مطيع الهادي رجل في الخمسين من عمره،
فقير الحال، طويل الصمت، لا يكاد يتحدث إلا نادراً. سبب صمته هذا هو حبسة في لسانه،
تمنعه من التكلم بطلاقة، لذا يفضل الصمت على الحرج والارتباك اللذين يسببهما له
الكلام.
ولدى مطيع الهادي سبعة أولاد، من بنين
وبنات، أكبرهم شاب في التاسعة عشرة من عمره، ويليه في السن فتاة في السابعة عشرة...
وأصغر أبنائه الذكور طفل في الخامسة، تليه فتاة في الثالثة، هي آخر ما أنجب مطيع
الهادي.
وكان لدى مطيع شاة وحيدة، وراءها خروف
عمره دون السنة. وكان الغلام الصغير (طاهر) وأخته الصغيرة (عزيزة) مولعين بالشاة
والخروف، يسرحان بهما حول البيت، ويقدمان لهما الحشائش والأعشاب، وكِسَر الخبز
اليابس، ويلهوان بهما في مرح وبهجة.. تركض الطفلة خلف الخروف، ويطرد الغلام الشاة،
ويضحكان ببراءة طفولية غامرة.
كانت الأم تحلب الشاة، وتسقي طفليها
حليباً دافئاً طازجاً. وكان أفراد الأسرة جميعاً يعملون، باستثناء الطفلين
الصغيرين، في أعمال شتى.. الأم تعمل في البيت، والأب وابنه الأكبر يمارسان أعمالاً
عادية بسيطة، مما يحتاج إلى جهد عضلي، كالعمل في أراضي الآخرين، فلاحة، وسقاية،
وتعشيباً.. أو يمارسان أعمال البناء، أو غير ذلك، مما يساعدهما في تأمين لقمة العيش
لأفراد الأسرة. أما الفتاة الكبرى، وإخوتها الآخرون، فيعملون في مواسم جني
المحاصيل، فيكسبون شيئاً يسيراً من المال، ليشتري كل منهم بما حصل عليه من دراهم
ثوباً لنفسه أو حذاءً.
وذات صباح، حضر أحد أعوان المختار إلى
بيت مطيع، فوجده جالساً أمام داره، يتدفأ بشمس الربيع، فدار بينهما الحوار التالي:
قال الرجل: هل تحب مصلحة القرية يا
مطيع؟
قال مطيع، وقد فاجأه السؤال، بلسان
ثقيل جداً: نعم يا سيدي.
الرجل: وهل أنت مستعد للتضحية في
سبيلها؟
مطيع: طبعاً.. ولكن..
كان مطيع يحاول أن يختصر كلامه إلى
أدنى حد ممكن، بسبب حبسة لسانه التي تشكل له ضيقاً شديداً عند الكلام، وكانت لديه
أشياء كثيرة يمكن أن يقولها، ويود أحياناً أن يقولها، إلا أن عقدة لسانه تمنعه من
التعبير عما في نفسه.
قال الرجل: وما دليلك على هذا
الاستعداد؟
قال مطيع: تاريخي في القرية يشهد لي.
قال الرجل: دعنا من التاريخ، نريد
دليلاً من الواقع الحي.
مطيع: هل يستعد أعداؤنا للهجوم علينا؟
الرجل: إنهم مستعدون دائماً، إلا أنهم
الآن لا يهددوننا بشكل مباشر.
مطيع: ماذا تعني؟
الرجل: نحن الآن لسنا بحاجة إلى رجال
يقاتلون الأعداء.. بل إلى مال.
مطيع: من أجل ماذا؟
الرجل: لنكمل استعدادنا، ونقوي
أنفسنا.. نشتري خيلاً، وسلاحاً، وغير ذلك.
مطيع: وماذا تريد مني؟
الرجل: أريد أن تضحي ببعض المال، من
أجل مصلحة القرية.
مطيع: وهل تعلم أن لدي مالاً؟
الرجل: نعم.. ولذلك جئت إليك.
مطيع: وما المال الذي عندي؟
الرجل: لديك مال كثير، ويجب أن تحمد
الله على نعمه، وتشكره على فضله. وأوضح تعبير عن شكر النعمة، هو التضحية ببعضها من
أجل الصالح العام، فمثلاً: لديك أبناء وبنات يعملون ويكسبون المال.. ولديك شاة
سمينة حلوب.. ولديك خروف طري سمين.. وفوق هذا كله، لديك صحتك وصحة أهلك وأبنائك،
التي هي من أجل النعم.. أليس كذلك يا مطيع؟
قال مطيع متضاحكاً: إني أغنى من قارون
دون أن أدري.. الحمد لله على كل حال.
قال الرجل: أتسخر من نعمة الله يا
رجل!؟
قال مطيع: أعوذ بالله.
الرجل: إذن يجب أن تثبت ذلك بشكر
النعمة.
مطيع: وماذا أعطيك؟
الرجل: أيسر ما تملك.. فلن نكلفك بما
يصعب عليك تحمله.
مطيع: قل لي بالضبط ماذا تطلب؟
الرجل: كان الأفضل أن تختار أنت ما تحب
التضحية به للصالح العام.. لكن مادمت قد خيرتني وأحرجتني، فلن أطلب منك إلاّ أقل
شيء ممكن.
مطيع: ماذا؟
الرجل: الخروف.
احمرّ وجه مطيع، وازدادت حبسة لسانه،
إلا أنه تجلد، وقال بصعوبة بالغة: الخروف؟
قال الرجل: الخروف.. نعم الخروف.. ذاك
الذي يلعب به طفلاك قرب البيت.. سنريحك ونريح أهلك من مشقة إطعامه وسقايته.
قال مطيع باسماً: هذه خدمة عظيمة
تقدمونها لي!
قال الرجل جاداً: طبعاً.. لكنا لن نمن
عليك بذلك، فإن أهم واجب عندنا هو إسعاد المواطنين، ولعلك تلاحظ جيداً، أننا أتحنا
لك فرصة ممتازة لخدمة الصالح العام، بأيسر جهد وأقل كلفة، مما يكسبك فخراً من
ناحية، ولا يرهقك من ناحية أخرى، بل ويريحك من ناحية ثالثة، إذ يوفر عليك رعاية
الخروف كما ذكرت لك.
قال مطيع: لكن..
قال الرجل مقاطعاً، وهو يرمي إلى وضع
مطيع تحت الأمر الواقع، ليقطع عليه تردده، ويجعله يرضى ببذل ما يطلب منه: وأظنك
تلاحظ جيداً يا سيد مطيع، أننا لم نطلب منك الخروف وأمه مثلاً.. كما لم نطلب منك
الآن إرسال زوجتك وأولادك ليعملوا في بيت المختار.. كما لم نطلب منك أنت مثلاً أن
تعمل سخرةً في البناية الجديدة التي يبنيها نائب المختار، كما يعمل غيرك من رجال
القرية.
مطيع: ولكن..
الرجل مقاطعاً: لا تقل (لكن) يا سيد
مطيع.. إنك رجل طيب، وشهم، وكريم.. ولذلك كله، تراني أحبك وأدافع عنك أمام
المختار.. ألا تذكر كم مرة أرحناك من السخرة؟ أتنكر يا سيد مطيع؟ قل لي: هل كلفك
أحد بالعمل في البناية التي بناها المختار منذ ثلاث سنين في سفح الجبل؟ وهل طلب منك
العمل في البناية التي بناها المختار لابنه حين زوجه منذ سنتين؟ وهل عملت في بناية
صهره، أو بناية أخيه؟ وهل رعيت مدة أسبوع كامل، كما يفعل غيرك؟ قل لي يا سيد مطيع،
قل لي: ماذا قدمت للصالح العام في هذه المجالات كلها؟ هل تحسب نفسك معفىً من خدمة
المصلحة العامة دون سبب؟ لا.. هناك سبب قوي، وهو أنني أحبك وأطلب إعفاءك دائماً من
هذه الأعمال.. ولقد كان المختار يسايرني دائماً، ويقبل شفاعتي فيك.. لكن إلى متى؟
إنني لن أضمن قبول هذه الشفاعة إلى الأبد.. لذا، أرجو أن تتعاون معي من أجل
مصلحتك.. من أجل مصلحتك ومصلحة أولادك.. ولن أطلب منك شيئاً لنفسي، فإن إحساسي
بأنني أؤدي واجبي تجاه المصلحة العامة، هو أفضل ثمن أتقاضاه عن أتعابي المضنية.
دمعت عينا مطيع إزاء ما يرى من لطف
الرجل وكرمه وسماحة نفسه، فقال له: إني أعطي الخروف من أجلك يا سيدي الكريم.. من
أجلك فقط.
قال الرجل باسماً: ما عرفتك إلا شهماً
كريماً يا سيد مطيع، محباً للمصلحة العامة، مضحياً في سبيلها.
قال مطيع متأثراً: أعاننا الله على
خدمة المصلحة العامة.
قام الرجل ومطيع، ومشيا إلى حيث الشاة
والخروف والطفلان، فأمسك مطيع بالخروف، وسلمه للرجل، الذي انطلق به باتجاه بيت
المختار، والطفلان ينظران بذهول، دون أن يفهما شيئاً.
قال الغلام لأبيه مستفسراً: إلى أين
ذهب الخروف يا أبي؟
قال الأب: ذهب إلى بيت المختار يا بني.
قال الغلام: ولم يا أبي؟
قال الأب: من أجل المصلحة العامة يا
بني.
قالت الفتاة: وماذا ستفعل المصلحة
العامة بخروفنا يا أبي؟
قال الأب: ستربيه لنا حتى يصبح كبشاً
له قرنان كبيران.
قال الغلام: ولم يصبح له قرنان يا أبي؟
قال الأب: لكي ينطح بهما الأعداء يا
بني.
قال الغلام: أخشى أن ينطحنا بهما يا
أبي.
اغرورقت عينا الأب بالدموع لهذا المنطق
البريء، وأهوى على طفليه يقبلهما، ويقول بلسان ثقيل: لا تخافا يا ولديّ من قرني
الخروف، ولا تحزنا لفقده.. فالله كبير يا ولديّ.. الله كبير.. هل تعرفانه؟ إنه
كبير.. كبير..
كان نوم الطفلين متقطعاً في الليل،
يريان الخروف في أحلامهما.. وكانت مشاعر الأسى لدى الأم وأبنائها الآخرين، منصبة
على حزن الطفلين، أكثر من انصبابها على فقد الخروف، ولم يستطع أفراد الأسرة أن
يفهموا المصلحة العامة، بالطريقة التي فهمها مطيع، لذا ظلوا حائرين متشككين، لا
يستطيعون أن يجزموا بشيء.
وفي الصباح، اتجه الطفلان إلى بيت
المختار، مدفوعين بالحنين إلى الخروف، فنظرا من خلف السور، ليريا جلد الخروف معلقاً
على حبل، ورأسه ملقى في إحدى زوايا البهو الواسع، والجزار يقطع أوصاله بسكين حادة،
تلمع تحت ضوء الشمس..
همس الغلام لأخته: أليس هذا جلد
خروفنا؟
قالت الفتاة هامسة: إنه يشبهه.. والرأس
الملقى هناك يشبه رأسه.. لكنه ليس خروفنا.. إنهم لن يذبحوا خروفنا.
قال الغلام: ولم لا؟
قالت الفتاة: ألم يقل أبي إنهم سيربونه
لنا، حتى يصبح كبشاً له قرنان كبيران؟
قال الغلام: بلى.. بلى.. لقد نسيت، إنه
ليس خروفنا.. لكنه يشبهه كثيراً.
قالت الفتاة (عزيزة): إن الخراف تتشابه
كثيراً.
قال الغلام (طاهر): إنه جميل جداً مثل
خروفنا.. فلم ذبحوه؟
قالت عزيزة: يبدو أنهم ذبحوه للمصلحة
العامة.. ألم تسمع أبي وهو يتحدث عنها؟
قال طاهر: بلى بلى.. سمعته.. إن
المصلحة العامة تحب الخراف كثيراً.. بعضها تذبحه وتأكله، وبعضها تربيه حتى يكبر
ويصير في رأسه قرون كبيرة.
قال عزيزة: هيا نذهب إلى البيت.
قال طاهر: كيف نذهب دون أن نرى الخروف؟
قالت عزيزة: وكيف نراه؟ لا شك أنهم
ربطوه في الحظيرة.
قال طاهر: أية حظيرة؟
عزيزة: حظيرة المصلحة العامة.
طاهر: وأين هي؟
عزيزة: لا أدري؟
طاهر: يجب أن نعرف مكانها لنشاهد
الخروف.
عزيزة: وكيف نعرف؟
طاهر: نسأل ذاك الرجل الجزار عن
مكانها.
عزيزة: لو سألناه فسوف يسمعون صوتنا
ويضربوننا.
طاهر: ننتظره حتى ينتهي من عمله ويخرج.
وظل الطفلان يسترقان النظر إلى الجزار،
حتى انتهى من عمله، وغسل يديه وخرج من البيت، فوقفا على بعد خطوات من السور، وسألته
الفتاة: يا عم، أين حظيرة المصلحة العامة؟
قال الجزار مستغرباً: أية حظيرة يا
بنية؟ وأية مصلحة عامة؟
قال طاهر: نريد أن نشاهد خروفنا يا
عم.. لقد أخذوه بالأمس من أجل المصلحة العامة.
قال الجزار مبتسماً، وقد أدرك مغزى
حديث الطفلين: نعم، نعم.. إنه هناك يا بني.. جلده معلق على الحبل، ولحمه في القدر..
إنه خروف جميل.. لقد كنتما تحبانه، أليس كذلك؟
قالت عزيزة: ولكن يا عم، هذا الذي على
الحبل ليس جلد خروفنا.. إن خروفنا سيصبح كبشاً، وتنبت في رأسه قرون كبيرة.. هكذا
قال أبي.
قال طاهر معقباً: نعم نعم.. وستأخذه
المصلحة العامة معها إلى الحرب لينطح الأعداء.
ضحك الجزار لهذا الحديث، وأراد أن
يعزّي الطفلين، وأن يمنّيهما بشيء ينسيهما مأساتهما بفقد الخروف، ويطرد من رأسيهما
الصغيرين الخيالات والأوهام، فقال: إن لحم خروفكما طيب أيها الطفلان العزيزان..
وأرجو أن تقدم زوجة المختار لكل منكما قطعة دسمة منه، لتستمتعا وتنسيا هذه الأوهام
الغريبة.
قالت عزيزة بحزن: أأنت متأكد يا عم من
أن الذي ذبحته هو خروفنا؟
قال الجزار بابتسامة حانية: نعم يا
بنيتي نعم.. ولا تنسيا ما قلته لكما عن لحمه اللذيذ.
انصرف الجزار وظل الطفلان في حيرة.
قال طاهر وهو يتنهد: لقد جعت.. ألم
تجوعي أنت؟
قالت عزيزة وهي تجذب نفساً عميقاً
وتطلق حسرة أليمة: بلى.. إنني جائعة، لكن ليس كثيراً.
قال طاهر: هيا بنا إلى البيت لنأكل.
قالت عزيزة: هيا بنا.
انطلق الطفلان يسيران بهدوء نحو البيت،
وهما يفكران بالخروف.
قالت الفتاة: سأسأل أبي.
قال الغلام: عن أي شيء؟
قال الفتاة: عن الحظيرة.. لعله يعرف
مكانها.
قال الغلام: ولم تسألينه عنها؟ إن
الخروف ليس فيها.
قالت الفتاة: لا بد أنه فيها.
قال الغلام: ألم يقل الجزار إنه ذبحه؟
قالت الفتاة: إنه يكذب علينا.. لقد قال
أبي إنهم سيربونه حتى يصير كبشاً، وتنبت في رأسه قرون كبيرة.
قال الغلام: ولم يكذب علينا الجزار؟
قالت الفتاة: لا أدري.. سأسأل أبي..
سأقول له: لم يكذب علينا الجزار؟
قال الغلام: وأنا سأسأله أيضاً.
قالت الفتاة: عن أي شيء؟
قال الغلام: عن المصلحة العامة؟
قالت الفتاة: عن حظيرتها؟
قال الغلام: لا.. بل عنها هي.
قالت الفتاة: يجب أن تسأل أمي عنها.
قال الغلام: ولم؟
قالت الفتاة: لأنها امرأة.. وأمي
امرأة.
قال الغلام: صدقت.. إن أبي رجل، ولا
يجوز أن نسأله عن النساء.
قالت الفتاة: وماذا ستسأل أمي؟
قال الغلام: سأقول لأمي: يا أمي خبريني
عن المصلحة العامة، هل هي كبيرة مثلك، أم صغيرة مثل أختي عزيزة؟
قالت الفتاة: وإذا كانت كبيرة، ماذا
ستفعل؟
قال الغلام: سأقول لها: يا خالتي
مصلحة، ماذا فعلت بخروفنا؟
ضحكت الفتاة وقالت: إنها لن تجيبك؟
قال الغلام: ولم؟
قالت الفتاة: لأنك قلت لها: يا خالتي
مصلحة.
قال الغلام: وماذا يجب أن أقول؟
قالت الفتاة: يجب أن تقول: يا خالتي يا
مصلحة عامة.
قال الغلام: صدقت.. سأقول لها: يا
خالتي يا مصلحة عامة.
قالت الفتاة: وإذا دلتك على الخروف،
ماذا ستفعل؟
قال الغلام: سأذهب إليه.. وأضمه،
وأقبله، وأقول له: يا خروفي الجميل، ماذا تطعمك خالتي المصلحة العامة؟ وماذا تسقيك؟
هل تطعمك عشباً طرياً، وزهراً من زهر الربيع كما نفعل نحن؟ أم تسرح بك في البرية؟
أم تطعمك خبزاً يابساً كما تفعل جارتنا أم حسن بخرافها..؟
قالت الفتاة: وإذا كانت المصلحة العامة
صغيرة مثلي، فماذا ستقول لها لتدلك على الخروف؟
قال الغلام: سأقول لها: يا مصلحة عامة
دليني على مكان خروفنا، وسأطلب من أبي قرشاً وأعطيك إياه.
قالت الفتاة: وإذا لم تصدقك؟
قال الغلام: سأقول لها: والله..
والله.. يا أختي يا مصلحة عامة إني سأعطيك قرشاً.
قالت الفتاة: حسناً يجب ألا ننسى.. أنا
أسأل أبي: (لماذا يكذب علينا الجزار)، وأنت تسأل أمي عن المصلحة العامة.. أليس كذلك
يا طاهر؟
قال الغلام: بلى يا عزيزة بلى.. ولكننا
جائعان، ويجب أن نأكل أولاً.. أليس كذلك؟
قالت الفتاة: بل يجب أن نسأل أولاً..
لئلا ننسى.
قال الغلام: صدقت.. سأسأل أمي من حين
وصولنا إلى البيت.
قالت الفتاة: وأنا سأسأل أبي أيضاً.
وصل الغلام وأخته إلى البيت، وكان
الوقت ضحىً، وحين دخلا، وجدا أمهما تستقبلهما بعبوس قائلة: أين كنتما أيها الشقيان؟
لقد بحثنا عنكما في كل شوارع القرية..!
ارتبك الطفلان، وظلا صامتين، ينظر
أحدهما إلى الآخر بحيرة وقلق. لم يخطر في بالهما هذا الموقف، ولا أعدّا له عدّة.
كررت الأم سؤالها بلهجة قاسية: أين
كنتما؟ لم لا تجيبان!؟
قال الغلام مرتبكاً: نحن يا أمي.. نحن
يا أمي.. كنا.. كنا.. كنا يا أمي.. لقد.. لقد ذهبنا يا أمي.. إلى.. إلى بيت.. إلى
بيت المختار يا أمي..
قالت الأم بدهشة: إلى بيت المختار!؟
وماذا تفعلان هناك أيها الشقيان!؟
قال الغلام بوجلٍ، مخاطباً أخته: قولي
لأمي يا عزيزة.. قولي لها ماذا كنا نفعل.
قالت الفتاة بارتباك: كنا يا أمي.. كنا
نبحث عن الخروف.. نعم كنا نبحث عن الخروف.
أجهشت الطفلة بالبكاء، فانفجر أخوها
باكياً كذلك.. وزالت حدة الأم، ثم تملكها إشفاق حزين، وانهملت الدموع من عينيها،
وضمت طفليها بحنان، وهما ينشجان، وهي تنشج لنشيجهما، محاولة تخفيف حزنهما بصوت
مخنوق.
بعد فترة صمت يسيرة قالت الفتاة بصوت
متقطع: أين أبي يا أمي؟
قالت الأم: لقد ذهب يبحث عنكما.
قالت الفتاة: وهل ذهب إلى بيت المختار؟
قالت الأم: وما يدريه أنكما كنتما
هناك؟
قالت الفتاة: إن الخروف هناك يا أمي.
قال الأم: حسنٌ.. كان يجب أن يفطن إلى
ذلك، ولكنه نسي.
قالت الفتاة: ومتى سيعود يا أمي؟
قالت الأم: سيعود قريباً إن شاء الله..
ولكن لم أنت متلهفة عليه هكذا!؟
قالت الفتاة: أريد أن أسأله يا أمي.
قالت الأم مستفسرة: تسألينه!؟ تسألينه
عن أي شيء؟
قالت الفتاة: أريد أن أسأله: لم يكذب
علينا الجزار؟ نعم.. لم يقول لنا إنه ذبح خروفنا للمختار وعلق جلده على الحبل،
وألقى برأسه في الزاوية!؟
قالت الأم: وهل رأيت جلد الخروف ورأسه
يا عزيزة؟
قالت الفتاة: نعم يا أمي.. ولحمه
كذلك.. لقد رأينا أنا وطاهر كل ذلك.. وقال لنا الجزار: إن الجلد هو جلد خروفنا،
والرأس رأسه، واللحم لحمه.. ولكن الجزار كان يكذب علينا يا أمي.. فقد قال أبي إن
خروفنا ذهب إلى المصلحة العامة، كي تربيه، وتطعمه عشباً، وتسقيه ماءً، فيسمن ويكبر
ويصبح كبشاً له قرنان كبيران ينطح بهما الأعداء.
قال الغلام: نعم يا أمي وأنا أريد أن
أسألك عن المصلحة العامة، أهي امرأة كبيرة مثلك، أم صغيرة مثل أختي عزيزة؟
ضحكت الأم ضحكة فاترة لهذا السؤال
الغريب، وقالت لابنها بحنان: وهل تحب أن تلعب معها يا طاهر؟
الغلام: لا يا أمي.. أريد أن أسألها عن
مكان خروفنا.
الأم: تقصد خروفنا الذي ذبحه الجزار؟
الغلام: لا يا أمي.. خروفنا الذي لم
يذبحه الجزار، بل الذي سيصبح كبشاً له قرنان كبيران ينطح بهما الأعداء.
الأم: حسن يا بني.. أنا لا أعرف هذه
المرأة، وبإمكانك أن تسأل أباك عنها.
الغلام: ولكن أبي رجل، ولا يعرف
النساء.
الأم: ولكنه هو الذي أعطى الخروف
لمعاون المختار، لأجل المصلحة العامة.
الغلام: وكيف يعرفها أبي إذا كنت أنت
لا تعرفينها!؟
الأم: أنا لا أعرفها بالضبط يا بني..
لكن أسمع الناس يقولون: إنها ليست مثلنا نحن البشر.. إنها.. إنها صغيرة مثل أختك
عزيزة هذه.. ولكنها لا تتكلم ولا تأكل ولا تشرب ولا تنام ولا تلعب.
الغلام: فما هي إذن يا أمي؟ أهي لعبة؟
الأم: إنها تشبه اللعبة.. وقد أرسل
إليها أبوك الخروف لتلعب معه قليلاً.
الغلام: وكيف تلعب معه إذا كانت لا
تلعب؟ ألم تقولي: إنها لا تلعب؟
قالت الأم وهي حائرة من منطق الطفل:
والله يا بني لا أدري.. أتلعب معه، أم تلعب به، أم يلعب بها؟ المهم أن الخروف ذهب
إليها ولا أعلم ماذا ستفعل به.
الفتاة: وهل المصلحة العامة مقيمة في
بيت المختار يا أمي؟
الأم: أجل يا بنيتي.
الغلام: وهل هي قريبة له يا أمي؟ أعني
هل هي أمه أم أخته أم ابنته..؟
الأم: لست أدري يا بني.. سل أباك عن
هذا الأمر، فهو يعرفه أكثر مني.
الغلام: حسن يا أمي، ولكن أخشى أن يكون
أبي مثلك، لا يعرف شيئاً.
قالت الفتاة: نحن جائعان يا أمي، أفلا
تضعين لنا طعاماً؟
قالت الأم باسمة: بلى يا بنيتي..
انتظري قليلاً.
قامت الأم، وجلبت للطفلين رغيفاً من
خبز الصاج اليابس، وقدحاً من اللبن الرائب، ووضعته أمامهما، وهي تقول: كلا يا صغيري
العزيزين، سأخرج قليلاً لأجمع بعض عيدان الحطب وأعود.
قال الغلام وهو يحتسي شيئاً من اللبن:
لقد قال لنا الجزار إن لحم الخروف طيب جداً ولذيذ.
قالت الفتاة: نعم.. إنه لم يكذب علينا
هذه المرة.. إن لحم الخروف أطيب من الخبز اليابس واللبن الحامض.
قال الغلام: أنا أحب لحم الخروف.
قالت الفتاة: وأنا كذلك.
قال الغلام: سنذهب بعد قليل إلى هناك.
قالت الفتاة: إلى بيت المختار؟
قال الغلام: نعم.
قالت الفتاة: أما تخاف أن تغضب أمي
ثانيةً؟
قال الغلام: لن تغضب.. إنها تحبنا،
وحين تعلم أننا أكلنا لحم خروف، ستسر منا.
قالت الفتاة: وإذا منعتنا من الذهاب؟
قال الغلام: سنغافلها ونذهب ثم نعود
سريعاً، بعد أن نأكل من لحم الخروف.
انتهى الغلام وأخته من أكل الخبز وشرب
اللبن، وقاما يركضان حول البيت في مرح، وأمهما تراقبهما من بعيد.
حين عاد الأب ووجد الطفلين يلعبان قرب
البيت، صاح فيهما طالباً منهما المجيء إليه، وفي وجهه ملامح غضب وإرهاق، فنادته
الأم، وحدثته عن سبب غياب الطفلين فانهملت الدموع من عينيه، ودخل البيت، فاضطجع
بهدوء، وسبح في تفكير عميق.
غافل الطفلان أهلهما، وتسللا إلى بيت
المختار مرة ثانية، كان الوقت ظهراً حين وقفا قرب السور، وأخذا يسترقان النظر إلى
داخل البيت.. كانت روائح اللحم تملأ المكان.. لقد أمر المختار زوجته أن تعدّ
أصنافاً شتىّ من الطعام.. تغلي بعض اللحم في القدر.. وتشوي بعضه على النار.. فاختلط
قتار القدر برائحة الشواء. كان أولاد المختار وبناته يمضغون قطع اللحم بتلذذ
واستمتاع، وكلما انتهى أحدهم من ابتلاع قطعة، ناولته أمه قطعة أخرى.
كان الطفلان ينظران إلى أولاد المختار،
وعيونهما تنتقل مع قطع اللحم، من واحدة إلى أخرى.. وكلما بلع ابن من أبناء المختار
لقمة، بلع كل من الطفلين ريقه.. وإذا تلمظ أحد أبناء المختار متلذذاً، تلمظ معه
الطفلان، ومصّ كل منهما شفتيه دون شعور أو إدراك.. إنهما لم يأكلا لحماً منذ شهور
طويلة.
كان الطفلان في حالة من الذهول
الغريب.. عيونهما تراقب اللحم والأفواه، وشفاههما تتحرك دون وعي، مع كل لقمة. وكان
أبوهما الذي افتقدهما مرة ثانية قد عرف أين اتجها، فاتجه إلى مكانهما، فرآهما على
هذه الحال.. تأملهما لحظة فكاد ينهار، إلا أنه تماسك وضمهما إليه بحنان شديد، وقد
احتبس الدمع في عينيه، مع احتباس الألفاظ تحت لسانه.. ثم قادهما ومضى إلى البيت
صامتاً.