كانت بوران تستمع إلى أغنية قديمة لأم كلثوم التي تقول فيها "ليه تلوعني وأنت
نور عيني", وكانت تتحسس برفق تكور زهرة (حلق المحبوب) في أرض الديار وتقول
سبحان الذي صورك, ثم تسير متمهلة نحو الدهليز المعتم, نحو طقسها اليومي. فتحت
باب الدهليز الخشبي العريض العالي المتآكل, فباغتتها رطوبة ألِفتْ رائحتها التي
يغلب عليها ما يدخل من باب الزقاق من روائح الطريق الثابتة والعابرة, والمحلات
المجاورة للبيت, بدءاً من محل أبو عيد الحمصاني, وشاكر بائع العرقسوس, ومحل
(إيمع عرب), لصاحبه سمير عبد الكريم, المواجه لباب بيت بوران. تقدمت بوران من
باب الزقاق, فتحته بمقدار شق يكاد لا يبين منه نور النهار مثل حد السيف. دست
عينها عبر الشق فبدى لها الطريق كاملا بناسه وضوضائه ورائحته وتكراره. قالت
بوران في سرها "تأخر سمير اليوم؟" ودمدمت مغنية وسمير مطبوع في خيالها "ليه
تلوعني وأنت نور عيني.." وكانت عينُها هناك, في مكان جلوسه خلف زجاج محل (الإيمع),
وراء طاولة عليها ميزان وفواتير وأشياء أخرى حفظتها لدوام استقرار عينها هناك.
تعرف أن صحن السجائر قد امتلأ الآن.. بل أكثر من ذلك تعرف حتى عدد السجائر التي
دخنها أمسية أمس وهي تتفحصه عبر الشق الذي كان مظلما. لم يأت سمير بعد.. وتعود
بعينها العسلية إلى مكان سمير الذي ما يزال خاليا.. ويأتيها من داخل محله صوت
دق الإيمع بالمضرب, وما أن تأخذ شهيقا عميقا, عمق لهفتها وانتظارها, حتى قطعته
هامسة:
"
ليكو سمير.. إجا يقبر قلبي"
رأته من ظهره, مرتديا قميصه السماوي الغامق, ورأت السيجارة بين إصبعيه وتمنت لو
كانت هي سيجارته, أو حتى دخانها المتخلل ذراعه اليمنى وكتفه ورقبته وطرف وجهه
الأسمر. "لو يلتفت الضرسان لأرى وجهه".. وجالت عينُها بذراعه بخطوط عضلاتها
الناتئة. رأته وهو يدخل محله.. "اسم الله حارسه يدخل برجله اليمين على الأصول..
" بزق قرب محله وسمعته ينادي:
"سيفو.."
"حاضر
معلم.."
"جيب
السطل ورش مي أمام المحل.. أوام"
وتقول بوران: "يقبرني وهو يأمر.. سيد الرجال والله.."
وعندما بدا لها الأستاذ فكري, المُدرس بابتدائية الوليد بن عبد الملك, يسرع
خطاه نحو محل سمير أدركت لتوها أنه سيشغل سمير بشكل أو بآخر.. وها هو حدسها
يصدق فيما هو يقول لسمير متلهفا:
"أفتح
الراديو على صوت العرب, عبد الناصر عم يخطب."
وباغت صوت عبد الناصر أرجاء المكان:
"وأنا
قلت لكم كتير أنو بتنتكس المباديء, وبتنتكس الثورات, وبتنتكس الإنتفاضات,
وبتنتكس حركات التحرير, ولكن الشعوب الحية لا يمكن أن تموت, وشعوبنا شعوب حية..
الشعب العربي شعب حي لا يمكن أن يموت بحال من الأحوال. أيها الإخوة
المواطنون............"
أغلقت بوران الباب باستياء وخيبة, فقد اشتد الزحام أمام محل سمير وأصبح من
المتعذر عليها أن تراه..
"يعني
كان لازم يخطب عبد الناصر.."
ولكن لم يكن من المتعذر عليها أن تداري استياءها وتجد سلوانها. فغنت, ووقفت
قليلا أمام المرآة, وشطفت أرض الديار, ووضعت القنبز في قفص الحسون وغيرت الماء,
وغسلت الأبيض والملون, وحملت طشت الغسيل إلى السطح ونشرت الغسيل بعدما مسحت
الحبال بخرقة مبلله, وسَرَحَتْ قليلا في فضاء دمشق المغمورة بشمس الضحى
والوعود, ثم دخلت مطبخها الرطب وطبخت بامية بالكزبرة التي يحبها أخوها أمجد,
وأعدت شوربة خضار بدون ملح لأمها الباركة. ثم عند العصاري جلت الأواني والصحون,
وعندما بدأ انعكاس الشمس يبسط ظلال الأشياء على أرض الديار سقت أصص الزرع
والياسمينة وشجرة الكباد, وساعدت أمها على إقعادها فوق الكرسي ذي الفتحة في
منتصفه لتخرج, وغسَّلتْ لها, ونشفت أجزاء من بدنها, وعطرتها, وغيرت لها ملابسها
الداخلية, وأعدت لها صحن "الماسية", وشربت معها ومع أخيها فنجان قهوة. وكانت
عيناها تقولان له بعد كل رشفة فنجان "ليتني.. أجرؤ على أن أقول لك اللي
بقلبي..". وخرج أخوها مع شلة الأنس التي تسميهم "أولاد آدو", وهي تعلم أنه لن
يعود لوجه الصبح.
ومع حلول الظلام والصمت, وبعد أن قضت وقتا طويلا مع أمها تحكي لها عن الطريق
والناس في الحارة, وتسمع منها شكواها, عادت إلى الدهليز, إلى طقسها, وفتحت
الباب ليدخل نور الحارة الباهت عبر شق الباب.
باقي من الزمن نصف ساعة, ثم يغلق سمير محله. نصف ساعة تلصص بالنسبة لبوران أجمل
ما في يومها.. أجمل حتى من تلصصها وقت الصباح المزحوم بالسابلة والضوضاء. في
الليل, تصبح المسافة بينها وبين سمير قريبة, وكأنه يسكن معها في غرفة واحدة!
تسمعه وهو يتحدث مع زبائنه, تسمع حتى أنفاسه, وتشم رائحة عرقه وسجائره, ورشفاته
لكأس الشاي. تسمع تنهداته وتثاؤباته.
الآن باقي من الزمن ربع ساعة, وعينُها ما تزال ترسل أشواقها عبر الشق المظلم.
صرف سمير صانعة سيفو..
"بكر
بكره الصبح."
"على
رأسي. يا لله.. خاطرك معلم."
وما أن غاب سيفو حتى عاد سمير إلى محله على عجل. لكن هذه المرة لم يجلس خلف
طاولته, ولم يشعل سيجارة أخرى, ولم يرتشف من كأس الشاي الذي برد, بل غاب عن
عيني بوران. تركها تعاني من وطأة الثواني. "أين أنت يا سمير؟ لم يبق الا دقائق
فلماذا لا تمنحها لعيني.. لقلبي الملتاع" وأحست أن الثواني قد تعطلت, وشعرت
ببرد الدهليز يغزو أوصالها, وتجمد الغناء في فمها, وتأجج الشوق في صدرها
وعينيها. وبغتة, تحركت الثواني بقلق ونزق مع دخول صبية سافرة محلة.
"زبونة
في هذا الوقت من الليل!"
دخلت الصبية وغابت عن ناظري بوران.. وبريبة وحرقة تتساءل "لماذا لم يظهر سمير
ويعود إلى مكانه؟ وماذا تفعل هذه المخلوقة معه في الداخل؟"
تمطت ثواني المشهد وتباطأت, وثقل خطو الزمن, واحتدت وطأة الانشغال في قلب بوران,
وأمست عينها المندسة خلف شق الباب أشد حدَّة, وأقدر على التخيل والتخمين. كل ما
يجول في ذهنها في تلك اللحظات التي لم تعاني أقسى منها وطأة أصبح ممكنا. وإلا
ما معنى أن تدخل صبية دكانا فيه رجل في وقت سكن فيه الليل, وخفت حركة المارة,
واستفاقت الخطايا, , وأصبح للإثم والسر مكان.
ودت بوران لو تشرع الباب إلى أقصاه, وتندفع نحو محل سمير, وتدخل إليه وتقول له
ماذا تفعل مع هذه الصبية عند منتصف الليل وفي قاع المحل يا قليل الأخلاق
والأصل؟ إن كنت لا تدري بحبي ووجودي, فأعلم أنك موجود في قلبي منذ زمن بعيد يا
سمير.. كيف لم تشعر بوجودي خلف شق الباب.. كيف لم تشعر بأنفاسي وأشواقي.. آه..
ليتك تظهر, وتخرج هذه الصبية المصيبة من قاع دكانك, التي يا ليتها تكون مجرد
زبونة.. تذهب هي بحالها وتعود أنت إليَّ, إلى مكانك المألوف.. أرجوك, لا تغير
شيئا عما كان.. ليت شيئا لن يتغير.
تسمع أمها تنادي من فوق: "بوران... يا بوران.."
تترك الباب وتندفع إلى باب الدهليز, وتشرع رأسها وصوتها إلى أعلى:
"شو
بدك.. أمي .. جاية.."
"تعالي
أقعديني على الكرسي يا بوران.."
"ياالله
ليكني طالعة.."
تعود إلى الباب, وليتها لم تعد, فلقد توقفت عينها على مشهد مظلم. فقد انطفأت
أنوار الدكان, ولمبة الطريق عالية, ونورها شحيح, وما رأته كان مشوبا بالقتامة
على الرغم من أن الصبية كانت كالقمر المصور: طول وبياض مثل قلب اللفت, وشعر
أسود مثل الليل البارد الذي بلا نجوم, وكان سمير, الذي انتهى لتوه من إنزال غلق
الدكان وقفله, يسير جنبها, وكان في فمهما حديث لم تدركه, جعلهما يضحكان.
"بوران..
يا بوران.. ما تردي على أمك يا بوران.. تعالي أقعديني على الكرسي.."