في ذلك المنظر الساحر، والشمس تطبع قبلات الحنان على دجلة، وعيون الأشجار ترقب دجلة بحب وحسد، كانت دجلة تستمر في جريها كالأميرة لا تأبه بأحد، فريح الصبا تلاحقها، ويلعبان معًا... الأرض تناجي السماء، وكل شيء متناسق مع بعضه ببديع صنعٍ رباني، ها هي المآذن الشامخة في سماء مدينة السلام، تقف بشموخ قدسي متطاول، ترفع الأذان بأعلى صوتها دون أي خوف، ها هي بغداد تلمع تحت نور الشمس، وتهدأ وتتمايل في ظلام القمر، لتلقي بنفسها في فراش الليل، لتنام بعذرية بريئة.


وفجأة، صحت دجلة الفتاة السعيدة على صوت الموت ينادي فيها، صحت بغداد البريئة لا تلوي على شيء، ومضت تسائل نفسها: ماذا جرى؟ ماذا حصل؟!


وبدأت يد الإرهاب التتري تصفعها بعنف وقسوة، لا شك فهي لا تعرف بغداد ولا رقة بغداد، لا تعرف من هي مدينة السلام، وماذا تعني لها طفلتها المدللة دجلة، وبينما هم كذلك، أتى رجل مغولي ليستريح بجانب دجلة، فإذا بها تثور وتمور بحقد، وهل ترضى الأبية الطاهرة بأن يستريح بجانبها من جعل زرقتها الصافية سوادًا بسواد الصحف، وجعلها تنام وتستيقظ على الحلم المخيف نفسه، وحطم أملها وسلامها وسعادتها؟


اضطربت دجلة وتصارعت، وتمنت أن تئد ذلك المغولي في جوفها فلم تستطع، فقالت له دجلة: وماذا تريد أيضًا؟ وتريد أن تستريح، والله لو كنت أملك قتلك لقتلتك ألف مرة، فوجئ ذلك المغولي بالهجوم الكاسح المفاجئ الذي خرج من أتون فؤاد دجلة، فقال بنبرة الحاقد المغولي: وماذا هناك؟ ولِمَ هذا الهجوم الكاسح؟ ماذا جرى؟


- دجلة: ماذا جرى؟! أوَلَمْ تسل مني الدموع وبت أمشي قهقرى؟ أولم تعذبني وقومك؟ أولم تئد علم بغداد في جوفي وتحولني إلى سواد قاتم؟ أولم تشرد، أولم تعذب، أولم تضطهد؟ أولم تُخِف أسراب طيري، وتجعلها تهرب دون وداعي؟ أولم...


رد المغولي بعد تنهيدة طويلة، وقد بدأ أغنيته القذرة التي يرددها هو وقومه، ويتشدق بفمٍ يملؤه الباطل:

- المغولي: وماذا هناك؟ أنتِ لم تري شيئًا بعدُ، إن ما فعلناه شيء يسير بالنسبة لمخططاتنا أيتها الصغيرة، إن هذه المدن والقرى، (فيها ظلمٌ كبير، وشعوبٌ جائعة، وأُناسٌ) غفلوا عن مفهوم الإسلام بعدالته ووحدته في المساواة والحق، ولذلك فإن الله قد سلطنا عليهم لننتقم منهم، وإننا آية الله ( عليهم).

ردت دجلة الفتاة الواثقة، والتي ثارت من شدة الغضب.


- دجلة: أيها المتنطعون باسم العدالة، أفلا تعرفون أن هناك عدالة كبرى عند إله لا تضيع الأعمال عنده؛ بل هي مكتوبة مدونة، أحرقتم أمي بغداد، ومضيت لتخربوا هراة وسمرقند وبلخ وخوارزم بجيوش جرارة، ثم تقول لي: إنكم قادمون للعدالة والإنسانية؟!

لم يرد المغولي؛ بل أخذ يمشي بلا مبالاة.


وبرغم ذلك، برغم القهر والتشريد والتتر، برغم الطغيان، عادت بغداد شامخة أبية، وعادت دجلة الرائعة لتثبت للعالم أجمع أن الإسلام باقٍ إلى يوم القيامة، وعادت مهدًا للحضارة والإنسانية بعد أن أخمدها العدو وبذل قصارى جهده في ترميم أي أثر للحضارة، حتى إنه من حقده أغرق آثارها في دجلة لتذهب بلا نهاية.


كان هذا كفيلم دار في ذاكرة دجلة وبغداد بعد أن استلقى بجانبها جندي أمريكي، وهمت دجلة لتعيد الفيلم نفسه، فهو نفسه نفسه، ها هي الدولة الأولى في العالم تتشدق بالديمقراطية، وتزعم أنها تريد تحرير الشعوب والإنسان، وها هو التاريخ يعيد نفسه، وها هي بغداد تشهد على حوادث الزمان وإعادة الأقدار نفسها، الموقف نفسه، هيا يا فتاتي اليافعة، افعلي ما فعلت من قبل.


- دجلة: وما تريد أنت أيضًا أيها الخاسر، أتعلم؟ أراهن على أنك خاسر من الآن، فقد رأيت من براهين قدرة ربي ما يجعلني أشعر بحق اليقين {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [سورة الأنبياء: 97].


- الجندي: وقد وضع قناعًا يعتقده جميلاً وسيخدع به دجلة: ماذا؟ نحن، نحن الذين سمونا فوق أرواح العالم لنعيد للإنسان حريته وطهارته، نحن (حاربنا في هذه المعركة في سبيل الحرية وسلام العالم؛ لنحرركم من نظام خطير عدواني).


- دجلة: أيها الغبي، أقول لك أولاً: اخلع قناعك وأرني مخالبك الحادة القذرة، اخلع ذاك الجلد الناعم، وأرني داخلك المسعور المشؤوم، هل تراني سأخدع بك؟! لقد ذكرتني أدخنة أمس بسوادي قبل مئات السنين.


- الجندي: أدخنة أمس! ما بها؟!


- دجلة: أعرف أنك تعرف الحقيقة القذرة في داخلك، لكنني سوف أخبرك:

منذ مئات السنين لطخ مائي بالحبر والآثار القديمة؛ كي يخمدوا حضارة أمي بغداد، كي يمحو اسم العراق، اسم أعظم دولة إسلامية في ذاك الوجود، وهأنتم اليوم قد أحرقتم متاحف بغداد، وبذلتم قصارى جهدكم كي تحرقوا الكتب والآثار والعلوم، تحرقونها بنار ترونها أمامكم، ونار تشتعل في صدوركم حقدًا وغيظًا.


- الجندي: إنك تظلميننا كثيرًا أيتها الفتاة، فما نحن إلا طيور للسلام تحلق في سمائكم، ثم لو كان الحق معكم لما هزمتم.


- دجلة: لا أيها العبقري، ليس النصر أمرًا لازمًا للمؤمنين {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [سورة آل عمران: 140]، ثم إنكم قبل أن تسقطوا بغداد سقطتم ألف مرة وألف كرة في محاكمكم وأمام العالم أجمع، في تبريراتكم السخيفة التي فُضحتم وأنت تحاولون تزيينها وتحقيقها، انتصرت بغداد عليكم بسواعد رجالها وأطفالها، انتصرت لأنها سقطت وهي تحارب حتى آخر قطرة من دم أبنائها، أما أنتم، فقد انتصرتم بالدبابة والرشاش والتطور والمدافع.


- الجندي: لكن المهم هو الفائز في النهاية.


- دجلة: ومن قال إنكم انتصرتم أو فزتم؟ ألمْ ألقبك من البداية بالخاسر، أفلا تسألني لِمَ؟


- الجندي: ولِمَ؟!


- دجلة: ها هي بلادكم على حافة الإفلاس، ها هي بلادكم تعلن أنها لم تنتصر وقد بذلت من الأموال ما لم تبذله في حياتها، وقد خسرت خسارة كبيرة، ها هي بلادكم تبحث عن عذر كي تنسحب انسحابًا عسكريًّا كاملاً بهدوء، ها هي خسائركم التي فضحت أمام العالم أجمع واضحة جلية، ها هم فلاسفة الغرب يعلنون أن حضارتكم المزيفة قد آلت إلى الانتهاء.


- الجندي: كلا، ولن يستطيع أحد أن يدمرنا، نحن برغم كل ذلك، أقوى دولة في العالم.


- دجلة: لكنكم وكما قالت عنكم هيئاتكم وأبحاثكم: أمة على حافة الخطر، إن الله عز وجل يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ فإن أخذه أليم شديد، والله لكأني أرى مصارعكم كما رأيت مصارع التتار، ويبقى الله متمًّا نورَه ولو كره الكافرون، صدقني أيها الجندي، إن أقنعتكم قد باتت حاضرة للعيان، صدقني إن أكذوباتكم التي تكلمتم بها قد فضحت وانتشرت، صدقني إن الصبح يغِيرُ فجأة، مهما حولتم السواد إلى غياهب أكثر وأكثر، ومهما ازددتم في ظلمكم وإفسادكم، صدقني سيجيء اليوم الذي ستستسلمون فيه وترفعون أيديكم خائرين، بعد أن تعبتم كثيرًا في حربكم الشعواء على الإسلام الدين الباقي إلى يوم القيامة، لكن هذا لن يحصل إلا برجوع أفراد أمتنا العزيزة إلى رشدهم، وتوسيع نطاق اهتماماتهم لتصل إلى حرقة لنصر الإسلام، إلا إن التزموا بشرع الله الذي شرعه لهم.


.. كانت كلمات دجلة تدوي قنابل في أذن الجندي، وإذا به يستسلم ويرفع الراية البيضاء، ويذهب كالمجنون، ليخبر أصحابه بتباشير النصر القادم للأعداء، ليخبرهم بخرافتهم وخرافة نصرهم، ليخبرهم بخديعة التطور، مضى الجندي يهرب، يهرب، ليفر من عيون دجلة التي تمتلأ حقًّا ونورًا وقوة، ويغض طرفه الذي يحوي كل ذل وصغار وخيبة وخديعة في هذا العالم.


- دجلة: اليوم، ها قد صار الشهداء مليون شهيد، لا أدري هل ستتوقف عاجلاً أم آجلاً؟ قالتها وفي صوتها شيء من الحزن والرغبة في البكاء، وإذا ببغداد وسامراء من خلفها يرددون، ومضت العراق من خلفها تردد: منصورون بإذن الله، منصورون.


ملاحظـة: (العبارات التي بين الأقواس عبارات حقيقية، قالها الأشخاص الذين أتحدث عنهم، ومن مصادر موثوقة).



المراجع

alukah.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة   العلوم الاجتماعية