ودور الولايات المتحدة في الحرب الباردة .
ثانياً ، هناك رفع نسبة الفائدة واتخاذ اجراءات أخرى من شأنها توليد إنكماش في مستوى النشاط الاقتصادي . إن رفع الفائدة يخفف الدافع لانتقال الاموال الاميركية الى الخارج ، كما ان الاجراءات الانكماشية قد تؤدي ، عن طريق تأثيرها على مستوى الدخل والاسعار، الى تخفيض في الاستيراد وزيادة في الصادرات ، مما يسهم في تخفيض العجز في ميزان المدفوعات او ازالته . أي ان رفع نسبة الفائد الآن وما يرافقه عادة من اجراءات انكماشية يؤدي الى ارتفاع نسبة البطالة ، في وقت بدأ فيه مستواها المرتفع يقلق بال المسؤولين . يضاف الى ذلك ان التجارة الخارجية تؤلف جزءاً يسيراً من النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة ، مما يعني ان هذه الاجراءات التقشفية يجب ان تكون شديدة حتى تتمكن في النهاية من التأثير على ميزان المدفوعات .
ثالثاً ، هناك امكانية تخفيض الدولار ، أي رفع السعر الحالي للذهب والبالغ الان 35 دولارا للاونصة الواحدة. إن تخفيض الدولار يخفض أسعار البضائع والسلع الاميركية بالنسبة للمشترين الاجانب ، كما انه يرفع اسعار البضائع والسلع الاجنبية بالنسبة للمشتري الاميركي ، مما يؤدي الى زيادة صادرات اميركا والى انخفاض مستورداتها ، وبالتالي يخفض او يزيل العجز في ميزان المدفوعات . إن هذا الاجراء القاسي غير قابل للاحتمال الان لاسباب عديدة . فالعجز في ميزان المدفوعات الاميركي ليس ناجماً عن قلة الصادرات بالنسبة للواردات ، بل على العكس ، هناك فائض في الصادرات .
إن العنصر الاساس في العجز هو انتقال رؤوس الاموال الاميركية الى اوروبا بشكل مستمر . والصندوق النقدي الدولي يوافق عادة على تخفيض قيمة العملات في مثل هذه الحالات . يضاف الى ذلك ان تخفيض قيمة الدولار سيكون له تأثير كبير على إقتصاديات الدول الاخرى ، خصوصاً تلك التي تعتمد الى درجة كبيرة على التجارة الخارجية ، كإنكلترا وغالبية الدول الاوروبية الغربية ، مما يدفعها ، بالتالي ، الى مقابلة اميركا بالمثل فتخفض عملاتها مما يفقد التخفيض الاميركي ميزته او مما قد يؤدي الى سلسلة من التخفيضات المتقابلة ، الامر الذي يضعف ، في النهاية ، اقتصاديات العالم الغربي ويشل حماس الغرب للحرب الباردة القائمة . وهناك ناحية سلبية اخرى لتخفيض الدولار ، وان كانت ليست بنفس الاهمية كالنواحي السابقة ، وهي ان هذا التخفيض سيرفع القوة الشرائية لاحتياطي روسيا من الذهب ، فتبدو الولايات المتحدة الاميركية وكأنها قدمت بعملها هذا منحة مالية كبيرة لخصمها الرئيس في الصراع الدولي .
وهكذا يتبين انه من المستبعد ان تلحأ الولايات المتحدة الآن الى أي من الاجراءات الرئيسة التي بحثناها اعلاه. وبالتالي لا يبقى امامها إلا إتخاذ عدد من الاجراءات الثانوية والجانبية على أمل ان يكون لها مجتمعة الأثر المرجو . وتشمل هذه الاجراءات السعي لدى دول اوروبا لتخفيف القيود المفروضة على الاستيراد ، وتحميلها بعض مسؤوليات اميركا العسكرية في الخارج ، والسعي لدى هذه الدول لتخفيض سعر الفائدة في بلادها ، وغير ذلك من الامور .
تطالب الدول الاوروبية الولايات المتحدة منذ مدة برفع القيود الخاصة التي سبق ان وضعتها بعد الحرب العالمية الثانية لتخفيف استيرادها بالدولار ، على أساس أن الظروف التي أوجبت إتخاذ هذه الاجراءات قد زالت . وقد نجح هذا المسعى ورفعت دول اوروبا القيود . إلا أن البحث انتقل الآن الى القيود العامة التي تفرضها الدول الاوروبية ، وهي بالنسبة لكثير من البضائع أقسى من القيود التي تفرضها الولايات المتحدة على البضائع والسلع الاوروبية . وينطبق هذا الامر ، بصورة خاصة ، على المواد الزراعية وبعض المنتجات الصناعية التي تتمتع بحماية كبيرة في اوروبا . ويعتقد انه اذا خففت دول اوروبا الغربية هذه القيود، فقد تتمكن الولايات المتحدة الاميركية من زيادة صادراتها لاوروبا بما يتراوح بين نصف بليون وبليون دولار في العام . إلا أن هذه المساعي الاخيرة لم تثمر بعد .
وقد بذلت الولايات المتحدة بعض المساعي لدى الدول الاوروبية الغربية ، التي تستجلب أسواقها المالية دولارات اميركية بكميات كبيرة ، لتخفيض سعر الفائدة لديها ، علَى ذلك يخفف من الدوافع لانتقال الدولار اليها ، وهو الساعي وراء دخل أعلى . وقد لقيت هذه المساعي نجاحاً في بريطانيا حيث خفض سعر الفائدة من 6 بالمئة الى 5.5 بالمئة في شهر اكتوبر ومن 5.5 بالمئة الى 5 بالمئة في أوائل شهر ديسمبر . أما المانيا الغربية ، حيث مستوى الفائدة لا يزال مرتفعاً جداً ، فلم تكن من استجابة على هذا الطلب . ولعل من الاسباب التي دفعت المانيا الى هذا الموقف خوفها من ان يؤدي تخفيض سعر الفائدة الى زيادة الازدهار الاقتصادي بشكل يؤدي الى التضخم .
من الاجراءات المهمة التي اتخذت لحماية الدولار ، كان تخفيض النفقات العسكرية الاميركية في الخارج بمقدار بليون دولار . وسيتم ذلك ، بصورة رئيسة ، عن طريق إعادة عائلات الجنود الاميركيين في الخارج الى الولايات المتحدة . وقد حاولت الويات المتحدة ان تحمل المانيا الغربية على دفع 600 مليون دولار لتغطية جزء من تكاليف القوات الاميركية المتمركزة في المانيا ، والبالغ عددها 250 الف جندي ، إلا ان المانيا رفضت تحمل اية كلفة من هذا النوع ، ولكنها أبدت استعدادها لدفع مبلغ معادل كدفعة مسبقة من أصل دين الولايات المتحدة عليها .
أما في ما يتعلق بالمساعدات الاميركية الخارجية ، فقد قررت واشنطن الاشتراط على المستفيدين منها إستعمالها في شراء بضائع اميركية ، بينما كانت تترك لهم الحرية في السابق ، والى حد بعيد ، في شراء هذه البضائع والسلع والحاجيات من أي بلد في العالم الغربي يقدم لهم أفضل الشروط . وبهذه الطريقة الجديدة تصبح المساعدات الخارجية غير ذات موضوع بالنسبة لميزان المدفوعات .
قد يتساءل البعض ، لماذا تبدي دول اوروبا الغربية بعض التعاون مع الولايات المتحدة في محاولتها دعم مركز الدولار . هناك أسباب عديدة . فأي نظام مدفوعات دولي يتطلب نوعاً من التعاون بين الفرقاء الرئيسيين ، على الأقل . والدولار هو نقطة الثقل في نظام المدفوعات الدولي الحاضر . فاذا انهار الدولار ، إنهار معه نظام المدفوعات وأصيبت التجارة الدولية بنكسة كبيرة ، قد تتعرض نتيجة لها اقتصاديات اوروبا نفسها للخطر . ولا شك ان انهيار الدولار هو امر غير مطروح الان ، وان دول اوروبا تخشى إن لم تتعاون مع اميركا أن تتخذ الولايات المتحدة إجراءات لدعم الدولار قد تسيء نتائجها الى الاقتصاد الاوروبي .
هذه هي أهم الاجراءات المتخذة حتى الآن . فهل تكفي لدعم الدولار ؟ . لا بد لنا ، قبل أن نجيب على هذا السؤال المهم ان نشير مرة ثانية الى ان احتياطي الولايات المتحدة من الذهب لا يزال ضخماً ، وهو يكفي لتسديد العجز الحالي لبضع سنوات قادمة . كما ان الاقتصاد الاميركي، الذي هو في النهاية ، الداعم الاساس للدولار ، سليم في جوهره ويتمتع بامكانيات كبيرة تفوق امكانيات الاقتصاد الاوروبي الغربي ، مما يدعو البعض الى الاعتقاد انه لا بد وان ينعكس على بقاء رؤوس الاموال الاميركية المستثمرة في اوروبا والتي قد تعود فتهاجر الى الولايات المتحدة الاميركية .
هذا من جهة ، اما من حيث فعالية الاجراءات الجانبية في دعم مركز الدولار ، فالكثير يتوقف على مدى تعاون اوروبا الغربية ، وعلى تطور الاوضاع الاقتصادية في كل من اوروبا واميركا . فهل يستمر الرخاء الاقتصادي في اوروبا الغربية والى متى ؟ . وهل تنتقل الازمة التي تهدد الولايات المتحدة الى اوروبا ؟ الجواب ، بما يتعلق باميركا ، ستجيب عليه السياسة الاقتصادية التي سيتبعها الرئيس الاميركي الجديد . فمع انه من المستبعد ان يلتزم الرئيس الجديد بسياسة تضعف الولار ، فإن الخوف من هذا الضعف قد لعب دوراً رئيساً في فورة شراء الذهب مؤخراً.
المراجع
ar.al-hakawati.net/2011/12/28/%D9%85%D8%B4%D9%83%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%B1/موسوعه الحكواتي
التصانيف
اقتصاد