دخل الفيللا ضابط جَوِّيٌّ طويل
القامة، عريض المنكبين، بعد أن استأذن له البواب، وخرج (آرام) يستقبله.
-
أهلاً وسهلاً.. شرفتم مصر، ونوِّرَتْ مصرُ بكم، أنا (لطفي حبيب)، ضابط طيار،
كلَّفَني وزيرُ الدفاع إبلاغكم تحياته وشكره لِمَا قَدَّمتُمُوه للثورة الجزائرية.
-
بُوركتم أيها المصريون، وقد غمرني كرمُكم، وبهرني جمالُ مصركم، تفضَّل.. أهلاً بك
في بيتك.
جلس ( لطفي حبيب) على أريكة فاخرة في
صالة البيت التي تَنافَسَ فيها الأثاثُ الجديدُ مع القديم، أرائك وطنافس لم يَـرَ
مِثلَها في حياته قط، ثم عاد (آرام) بصينية القهوة، فَهَبَّ (لطفي) واقفاً:
-
أستغفر الله.. بيدك صنعتَ القهوة، وعذَّبتَ نفسَك ؟!
-
عذابُكم راحة يا سيدي الجنرال.
-
طالع خير.. لم أَصِلْ بعدُ إلى رُتبة الجنرال.
-
سَتَصِلُها قريباً إن شاء الله.
-
هذه قهوة طيبة، لم أَذُقْ مثلَها.
-
إنها قهوتُنا التركية، والرجل يتفوَّقُ على المرأة حتى في الطبخ. (يضحكان).
-
وزير الدفاع يُبلِغُكَ السلامَ، ويسألُ عن نوع الأسلحة التي تستطيعُ تَزوِيدَنا بها.
-
خِبرَتي في قِطَعِ الطائرات، مثل أجهزة الإرسال، وسائر الإلكترونيات في الطائرة،
وهذه القطع متوفرة في الهند وباكستان، كما تتوفَّرُ في أوربـا.
حَدَّدَ وزيرُ الدفاع قائمةَ القطع
الصغيرة المطلوبة لإصلاح عِدَّة طائرات جاثمة على سطح الأرض منذ عدَّة شهور، تَقِفُ
الطائراتُ من أجل قِطَعٍ صغيرة، وَحَمَلَ (لطفي) القائمةَ إلى (آرام).
-
لَقَدْ سُرَّ وزيرُ الدفاع أيَّما سرور، وقال: هذا ما نحتاجه بالضبط، وقد
بَعَثَتْكَ العِنايَةُ الإلهية إلينا.
وتابع (لطفي حبيب):
-
هل تعلمُ أن عندنا عدداً من الطائرات معطَّلَة عن الخدمة بسبب هذه القطع الصغيرة؟!
-
هل معك أسماء هذه القطع ؟
-
نعم، هذه قائمة من الوزير أَعَدَّها مكتبُ الشؤون الفنية، بأسماء وأرقام وموديلات
القطع المطلوبة.
* * *
سافر (آرام) في أول مهمة خارجَ مصر،
ليبذل رجالُ الموساد جهدَهم في تأمين القطع المطلوبة، وبعد أيام قليلة عاد (آرام)
بالقطع كلِّها، وَفَورَ وُصُوله اتَّصَلَ هاتفياً بوزير الدفاع.
-
سيدي الوزير، أنا (آرام)، عدتُ الآن من السفر، وقد وُفِّقتُ في شراء الحاجات
المطلوبة كلها، وأعتذرُ عن تأخُّري.
-
أَحضرْتَ الأغراضَ كُلَّها ؟!
-
نعم.. كلَّها.
-
شكراً لك يا (آرام)، (لطفي ) في طريقه إليك .
في طريقه إلى (آرام) كان (لطفي) مسروراً للغاية، بسبب سرور وزير الدفاع الذي
أَكَّدَ عليه أن يَهتَمَّ بهذه التُّحفَةِ النادرة المُسَمَّاة (آرام)، والتي
ساقتها العنايةُ الربانية لمصر عامة، وللسلاح الجَوِّي خاصة، وأصبحت أحلام (لطفي)
تقترب من الواقع إذا مَتَّنَ صِلَتَهُ بآرام أكثر.
-
لا تتصوَّر كَمْ هو فَرَحُ وزير الدفاع، يقول عنك إنك تحفة نادرة.
-
لَمْ أَقُمْ إلاَّ بِبَعضِ واجبي، أَلَسْتُ مُسلماً مِثلَكُمْ، وقد فرضَ الله علينا
قِتالَ اليهود؟
-
الحقيقة أن سعادة الوزير يَحلُمُ بتطوير السلاح الجوّي بِمُساعَدَتك.
-
أنا جُندِيٌّ مُطيع، يا سيدي الجنرال .
-
أرجوك، أنا (لطفي) فقط، ألا تقبلُني صديقاً لك أو أخاً ؟
-
أنتَ أخي الكبير، وأنا رَهْنُ إشارتك، لكنْ قُلْ لي، هل تَعرفُ (شحاتة عبد العظيم)؟
-
نعم، ابن دُفعَتي بالكُلِّية، وَعَمِلْنا معاً في أكثر من قاعدة ونحن ضباطٌ صِغار.
-
ما رأيك به ؟
-
لا يعجبني، مِثالي، غير واقعي، مغرورٌ أحياناً، وقد كنتُ معه على طَرَفَيْ نقيض.
-
هل تَعرف سُلُوكَهُ الشخصي ؟
-
سلوكُهُ عادي، وَرُبَّما أقربُ إلى المُحافَظَة.
-
كيف ؟
-
يَعني، يشرب في المناسبات، وربما تكونُ له صديقةٌ واحدة فقط، والحقيقة لا يُعجبُني
هذا الأسلوب، فنحن كضباط كبار تَركُضُ وراءنا الفاتناتُ، وحسب فلسفتي في الحياة،
يجبُ أن لا نَصُدَّ عَنهُنَّ، وأن لا نُؤَجِّلَ لَذَّةَ اليومِ إلى الغد، أنا عندي
عشرات الخليلات من نجوم الفَنِّ والسينما والرقص والأدب... إلخ، يصادف أحياناً أن
أشرب كلَّ ليلة، لم لا وكل هذا متوفِّر لنا بسهولة ؟
-
إذن هذا هو رأيك في الحياة ؟
-
وإني أعتقد أنَّ المُقاتِلَ ضابطاً كان أو جندياً يجب أن يعيشَ الحياةَ السعيدة في
وطنه، وأن ينعمَ باللَّذات كلِّها، حتى يُقاتِلَ عن وطنه عندما يُدَاهِمُهُ
العَدُوُّ، لأنه يُدافِعُ عن لَذَّاته الخاصة بـه، لذلك اقتَرَحْتُ عِدَّةَ مَرَّات
على سِيادَةِ وزير الدفاع أن نُرَفِّـهَ العَسكَرِيين، وأنْ نَجعلَ منهم طبقةً
مُدَلَّلة.
-
لكن ما هي النَّظْرَةُ المُخالِفَةُ لك ؟
-
بعضُهُمْ ما زال مُتَمَسِّكاً بِقُشور الماضي كالدِّين والعادات، وكأنه لم ير أوربا
سَبَقَتْنا عندما تَخَلَّتْ عن الدِّين، وعندكم في تركيا لو لم يَقُمْ (مصطفى كمال
باشا) لَكُنتمْ أكثرَ تَخَلُّفاً من العـرب.
-
لقدْ سَرَقَنا الحديثُ يا عزيزي (لطفي)، أمَّا أنا فَأَرَى أن تُرَكِّزَ اهتِمامَكَ
في رِجالِ السلاح الجَوِّي لأنهم الضَّربـةُ الأُولَى في أَيِّ معركة.
-
نعم، السلاح الجوي هو الأَهَمُّ ولذلك اخترتُـهُ .
-
والطيارون هم زَهْرَةُ الأُمَّة، ونُسُورُها البَواسِل، وهم أَحَقُّ الناس بالحياة
.
-
آه.. يا عزيزي (آرام) لو كُنتُ قائداً للسلاح الجوي لَجَعَلْتُ الطيارين مُلوكَ
زَمانِنا، وجعلتُ لهم إماءً وخَدَماً.
-
إماء .. مِنْ أين ؟!
ضحك (لطفي) وقال :
-
ثلاثة أرباع نساء اليوم إماء وجواري، يجب الاستفادةُ مِنهُنَّ قبل أنْ يَذْبَلْن.
-
فَلسَفَةٌ رائعة لم أَسمعْها مِنْ قَبل، المُهِمُّ أَنْ تَصِلَ هذه القطعُ إلى
مَواقِعِها بِسُرعة، هذه (المانفستاتُ ) وهي موجودةٌ في المطار باسم وزارة الدفاع.
جلس (آرام) بعد ذهاب (لطفي ) وقد
استَبَدَّتْ به فِكرةُ استبدال شحاتة بلطفي، فَقَدْ خَطَّطَ لِجَلْبِ (شحاتة) من
باريز وتنصيبه قائداً لِسِلاح الجَوّ، وهو يعتقد الآن أن (لطفي) هو الأفضل، لذلك
أوعَزَ إلى (سوزي) أن تُهمِلَ (شحاتة) بالتدريج.
عندما اتصل (لطفي) بوزير الدفاع يعلمه
أن الطائرات المُعَطَّلَة قد أُصلِحَت الآن، وهي الآن تقوم بالتدريب التعبوي، زاد
سروره وقرّر دعوةَ (آرام) إلى حفلة العشاء التي تُقِيمُها الوزارة في فندق شيراتون
بمناسبة الاحتفال بأعياد ثورة 23 تموز (يوليو) 1952م التي استطاع فيها (جمال عبد
الناصر) أن يتخلَّص من عهوده للإخوان المسلمين الذين شاركوا في الثورة، بل كانوا
الرفـد السياسي لها ، حتى أن بيت سيد قطب في حلوان يرحمه الله ؛ كان ملتقى الضباط
الأحرار ، كما تؤكد ذلك الصور التي حفظها لنا التاريخ ، بل وتمكَّن من توجيه
التُّهَمِ إليهم بأنهم أعداء للثورة وحُلَفاء للإقطاع، وأعدم سبعةً من قادتهم
وزَجَّ الآلاف منهم في السجون، بما عُرِفَ بمحنة 1954م، عندما بدأت بالتمثيلية في
الإسكندرية، إذ قامت المخابرات الناصرية بإطلاق النار، واتُّهِمَ الإخوانُ بذلك،
عندما أعلن الرئيسُ اتهامه لهم وهو على المنصَّة يُكمِلُ خِطابَهُ، وبدأت
الاعتقالات ثم المحاكمات العسكرية فإعدام سبعة من خيرة الرجال الذين دَوَّخُوا
اليهودَ في حرب 1948م، منهم: يوسف طلعت، والشيخ فرغلي، وعبد القادر عودة، وإخوانهم
رحمهم الله تعالى جميعاً.
لأجل هذه المكاسب الناصرية كانت
احتفالات العام 1955م عامرةً بالغناء والرقص والشراب في ليلة متخمة بالفسق والمجون،
ومن هذه الاحتفالات حفلة العشاء في شيراتون التي أقامتها وزارة الدفاع على شرف
السيد (آرام نوير) الذي ناداه وزير الدفاع وهو يحتضنه : الأخ العزيز (آرام).
وفي هذه الحفلة تمكَّن (آرام) من
التَّعَرُّف على كبار المسئولين والضباط ما عدا القمة التي لم يَحِنْ وَقتُها بعد،
وظَلَّ (آرام) يُقَدِّمُ (لطفي حبيب) لِكِبار الضباط والمسئولين.
* * *
سافر (آرام) أكثر من مرة، وأُصلحت نيف
وثلاثون طائرة حربية تُشَكِّلُ أكثرَ من نصف السلاح الجَوِّي المصري، وزادت طلعات
الطائرات الحربية في سماء مصر، وصار الناسُ يكيلون المدح والإطراء للثورة وقادتها
الذين يُناضِلُون من أجل بناء جيشٍ قَوِيٍّ يُعيدُ للعرب عِزَّتَهُم وكرامتهم،
وَتَرَدَّدَ اسمُ (آرام نوير) على ألسنة الضباط والكبار والمسئولين كرجل مُخَلِّص
ساقته العناية الإلهية إلى مصر، لِيَعمَلَ على بناء ودعم سلاحها الجوي.