لم يكن ثوريا قط. على النقيض، قضى السنين باحثا عن الاستقرار. كان التغيير يثير به نوعا من الازعاج. وباحثا عن حقائق الماضي وبكلاسيكيته المعهودة، كان مولعا بقراءة التاريخ، واجدا فيه مهربا من العادات اليومية التي أضحت تثير اشمئزازه. مقت الحياة التي اقتيد اليها بشدة، لكن الرهبة من التغيير التي تشربها منذ طفولته قد ضربت ابداعه وتفكيره في الأعماق. أما عن السعادة فكان واقعه ينفي وجودها في قلوب البشر، وراح يعلل لحظات البهجة العابرة كمحاولة للخروج عن الحقيقة.

ناجي، في مقتبل العقد الخامس من عمره، رغم مقته وخشيته من التغيير كان في أعماقه يبحث عنه، لكنه ربما خشي الاعتراف بذلك، حتى لنفسه. في الواقع، لم يأل جهدا في البحث عن وسيلة للتغيير، لكن الرضوخ للواقع كان راسخا فيه، قابعا في فكره مستحوذا على خياله.

أزعجه في مجتمعه الكتمان... وثقافة "العيب والحرام". كان بداخله كلام كثير أراد الافصاح به لكن شبح الكتمان منعه من ذلك طوال السنين الماضية. تعلم أن يكتم الفرح، يكتم الحزن، يكتم الألم... لكأن جسده غطاء لآلة ناطقة. ولكم أمسك بقلمه وكتب آهاته فاحتفظ بها بعيدا عن الأعين والألسن... وكأن الاحساس جريمة.

حقد حقدا تاما على منحى التدين في أيامه. رأى الدين بمنظوره الخاص. كان يعيش في عالم افلاطوني شاعرا أنه "نبي" جبران أو يكاد... أزعجه التمسك الظاهر بالدين، التمسك بستر عورات الجسد والتعري الروحي بكل وقاحة. راعه الجدال العقيم في مسائل تافهة بعينه. راعه الجدال بأي رجل يدخل الحمام وقد اقتحم الغرب الفضاء بكلتي رجليه.

لم يكن يرى نفسه عضوا في المجتمع. كان أقرب الى شعراء الأندلس وفلاسفة اليونان. ولكم سرح به خياله الى رياض الأندلس يراقب ابن زيدون يغني لولادة... وزرياب يعزف... ومارسيل يغني "أمر باسمكِ اذ أخلو الى نفسي كما يمر دمشقي بأندلس"... وابن رشد يلقي محاضرة مستظلا بشجرة ليمون... وكيف يتذكر الليمون ولا يتذكر يافا... فيسرح ويتمادى... لكن راعه ذلك. خشي على نفسه من أن يضحي دون كيشوت ثان...

من الفصول كان مولعا بالخريف. أحب فيه ذلك الشحوب الذي يكسو كل شيء. وقد رأى في الخريف مرآة لمكنون ذاته ووجد فيه افصاحا لمشاعره المكبوتة كأن الطبيعة تبغي مواساته فتشاركه أحاسيسه. وكان في كل خريف يستمع الى قصيدة نزار بصوته : "اني أحبكِ عندما تبكينَ... تلك الدموع الهاميات أحبها وأحب خلف سقوطها تشرينَ...".

رغم كل ذلك حاول التأقلم، أو أن يمرر عمره كما هو، ليس تسليما بالقدر وانما لأنه لم يؤمن أن هناك منطقة قد يلتقي بها مع المجتمع، مهما حاول هو التنازل... أو المجتمع... لذلك حاول التعايش. أحبه الناس... كان "خدوما" لا يتردد في مساعدة الآخرين قدر امكانه. رأى به الناس انسانا طيبا لكن مطوقا نفسه بطوق لا يمكن لأحد نفاذه، فالتدخل بحياته الخاصة كان مرفوضا لديه، حتى لو كان من باب الود والنصح... ان كان هناك باب كهذا برأيه...

تجنب الاشتراك بالحياة السياسية بيد شغفه بقراءة التاريخ. رأى بالسياسة اليومية نوعا من المكر والخداع والتلون، ولم يرق له ذلك... لكنه كان مدركا لقوة السياسة وتأثيرها، وفي دائرته المحصورة، وعندما كان يجبر على ذلك، كان يتكلم في السياسة مبهرا الآخرين بتمكنه ومعلوماته.
كان ميسور الحال، فبعمله كمدرس لعلم الأحياء منذ ما يقارب العشرين سنة تمكن من شراء شقة وتوفير مبلغ غير زهيد. هذا بالاضافة الى البساتين التي ورثها عن والده بعد وفاته... لكن المال لم يعن ِ له شيئا قط... بل كان يمقته... مقته لأنه لم يحقق له السعادة، وحتى لم يكد يفعل.
وفي هذه المرحلة، رغم سنه، قرر الالتحاق بكلية الآداب والعلوم السياسية لدراسة التاريخ، محققا حلما شبابيا. وبنزق طالب انكب على الكتب وراح يلتهمها بشراهة وتعطش. قرر التوقف عن مزاولة مهنته في فترة دراسته وقد وجد عملا في ترجمة المقالات السياسية والتاريخية، فمارسه برضى بالغ.

كان يتردد الى المكتبة كثيرا للتحضير لدروسه أو لمجرد القراءة. أحس أن الفراغ الذي راوده سنينا طويلة بدأ يمتلئ. وفي المكتبة، رآها لأول مرة، تفترش الأرضية في نهاية أحد الممرات جانب كومة من الكتب، غارقة في القراءة. وبدافع لم يدرك معناه بالضبط اتجه نحوها وشرع يتمعن الكتب على الرفوف القريبة. وفجأة، ودون مقدمات، أخرج الكتاب الثاني من بين الكتب المكدسة بجانبها فرمقته بحيرة، لكنه استدرك استغرابها بتعذره سائلا اياها ان كان بامكانه النظر في الكتاب، وكان قد قرأه منذ سنين، فأشارت بالقبول. بدأ يتصفح الكتاب وقلبه ينبض بعنف. "ماذا دهاك أيها المراهق؟ هل تحبها؟ انك حتى لا تعرف اسمها... اسمها؟!"... لمحه على دفتر صغير بجانبها... كان مكتوبا في خانة الاسم... وتحته رسمة "حنظلة" مرسومة ببراعة. جفرا اسمها. في النهاية، نطقت محطمة جدار الصمت الطويل، "هل أعجبك الكتاب؟". في الواقع لم يقرأ شيئا منه، لكنه كان ينتظر تلك اللحظة، فسرد لها ما تذكره من فحوى الكتاب، وأعجبت بمعرفته. أخبرته أنها تدرس الأدب ثم أخبرها عن دراسته دون أن تغادر الابتسامة الأنيقة ملامحه.

بعد أيام، لمحها بين المتظاهرين في احدى المظاهرات السياسية فتظاهر بعدم رؤيتها. لم يكن يؤمن بجدوى تلك المظاهرات، وقد رأى بها نوعا من الفوضى الغير مجدية فآثر تجنبها. لكنها لمحته، فنادته بالانضمام... لو كانت شخصا آخر لما تردد في الرفض بلباقة، لكنه لم يفعل. وقف الى جانبها يستمع الى شعارات الشجب بالعنصرية دون أن يرددها، ويرمقها بين الفينة الأخرى. دعته جفرا بعد حل المظاهرة لاحتساء القهوة في مسكنها حيث كانت تسكن مع صديقتها. لشدة مفاجأته لم يرفض ذلك أيضا. وفي مساكن الطلبة، تحدث اليها وصديقتها عن السياسة والتاريخ السياسي الحديث وتجربة عبد الناصر والوحدة العربية وجيل الضياع... كان كلامه جميلا ينم عن معرفة عميقة، وأثار اعجابهما... ثم انطلق الحديث عن الحياة العامة والحياة الشخصية، وقد كثرت أسئلته جادا تارة ومازحا أخرى لمعرفة ان كانت تعيش تجربة عاطفية أو مرتبطة أصلا، وقد تنفس الصعداء عندما أخبرته بأنها لم تجد من يفهمها... وأزعجه ارتياحه هذا...

ما أن غادر مسكنها حتى راح يفكر بالحجة التي سيختلقها ليكلمها بالهاتف، فاتصل بها وسألها ان كانت تعلم من هو مؤلف أحد الكتب التي لمحها بين كتبها في غرفتها. كان يعلم أن أسلوبه طفولي وأنه لا يحسن التعبير عن الحب، أو الود على الأقل... استذكر زيارته لها في ذلك اليوم وكم كان يتمنى أن يبقيا على اتصال! أنب نفسه لأنه لم يقل أشياء كثيرة كان بامكانه قولها، لكنه اعتاد ذلك بمواقف أخرى. ومن الغريب أن أسلوبه الساذج قد أفلح هذه المرة أيضا، فهي ليست الأولى التي تشعر بذلك: هل يحبها؟ أهو مجرد تقدير؟ كثيرات شعرنَ بهذا من قبلها بتعامله تجاههن. لكنه هو أيضا لم يعرف الجواب. أو ربما لم يكن يعرف ما هو الحب... في الحقيقة، جفرا أيضا كانت مبلبلة. لم تعرف ان كانت تحبه وان كانت ستطلق العنان لمشاعرها رغم فارق الجيل. لكنها بلا شك كانت تقدره ومعجبة بحضوره ووطنيته بطريقته... بصمت... كانت معجبة بصمته...
كانت لقاءاته معها مزيجا من الشاعرية والأدب والوطنية، والكلام ينساب برقة دون تكلف. تحدثا عن الماضي والمستقبل، عن الحب، عن الوطن... سرحا في روايات كنفاني واميل حبيبي... ارتاح بالتواجد معها وشعر أنها الخلاص... لم يخل حديثهما من مشاعر الود والدفء. كان ذلك أقرب الى حب شكسبيري في زمان الذرة. كانا أشبه بفارس ومحبوبته قد جاءا من القرون الوسطى. شعر بالتغيير في داخله، وكأن قلبه قد بعث من جديد، نابضا بالحب والتغيير... مؤمنا بقوته... كفرد...

انضم أيضا الى صفوف الحزب الذي كانت جفرا تنتمي اليه. وسرعان ما أصبح لرأيه وزن ثقيل في اتخاذ القرارات الحاسمة، وصار مرجعا يعود اليه الجميع. راق له وضعه هذا. كان يعيش بسعادة في أندلسه الذي ظنه قبل فترة وجيزة غير موجود أصلا...

وفي أحد الأيام، نظم الطلبة مظاهرة لشجب الممارسات القمعية والاستفزازية وكتم الحريات. حيث كان قد قُتل قبل أيام صحفي وهو يغطي الأحداث برصاص القوات المحتلة... اقترح ناجي القيام بمظاهرة صامتة وكتم أفواه المتظاهرين بورق لاصق تعبيرا عن الوضع القائم... وهكذا كان. حمل المتظاهرون الشعارات بصمت... دون كلام... وكان هو في مقدمة المتظاهرين، برفقة جفرا...لكن يبدو أن الصمت بعنفه قد أزعج بعض الجهات فبعثت بطغمتها لعرقلة المظاهرة. شرعوا يضايقون المتظاهرين بهتافات استفزازية وتعابير وقحة ولم يعرهم أحد اهتماما فزاد حنقهم. فجأة، دون سابق انذار، جذب أحدهم ذراع جفرا بقوة وأخرج من جيبه بطاقة عامل في وزارة الأمن، وبدأ يكبل يديها وهي تقاوم. حينها تمكنت من حل اللاصقة من فمها ثم بصقت عليه. هنا احتدم الموقف، وانهال الآخرون عليها ضربا بعصيهم. في تلك اللحظة فقط انتبه ناجي للأمر وضج المتظاهرون... ولم يفكر بتاتا، بل أمسك بحجر وهم بضرب طغمة المستفزين به... لكن ما أن تقدم خطوة حتى تدافعوا عليه، فأصر على التقدم نحو جفرا، وعندما أمسك بأحدهم كانت له بالمرصاد. رصاصة اخترقت قفصه الصدري، وشقت طريقها الى قلبه... رصاصة جاءت من الخلف... لكنه أبى النظر الى الخلف لمعرفة الغادر... أراد أن يموت بحسن الأمل برفاقه... كلهم... فأن يشك بالجميع خير له من أن يمقت أحدهم... اهتز جسده بعنف... نظر الى جفرا وحشرج محاولا الغناء: صامدون، صامدونَ صامدون... فقد كان يغنيها لها أحيانا... لكن صوته خانه هذه المرة... خارت قواه، فهوى... وتخضبت بدمه أدراج الحرم الجامعي المتسخة... على الأقل سقط كما أحب... ثائرا... كما لم يكن في حياته... ثائرا من أجل جفرا... وبقيت جفرا...


المراجع

diwanalarab.com

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة   العلوم الاجتماعية