*****
حدثني صديقي مأمون في معرض تبريره لما حصل ، فقال :
أنه أحبها من كل قلبه ، و ربط مستقبله بحبها ،
و أنها أحبته من كل قلبها و ربطت مستقبلها بحبه ،
لم يتخيلا يوما أن أمرا مهما عظم ، قادر على أن يفرق بينهما ..
عندما كان يشتاق إليها ، كان يحوم حول منزلها إلى أن تظهر على شرفته ،
و بلغة الإشارات كانا يتواعدان للقاء في حديقة الحي المجاور العامة ؛ حيث التقيا أول مرة ...
ليتبادلا لواعج الهوى ... و يرسما خطوط مستقبلهما معا ....

*****
قصتهما حتى اللحظة ليس فيها جديد ...
آلاف الأحبة يتبادلون لواعج الهوى كل يوم منذ الأزل و حتى الأزل ؛
قصتهما بدأت منذ انقطاعها عن لقائه ؟!
شغل باله انقطاعها ...
أقلقه ...
ثم ...
أخذ يؤرَِّق منامه و يمضَّ كيانه ...
ظنها مريضة ،
و ظن أن أحدا ربما شاهدهما في الحديقة معا فأبلغ أهلها ،
و ظن .. و ظن.. و ظن ..
كان يحوم حول منزلها كالمختل عقليا ، ثم يعود ليحوم حول منزلها من جديد ،
و عيناه شاخصتان نحو شرفتها ، و كذلك قلبه و جميع جوارحه ..
كاد يفقد سيطرته على نفسه مرارا ،
ففكر تكرارا أن يصعد إليها ،
أن يقرع بابها ..
أن يسأل عنها..
و لكن بأية صفة ؟ كان يتساءل ، بينما كان يتجرع آلام الفراق و الأفكار السوداء..
ثم ....
و في يوم ثالث أو رابع ، تقدمت منه طفلة ؛ فسألته : " حضرتك مأمون ؟ "
و إذ تأكدت ناولته وريقة ، كتبت عليها بأناملها العاجية سطرا واحدا كاد يذهب بعقله و اتزانه :

*****
اشتعلت نار الغيرة في رأسه ،
و نار الخيبة و المرارة واليأس ،
و نار النخوة أيضا ..
شعر أنه مستعد ليقاتل الدنيا ليدفع عنها شر ( القتلات ) ما بارد منها و ما سخن ..
و لكن بأية صفة ؟!
لم يجرؤ على مفاتحة أهله حول طلب يدها ، إذ لازل طالبا في الثانوية العامة ، و بينه و بين تكوين نفسه بضع سنوات أخرى ..
و رويدا رويدا بدأ يرضخ للأمر الواقع ،
ثم ....
ذات يوم دُعي إلى حفل زواج عمه الكبير ...
و هناك كانت المفاجأة الصاعقة ....
كانت حبيبته ( ميادة ) بشحمها و لحمها ، هي عروس عمه !!!!
كاد يصرخ : ..
كاد ينهض فيختطفها من بين يديه ...
و لكنه آثر الإنسحاب كسير الخاطر ..
فالرجل عمّه الكبير الذي يحبه و يجله ..
فكف عن أفكاره الحمقاء ،
ثم .....
تسلل من بين الجموع و عاد إلى داره خائبا و قد اسودت الدنيا في عينيه ...
لمحته و هو ينصرف ،
فاشتعل وجهها فجأة ، و اغرورقت عيناها .
*****
و مضت الأيام و بدأ مأمون يسلو قليلا ..
واجباته المدرسية ألهته ...
بل كان يسعى إلى واجبات إضافية طوعية ، كي يزداد غرقا في السلوان ..
لولا ان والدته – سامحها الله – أرسلته ، ليدعو ميادة إلى عيد ميلاد شقيقته الصغرى ..
تمنع بداية ، إلا أن حججه كانت واهية ، فاصرت والدته ، و لم يهن عليهَ إغضابها ..
*****
- مأمون ؟!!
همست ، و قد عقدت الدهشة لسانها ...
و عقدت رؤيتها لسانه ،
كان وجهها يطفح نورا ...
كانت عيناها تشتعل ودا و حبا ...
فاحتار كيف يبدأ ..
قالها في سره ..
و كأنها فهمت الرسالة بالايحاء فأجابت هامسة ، و لكن إلى ذاتها أيضا : ..
أسرت إلى ذاتها ،
ثم ....
أضافت بسرها كذلك :
ثم .....
اضافت جهارا بنبرة مرتعشة :
- أنا آسفة .. يا مأمون .. لن أتمكن... من... دعوتك للدخول ...
يطرق رأسه ...
يمنع – بعد لأي – دمعة أرادت نقل مشاعره ..
يعجز عن الإجابة ، فيكتفي بهز رأسه علامة إداركه ما عنته ؛
ظلت تنظر إلى عينيه طويلا ..
و استمر يحدج عينيها طويلا ....
ثم نطق متلجلجا :
- أمي أرسلتني أدعوك ..
و لكنه قطع العبارة ليفاجئها بسؤاله :
- هل أنت سعيدة ؟
أطرقت برأسها ..
صمتت فترة ليست بقصيرة ..
ثم رفعت رأسها و قد ابتلت وجنتاها ، ثم أجابت :
- أنت تعلم أنني كنت مرغمة ...

همست ذاتها لذاتها ،
ثم ....
أضافت ساخرة :

ثم .....
أضافت بصوت هامس و لكنه مسموع :
- لا ، لست سعيدة ، أنت تعلم أنه يكبرني بربع قرن على الأقل ..هو بالضبط هو من جيل والدي ...
و قد ألغى لغة العواطف من قاموسه ...
و بالنسبة إليه لست أكثر من خادمة في منزله أو ممرضة تراعي أوقات أدوائه ، للسكري و الضغط و الروماتيزم ...
و لكنه إنسان لطيف و كريم ، و دماثة خلقه تمنعني من التذمر أو الشكوى ..
أطرقت قليلا برأسها ثم أضافت :
- و ليس لي أي أمل بالانجاب منه ...
لم تسعفه فصاحته أن يعزيها بكلمة ،
لم يتمكن من التعبير عن حزنه الشديد إلا بعبارة :
ثم .....
و على حين غرة ، طرحت عليه سؤالا محيرا :
- إذا طلبت منه الطلاق ، هل أنت على استعداد للزواج مني ؟؟ ! أو بالأحرى هل لا زلت على حبك مقيماً ؟
أربكته – حقيقةً – بسؤالها المفاجئ الجريء هذا ، فتلعثم كثيرا قبل أن يجيبها :
- إنه عمي يا ميادة ، عمي الذي أحب و أجل ، فلا أقوى على إيذائه و الإساءة إليه ..
فأجابته بكل جدية و واقعية :
- ماذا يضيره إذا تزوجتني بعد طلاقي منه ؟؟
ثم أضافت هامسة و قد أطرقت برأسها خجلا :
- و لعلمك فأنا لا زلت عذراء !!..
*****
ثم .....
أضاف صديقي مأمون :
أنه غادرها وهو مثقل بهم جديد ..
و اضطراب جديد ..
و حيرة جديدة ..
إلا أنه لم يحاول مقابلتها ثانية ..
*****
و بعد بضعة شهور أخرى ، علم أن الطلاق قد تم ..
و أن عمه كان متفهما و تعامل مع الموضوع في غاية الرقي ..
مما شجع صديقي مأمون على مصارحته !
فكان وسيطه لتدبير مصدر رزق جيد يسمح له بزواجه و استمرار دراسته ..
ثم ......
كان بنفسه وسيطه لدى والديه و اقناعهما بزواجه من ميادة..
ثم ........
نأى عنهما ...
ثم .....
اختتم صديقي مأمون كلامه قائلا :
- تلك كانت قصتي ، مع ميادة و عمي و أنا ، و كما ترى لم أسرقها منه ... و لم يكن في الأمر أية خيانة كما يشاع ....
*****
=============
* قتلة ساخنة أو علقة : عقاب بدني شديد
=============
* نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب
عضو إتحاد كتاب الأنترنيت العرب
الموقع : www.FreeArabi.com

المراجع

pulpit.alwatanvoice.com

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة   العلوم الاجتماعية