محمود ، لم أعرفه سوى تاجر يبيع في محل للألبسة ، أو أب لستة شباب توفي أكبرهم قبل أن ينهي دراسته الجامعية ، أو ذلك الرجل العنيد صاحب الصوت القوي المزعج ، فهو الرجل الذي يزعجنا دائماً في الديوان ، يدخل بيتنا كثيراً ، وهو يرتدي ثوبه السكني المفتوح من الجانب الأسفل ، ومنديله الأبيض ، وساعته القديمة .... كالمعتاد ، هكذا نراه دائماً ، فيسخر من أختي الصغيرة وأمي في كل مرة يدخل بها بيتنا ، ويزعجني في وقت النوم بصوته الرنان المدوي ، اسأل أحد أقاربي ذات يوم ، لابدّ أنه صاحب نفس طيبة بالرغم من جميع أعماله ، وكل إزعاجه ، فيقول : نعم ، الأمر على ما قلت ، وبعد دقائق يأتي الحاج أحمد الذي تزوج قريباً ، بالرغم أنه لم يمضي كثيراً على وفاة زوجته الأولى ، فأتساءل داخل قلبي : لماذا تزوج الحاج أحمد بهذه السرعة ؟ لم يمضي على وفاة المرأة التي عاشرته أربعون عاماً الكثير ... لابدّ أن السبب في ذلك أنه يحب النساء ، ولا يستطيع العيش دونهن ، ثمّ يعود إلى المكان صوت محمود العالي المدوي ، فأتذكر أن زوجته توفيت منذ بضع سنين ومع ذلك فلم يتزوج ، بالرغم من أن جميع أقرانه الذين توفيت زوجاتهم قد تزوجوا ، فأتساءل في داخلي ثانية : لماذا لم يتزوج محمود كبقية أقرانه ، لا بدّ أنه لا يحب النساء .....

لكنه تحمل مرض زوجته قبل أن يتوفاها الله الكثير ، فهو يحب النساء ، لأنه تحمل ما جرى به من ضيق وألم سنيناً طويلة ، ثمّ ما ألبث أن أبقى حائراً في موضوع هذا الرجل ، وأعيد على نفسي أسئلة كثيرة ، بعضها عادي وبعضها مثير ، فتصورت أنه لم يجد فتاة تقبل به لشيخوخته ، ربما حظه ضعيف ، أو شكله سخيف ، فاسأل رجل يجلس بالقرب مني : لماذا لم يتزوج محمود كما تزوج الحاج أحمد وآخرون ؟ فضحك الرجل ، ضحكة قوية ، حسبتها هزلية ، أو معالم همجية ، ثمّ أجابني : " تصور يا ابني أنه تزوج مرة ، قبل أن يتزوج بزوجته المرحومة ، وحينما توفيت خرج من البلاد عشر سنوات ، رافضاً فكرة الزواج ، متأثراً بما حلّ به ، فبحثوا عنه وأعادوه ، فأقنعوه ، فزوجوه ، وحينما زوجوه أصر على أن تلبسه زوجته الجديدة ، ذبلة الزواج القديمة " ، فأصابني شعور غيرّ كل ما كان في مخيلتي عن محمود ، فلم أعد أتذكر أنه صاحب الصوت المزعج الرنان ، أو الثوب السكني المفتوح من جانبه الأسفل ، فبتُ أحسبه الرجل الصادق المخلص ، صاحب ثوب الوفاء ، فتوجهت حينها إلى مطبخ صغير في ديوان عشيرتنا ، فوجدت عدداً من الصبيان يجتمعون حول محمود ، منهم من ينقاد لأمره ، ومنهم من يعصيه ، فاقتربت منه أكثر فأكثر ، ونظرت إليه نظرة جديدة ، نسخت كل النظرات السابقة التي تحملها مخيلتي عن هذا الرجل ، فامتدت يدي لتلمس طرف منديله الأبيض الناصح ، فأصبحت يومها أعمل كما يريد محمود ، وأرهق نفسي بالعمل ، دون أن يعرف أحداً ما السبب.


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب   قصة   العلوم الاجتماعية